مصابيح الظلام - المقدمة

مصابيح الظلام - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : الفقه
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٢

١
٢

٣
٤

المقدّمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

بعد أن كان الفقه هو عبارة عن مجموعة معيّنة من القوانين التي تنظّم الأعمال الفرديّة ، والأحوال الشخصيّة ، والروابط الاجتماعيّة للفرد ، مع ربّه ومع عباده ومجتمعه ، له في مذهب الإماميّة طوال تاريخه تلاطم وتصادم مقابل التيارات الحاكمة والأهواء المتشتّتة. ويكفي لإثبات ذلك تصفّح الرسائل العلميّة ، والمجاميع الفقهيّة المدوّنه خلال هذه الفترات الزمنيّة.

وما يعرف في يومنا هذا باسم «الفقه الإمامي» أو «فقه الإماميّة» ما هو إلّا حصيلة مدرسة الاعتدال ، وبلورة لما تمحّض من أفكارها ، وعصارة لما جمع من لباب آرائها.

وقد كانت ـ هذه المدرسة ـ بعيدة كلّ البعد عن التحجّر والجمود والقوقعة التي جاءتها من جهة ، وكذا كانت حريصة على التعبّد بالنصوص الشرعيّة ، والمبادئ الأصيلة ؛ مبتعدة عن الخروج من كلّ المسلّمات العلميّة الثابتة والمقرّرة ؛ بمعنى عدم مسّ القواعد الأصيلة ، والسنن الثابتة الإلهيّة ، بل وكلّ ما يشين تلك الاصول المسلّمة والمقدّسة في آن واحد.

٥

إنّ الطريقة الحاكمة في يومنا هذا على المجاميع العلميّة والحوزات الدينيّة ما هي إلّا حصيلة مساعي ثلّة طاهرة قامت مجتهدة ومثابرة لمحو كلا الانحرافين المزبورين ، حتّى أصبحت كلتا المدرستين ـ الإفراطيّة والتفريطيّة ـ في يومنا هذا بديهيّة البطلان ، وواضحة الزيف والتجوّف.

ولإلقاء الضوء على ما لأبناء كلا المدرستين من الانحراف والابتعاد عن الجادّة والصراط المستقيم ، حفاظا على حاقّ الشريعة وجوهرها ، وما عبّرنا عنه اليوم : مدرسة الاعتدال ، أقول : لكي يتضح ما نريد القول به. حريّ بنا أن نشير إلى لمحة مجملة عن كلا الخطيّن ، ونذكر دراسة مبسّطة لكلتا المدرستين كي يبرز منهما عظمة ما وصلت إليه مدرسة الاعتدال المزبورة في سيرها العلميّ والعملي معا.

فنقول : أما الأخباريّون ؛ وهم الممثّلون لمدرسة التحجّر والجمود (١) ، التي بدأت ظاهرا في أوائل القرن الحادي عشر ببروز مدرسة جديدة لاستنباط أحكام الشرعيّة ـ لو صحّ لنا أن نعبّر عنها بذلك ـ وذلك على يد شخص اسمه : ميرزا محمّد أمين الأسترآبادى رحمه‌الله ، الذي يعدّ باني اسس هذه الطريقة ، ومؤسّس مبانيها ، والذي أبعد الشريعة السمحاء ـ انصافا ـ بفعله هذا عن جوهر مبانيها ، وحاقّ حقيقتها بما أسّسه من طرق ، هي أشبه بما جاءتنا به مدرسة الرأى والقياس عند العامّة من ضحالة وسطحيّة.

وما كان هذا إلّا نتيجة عدم استيعاب ما قرّره السلف الصالح من قواعد فقهيّة ومبانى اصوليّة للفقه لم يهضمها هؤلاء ـ كما هي ـ ممّا سبّب خروجهم عن

__________________

(١) لا نجد ثمّة ضرورة لبيان الفارق بين هؤلاء ومكتب الاصوليّين ، بعد ما اسهبنا الحديث ـ إلى حدّ ما ـ عنهما في مقدمة كتابنا «الرسائل الاصوليّة» ، (راجع! الرسائل الاصوليّة : ١٨ ـ ٣٢ (المقدمة).

٦

كثير ممّا هو مسلّم علميّا وثابت استدلاليا اليوم.

ولكي نعطي صورة مجملة عمّا ذهب إليه القوم نذكّر نزرا يسيرا من مهمّ آرائهم التي دانوها وقالوا بها.

