تفسير المراغي - ج ١٩

أحمد مصطفى المراغي

على بعض ما أنعم الله به علينا من العجائب النبوية ، والآيات الإلهية ، لتعرف صدق نبوتنا ، ولتعلم أن ملكها فى جانب عجائب الله وبدائع قدرته يسير ، وحينئذ تقدّم إليه بعض جنده بمقترحات.

(قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) أي قال شيطان قوى أنا أحضره إليك قبل أن تقوم من مجلس قضائك وكان إلى منتصف النهار ، ثم زاد الأمر توكيدا فقال : وإنى على الإتيان به لقادر لا أعجز عنه ، وإنى لأمين لا أمسه بسوء ، ولا أقتطع منه شيئا لنفسى ـ حينئذ.

(قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) أي قال سليمان للعفريت متحدثا بنعمة الله وعظيم فضله عليه : أنا أفعل ما لا تستطيع أنت ، أنا أحضره فى أقصر ما يكون مدة ، أنا أحضره قبل ارتداد طرفك إليك ، وقد كان كما قال :

(فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ؟) أي فلما رآه سليمان ساكنا ثابتا على حاله لم يتبدل منه شىء ولم يتغير وضعه الذي كان عليه قال هذا تفضل من الله ومنّة ليختبرنى : أأشكر بأن أراه فضلا منه بلا قوة منى أم أجحد فلا أشكر بل أنسب العمل إلى نفسى؟

وإن النعم الجسمية والروحية والعقلية كلها مواهب يمتحن الله بها عباده ، فمن ضل بها هوى ، ومن شكرها ارتقى ، وهذا ما عناه سبحانه بقوله :

(وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) أي ومن شكر ففائدة الشكر إليه ، لأنه يجلب دوام النعمة ، ومن جحد ولم يشكر فإن الله غنى عن العباد وعبادتهم ، كريم بالإنعام عليهم وإن لم يعبدوه ، كما قال : «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها» وقال : «وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ» وروى مسلم قوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن ربه

١٤١

«يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد دلك فى ملكى شيئا ، يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكى شيئا ، يا عبادى إنما هى أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفّيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه».

(قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤))

تفسير المفردات

نكروا لها عرشها : أي غيروا هيئته وشكله بحيث لا يعرف بسهولة ، مسلمين :

أي خاضعين منقادين ، صدها : أي منعها ، والصرح : القصر وكل بناء عال ، واللجة الماء الكثير ، ممرد : أي ذو سطح أملس ومنه الأمرد للشاب الذي لا شعر فى وجهه ، القوارير : الزجاج واحدها قارورة ، أسلمت : أي خضعت.

المعنى الجملي

علمنا مما سلف أن بلقيس تجهزت للسفر مقبلة إلى سليمان ، وأن الجن كانت تترسم خطاها من يوم إلى آخر حتى إذا دنت منه سأل سليمان جنده : من يستطيع

١٤٢

إحضار عرشها؟ فقال عفريت من الجن : أنا أفعل ذلك قبل أن تقوم من مجلس القضاء ، فقال سليمان : بل أستطيع أن أحضره فى لمح البصر وكان كما قال : فلما رآه أمامه شكر ربه على جزيل نعمه.

وهنا ذكر ما فعل سليمان من تغيير معالم العرش وتبديل أوضاعه ، ثم سؤالها عنه ليختبر مقدار عقلها ، ولتعلم صدق سليمان فى دعواه النبوة ، وتتظاهر لديها الأدلة على قدرة المولى سبحانه.

وقد كان مما أعده لنزولها قصر عظيم مبنى من الزجاج الشفاف ، فرشت أرضه بالزجاج أيضا ، وفى أسفله ماء جار فيه صنوف السمك ، فلما دخلت فى بهوه خالته لجة من الماء فكشفت عن ساقيها لتخوض فيه ، فأنبأها سليمان بأن هذا زجاج يجرى تحته الماء ، حينئذ أيقنت بأن دين سليمان هو الحق وأنها قد ظلمت نفسها بكفرها بالله ربها خالق السموات والأرض وصاحت تقول : أسلمت مع سليمان لله رب العالمين.

الإيضاح

(قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) أي قال سليمان لجنده لما جاء عرش بلقيس : غيروا لها معالم السرير وبدّلوا أوضاعه ، لنختبر حالها إذا نظرت إليه ونرى : أتهتدي إليه وتعلم أنه هو أم لا تستبين لها حقيقة حاله؟.

