تفسير المراغي - ج ١٩

أحمد مصطفى المراغي

ثم أكدوا هذا الإنكار بقولهم :

(وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) أي وإنا لنعتقد أنك ممن يتعمد بالكذب فيما يقول ، ولم يرسلك الله نبيّا إلينا.

(٢) (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي فإن كنت صادقا فى دعواك الرسالة فأنزل علينا من السحاب قطعا يكون فيها العذاب لنا.

وهذا شبيه بما قالته قريش لنبيهم فيما حكى الله عنهم بقوله : «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ـ إلى أن قالوا ـ أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً» وقوله : «وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ».

فأجابهم شعيب :

(قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) فيجازيكم به ، فإن شاء عجل لكم العذاب ، وإن شاء أخره إلى أجل معلوم ، وما علىّ إلا البلاغ ، وأنا مأمور به ، فلم أنذركم من تلقاء نفسى ، ولا ادّعى القدرة على عذابكم.

(فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي وهكذا دأبوا على التكذيب فجازاهم بجنس ما طلبوا من إسقاط الكسف من السماء ، فجعل عقوبتهم أن أصابهم حرّ عظيم أخذ بأنفاسهم ، لم ينفعهم فيه ظل ولا ماء ولا شراب ، فاضطروا أن يخرجوا إلى البرية فأظلتهم سحابة وجدوا لها بردا ونسيما فاجتمعوا كلهم تحتها ، فأمطرتهم شواظا من نار فاحترقوا.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن فى ذلك الإنجاء لكل رسول ومن أطاعه ، والعذاب لكل من عصاه فى كل العصور ـ لدلالة واضحة على صدق الرسل ، وما كان أكثر قومك بمؤمنين ، مع أنك قد أتيتهم بما لا يكون معه شك ، لما يصحبه من الدليل والبرهان.

١٠١

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك لهو العزيز فى انتقامه من الكافرين الرحيم بعباده المؤمنين التائبين.

(تنبيه) جاءت هذه القصص السبع مختصرة هنا وفيها البرهان الساطع على أن القرآن جاء من عالم الغيب ، فإن النتائج التي حصل عليها الأنبياء مع أقوامهم هى مثل النتائج التي حصل عليها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن حين نزولها ذا شوكة ولا ذا قوة وأن ما أصيب به من التكذيب والأذى وكانت عاقبته الفتح والنصر المبين ـ نموذج لما حدث للأنبياء السالفين قبله.

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢)).

١٠٢

تفسير المفردات

الروح الأمين : هو جبريل عليه السلام ، ووصف بالأمين ، لأنه أمين وحيه تعالى وموصله إلى من شاء من عباده ، على قلبك : أي على روحك ، لأنه المدرك والمكلّف دون الجسد ، والزبر : الكتب ، واحدها زبرة كصحف وصفحة ، والآية : الدليل والبرهان ، والأعجمين : واحدهم أعجمى ، وهو من لا يقدر على التكلم بالعربية ، سلكناه : أي أدخلناه ، والمجرمين : مشركى قريش ، بغتة : فجأة ، منظرون : أي مؤخرون ، ذكرى : أي تذكرة وعبرة لغيرهم ، وما ينبغى لهم : أي ما يتيسر ولا يتسنى لهم ، وما يستطيعون : أي ما يقدرون على ذلك ، لمعزولون : أي لممنوعون بالشهب بعد أن كانوا ممكّنين.

المعنى الجملي

بعد أن اختتم سبحانه هذا القصص ، وبين ما دار بين الأنبياء وأقوامهم من الحجاج والجدل ، وذكر أنه قد أهلك المكذبين ، وكان النصر فى العاقبة لرسله المتقين فإن سنته فى كل صراع بين الحق والباطل أن تدول دولة الباطل وينتصر الحق وإن طال الزمن : «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ».