منها : إنكار هم حجّية ظواهر القرآن الكريم! مستدلّين على ذلك ب :

أ : انحصار فهم القرآن بأهل بيت العصمة والطهارة عليهم‌السلام ، استنادا إلى بعض الروايات ، التي منها «ما يعرف القرآن إلّا من خوطب به» (١).

ب : الروايات الناهية عن التفسير بالرأي (٢).

ج : كثرة التخصيصات والتقييدات الواردة على العمومات والمطلقات القرآنيّة ممّا يهدّمن حجّية عمومات ومطلقات القرآن ويقلّل من أهميّة الأخذ بها.

د : إطلاق الأدلّة القائمة على عدم جواز الأخذ بالظنّ يشمل الظواهر القرآنيّة من غير فرق بينها وبين غيرها.

ومنها : عدم اعتبار العقل في فعليّة الأحكام الشرعيّة ، حيث ذهب المحدث الأسترآبادي في «الفوائد المدنيّة» (٣) إلى أنّ مناط تعلق التكاليف كلّها السماع من الشرع ، ومنهم من أفرط فذهب إلى إنكار لزوم امتثال الأوامر الشرعيّة التي قامت عليها الأدلّة العقليّة الثابتة.

ومنها : ردّهم للإجماع بجميع أقسامه ، حتّى رفضوا جميع التوجيهات المسلّمة عند الاصوليّين

ومنها : الاقتصار في الحجّية على خصوص السنن الواردة الخاصّة دون

__________________

(١) مستدرك الوسائل : ١٧ / ٣٣٥ الحديث ٢١٥١٥.

(٢) بحار الأنوار : ٨٩ / ١٠٧ ـ ١١٢ ،

(٣) الفوائد المدنيّة : ٢٩ و ٣٠.

٧

غيرها من الطرق المقرّرة والمعتبرة شرعا ، وهم في هذا قد سلكوا طريقة التسامح والتساهل في النقل ، لاكتفائهم بصرف نسبة القول لأحد المعصومين عليهم‌السلام في القبول ، بل عدّوه بذلك قطعي الصدور! ولذا انكروا فائدة علم الرجال وثمرته وتبعا لذلك علم دراية الحديث بالمعنى المصطلح. إلى غير ذلك من أقوالهم وآرائهم الضعيفة.

ولعلّ من هذا وغيره يتضح مقدار الظلامة التي حلّت بالأدلّة الثلاثة الباقية من المبادئ الاستدلاليّة الأربعة. أعني الكتاب ، والإجماع ، والعقل. والاقتصار على الحديث بما فسّروه لنا.

فالقرآن ؛ الذي هو العدل الأكبر والثقل الأعظم للشريعة يجرّد من دلالته ويفرّط ويقلّل من حجّيته ؛ وهو الحجّة الكبرى؟!. وهذا أمر غريب جدّا ، إذ أنّهم يعدّون حصر فهمه بهم كافيا لإسقاط قولهم عليهم‌السلام : «إنّما يعرف القرآن من خوطب به» (١) وحصر فهمه بهم عليهم‌السلام كاف لإسقاط الكتاب عن الحجّية ، مع أنّه من المسلّم كونه ناظرا إلى فهم خصوص متشابهات القرآن ومجملاته وناسخه ومنسوخه. وغير ذلك.

وأيضا أنّ القول بهذا يلزم منه إنكار ما للقرآن من فصاحة وبلاغة وإعجاز. وغير ذلك.

ألا ترى أنّ الأخذ بهذا التعميم ما هو إلّا إنكار للسنّة القطعيّة ، التي منها قوله عليه‌السلام : «إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن» (٢) ،

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٨٥ الحديث ٣٣٥٥٦.

(٢) وسائل الشيعة : ٦ / ١٧١ الحديث ٧٦٥٧.

٨

وقوله عليه‌السلام : «فما وافق كتاب الله فخذوه» (١).؟!

والأهمّ من هذا والأدهى أنّه ما يلزم منه طرح حديث الثقلين المتواتر لفظا فضلا عن معناه ومؤداه. والقول بلغويّة نزول الوحي وانزال الكتب ، وبعث الأنبياء والرسل؟!.

وبعد كلّ هذا ؛ يتّضح أنّه لا يصحّ أن يقال : إنّ الأخذ بالظهورات والمحكمات في النصوص القرآنيّة تفسير بالرأى؟! إذ لو صحّ ذلك لم يبق لنا نصّ ـ بل ولا ظهور ـ لكلّ ألفاظ التحاور المتداولة بيننا وبين الآخرين.

