مسائل خلافية حار فيها أهل السنة

الشيخ علي آل محسن

مسائل خلافية حار فيها أهل السنة

المؤلف:

الشيخ علي آل محسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الميزان
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٤

الكافرون ، وأهل الحق أذل من اليهود. وقولهم ظاهر البطلان ، بل لم يزل الإسلام عزيزاً في ازدياد في أيام هؤلاء الاثني عشر (١).

أقول : الخلفاء الاثنا عشر على هذا القول هم :

١ ـ أبو بكر.

٢ ـ عمر.

٣ ـ عثمان.

٤ ـ الإمام عليعليه‌السلام

٥ ـ معاوية

٦ ـ يزيد بن معاوية

٧ ـ عبد الملك.

٨ ـ الوليد.

٩ ـ سليمان.

١٠ ـ عمر بن عبد العزيز

١١ ـ يزيد بن عبد الملك

١٢ ـ

هشام بن عبدالملك.

ويَرِد عليه ما قلناه في خلافة معاوية بن يزيد ، وخلافة مروان بن الحكم ، فراجعه.

ثم إن كل مَن نظر في تاريخ المسلمين يعلم أن الأمة لا تزال في ذلّ وهوان في زمن أكثر هؤلاء الخلفاء ، وأقوال علماء أهل السنة تشهد بذلك وتصرح به ، ولو لم يكن في زمانهم إلا قتل الحسين عليه‌السلام لكفى ، كيف وقد أعلن بنو أمية سب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام على المنابر قرابة ستين سنة ، وضُرِبت الكعبة حتى تهدّمت حيطانها ، وأبيحت المدينة ثلاثة أيام ، فوقع فيها من المخازي ما يندى له جبين التاريخ.

فإنهم كانوا يقتلون كل من وجدوه من الناس ، وكانوا يسلبون كل ما وقع تحت أيديهم من الأموال ، ووقعوا على النساء حتى قيل : إنه حبلت ألف امرأة من أهل المدينة من غير زوج. وقُتل من وجوه المهاجرين والأنصار سبعمائة ، ومن سائر الناس عشرة آلاف ، ولما دخل مسلم بن عقبة المدينة دعا الناس للبيعة على أنهم عبيد وخَدَم ليزيد بن معاوية ، يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء (٢).

__________________

(١) شرح العقيدة الطحاوية ، ص ٤٨٩.

(٢) نقلنا ذلك باختصار من كتاب البداية والنهاية ٨ / ٢٢٤ ، راجع لسان الميزان ٦ / ٢٩٤ ، تاريخ الإسلام ، حوادث سنة ٦١ ـ ٨٠ هـ.

٢١

إلى غير ذلك مما يطول ذِكره.

وقال السيوطي في تاريخ الخلفاء : لو لم يكن من مساوئ عبد الملك إلا الحجَّاج وتوليته إياه على المسلمين وعلى الصحابة رضي الله عنهم ، يهينهم ويذلّهم قتلاً وضرباً وشتماً وحبساً ، وقد قتل من الصحابة وأكابر التابعين ما لا يُحصى ، فضلاً عن غيرهم ، وختم على عنق أنَس وغيره من الصحابة ختماً ، يريد بذلك ذلَّهم ، فلا رحمه‌الله ولا عفا عنه (١).

وقال الذهبي في كتابه العِبَر : قال عمر بن عبد العزيز رحمه‌الله : الوليد بالشام ، والحجَّاج بالعراق ، وقُرَّة [ بن شريك ] بمصر ، وعثمان بن حبان بالحجاز ، امتلأت والله الأرض جوراً (٢).

فهل كان الإسلام عزيزاً وفي ازدياد؟ وهل كان الناس عامة والمؤمنون خاصة في عز وكرامة ، أم في ذلَّ ومهانة؟ الأمر معلوم وواضح ، ولا ينكر ذلك إلا مكابر أو جاهل أو متعصب.

ويكفي قول سفينة المتقدم فيهم لما سأله سعيد فقال : إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم. قال : كذبوا بنو الزرقاء ، بل هم ملوك من شر الملوك.