ثم أشار إلى سرعة مجيها وخضوعها بقوله :

(فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ؟ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) أي فحين قدمت واطلعت على عرشها سئلت عنه ، أعرشك مثل هذا؟ أجابت بما دل على رجاحة عقلها إذ قالت كأنه هو ، ولم تجزم بأنه هو ، إذ ربما كان مثله.

قال مجاهد : جعلت تعرّف وتنكر ، وتعجب من حضوره عند سليمان فقالت :

١٤٣

كأنه هو : وقال مقاتل : عرفته ولكنها شبّهت عليهم كما شبهوا عليها ، ولو قيل لها أهذا عرشك لقالت نعم.

ولما ظنت أن سليمان أراد بذلك اختبار عقلها وإظهار المعجزة لها قالت :

(وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) أي وأوتينا العلم بكمال قدرة الله وصدق نبوتك من قبل هذه المعجزة بما شاهدناه من أمر الهدهد ، وبما سمعناه من رسلنا إليك من الآيات الدالة على ذلك ، وكنا منقادين لك من ذلك الحين ، فلا حاجة بي إلى إظهار معجزات أخرى.

ثم ذكر سبحانه ما منعها عن إظهار ما ادعت من الإسلام إلى ذلك الحين فقال :

(وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ ، إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) أي ومنعها ما كانت تعبده من دون الله وهو الشمس عن إظهار الإسلام والاعتراف بوحدانيته تعالى ، من قبل أنها من قوم كانوا يعبدونها ونشأت بين أظهرهم ولم تكن قادرة على إظهار إسلامها إلى أن مثلت بين يدى سليمان فاستطاعت أن تنطق بما كانت تعتقده فى قرارة نفسها ويجول فى خاطرها.

روى أن سليمان أمر قبل مقدمها ببناء قصر عظيم جعل صحنه من زجاج أبيض شفاف يجرى من تحته الماء وألقى فيه دواب البحر من سمك وغيره ، فلما قدمت إليه استقبلها فيه وجلس فى صدره ، فحين أرادت الوصول إليه حسبته ماء فكشفت عن ساقيها ، لئلا تبتل أذيالها كما هى عادة من يخوض الماء ، فقال لها سليمان : إن ما تظنينه ماء ليس بالماء ، بل هو صرح قد صنع من الزجاج فسترت ساقيها وعجبت من ذلك ، وعلمت أن هذا ملك أعزّ من ملكها ، وسلطان أعز من سلطانها ، ودعاها سليمان إلى عبادة الله وعليها على عبادة الشمس دون الله ، فأجابته إلى ما طلب وقالت : رب إنى ظلمت نفسى بالثبات على ما كنت عليه من الكفر ، وأسلمت مع سليمان لله رب كل شىء وأخلصت له العبادة وإلى ما تقدم أشار سبحانه بقوله :

١٤٤

(قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ ، قالَتْ : رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

أخرج البخاري فى تاريخه والعقيلي عن أبى موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أول من صنعت له الحمامات سليمان».

قصص صالح

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣))

تفسير المفردات

فريقان : أي طائفتان طائفة مؤمنة وأخرى كافرة ، يختصمون : أي يجادل بعضهم بعضا ويحاجه ، السيئة : العقوبة التي تسوء صاحبها ، الحسنة : التوبة ، لو لا : أي هلّا ، وهى كلمة تفيد الحث على حصول ما بعدها ، اطيرنا : أي تطايرنا وتشاء منا بك ،

١٤٥

طائركم : أي ما يصيبكم من الخير والشر ، وسمى طائرا لأنه لا شىء أسرع من نزول القضاء المحتوم ، تفتنون : أي تختبرون بتعاقب السراء والضراء ، والمراد بالمدينة : الحجر ، والرهط والنفر : من الثلاثة إلى التسعة ، تقاسموا : أي احلفوا ، والبيات : مباغتة العدو ومفاجأته بالإيقاع به ليلا ، وليه : أي من له حق القصاص من ذوى قرابته إذا قتل ، والمهلك : الهلاك ، والمكر : التدبير الخفي لعمل الشر ، والتدمير : الإهلاك ، خاوية : أي خالية ، لآية : أي لعبرة وموعظة.