وفى ذلك سلوة لرسوله ، وعدة له بأنه مهما أوذى من قومه ولقى منهم من الشدائد ، فإن الفلج والفوز له : «سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً» أردف هذا بيان أن هذا القرآن الذي جاء بذلك القصص وحي من الله أنزله على عبده ورسوله جبريل عليه السلام بلسان عربىّ مبين ، لينذر به العصاة ويبشر به عباده المتقين ، وأن ذكره فى الكتب المتقدمة المأثورة عن الأنبياء الذين بشّروا به حتى قام آخرهم خطيبا فى ملئه يبشر به كما قال : «وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي

١٠٣

مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» وأن العلماء من بنى إسرائيل يجدون ذكره فى كتبهم كما قال : «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ» وكما أن الأعجمين إذا قرئ عليهم لم يدروا منه شيئا ولم يؤمنوا به ، كذلك هؤلاء المجرمون من قريش لا يؤمنون به كفرا وعنادا حتى يأتيهم عذاب الله بغتة وهم لا يشعرون ، فيتمنون إذ ذاك النّظرة ليطيعوا الله ويتبعوا أوامره ، وأنّى لهم ذلك؟ وهل يجديهم التمني ساعتئذ؟ «فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا».

وقد جرت سنتنا ألا نهلك قوما إلا بعد أن نبعث إليهم الرسل مبشرين ومنذرين.

ثم رد على مشركى قريش الذين قالوا : إن لمحمد صلى الله عليه وسلم تابعا من الجن يخبره كما تخبر الكهنة ـ بأن الشياطين من سجاياهم الفساد ، وإضلال العباد ، والقرآن فيه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وبأنهم ممنوعون عن سماع ما تتكلم به الملائكة فى السماء ، لأن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا مدة إنزال القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم فلم يخلص أحد من الشياطين إلى استراق السمع كما قال : «وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً ، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً».

الإيضاح

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) أي وإن هذا القرآن الذي تقدم ذكره فى قوله «وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ» أنزله الله إليك ، وجاء به جبريل عليه السلام فتلاه عليك حتى وعيته بقلبك ، لتنذر به قومك بلسان عربىّ بيّن ليكون قاطعا للعذر ، مقيما للحجة ، دليلا إلى المحجة ، هاديا إلى الرشاد ، مصلحا لأحوال العباد.

١٠٤

وفى قوله : على قلبك إيماء إلى أن ذلك المنزّل محفوظ ، وأن الرسول متمكن منه ، إلى أن القلب هو المخاطب فى الحقيقة لأنه موضع التمييز ، والعقل والاختيار وسائر الأعضاء مسخرة له ، يرشد إلى ذلك قوله تعالى : «إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ» وقوله صلى الله عليه وسلم : «ألا وإن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهى القلب» أخرجاه فى الصحيحين ولأن القلب إذا غشّى عليه وقطع سائر الأعضاء لم يحصل له شعور ، وإذا أفاق القلب شعر بجميع ما ينزل بالأعضاء من الآفات.

وفى قوله : بلسان عربى مبين ، تقريع لمشركى قريش بأن الذي حملهم على التكذيب هو الاستكبار والعناد ، لا عدم الفهم ، لأنه نزل بلغتهم ، فلا عذر لهم فى الإعراض عنه.

(وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) أي وإن ذكر هذا القرآن والتنويه بشأنه لفى كتب الأولين المأثورة عن أنبيائهم الذين بشروا به فى قديم الدهر وحديثه ، وقد أخذ عليهم الميثاق بذلك وبه بشر عيسى بقوله : «وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ».

(أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ؟) أي أو ليس بكاف لهم شهادة على صدقه أن العلماء من بنى إسرائيل نصوا على أن مواضع من التوراة والإنجيل فيها ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم بصفته ونعته ، وقد كان مشركو قريش يذهبون إليهم ويتعرفون منهم هذا الخبر.

ذكر الثعلبي عن ابن عباس أن أهل مكة بعثوا إلى أحبار يثرب يسألونهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : هذا أوانه وذكروا نعته.