وليس معنى هذا إنكار أهمّيّة التخصيصات والتقييدات الواردة على العمومات والإطلاقات القرآنيّة. فإن ذلك أمر مسلّم برهانا ووجدانا. ولكن هذا لا يمنع ولا ينافي الرجوع إليهما بعد ملاحظة الروايات الواردة فيهما ؛ إذ أنّ حجّية الظهورات ثابتة على كلّ حال.

ويكفي في النقض عليهم تشبّثهم بالآيات والأدلّة الناهية عن العمل بالظنّ مع فرض كونه ظاهرا قرآنيا ، والمفروض فيها أن لا حجّية لها على مختارهم.

وعدا هذا فهي مردودة بوجوه :

١ ـ إنّ سياق أمثال هذه الأخبار مرتبط بالنهي عن اتّباع الظنّ والوهم في الامور الاعتقاديّة ، ولا ربط له بالفروع العمليّة.

٢ ـ عدم قول أعلام الطائفة وعمدها بمطلق حجّية الظنّ ، بل أنّهم قد صرّحوا بعدم حجّية الظنّ الغير المعتبر ، وذهبوا إلى الاقتصار في الحجّية على ما قام الدليل عليه خاصّة لا مطلقا.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٠٩ و ١١٠ الحديث ٣٣٣٤٣.

٩

٣ ـ تضافر الروايات المعتبرة على حجّية الظواهر القرآنيّة ، بل كادت أن تكون متواترة لفظا فضلا عن كونها كذلك معنى.

وبالجملة ؛ لا نجد ثمّة عاقلا فضلا عن عالم متفقّه عدا الفقيه. ينكر دلالة أمثال قوله سبحانه وتعالى وصفا للقرآن (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‌ءٍ) (١) وكونه (نُوراً) و (هُدىً) و (تِبْياناً) ، وهو الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ولا رطبا ولا يابسا إلّا كان فيه ، بل كلّ ما يحتاجه البشر ، طبعا بالاستضاءة بنور الولاية والعترة الطاهرة عليهم‌السلام المكمّلة للثقل الأكبر.

وإذا لم تكن دلالة أمثال هذا واضحة لما بقي لنا دليل ولا دلالة.

كما لا يفيد إنكار حجّية المدركات العقليّة التي عدّت في الشريعة الحجّة الباطنيّة : «وإن لله على الناس حجّتين.» (٢) ، «وإنما يداقّ الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا» (٣). وأمثال ذلك.

هذا من جهة ؛ ومن جهة اخرى نحن لا نريد بما قلناه إثبات قطعيّة صدور تمام الروايات الواردة عن طريق أهل بيت العصمة والطهارة عليهم‌السلام ، بمعنى حجّية كلّ منقول ، كما ذهب إليه الأسترآبادى في قولته المشهورة : أحاديثنا كلّها قطعيّة الصدور عن المعصوم عليهم‌السلام ، فلا نحتاج إلى ملاحظة سنده ؛. (٤) إذ فيه أوجه للمناقشة لا نودّ الخوض فيها ، والإسهاب في بيانها فعلا ، ويكفينا منها ما قاله شيخنا المعظم الوحيد ـ طاب ثراه ـ في رسالته «الاجتهاد والأخبار» (٥).

__________________

(١) النحل (١٦) : ٨٩.

(٢) الكافي : ١ / ١٦.

(٣) وسائل الشيعة : ١ / ٤٠ الحديث ٦٤.

(٤) الفوائد المدنيّة : ١٨١.

(٥) الرسائل الاصوليّة (الاجتهاد والأخبار) : ١٤٢ ١٥٦

١٠

ثمّ إنّ من المسلّم عند أعلام الطائفة كثرة وجود الأحاديث الموضوعة ، والأخبار الضعيفة ، والرواة المتّهمون ، سواء ما كان منها في الأسانيد الروائيّة أو المجاميع الحديثيّة. وهذا ممّا يحدو بنا إلى الأخذ بالقواعد الرجاليّة ، بل منه يعلم ضرورة مراجعة علم الرجال كي تميّز به الأخبار ، وتصحّح به الأسانيد الروائيّة ، ويعرف به الغث من السمين ، والصحيح من السقيم ، بل ويظهر من هذا سخف إنكار القوم لضرورة الحاجة إلى علم الرجال ، فتدبر.