الإيضاح

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) أي ولقد بعثنا إلى ثمود أخاهم صالحا وقلنا لهم : اعبدوا الله وحده لا شريك له ، ولا تجعلوا معه إلها غيره.

وحين دعاهم إلى ذلك افترقوا فرقتين :

(١) فريق صدّق صالحا وآمن بما جاء به من عند ربه.

(٢) فريق كذّبه وكفر بما جاء به.

وصارا يتجادلان ويتخاصمان ، وكل منهما يقول أنا على الحق وخصمى على الباطل.

ثم ذكر أن صالحا استعطف المكذّبين وكانوا أكثر عددا وأشد عتوّا وعنادا حتى قالوا : «يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ».

(قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ؟) أي لم تستعجلون بالعقوبة التي يسوءكم نزولها بكم قبل حصول الخيرات التي بشّرتكم بها فى الدنيا والآخرة إن أنتم آمنتم بي.

ثم نصحهم وطلب إليهم أن يستغفروا ربهم لعلهم يرحمون فقال :

١٤٦

(لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي هلّا تتوبون إلى الله من كفركم ، فيغفر لكم عظيم جرمكم ويصفح عن عقوبتكم على ما أتيتم به من الخطايا ، لعلكم ترحمون بقبولها ، إذ قد جرت سنته ألا تقبل التوبة بعد نزول العقوبة.

ولما قال لهم صالح ما قال ، وأبان لهم سبيل الرشاد أجابوه بفظاظة وغلظة.

(قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) أي قالوا : إنا تشاءمنا بك وبمن آمن معك ، إذ زجرنا الطير فعلمنا أن سيصيبنا بك وبهم من المكاره ما لا قبل لنا به ، ولم تزل فى اختلاف وافتراق منذ اخترعتم دينكم وأصابنا القحط والجدب بسببكم.

وسمى التشاؤم تطيرا من قبل أنه كان من دأبهم أنهم إذا خرجوا مسافرين فمروا بطائر زجروه : أي رموه بحجر ونحوه ، فإن مرّ سانحا بأن مر من ميامن الشخص إلى مياسره تيمنوا به ، وإن مر بارحا بأن مر من المياسر إلى الميامن تشاءموا منه.

فأجابهم صالح عليه السلام :

(قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) أي قال إن ما يصيبكم من خير أو شر مكتوب عند الله وهو بقضائه وقدره ، وليس شىء منه بيد غيره ، فهو إن شاء رزقكم ، وإن شاء حرمكم :

وسمى ذلك القضاء طائرا لسرعة نزوله بالإنسان ، فلا شى أسرع منه نزولا.

ثم أبان لهم سبب نزول ما ينزل من الشر بقوله :

(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) أي بل أنتم قوم يختبركم ربكم حين أرسلنى إليكم أتطيعونه فتعملوا بما أمركم به فيجزيكم الجزيل من ثوابه ، أم تعصونه فتعملوا بخلافه فيحل بكم عقابه؟

ثم ذكر أن قريته كانت كثيرة الفساد فقال :

(وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) أي وكان فى مدينة صالح وهى الحجر تسعة أنفس يعيثون فى الأرض فسادا لا يعملون فيها صالحا.

ثم بين بعض ما عملوا من الفساد :

١٤٧

(قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) أي قال بعضهم لبعض فى أثناء المشاورة فى أمر صالح عليه السلام بعد أن عقروا الناقة وتوعّدهم بقوله : «تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ» احلفوا لنباغتّنه وأهله بالهلاك ليلا ثم لنقولن لأولياء الدم ، ما حضرنا هلاكهم ، ولا ندرى من قتله ولا قتل أهله. ونحلف إنا لصادقون فى قولنا.

وإذا كانوا لم يشهدوا هلاكهم فهم لم يقتلوهم بالأولى ، وأيضا فهم إذا لم يقتلوا الأتباع فأحربهم ألا يقتلوا صالحا.

قال الزجاج : كان هؤلاء النفر تحالفوا أن يبيّتوا صالحا وأهله ثم ينكروا عند أوليائه أنهم ما فعلوا ذلك ولا رأوه ، وكان هذا مكرا منهم ، ومن ثم قال سبحانه محذّرا لهم ولأمثالهم.

(وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي وغدر هؤلاء التسعة الرهط الذين يفسدون فى الأرض بصالح ، إذ صاروا إليه ليلا ليقتلوه وأهله وهو لا يشعر بذلك ، فأخذناهم بعقوبتنا ، وعجلنا لهم العذاب من حيث لا يشعرون بمكر الله بهم.