وبعد أن أثبت بالدليلين السالفين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، ذكر أن هؤلاء المشركين لا تنفعهم الدلائل ، ولا تجديهم البراهين فقال :

(وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ. فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) أي إنا أنزلنا

١٠٥

هذا القرآن على رجل عربى بلسان عربى مبين فسمعوه وفهموه وعرفوا فصاحته وأنه معجز لا يعارض بكلام مثله وبشرت به الكتب السالفة ومع هذا لم يؤمنوا به ، بل جحدوه وسمّوه تارة شعرا وأخرى كهانة ، فلو أنا نزّلناه على بعض الأعجمين الذي لا يحسن العربية فقرأه عليهم لكفروا به أيضا ، ولتمحلوا لجحودهم عذرا وقالوا له : لا نفقه ما يقول كما قال فى آية أخرى : «وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ».

وفى هذا تسلية من الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم على ما حصل من قومه لئلا يشتد حزنه بإدبارهم عنه وإعراضهم عن الاستماع له.

والخلاصة ـ إنا لو نزلناه على بعض الأعجمين : «لا عليك فإنك رجل منهم ويقولون لك ما أنت إلا بشر مثلنا وهلا نزل به ملك» فقرأه ذلك الأعجم عليهم ولم يكن لهم علة يدفعون بها أنه حق وأنه منزل من عندنا ما كانوا به مصدقين ، فخفض من حرصك على إيمانهم به ، فإنهم لا يؤمنون به على كل حال.

ثم وكّد هذا الإنكار أفضل توكيد فقال :

(كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) أي كما أدخلنا التكذيب به بقراءة الأعجم ، أدخلنا التكذيب به فى قلوب المجرمين كفار قريش.

وفى ذلك إيماء إلى أن ذلك التكذيب صار متمكنا فى قلوبهم أشد التمكن وصار كالشىء الجبلىّ الذي لا يمكن تغييره.

ثم زاد ذلك توكيدا فقال :

(لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي إنهم لا يتأثرون بالأمور الداعية إلى الإيمان ، بل يستمرون على ما هم عليه حتى يعاينوا العذاب ، حين لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار.

وإجمال ما تقدم ـ هكذا مكنا التكذيب وقررناه فى قلوبهم ، فكيفما فعل بهم ، وعلى أي وجه دبر أمرهم ، فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه من جحوده

١٠٦

وإنكاره كما قال : «وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ».

(فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي فيأتى هؤلاء المكذبين بهذا القرآن العذاب الأليم وهم لا يشعرون قبل ذلك بمجيئه حتى يفجأهم.

ثم بين أنهم يتمنّون التأخير حينئذ ليتداركوا ما فات.

(فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) أي فيقولوا على وجه الحسرة والأسف والتمني للإمهال ليتداركوا ما فرّطوا فيه : هل تؤخر إلى حين؟ كما يستغيث المرء حين تعذر الخلاص ، وهم يعلمون إذ ذاك أنه لا رجعة لهم ، لكنهم يذكرون ذلك استرواحا.

ولما أوعدهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعذاب قالوا إلى متى توعدنا به ، ومتى هذا كما قال :

(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ؟) أي كيف يستعجلون عذابنا بنحو قولهم : «فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ» وقولهم : «ائْتِنا بِما تَعِدُنا».

وقد تبين لهم كيف أخذنا للأمم الماضية ، والقرون الخالية ، والأقوام العاتية؟

ثم أبان أن طول العمر لا يغنى عنهم شيئا وأن العذاب آت لا محالة فقال :

(أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ. ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ. ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) أي هل الأمر كما يعتقدون من طول عيشهم فى النعيم ، فأخبرنى إن متعناهم فى الدنيا برغد العيش وصافى الحياة ، ثم جاءهم بعد تلك السنين المتطاولة ما كانوا يوعدون به من العذاب ، فهل ما كانوا فيه من النعيم يدفع عنهم شيئا منه أو يخففه عنهم؟.

والخلاصة ـ إن طول التمتع ليس بدافع شيئا من عذاب الله ، وكأنهم لم يمتّعوا بنعيم قط كما قال : «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها» وقال : «يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ» وقال «وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى».

١٠٧

وعن ميمون بن مهران أنه لقى الحسن البصري فى الطواف بالكعبة وكان يتمنى لقاءه فقال : عظنى فلم يزد أن تلا هذه الآية فقال ميمون : لقد وعظت فأبلغت.