٤ ـ قول ابن كثير وابن تيمية :

وهو أن المراد وجود اثني عشر خليفة في جميع مدة الإسلام إلى يوم القيامة ، يعملون بالحق وإن لم تتوالَ أيامهم ، ويؤيده ما أخرجه مُسدَّد في مسنده الكبير من طريق أبي بحر ، أن أبا الجلد حدَّثه أنه لا تهلك هذه الأمة حتى يكون منها اثنا عشر خليفة ، كلهم يعمل بالهدى ودين الحق ، منهم رجلان من أهل بيت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يعيش أحدهما أربعين سنة ، والآخر ثلاثين سنة.

__________________

(١) تاريخ الخلفاء ، ص ١٧٦.

(٢) العبر في خبر من غبر ١ / ٨٥.

٢٢

وعلى هذا فالمراد بقوله : ( ثم يكون الهرج ) أي الفتن المؤذنة بقيام الساعة ، من خروج الدجال ثم يأجوج ومأجوج إلى أن تنقضي الدنيا (١).

قال ابن كثير : قد وافق أبا الجلد طائفة من العلماء ، ولعل قوله أرجح لما ذكرنا ، وقد كان ينظر في شيء من الكتب المتقدمة ، وفي التوراة التي بأيدي أهل الكتاب ما معناه : إن الله تعالى بشَّر إبراهيم بإسماعيل ، وأنه ينميه ويكثِّره ، ويجعل في ذرّيّته اثنا عشر عظيماً. قال شيخنا العلامة أبو العباس بن تيمية : وهؤلاء المبشَّر بهم في حديث جابر بن سمرة ، وقرّر أنهم يكونون مفرّقين في الأمّة ، ولا تقوم الساعة حتى يوجدوا (٢).

قال السيوطي : وعلى هذا فقد وُجد من الاثني عشر خليفة : الخلفاء الأربعة ، والحسن ومعاوية وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز ، ويحتمل أن يُضم إليهم المهتدي من العباسيين ، لأنه فيهم كعمر بن عبد العزيز ، وكذلك الطاهر لما أوتيه من العدل ، وبقي الاثنان المنتظران ، أحدهما المهدي ، لأنه من أهل بيت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

أقول : يفسد هذا القول أن الإمام عليًّا وابنه الإمام الحسن عليهم‌السلام ـ وهما من أهل البيت عليهم‌السلام ـ لم يعش واحد منهما ثلاثين سنة والآخر أربعين ، وعليه فينبغي إخراجهما من جملة هؤلاء الاثني عشر.

قال ابن كثير : إن إخراج علي وابنه الحسن من هؤلاء الاثني عشر خلاف ما نصَّ عليه أئمة السنة ، بل والشيعة (٤).

هذا مضافاً إلى أن عد السيوطي من هؤلاء الخلفاء ثلاثة من أهل البيت خلاف حديث أبي الجلد الذي أيَّدوا به قولهم.

__________________

(١) البداية والنهاية ٦ / ٢٥٦ ، فتح الباري ١٣ / ١٨٢.

(٢) البداية والنهاية ٦ / ٢٥٦.

(٣) تاريخ الخلفاء ، ص ١٠.

(٤) البداية والنهاية ٦ / ٢٥٥.

٢٣

ثم إن عد معاوية ممن يعمل بالهدى ودين الحق خلاف ما هو معلوم من حاله ومشهور من أفعاله ، وحسبك أنهم اتَّفقوا على إخراجه من زمرة الخلفاء الراشدين ، فجعلوهم أربعة أو خمسة ، ولم يجعلوه منهم.

وأخرج مسلم في الصحيح عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة ـ في حديث طويل قال : فقلت له ـ أي لعبد الله بن عمرو بن العاص ـ : هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ونقتل أنفسنا ، والله يقول ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً ). قال : فسكت ساعة ، ثم قال : أطعه في طاعة الله ، واعصِه في معصية الله (١).