ثم بين ما ترتب على ما باشروه من المكر بقوله :

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) أي ففكر كيف آل أمرهم ، وكيف كانت عاقبة مكرهم ، فقد أهلكناهم وقومهم الذين لم يؤمنوا على وجه يقتضى النظر ، ويسترعى الاعتبار ، ويكون عظة لمن غدر كغدرهم فى جميع الأزمان.

روى أنه كان لصالح فى الحجر مسجد فى شعب يصلى فيه ، فقالوا زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاث ، فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث ، فذهبوا إلى الشعب ليقتلوه ، فوقعت عليهم صخرة من جبالهم طبّقت عليهم الشعب فهلكهوا وهلك الباقون فى أماكنهم بالصيحة ، ونجّى الله صالحا ومن آمن معه.

ثم أكد ما تقدم وقرره بقوله :

١٤٨

(فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) أي فتلك مساكنهم أصبحت خالية منهم ، إذ قد أهلكهم الله بظلمهم أنفسهم بشركهم به وتكذيبهم برسوله.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي إن فى فعلنا بثمود ما قصصناه عليك لعظة لمن كان من أولى المعرفة والعلم ، فيعلم ارتباط الأسباب بمسبباتها ، والنتائج بمقدماتها ، بحسب السنن التي وضعت فى الكون.

وبعد أن ذكر من هلكوا أردفهم بمن أنجاهم فقال :

(وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) أي وأنجينا من نقمتنا وعذابنا الذي أحللناه بثمود ـ رسولنا صالحا ومن آمن به ، لأنهم كانوا يتقون سخط الله ويخافون شديد عقابه ، بتصديقهم رسوله الذي أرسله إليهم.

وفى هذا إيماء إلى أن الله ينجى محمدا وأتباعه عند حلول العذاب بمشركى قريش حين يخرج من بين ظهرانيهم كما أحلّ بقوم صالح ما أحل حين خرج هو والمؤمنون إلى أطراف الشام ونزل رملة وفلسطين.

قصص لوط

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥))

الإيضاح

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ؟) أي واذكر لقومك حديث لوط لقومه إذ قال لهم منذرا ومحذّرا : إنكم لتفعلون فاحشة لم يسبقكم بها أحد من بنى آدم ، مع علمكم بقبحها لدى العقول والشرائع (واقتراف القبيح ممن يعلم قبحه أشنع).

١٤٩

ثم بين ما يأتون من الفاحشة بطريق التصريح بعد الإبهام ليكون أوقع فى النفس فقال :

(أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ؟ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) أي أينبغى أن تأتوا الرجال وتقودكم الشهوة إلى ذلك وتذروا النساء اللاتي فيهن محاسن الجمال ، وفيهن مباهج الرجال ، إنكم لقوم جاهلون سفهاء حمقى ما جنون.

ونحو الآية قوله : «أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ».

وقد أشار سبحانه إلى قبيح فعلهم وعظيم شناعته من وجوه :

(١) قوله : (الرِّجالَ) وفيه الإشارة إلى أن الحيوان الأعجم لا يرضى بمثل هذا.

(٢) قوله : (مِنْ دُونِ النِّساءِ) وفى ذلك إيماء إلى أن تركهن واستبدال الرجال بهن خطأ شنيع وفعل قبيح.

(٣) قوله : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) وفى هذا إيماء إلى أنهم يفعلون فعل الجهلا الذين لا عقول لهم ، ولا يدرون عظيم قبح ما يفعلون.

هذا آخر ما سطرناه تفسيرا لهذا الجزء من كلام ربنا العليم القدير ، فله الحمد والمنة.

وكان ذلك بمدينة حلوان من أرباض القاهرة فى الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول من سنة أربع وستين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة النبوية ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

١٥٠

فهرست

أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

ما شرطه المشركون للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم......................... ٣

ما تقوله الملائكة للمشركين يوم القيامة............................................. ٥

ندمهم فى الآخرة على ما فعلوا فى الدنيا............................................. ٨

مثل الجليس الصالح وجليس السوء................................................. ٩

شكاية الرسول إلى ربه بأن قومه هجروا كتابه..................................... ١٠

كان لكل نبى أعداء من شياطين الإنس والجن..................................... ١٠

فوائد إنزال القرآن منجّما....................................................... ١٢