ثم بين سبحانه أنه لا يهلك قرية إلا بعد الإنذار وإقامة الحجة عليها فقال :

(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ. ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ) أي وما أهلكنا قرية من القرى إلا بعد إرسالنا إليهم رسلا ينذرونهم بأسنا على كفرهم ، تذكرة لهم وتنبيها إلى ما فيه النجاة من عذابنا ، وما كنا ظالمين فى إهلاكهم ، لأنهم جحدوا نعمتنا ، وعبدوا غيرنا ، بعد الإعذار إليهم ، ومتابعة الحجج ، ومواصلة الوعيد.

ونحو الآية قوله : «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً» وقوله : «وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا».

ولما كان المشركون يقولون : إن محمدا كاهن وما يتنزل عليه من نوع ما تتنزل به الشياطين أكذبهم سبحانه بقوله :

(وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) أي وما نزلت الشياطين بالقرآن ليكون كهانة أو شعرا أو سحرا ، وما ينبغى لهم أن ينزلوا به ، وما يستطيعون ذلك وإن عالجوه بكل وسيلة ، وإنهم عن سمع الملائكة لمحجوبون بالشهب.

والخلاصة ـ إن الشياطين لا تنزل به لوجوه ثلاثة :

(١) إنه ليس من مبتغاهم ، إذ من سجاياهم الإضلال والإفساد ، والقرآن فيه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وهو هدى ونور وبرهان متين ، فبينه وبين مقاصد الشياطين منافاة عظيمة.

(٢) إنه لو انبغى لهم ما استطاعوا حمله وتأديته كما قال : «لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ».

١٠٨

(٣) إنهم لو انبغى واستطاعوا حمله وتأديته لما وصلوا إلى ذلك ، لأنهم بمعزل عن استماع القرآن حال نزوله.

(فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠))

المعنى الجملي

بعد أن بالغ سبحانه فى تسلية رسوله صلى الله عليه وسلم وأقام الحجة على نبوته ، ثم أورد سؤال المنكرين وأجاب عنه ـ أردف ذلك أمره بعبادته وحده وإنذار العشيرة الأقربين ومعاملة المؤمنين بالرفق ، ثم ختم هذه الأوامر بالتوكل عليه تعالى وحده ، فإنه هو العليم بكل شئونه وأحواله.

روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضى الله عنه قال : لما أنزل الله : «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» أنى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليه ثم نادى يا صباحاه ، فاجتمع الناس إليه ، بين رجل يجىء إليه ورجل يبعث رسوله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا بنى عبد المطلب ، يا بنى فهر ، يا بنى لؤى ، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتمونى؟ قالوا نعم ، قال : فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد ، فقال أبو لهب : تبّا لك سائر اليوم ، أما دعوتنا إلا لهذا؟» وأنزل الله تعالى : «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ».

١٠٩

الإيضاح

أمر سبحانه نبيه بأربعة أوامر ونواه :

(١) (فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) أي أخلص العبادة لله وحده ، ولا تشرك به سواه ، فإن من أشرك به فقد عصاه ، ومن عصاه فقد استحق عقابه.

وفى هذا حث لرسوله على ازدياد الإخلاص ، وبيان أن الإشراك قبيح بحيث ينهى عنه من لا يمكن صدوره منه ، فيكون الوعيد لغيره أزجر ، وله أقبل.

وبعد أن بدأ بالرسول وتوعده إن دعا مع الله إلها آخر أمره بدعوة الأقرب فالأقرب ، لأنه إذا تشدد على نفسه أولا ، ثم ثنى بالأقرب فالأقرب كان قوله لسواهم أنفع ، وتأثيره أنجع فقال :

(٢) (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) أي وخوّف الأقربين من عشيرتك بأس الله ، وشديد عقابه لمن كفر به وأشرك به سواه.

وهذه النذارة الخاصة جزء من النذارة العامة التي بعث بها صلى الله عليه وسلم كما قال : «لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها» وقال : «لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا».

روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبى هريرة قال : «لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا وعم وخص ، فقال : «يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإنى لا أملك لكم ضرا ولا نفعا ، يا معشر بنى كعب بن لؤى أنقذوا أنفسكم من النار ، فإنى لا أملك لكم ضرا ولا نفعا ، يا معشر بنى قصىّ أنقذوا أنفسكم من النار ، فإنى لا أملك لكم ضرا ولا نفعا ، يا معشر بنى عبد مناف ، أنفذوا أنفسكم من النار ، فإنى لا أملك لكم ضرا ولا نفعا ، يا معشر بنى عبد المطلب ، أنقذوا أنفسكم من النار ، فإنى لا أملك لكم ضرا ولا نفعا ، يا فاطمة بنت محمد أنقذى نفسك من النار ،

١١٠

فإنى لا أملك لك ضرا ولا نفعا ، ألا إن لكم رحما وسأبلّها ببلالها ـ يريد : أصلكم فى الدنيا ولا أغنى عنكم من الله شيئا».

وفى الحديث والآية دليل على أن القرب فى الأنساب ، لا ينفع مع البعد فى الأسباب ، وعلى جواز صلة المؤمن والكافر وإرشاده ونصحه بدليل قوله : إن لكم رحما سأبلها ببلالها.

وروى مسلم قوله صلى الله عليه وسلم : «والذي نفسى بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودىّ ولا نصرانى ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار».

وبعد أن أمره بإنذار المشركين من قومه أمره بالرفق بالمؤمنين فقال :

(٣) (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ألن جانبك ، وترفّق بمن اتبعك من المؤمنين ، فإن ذلك أجدى لك ، وأجلب لقلوبهم ، وأكسب لمحبتهم ، وأفضى إلى معونتك ، والإخلاص لك.

(فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) أي فإن عصاك من أنذرتهم من العشيرة فلا ضير عليك ، وقد أديت ما أمرت به ، ولا عليك إثم مما يعملون ، وقل لهم إنى برىء منكم ومن دعائكم مع الله إلها آخر ، وإنكم ستجزون بجرمكم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

(٤) (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ. وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) أي وفوّض جميع أمورك إلى القادر على دفع الضرّ عنك ، والانتقام من أعدائك الذين يريدون السوء بك ، الرحيم بك إذ نصرك عليهم برحمته وهو الذي يراك حين تقوم للصلاة بالناس ، ويرى تغيرك من حال كالجلوس إلى حال كالقيام فيما بين المصلين إذا كنت لهم إماما ، وفى الخبر «اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

وعبر عن المصلين بالساجدين ، لأن العبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد. ثم أكد ما سلف بقوله :

(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي إنه هو السميع لأقوال عباده ، العليم بحركاتهم

١١١

وسكناتهم ، بسرهم ونجواهم كما قال : «وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ».

وقصارى ذلك ـ إنه هو القادر على نفعكم وضركم ، فهو الذي يجب أن تتوكلوا عليه ، وهو الذي يكفيكم ما أهمكم.

(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧))

تفسير المفردات

أنبئكم : أي أخبركم : والأفاك : كثير الإفك والكذب ، والأثيم : كثير الذنوب والفجور ، يلقون السمع : أي يصغون أشد الإصغاء إلى الشياطين فيتلقون منهم ما يتلقون مما أكثره الكذب ، والغاوون : الضالون المائلون عن السنن القويم.

والوادي : الشّعب ، يهيمون : أي يسيرون سير البهائم حائرين لا يهتدون إلى شىء ، والمنقلب : المرجع.

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه امتناع تنزل الشياطين بالقرآن ، وأثبت أنه تنزيل من رب العالمين ـ أعقب هذا ببيان استحالة تنزلهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنها

١١٢

لا تنزل إلا على كل كذاب فاجر ، ورسول الله صادق أمين. ثم ذكر أن الكذابين يلقون السمع إلى الشياطين ، فيتلقّون وحيهم وهو تخيلات لا تطابق الحق والواقع. وبعدئذ ذكر أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس بشاعر ، لأن الشعراء يهيمون فى كل واد من أودية القول من مدح وهجو وتشبيب ومجون بحسب الهوى والمنفعة ، فأقوالهم لا تترجم عن حقيقة ، وليس بينها وبين الصدق نسب ، ومحمد صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الصدق ، فأنّى له أن يكون شاعرا؟.