وقد تمحّض من مجمل ما اسلفناه من الحديث عن الأخباريّين حصول طريقة جديدة في كيفيّة استنباط الأحكام الشرعيّة كان وليدها الطبيعي هو : مكتب الاعتدال ؛ بحلته الجديدة المتمثلة بما ذهب إليه شيخنا المجدد ـ طاب رمسه ـ وتلامذته رحمه‌الله ؛ إذ يلزم ـ ممّا سلف من طريقة الأخباريّين في الاستنباط ـ ما كانوا يرونه من عدم ضرورة الغور في المسائل الاصوليّة ، والمبانى الاجتهاديّة .. بل كلّ يعمل بمقدار ما يفهمه ويظهر له من ظواهر الأحاديث والأخبار. ومن البديهي أنّ سلوك مثل هذا النوع من التفكّر سيخلق لنا فاجعة لا يمكن سدّها ، وثلمة لا يمكن جبرها في اسس المباني الشرعيّة وأحكامها ، بل يوجب تزلزلا في أساس الدين القويم ، حيث لو ابيح لكلّ أحد أن يخوض المنابع الأوّليّة للأصول الدينيّة ، أو يستخرج بنفسه ما يحتاج إليه من الأحكام الشرعيّة بدون أن يكون له صلاحية واقعيّة. أو إحاطة دينيّة .. لكانت تلك مصيبة ليس وراءها فاجعة.

وسيظهر لنا في موضوع واحد عشرات بل مئات الأحكام المختلفة المتضادة ، بل المتناقضة النابعة من اختلاف المدارك والمدركات ، وتعدّد الفهم والانتزاعات. وهذا في حدّ نفسه نقض لغرض الشارع المقدّس من تقنين القوانين ، كما يعدّ مخالفا لأسس التقنينيّة الاجتماعيّة ونظامها.

١١

وحيث لم يبق لهذا المذهب في يومنا الحاضر ذاك الرصيد العلميّ الكافي أو من يتبنّاه ويدافع عنه من أهل المعرفة والاطّلاع. لذا نكتفي بما ذكرناه ونطوي الحديث عنهم في هذه العجالة. ويكون موقفنا منهم مجرد سرد تاريخ للفقه لا مناقشة أقوال ومباني رصينة أكل الدهر عليها وشرب ، وقد أغنانا السلف الصالح عناء الدفاع والرد والنقض والإبرام.

المتحرّرون :

وهم جمع لا يقلّ خطرهم عن سابقيهم إن لم يزد عليهم ، فإنّهم كانوا وما لا يزالون يهدمون حصون الشريعة وواقعها. وقد اشتدّ وعظم اليوم خطرهم بعد أن جاؤوا بعناوين جديدة برّاقة ، وشعارات زائفة .. وهم قد خرجوا من هذه الامور التي تشدّقوا بها وزمّروا لها بدعاوي حسبوها فريدة تحت إطار دور الزمان والمكان في الأحكام!

وكان ذلك ذريعة لبعض في الخروج عن اطر القواعد المقبولة والمسلّمة إلى تغيير الأحكام القطعيّة ، والمسائل الأساسيّة ، وقد سرت المناقشة في الترديد والتشكيك في الطرق المحدثة والمسلّمة في الاستنباط بحجّة ملاحظة مقتضيات الزمان والمكان.

ومع أنّا لا ننكر ما لهذين الأصلين من الأثر ودور مهمّ ـ في الجملة ـ في طريقة الاستنباط والاستظهار في الأحكام الشرعيّة ، إلّا أنّه لا يمكن القول بأنّ أحكام الشريعة المقدّسة على نحو الإطلاق وبما هي هي امور قابلة للتغيير والتبديل ، وأنّها تتبدل وتتغير بتوارد الأيّام وتعاقب الزمان ، فيصبح الواجب محرّما ، وينقلب المحرّم إلى واجب ، إذ أنّ قبول مثل هذا إنكار ـ بنحو وآخر ـ

١٢

لفلسفة تشريع الدين من المشرّع الخالق الإلهي الحكيم. ومن جهة اخرى ؛ ما هو إلّا إنكار لخاتميّة الرسالة المحمّديّة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكون «حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة» (١).

فإنّ تمام ما تمتاز به الشرائع السماويّة عن القوانين البشريّة الوضعيّة هو هذا التفاوت الجوهري الماهوي في أنّ القوانين الشرعيّة وليدة مقنّن حكيم عالم محيط ممثّل الكمال المطلق ، بل مبدأ الكمالات. بخلاف غيرها.

ومن الواضح أنّ ما يترشح عن مبدأ الكمال لا يمكن أن يكون ناقصا ، لمنافات ذلك لكماله وحكمته مع إحاطته بكلّ ما في متعلق أحكامه وموضوعاته ، وما تشريع الأديان إلّا لسدّ كلّ ما يفتقر إليه المكلّف في مقام العمل ، وجميع ما يحتاج إليه ليومه وغده مؤطّر بإطار هذه القوانين الشرعيّة.