وعد الله رسوله بتأييده بإزالة ما يقولون من الشبه.................................. ١٣

قصص بعض الأنبياء مع أممهم................................................... ١٤

قصص عاد وثمود وأصحاب الرس وغيرهم........................................ ١٧

استهزاء المشركين بالرسول صلى الله عليه وسلم وقولهم «أهذا الذي بعث الله رسولا... ١٩

احتفال النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة والإلحاف فى البلاغ....................... ١٩

تسفيه آراء المشركين من وجوه ثلاثة............................................. ٢٠

الأدلة على التوحيد............................................................. ٢٣

بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة كما جاء فى الحديث : بعثت إلى الأحمر والأسود ٢٥

النهى على المشركين فى عبادة الأصنام............................................ ٢٧

المشركون يظاهرون أولياء الشيطان ويعادون أولياء الرحمن.......................... ٢٧

١٥١

أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتوكل على الله وحده ألا يرهب الوعيد ولا التهديد. ٢٧

خلق السموات والأرض فى ستة أيام.............................................. ٣١

جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يتذكر........................................ ٣٣

أوصاف خلّص عباده المؤمنين.................................................... ٣٤

صفة مشى النبي صلى الله عليه وسلم............................................. ٣٦

سؤالهم صرف العذاب عنهم..................................................... ٣٧

كل غريم يفارق غريمه إلا غريم جهنم............................................ ٣٨

سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أىّ الذنب أكبر؟............................ ٣٩

ترغيب الأبرار فى التوبة......................................................... ٤٠

كان عمر بن الخطاب يجلد شاهد الزور أربعين جلدة............................... ٤١

«إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث»..................................... ٤١

إحسان الله إلى عباده المتقين..................................................... ٤٢

لو لا عبادتكم ربكم لم يعبأ بكم................................................. ٤٢

الحروف المقطعة فى أوائل السور.................................................. ٤٥

جرت سنة الله أن يكون الإيمان طوعا لا كرها.................................... ٤٦

إعراض المشركين عن النظر فى الآيات............................................ ٤٦

بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بتأييده ونصره.................................... ٤٨

قصص موسى عليه السلام...................................................... ٤٨

تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بأن قومه ليسوا ببدع فى الأمم................... ٤٩

الأسباب التي جعلت موسى يطلب معونة هارون................................... ٥٠

تقريع فرعون لموسى على حسن صنيعه له......................................... ٥١

قال موسى لفرعون إن أحسنت إلىّ فقد أسأت إلى شعبى........................... ٥٢

١٥٢

تعريف موسى لإلهه أمام فرعون.................................................. ٥٣

بعد أن عجز فرعون عن دحض حجج موسى وصفه بالجنون........................ ٥٤

تهديد فرعون لموسى بالسجن.................................................... ٥٥

الأدلة التي أدلى بها موسى على صحة نبوته........................................ ٥٦

ما يرويه فرعون. موقفه من موسى أمام شعبه...................................... ٥٧

المناظرة بين موسى والسحرة وفلج موسى عليهم................................... ٥٨

إيمان السحرة بموسى............................................................ ٦١

المناظرة بين موسى والسحرة وفلج موسى عليهم................................... ٥٨

إيمان السحرة بموسى............................................................ ٦١

تهديد فرعون للسحرة على إيمانهم................................................ ٦٢

رد السحرة على تهديد فرعون................................................... ٦٣

أمر الله لموسى بالهجرة مع قومه من مصر.......................................... ٦٥

ما جاء فى سفر الخروج من التوراة عن هذه الهجرة................................. ٦٥

ما قوّى به فرعون جنده فى تعقبهم............................................... ٦٦

ما جازى الله به فرعون وقومه................................................... ٦٧

ما طمأن به موسى قومه حين خافوا من تعقبهم.................................... ٦٨

كيف نجى الله موسى وقومه..................................................... ٦٨

قصص إبراهيم عليه السلام مع قومه............................................. ٦٩

محاجة إبراهيم لقومه............................................................ ٧١

ما وصف به إبراهيم رب العالمين................................................. ٧٢

ما طلبه إبراهيم من ربه......................................................... ٧٤

تقريب الجنة من المتقين والنار من الغاوين.......................................... ٧٦

سؤال أهل النار سؤال تقريع..................................................... ٧٧