الإيضاح

(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ) أي هل أخبركم خبرا جليا نافعا فى الدين ، عظيم الجدوى فى الدنيا ، تعلمون به الفارق بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن ـ على من تنزل الشياطين حين تسترق السمع؟.

وهذا ردّ على من زعم من المشركين من ما جاء به الرسول ليس بحق ، وأنه شىء أتاه به رئىّ من الجن ، فنزّه الله رسوله عن قولهم وافترائهم ، ونبّه إلى أن ما جاء به إنما هو من عند الله ، وأنه تنزيله ووحيه ، نزل به ملك كريم ، وأنه ليس من قبل الشياطين.

ثم أشار إلى الجواب عن هذا السؤال بوجهين :

(١) (تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) أي هى تنزل على كل كذاب فاجر من الكهنة نحو شقّ بن رهم ، وسطيح بن ربيعة.

(٢) (يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) أي يلقى الأفاكون سمعهم إلى الشياطين ، ويصغون إليهم أشد إصغاء ، فيتلقون منهم ما يتلقون ، وهؤلاء قلما يصدقون فى أقوالهم ، بل هم فى أكثرها كاذبون.

والخلاصة ـ إن هناك فارقا بين محمد صلى الله عليه وسلم والكهنة ، فمحمد

١١٣

لا يكذب فيما يخبر عن ربه ، وما عرف عنه إلا الصدق ، والكهنة كذابون فيما يقولون ، وقلما عرف عنهم الصدق فى أخبارهم.

وبعد أن ذكر الفارق بين محمد صلى الله عليه وسلم والكهنة ـ أردف ذلك ذكر الفارق بينه وبين الشعراء فقال :

(وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) أي إن الشعراء يتبعهم الضالون الحائدون عن السنن القويم ، المائلون إلى الفساد الذي يجر إلى الهلاك ، وأتباع محمد صلى الله عليه وسلم ليسوا كذلك ، بل هم الساجدون الباكون الزاهدون.

وقد سبق أن قلنا : إن من الشعر ما يجوز إنشاده ، ومنه ما يكره أو يحرم ؛ روى مسلم من حديث عمرو بن الشّريد عن أبيه قال : «ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال : هل معك من شعر أمية بن أبى الصلت شىء؟ قلت نعم ، قال هيه فأنشدته بيتا ، فقال هيه ، ثم أنشدته بيتا ، فقال هيه ، حتى أنشدته مائة بيت». وفى هذا دليل على العناية بحفظ الأشعار إذا تضمنت الحكم والمعاني المستحسنة شرعا وطبعا ، وإنما استكثر النبي صلى الله عليه وسلم من شعر أمية ؛ لأنه كان حكيما ، ألا ترى قوله عليه الصلاة والسلام «كاد أمية بن أبى الصلت أن يسلم».

ثم بين تلك الغواية بأمرين :

(١) (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) أي ألم تعلم أن الشعراء يسلكون الطرق المختلفة من الكلام ، فقد يمدحون الشيء حينا بعد أن ذموه ، أو يعظّمونه بعد أن احتقروه ، والعكس بالعكس ، وذلك دليل على أنهم لا يقصدون إظهار الحق ، ولا تحرّى الصدق ، لكنّ محمدا جبلّته الصدق ، ولا يقول إلا الحق ، وقد بقي على طريق واحد ، وهو الدعوة إلى الله ، والترغيب فى الآخرة ، والإعراض عن الدنيا.

(٢) (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) فهم يرغّبون فى الجود ويرغبون عنه ، وينفّرون عن البخل ويضرون عليه ، ويقدحون فى الأعراض لأدنى الأسباب ،

١١٤

ولا يأتون إلا الفواحش ، ومحمد صلى الله عليه وسلم على خلاف ذلك. فقد بدأ بنفسه إذ قال له ربه : (فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) ثم بالأقرب فالأقرب فقال : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) فليست حاله حال الشعراء.