وأخرج الحاكم وصحَّحه على شرط الشيخين ، عن عبادة بن الصامت ، أنه قام قائماً في وسط دار عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه ، فقال : إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محمداً أبا القاسم يقول : ( سيلي أموركم من بعدي رجال يعرفونكم ما تنكرون ، وينكرون عليكم ما تعرفون ، فلا طاعة لمن عصى الله ، فلا تعتبوا أنفسكم ) ، فوالذي نفسي بيده إن معاوية من أولئك. فما راجعه عثمان حرفاً واحداً (٢).

ثم إن إخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهؤلاء الخلفاء إنما كان لفائدة عظيمة وغاية مهمة يريد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيضاحها للأمة ، وهي مبايعة هؤلاء الخلفاء ، ومتابعتهم ، والأخذ بهديهم دون غيرهم ممن لم يكن بهذه الصفة.

وعليه ، فلو صحَّ هذا القول لما كان ثمة أي فائدة في بيان وجود اثني عشر خليفة يعملون بالحق في جميع مدة الإسلام إلى يوم القيامة ، وإن لم تتوالَ أيامهم ، فكل خليفة يتولى أمور الناس لا يُعلم أنه منهم أم لا ، فلا يُدرى هل

__________________

(١) صحيح مسلم ٣ / ١٤٧٢. كتاب الامارة ، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالاول.

(٢) المستدرك على الصحيحين ٣ / ٣٥٧.

٢٤

يُبايَع ويُتابَع أم لا. ولا فائدة في ذكر العدد المجرد ، القابل للانطباق على كل واحد يتولّى أمر الأمَّة إذا لم يتميّز هؤلاء الخلفاء بأعيانهم وأشخاصهم بحيث لا يدخل فيهم غيرهم.

والغريب من ابن كثير كيف رجَّح قول أبي الجلد بكونه ينظر في كتب أهل الكتاب ، واستدل في هذه المسألة بحديث مذكور في التوراة ، مع أنَّا لا نحتاج لإثبات مسألة مهمَّة كهذه بتوراة أو إنجيل محرَّفين ، وعندنا أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي تكفّلت ببيان هذه المسألة وغيرها.

وهذا دليل واضح على مبلغ التخبّط والحيرة التي وقع فيها أعلام أهل السنّة في هذه المسألة حتى التجأوا إلى ما لا يجوز الالتجاء إليه ، واعتمدوا على ما لا يصح الاعتماد عليه.

ثم إن البيان الذي ذكره السيوطي لو سلَّمنا به فهو لا يزال ناقصاً ، فإن الخلفاء الذين ذكرهم أحد عشر خليفة ، فيبقي عليه ذكر الثاني عشر ، فأين هو؟

٥ ـ قول ابن الجوزي والخطابي (١) :

وهو أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشار إلى ما يكون بعده وبعد أصحابه ، وأن حكم أصحابه مرتبط بحكمه ، فأخبر عن الولايات الواقعة بعدهم ، فكأنه أشار بذلك إلى عدد الخلفاء من بني أمية ، وكأن قوله : « لا يزال الدين » أي الولاية إلى أن يلي اثنا عشر خليفة ، ثم ينتقل إلى صفة أخرى أشد من الأولى ، وأول بني

__________________

(١) قال الذهبي في سير أعلام النبلاء ١٧ / ٢٣ : الإمام العلامة الحافظ اللغوي أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي الخطابي صاحب التصانيف ، ولد سنة بضع وعشرة وثلاثمائة. أخذ الفقه على مذهب الشافعي عن القفال الشاشي وغيره ، وحدث عنه الحاكم النيسابوري والإمام والإسفراييني وغيرهما. قال السلفي : وأما أبو سليمان الشارح لكتاب أبي داود فإذا وقف منصف على مصنفاته واطلع على بديع تصرفاته في مؤلفاته تحقق إمامته وديانته فيما يورده وأمانته ، وكان قد رحل في الحديث وقراءة العلوم وطوف ، وألف في فنون العلم وصنف .. توفي ببست سنة ٣٨٨ هـ ( بتصرف ).