ومن البين أنّ التغيير والتبديل ـ لو صحّ الإطلاق ـ يكون كاشفا عن نقصان وقصور المقنّن ـ والعياذ بالله ـ في أحكامه ، بل حاك عن جهله وعدم إحاطته ، لما يلزم أنّ المشرّع بعد صدور حكمه وإجراء قانونه قد أدرك عدم تطابق ذلك الحكم مع متطلّبات الإنسان واحتياجاته. وكأنّه بتقنينه القانون الجديد يحاول سدّ النقص الحاصل الذي جاءه في ما قرّره في قانونه السالف. وفساد هذا من الوضوح بمكان ، إذ لا يتلائم مع أساس التشريع ومقرّراته.

نعم ، وقوع مثل هذا طبيعى جدّا في القوانين الوضعيّة ، والتشريعات البشريّة التي تكون تابعة إلى تكامل ذلك القانون والمجتمع ورقيّه ، إذ عند ما يشعر المجتمع بأنّ القانون الحاكم غير واف بما يحتاجه ، ولا يحلّ مشاكله الفرديّة أو

__________________

(١) بصائر الدرجات : ١٤٨ الحديث ٧.

١٣

الاجتماعيّة. يبادر لرفع النقصان وتكميله بوضع قانون جديد ينسخ ما سلفه أو يسدّ نقيصته ، ويرفع قصوره.

وعليه ؛ فلا يتصور للزمان والمكان دور بشكل مطلق بهذا المعنى في مسير التشريع الإلهي الخارج عن قيد الزمان والمكان ، والمتحرر من ملابساتهما ، لما نعتقده وندين به من كمال الشارع وحكمته ، وعدم نقصان الشريعة وكمالها.

نعم ، نقرّ وجود دور للزمان والمكان في رفع بعض الاحتياجات الوليدة من متطلّبات الزمن قد أحدثتها الحاجة ، وأولدتها الأيّام ، وهي تتفاوت عمّا كانت عليه سابقا لوجود حوادث محدثة تقتضي أحكاما جديدة لم تكن من ذي قبل ، ولذا تفتقر إلى تعيين الحكم من طرف الشارع والأخذ بنظره فيها.

إلّا أنّ هذا التلوّن والتصادم ليس بمعنى أنّ ما يحتاجه البشر من الامور الثابتة الأوّليّة والفطريّة التي لها أحكامها الثابتة والمنصوصة أن تتبدّل بتبدّل المكان أو أن تتغيّر بتوارد الأزمان ، إذ لا أثر لذا ولاذا ، بل لا تتغيّر ولا تتبدّل بحال. بخلاف غيرها.

إذ أنّ هذه الامور الفطريّة ـ في حدّ نفسها ـ غير قابلة للتبدّل والتغيير ، والإنسان في مسيرته الدنيويّة ـ وعلى مدّ التاريخ ـ لا بد له منها ، إذ أنّ من الطبيعى عدم امكان قبول التغيير لمثل هذه الأحكام النابعة لتأمين الاحتياجات الفطريّة.

نعم ؛ هناك احتياجات ثانويّة ـ وهي في واقعها موصلة مكمّلة للحوائج الأوّليّة ـ يمكن أن تتغيّر في نفسها ، ومن الواضح أنّ الأحكام الواردة في مثل هذه الموارد قابلة للتغيير والتبدّل تبعا.

وعليه ، فإنّا نظنّ أنّه قد أصبح واضحا ـ بهذه الوجيزة المجملة ـ أنّ جذور أكثر المنازعات والمباحث ـ إثباتا ونفيا ـ في تأثير الزمان والمكان وعدمه في

١٤

الأحكام الشرعيّة ـ الفرعيّة والأصليّة ـ ما هو إلّا نزاع لفظي بحت.

بل إنّ هذا العنوان ـ الذي تشدّق به البعض ـ لم يكن شيئا جديدا أبدا ، بحيث لم يلتفت إليه الماضون ، أو عجز عنه الفقهاء السابقون ، أو يعدّ مشكلة عويصة لم يدركها المتقدمون ، كما حسبها البعض ؛ إذ مثل هذه التحوّلات والتغييرات في الامور الممكنة واليوميّة طبيعيّة دارجة ، ومسألة واضحة بديهيّة ، وبها تتغيّر الأحكام الشرعيّة الفرعيّة لا الأوّليّة الفطريّة. إذ كثيرا ما يكون الفقهاء في معرض أمثال هذه الامور التي أقرّوها وأعطوها الأحكام الكافية الدقيقة مستندين فيها إلى ما لهم من إحاطة بالقواعد الفقهيّة المقرّرة الثابتة عندهم ، ولعلّ من هذا ما سنوافيك به ممّا يعبّرون عنه ب : المسائل المستحدثة.