ولما وصف الشعراء بهذه الأوصاف الذميمة استثنى منهم من اتصف بأمور أربعة (١) : الإيمان (٢) والعمل الصالح (٣) وكثرة قول الشعر فى توحيد الله والنبوة ودعوة الخلق إلى الحق (٤) وألا يهجو أحدا إلا انتصارا ممن يهجوه اتباعا لقوله : «لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ» كما كان يفعل عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وكعب بن زهير حين كانوا يهجون المشركين منافحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن مالك : «اهجهم ، فو الذي نفسى بيده لهو أشد عليهم من رشق النّبل» وكان يقول لحسان بن ثابت : «قل وروح القدس معك» ، وفى رواية «اهجهم وجبريل معك».

وإلى هذا أشار بقوله :

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا). وروى ابن جرير عن محمد بن إسحق «أنه لما نزلت هذه الآية جاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكون ، قالوا قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنّا شعراء فتلا النبي صلى الله عليه وسلم : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قال أنتم (وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً) قال : أنتم (وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) قال : أنتم (أي بالرد على المشركين) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : انتصروا ولا تقولوا إلا حقا ، ولا تذكروا الآباء والأمهات» ، فقال حسان لأبى سفيان :

هجوت محمدا فأجبت عنه

وعند الله فى ذاك الجزاء

وإن أبى ووالده وعرضى

لعرض محمد منكم وقاء

١١٥

أتشتمه ولست له بكفء

فشركما لخيركما الفداء

لسانى صارم لا عيب فيه

وبحرى لا تكدّره الدّلاء

وقال كعب : يا رسول الله. إن الله قد أنزل فى الشعر ما قد علمت ، فكيف ترى فيه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ، «إن المؤمن يجاهد بنفسه وسيفه ولسانه ، والذي نفسى بيده لكأنّ ما ترمونهم به نضح النّبل» وقال كعب :

جاءت سخينة كى تغالب ربها

وليغلبنّ مغالب الغلّاب

فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد مدحك الله يا كعب فى قولك هذا :

وبعد أن ذكر سبحانه من الدلائل العقلية وأخبار الأنبياء المتقدمين ما يزيل الحزن عن قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم بين الدلائل على صدق نبوته ، ثم أرشد إلى الفارق بينه وبين الكهنة وبينه وبين الشعراء ـ ختم السورة بالتهديد العظيم ، والوعيد الشديد للكافرين فقال :

(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) أي وسيعلم الذين ظلموا أنفسهم ، وأعرضوا عن تدبر هذه الآيات كفرا بها وعنادا ـ أىّ مرجع يرجعون إلى الله بعد الموت ، وأىّ معاد يعودون إليه؟ إنهم ليصيرنّ إلى نار لا يطفأ سعيرها ، ولا يسكن لهيبها.

اللهم أبعدنا عن تلك النار وأدخلنا جنتك برحمتك يا أرحم الراحمين.

١١٦

خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة

(١) مقدمة فى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على إعراض قومه عن الدين ، وبيان أنهم ليسوا ببدع فى الأمم ، وأنه صلى الله عليه وسلم ليس بأول الرسل الذين كذّبوا ، وأن الله قادر على إنزال القوارع التي تلجئهم إلى الإيمان ، ولكن جرت سنته أن يجعل الإيمان فى القلوب اختيار يا لا اضطراريا.

(٢) الاستدلال بخلق النبات وأطواره المختلفة وأشكاله المنوّعة ـ على وجود الإله ووحدانيته.

(٣) قصص الأنبياء مع أممهم لما فيه من العبرة لأولئك المكذبين.

(٤) إثبات أن القرآن وحي من رب العالمين ، لا كلام تتنزل به الشياطين.

(٥) بيان أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس بكاهن ولا شاعر.

(٦) التهديد والوعيد لمن يعبد مع الله سواه من الأصنام والأوثان ، ويكذب بالرسول والنور الذي أنزل معه.

١١٧

سورة النمل

مكية نزلت بعد الشعراء ، وآيها ثلاث وتسعون.

ومناسبتها ما قبلها من وجوه :

(١) إنها كالتتمة لها ، إذ جاء فيها زيادة على ما تقدم من قصص الأنبياء قصص داود وسليمان.