١٥٣

ندم المشركين على ما كان قد فرط منهم......................................... ٧٨

قصص نوح عليه السلام مع قومه................................................ ٨٠

الحجة التي تذرعوا بها لعدم إجابتهم دعوته........................................ ٨٢

تهديدهم لنوح عليه السلام...................................................... ٨٣

قصص هود عليه السلام مع قومه................................................ ٨٤

ما أنكره هود على قومه........................................................ ٨٦

عظته لقومه على ما آتاهم من النعم............................................... ٨٧

ما قوّى به فرعون جنده فى تعقبهم............................................... ٨٨

قصص صالح عليه السلام مع قومه............................................... ٨٩

ما خاطب به قومه محذرا لهم..................................................... ٩١

إجابتهم له على ما اقترحوه من الآيات............................................ ٩٢

قصص لوط عليه السلام مع قومه................................................ ٩٣

توبيخ لوط لقومه على قبيح أفعالهم............................................... ٩٤

إغاثة الله له بعد أن استغاثه...................................................... ٩٥

ما كتبه الباحثون حديثا عن قرى قوم لوط........................................ ٩٦

رواية التوراة لقصة قوم لوط..................................................... ٩٧

قصص شعيب عليه السلام مع قومه.............................................. ٩٨

نهيهم عن بخس الحقوق........................................................ ١٠٠

قدحهم فى نبوة الرسول لأمرين................................................. ١٠٠

ما نزل بهم من العذاب........................................................ ١٠١

١٥٤

إخبار القرآن عن الغيب....................................................... ١٠٢

القرآن ذكر فى الكتب السالفة................................................. ١٠٣

الرد على المشركين بأن لمحمد تابعا من الجن...................................... ١٠٤

بعث المشركون إلى أهل يثرب يسألونهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم........... ١٠٥

تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن عدم إيمان قومه........................... ١٠٦

طول العمر لا يدفع عنهم العذاب المنتظر........................................ ١٠٧

لا يهلك الله قرية إلا بعد إنذارها............................................... ١٠٨

إنذار النبي صلى الله عليه وسلم لقريش.......................................... ١٠٩

أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلين الجانب....................................... ١١١

تنزل الشياطين على كل أفاك أثيم.............................................. ١١٢

الشعراء يتبعهم الغاوون وذكر سبب ذلك....................................... ١١٤

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحض على قول الشعر انتصار للدين............ ١١٥

تحذير المشركين من سوء العاقبة................................................ ١١٦

خلاصة ما حوته سورة الشعراء................................................. ١١٧

أصح الأقوال فى فواتح السور.................................................. ١١٨

لوازم الإيمان الصحيح......................................................... ١١٩

يجب الله إلى من لا يؤمن بالآخرة سوء عمله..................................... ١٢٠

قصص موسى عليه السلام حين عودته من مدين................................. ١٢٢

ما جاء فى التوراة عن ذلك..................................................... ١٢٣

ما أراه ربه من الآيات الدالة على قدرته......................................... ١٢٤

قصص داود وسليمان عليهما السلام........................................... ١٢٥

١٥٥

كثير من العلماء الآن يهتمون بالبحث عن لغات الطيور والحشرات كالنمل والنحل.. ١٢٨

تذكرة وعبرة بالآية........................................................... ١٢٩

تفقد سليمان للهدهد......................................................... ١٣٠

وصف مملكة سبأ............................................................. ١٣٢

كتاب سليمان لملكة سبأ وردها عليه............................................ ١٣٢

ما يدل عليه الكتاب على وجازته............................................... ١٣٥

طلبت بلقيس من أشراف قومها إبداء الرأى فى كتاب سليمان..................... ١٣٦

تحذيرها قومها من حرب سليمان............................................... ١٣٧

لم يقبل سليمان عليه السلام هدية بلقيس........................................ ١٣٨

مجىء سليمان بعرش بلقيس.................................................... ١٤٠

من الذي عنده علم من الكتاب؟............................................... ١٤١

ما فعلته بلقيس حين دخولها الصرح............................................. ١٤٣

ما أعده سليمان لنزول بلقيس.................................................. ١٤٤

قصص ثمود مع صالح عليه السلام.............................................. ١٤٥

توعدوا صالحا عليه السلام بعد أن توعدهم...................................... ١٤٨

ما قاله لوط لقومه ناصحا لهم.................................................. ١٤٩

تأنيب قوم لوط على قبيح فعلهم............................................... ١٥٠

١٥٦