ولا نعرف متفقّها ـ فضلا عن فقيه ـ يسمح لنفسه أن يغيّر الأحكام الأوّليّة مع فرض بقاء موضوعاتها ومباديها الأساسيّة ، إذ ذاك تشريع لا يستسيغه من له أدنى إحاطة بالفقه ، ولا يجيزه من له تقوى عمليّة في مقام الحكم.

ونرى من المناسب التعرّض لبعض تلك القواعد التي أشرنا لها :

فمنها : تبدّل الموضوع ؛ إذ ذهب علماء الاصول إلى أنّ وضع الأحكام الشرعيّة وجعلها من قبيل القضايا الحقيقيّة لا الخارجيّة. أي إنّ المقنّن عند ما قنّن وأقرّ الحكم لاحظ طبيعة الموضوع ووضع بإزائه قانونا له ، وكلّ فرد كان مصداقا لذلك الكلّي الطبيعي ؛ يكون محكوما بذلك الحكم المحفوظ موضوعه ، فيستحيل في مقام الجعل والتقنين أن يجعل الشارع المقدّس حكمين لمعنون وموضوع واحد.

ولو صادفنا نادرا مثل هذه الموارد في مصادر الأحكام لعدّ ذلك من باب تعارض الأدلّة التي يلتجأ فيها غالبا إلى المعالجة والتصحيح بواسطة الأدلّة العلاجيّة المقرّرة عندهم.

١٥

اما لو كان الموضوع بنحو القضايا الخارجيّة فلا يستحيل تقنين أحكام متضادة أو متناقضة على عنوان واحد باعتبارات مختلفة.

ولتقريب الموضوع نومي إلى بعض الأمثلة ، حيث عند ما نجد حكم الشارع المقدّس بأنّ الخمر حرام ، أو لحم الغنم حلال. فإنّ مراده هو : طبيعة المائع الخمري أو طبيعة لحم الغنم. وما دام هذان العنوانان كلّيان منطبقان على كل مصداق تترتّب عليه نفس الأحكام بلا فرق ، ولا يمكن مع حفظ هذا العنوان ترتيب حكم آخر عليه مناقض للحكم الأوّل ، بخلاف ما لو قال : إنّ غنم البلد الفلاني حلال. فإنّ هذه قضيّة خارجيّة ، وإن قلنا بحرمة أغنام بلدة اخرى ، فهو غير ناف للحكم الاول ، نعم في مثل هذه القضيّة الحقيقيّة لو تبدّل العنوان ـ بأن صار المائع الخمري مثلا بعد ذهاب ثلثيه خلا ـ ارتفع حكمه الأولي لتبدّل الموضوع ، ولا ريب أنّ هناك عوامل عديدة في تبدّل التكليف بالنسبة إلى الموضوعات المختلفة ، نذكر بعضا منها :

أ : العرف ؛

قد علم ممّا سلف بيانه أنّ التكاليف التي خاطب بها الشارع المقدّس الناس أراد بها عموم المكلّفين وعامّة الناس ، وأوكل تشخيص الموضوعات إليهم إلّا في المواضيع المستنبطة ، فلو تغيّر موضوع حكم في نظر العرف ؛ بأن شهدا لعرف ـ مثلا ـ أنّ هذا العنوان لا ينطبق اليوم على هذا المصداق ، فلا يشمله حكمه المذكور طبعا ، كما لا يكون حكم الشارع المقدّس ناظرا إليه ؛ فمثلا حكم حرمة التعامل بالدم عند قدماء فقهائنا ـ رضوان الله عليهم ـ معلّلا بكونه نجسا ، والنجس مسلوب المنفعة العقلائيه. وما كان كذلك لا يجوز التعامل عليه بلا كلام ولذا حكموا بما حكموا. أمّا اليوم ؛ فإنّ العرف لا يرى ذلك ، بل عنده إنّ الدم له منفعة وفائدة ـ بل جملة فوائد ـ قطعا ، وحيث أنّ الموضوع قد تبدّل هنا حتما في نظر العرف ، فلا

١٦

وجه لترتّب حكم الحرمة عليه جزما.

ومثال آخر : بيع الثلج ؛ حيث إنّ بيعه في غالب نقاط العالم أمر متعارف معقول ، ومتاع يدفع بإزائه ثمن وعوض ، كما وتترتب عليه منفعة وفائدة ، ولكن مثل هذا التعامل في القطبيين غير معقول ولا فائدة فيه ، بل لا وجه للتعامل عليه ، ولذا يحكم عليه بعدم الجواز.