(٢) إن فيها تفصيلا وبسطا لبعض القصص السالفة كقصص لوط وموسى عليهما السلام.

(٣) إن كلتيهما قد اشتمل على نعت القرآن وأنه منزل من عند الله.

(٤) تسلية رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يلقاه من أذى قومه وعنتهم ، وإصرارهم على الكفر به ، والإعراض عنه.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣))

الإيضاح

(طس) تقدم القول فى المراد من فواتح السور ، وأن الأصح أنها حروف مقطعة جاءت للتنبيه نحو ألا ويا التي للنداء ، وينطق بأسمائها فيقال : (طا ـ سين).

(تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ) أي إن هذه الآيات التي أنزلتها إليك أيها الرسول لآيات القرآن ، وآيات كتاب بيّن لمن تدبره وفكر فيه أنه من عند الله

١١٨

أنزله إليك ، لم تتقوّله أنت ولا أحد من خلقه ، إذ لا يستطيع ذلك مخلوق ولو تظاهر معه الجن والإنس.

والمراد بالكتاب المبين : القرآن ، وعطفه عليه كعطف إحدى الصفتين على الأخرى كما يقال هذا فعل السخي والجواد الكريم.

(هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي هى تزيد المؤمنين هدى على هداهم كما قال : «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» وهى تبشرهم برحمة من الله ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم.

ولما كان وصف الإيمان خفيا ذكر ما يلزمه من الأمور الظاهرة فقال :

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أي إن المؤمنين حق الإيمان هم الذين يعملون الصالحات ، فيقيمون الصلاة المفروضة على أكمل وجوهها ، ويؤدون الزكاة التي تطهّر أموالهم وأنفسهم من الأرجاس ، ويوقنون بالمعاد إلى ربهم ، وأن هناك يوما يحاسبون فيه على أعمالهم خيرها وشرّها ، فيذلّون أنفسهم فى طاعته ، رجاء ثوابه وخوف عقابه.

وليسوا كأولئك المكذبين به الذين لا يبالون. أحسنوا أم أساءوا ، أطاعوا أم عصوا ، لأنهم إن أحسنوا لا يرجون ثوابا ، وإن أساءوا لم يخافوا عقابا.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥))

تفسير المفردات

يعمهون : أي يتحيرون ويترددون فى أودية الضلال ، الأخسرون : أي أشد الناس خسرانا ، لحرمانهم الثواب ، واستمرارهم فى العذاب.

١١٩

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أن المؤمنين يزيدهم القرآن هدى وبشرى ، إذ هم به يستمسكون ويؤدون ما شرع من الأحكام على أتم الوجوه ـ أردف هذا ببيان أن من لا يؤمن بالآخرة يركب رأسه ، ويتمادى فى غيه ، ويعرض عن القرآن أشد الإعراض ، ومن ثم تراه حائرا مترددا فى ضلاله ، فهو فى عذاب شديد فى دنياه لتبلبله ، وقلقه واضطراب نفسه ، وفى الآخرة له أشد الخسران ، لما يلحقه من النكال والوبال والحرمان من الثواب والنعيم الذي يتمتع به المؤمنون.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) أي إن الذين لا يصدقون بالآخرة وقيام الساعة والمعاد إلى الله بعد الموت ، وبالثواب والعقاب ـ حبّبنا إليهم قبيح أعمالهم ، ومددنا لهم فى غيهم ، فهم فى ضلالهم حيارى تائهون ، يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، لا يفكرون فى عقبى أمرهم ، ولا ينظرون إلى ما يئول إليه سلوكهم.

قال الزجاج : أي جعلنا جزاءهم على كفرهم أن زينا لهم ما هم فيه بأن جعلناه مشتهى بالطبع ، محبوبا إلى النفس.

(أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ) فى الدنيا بقتلهم وأسرهم حين قتال المؤمنين كما حدث يوم بدر.

(وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) أي وهم فى الآخرة أعظم خسرانا مما هم فيه فى الدنيا ، لأن عذابهم فيها مستمر لا ينقطع ، وعذابهم فى الدنيا ليس بدائم بل هو زائل لا بقاء له.

١٢٠