ونظير هذا التعامل على الماء القليل عند النهر العريض. وأمثال ذلك.

فيعلم من هذا أنّ الزمان وكذا المكان لهما دور مهمّ في نتيجة بعض الأحكام.

وأنت ترى إنّ هذا ليس بشي‌ء جديد ، ولا موضوع بكر ، بل كان دوما مورد بحث ونقاش في الموسوعات الفقهيّة لأعلامنا وفقهائنا رحمهم‌الله.

ب : قاعدة التزاحم ؛

ومدلولها ما لو كان ثمّة تزاحم وتمانع في مقام الامتثال لحكمين بالنسبة إلى موضوعين غير مرتبطين مع البعض ، فبحكم القواعد العقليّة في تقديم الأهمّ على المهمّ ، وترك المهمّ بالنسبة إلى الموضوع الأهمّ يصبح ذاك فعليا ، ومن الطبيعى إن الزمان والمكان في أمثال هذه الموارد لهما دور مهمّ في تعيين الوظيفة الشرعيّة.

وغالبا ما يمثل لمثل هذه الموارد بانقاذ الغريق الواجب شرعا الملازم للاجتياز بالأراضي المغصوبة المحرّمة قطعا ، حيث هما موضوعان مستقلان لا ربط لأحدهما بالآخر ، ومع اجتماعهما في مورد خاصّ يتوقّف الإتيان بأحدهما على الأخذ بالآخر. أي هما موضوعان كلّ واحد منهما له حكمه الخاصّ ، وهو يضاد الآخر ، وقد اجتمعا وكانا سبب حرج للمكلّف وإشكال في مقام الأداء والتنفيذ ؛ فالعقل يحكم هنا بإلزام المكلّف بالاتيان بالأهمّ منهما والعمل به. ولذا يرى العقل لزوم حفظ الإنسان ونجاته وإنقاذ الغريق. وهو يقدّمه على حرمة الدخول في

١٧

ملك الغير والتصرّف فيه.

وهذه القاعدة تحلّ لنا كثيرا من المشاكل المعاصرة ، مثل علاج المريض بواسطة لمس الأجنبي أو الأجنبيّة مع فرض الانحصار ، أو تشريح جنازة الميّت مع فرض عدم وجود جنازة اخرى لغير المسلم. وغير ذلك. وهي كثيرة جدّا ، إذ بعد تشخيصنا للأهمّ والمهمّ يسهل الحكم عند ذاك.

ج : القواعد الثانويّة ؛

نظير قاعدة لا ضرر ، وقاعدة لا حرج ـ على فرض تعدّدهما ـ وهما من الامور التي يمكن أن يكون لهما دور مهمّ في تشخيص ما للمكلّف من حكم بمقتضى الزمان والمكان على ما هناك من اختلاف في كيفيّة جمع هذه القواعد مع الأدلّة الأوّليّة للأحكام الشرعيّة. فإنّ النتيجة ـ على كلّ حال ـ هي تقديم مفادّ هذه القواعد ، وهي تشمل سعة المعاملات والعبادات على حدّ سواء. مثلا لو ألزمنا الشارع المقدّس بحكم دليل وجوب الصلاة أو الصيام على تحصيل الطهارة المائيّة أو صيام شهر رمضان. فإنّ ذاك يصح فيما لو لم يلزم من الإتيان به ضررا على المكلّف. أما لو لزم من أيّ حكم من هذه الأحكام ضررا عليه لزم رفعه قطعا.

وبالجملة ؛ مفادّ هذه القاعدة نفي كلّ قانون في الشرع يلزم من جعله وتقنيته أو متعلقه ضررا أو حرجا على المكلّفين. وحيث كان لفظ «الضرر» كسائر الألفاظ الموضوعة للمفاهيم الواقعيّة ، والمخاطب فيها هو شخص المكلّف الذي يتضرّر من ناحية الحكم ، فعليه كلّ مكلّف لو كان في شرائط خاصّة ـ زمانيّة أو مكانيّة ـ واقتضى كلّ واحد من هذه ورود ضرر عليه ، كان ذلك الحكم مرفوعا.

وعليه ، فهذا الطريق ـ كسالفه ـ يمكن أن يحلّ لنا كثيرا من المشاكل المهمّة.

١٨

ومنها : كشف ملاكات الأحكام ؛

حيث أنّ علماء الإماميّة والمعتزلة ـ المعبر عنهم ب : العدليّة ـ خلافا للأشاعرة ذهبوا إلى أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للملاكات والمناطات الواقعيّة ونفس الأمريّة ، ولا يمكن للشارع المقدّس أن يقرّ حكما لموضوع بدون ملاك واقعيّ له ، لما يلزم من قبول هذا الأمر من إنكار لحقائق الأشياء ، وتسليم التغيّر في الحقيقة الثابتة ، مع أنّ الواقع الخارجي للأشياء يمكن أن يكون معرضا للحوادث الزمانيّة والمكانيّة ويتغيّر بخلاف حقيقة الأشياء وماهيّتها.

مثلا السرقة والتصرّف في مال الغير بدون رضاه مذموم وقبيح على أيّ حال ، وفي كلّ زمان ومكان. ولذا كان القبيح الذاتي محكوما بالحكم الشرعي التحريمي. فلو وصل المجتهد بالطرق المقرّرة إلى الحكم الواقعي للشارع المقدّس كان مصيبا ، ولو اشتبه كان مخطئا ؛ لأنّ حقيقة الحكم الإلهى لا تتغيّر بحسب فتواه. كي يقال : إنّ المجتهد مصيب على كلّ حال ، وإنّ فتواه وحكمه حكم القانون الإلهى. وكلّ ما أفتى به هو ـ وإن كان قبيحا ـ كان حسنا ، وكذا العكس. فالمجتهد عند الإماميّة مستنبط وكاشف لا مشرّع ومقنّن ، وهو يمكن أن يصل إلى واقع حكم الله تعالى وقد يخطئ ، كلّ ذاك خلافا لما ذهب إليه الأشاعرة من القول بكون المجتهد على كلّ حال مصيبا. أي إنّ حكمه هو الحكم الواقعي للشارع.

هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ذهبوا إلى أنّ الحسن ما حسّنه الشارع والقبيح ما قبّحه ، ففي الواقع قد جوّزوا أن يكون موضوعا واحدا له عدّة أحكام في آن واحد بحسب تعدّد الفتوى عليه ، وكلّها صحيحة ومصابة! وهذا ما يخالف بداهة العقل وما أقرّته الشرائع السماويّة.

هذا مع أنّ ثبوت الشرائع الإلهيّة أساسا موقوف على قبول الحسن والقبح

١٩

الواقعيّ الذاتي للأشياء ، وإلّا فإذا كان ثبوت الشريعة مستندا إلى الطرق الشرعيّة فما هو البرهان على وجوب قبول ذلك الطريق فلا بدّ أن يكون ذلك الطريق منتها إلى مستند عقلي حذرا من التسلسل إلى غير النهاية.

وعلى كلّ ؛ فيلزم قبول أنّ أساس جعل الشرائع الإلهيّة والأحكام الشرعيّة تابع للملاكات الواقعيّة.

مضافا لذلك أنّ ما قرّرناه قد تضافرت عليه الأحاديث وجاء فيها بألسنة متعدّدة ، نظير ما نقله الشيخ الصدوق رحمه‌الله في «علل الشرائع» عن محمد بن سنان إن أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام كتب إليه ـ بما في هذا الكتاب جواب كتابه إليه يسأله عنه ـ «جاءني كتابك تذكر أنّ بعض أهل القبلة يزعم أنّ الله تبارك وتعالى لم يحل شيئا ولم يحرّمه لعلّة أكثر من التعبّد لعباده بذلك قد ضلّ من قال ذلك ضلالا بعيدا وخسر خسرانا مبينا. إلى أن قال : إنّا وجدنا كلّ ما أحلّ الله تبارك وتعالى ففيه صلاح العباد وبقاؤهم ، ولهم إليه الحاجة التي لا يستغنون عنها ، ووجدنا المحرّم من الأشياء لا حاجة بالعباد إليه ، ووجدناه مفسدا داعيا إلى الفناء والهلاك.» (١).

وبعد أن ثبت أنّ الأحكام الشرعيّة لها مناطاتها الخاصّة وملاكاتها الواقعيّة ، وكذا ظهر بطلان ما ذهب إليه الأشاعرة ومن تبعهم ، فلنسأل : هل يمكن لشخص أن يدعي أنّه يمكنه إدراك ملاكات ومناطات الأحكام الشرعيّة؟! حيث لا شكّ أنّ كلّما ذكر الشارع المقدّس حكما معلّلا بذكر دليله وفلسفته ، صحّ تعميم الحكم إلى الموارد الاخرى المشتملة للمناط له ، إذ مع لحاظ وجود المناط في موضوع آخر

__________________

(١) علل الشرائع : ٥٩٢ الحديث ٤٣.

٢٠