٢٥

أمية يزيد بن معاوية ، وآخرهم مروان الحمار ، وعدّتهم ثلاثة عشر ، ولا يُعَد عثمان ومعاوية ولا ابن الزبير ، لكونهم صحابة ، فإذا أسقطنا مروان بن الحكم للاختلاف في صحبته ، أو لأنه كان متغلِّباً بعد أن اجتمع الناس على ابن الزبير صحَّت العدة ، وعند خروج الخلافة من بني أمية وقعت الفتن العظيمة والملاحم الكثيرة حتى استقرت دولة بني العباس ، فتغيرت الأحوال عما كانت عليه تغيراً بيناً ... (١)

أقول : لا يخفى ضعف هذا القول وركاكته ، فإن أحاديث الخلفاء الاثني عشر وردت بلسان المدح لهم والبشارة بهم ، ووصفتهم بأن الإسلام بهم يكون عزيزاً منيعاً قائماً ، وقد تقدم مفصلاً أن حال هؤلاء ليس كذلك ، ومنه يتضح أن هذه الأحاديث أجنبية عن أولئك الخلفاء وبعيدة كل البعد عنهم.

وقوله : ( إن حكم أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرتبط بحكمه في هذا الأمر ) لا تدل عليه هذه الأحاديث ولا غيرها.

والعجيب في المقام أن الخطابي جعل أحاديث الخلفاء الاثني عشر مقصورة على بني أمية خاصة ، مع أنها جاءت مادحة للاثني عشر مبشرة بهم ، وغفل عن الأحاديث الصحيحة الأخرى التي دلَّت على ذم بني أمية وبني أبي العاص بأشد ما يكون الذم ، وهي كثيرة جداً.

منها : ما دلَّ على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساءه ملك بني أمية.

فقد أخرج الترمذي في السنن والسيوطي في الدر المنثور وغيرهما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُري بني أمية على منبره فساءه ذلك ، فنزلت ( إنا أعطيناك الكوثر ) ... ونزلت ( إنا أنزلناه في ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر ) يملكها بنو أمية يا محمد. قال القاسم : فعددناها فإذا هي ألف شهر لا يزيد يوم ولا ينقص (٢).

__________________

(١) فتح الباري ١٣ / ١٨١.

(٢) سنن الترمذي ٥ / ٤٤٥. الدر المنثور ٨ / ٥٩٦. البداية والنهاية ٦ / ٢٤٨.

٢٦

وأخرج الهيثمي في مجمع الزوائد ، والحاكم في المستدرك وصحَّحه ، وابن حجر في المطالب العالية والبوصيري في مختصر الإتحاف وابن كثير في البداية والنهاية ، وغيرهم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى في منامه كأن بني الحكَم (١) ينزون على منبره وينزلون ، فأصبح كالمتغيظ ، فقال : ما لي رأيت بني الحكَم ينزون على منبري نزو القردة؟ قال : فما رؤي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستجمعاً ضاحكاً بعد ذلك حتى مات صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

وأخرج السيوطي عن ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن سعيد بن المسيب ، قال : رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بني أمية على المنابر فساءه ذلك ، فأوحى الله إليه : ( إنما هي دنيا أُعطوها ). فقرَّت عينه ، وهي قوله ( وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ) يعني بلاء (٣).

ومنها : ما دلَّ على أن بني أميّة أبغض الناس إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فقد أخرج الهيثمي والحاكم وصحَّحه ووافقه الذهبي ، والبوصيري وحسَّنه ، عن أبي برزة الأسلمي ، قال : كان أبغض الأحياء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنو أمية وبنو حنيفة وثقيف (٤).

__________________

(١) الحكم هو الحكم بن أبي العاص الأموي والد مروان بن الحكم وعم عثمان بن عفان ، طرده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونفاه من المدينة الى الطائف ، ولعنة رسول اله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولعن من في صلبه ، توفي في خلافة عثمان.

(٢) مجمع الزوائد ٥ / ٢٤٣ ، قال الهيثمي : رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح غير مصعب بن عبد الله بن الزبير وهو ثقة. المستدرك ٤ / ٤٨٠ وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. ورمز له الذهبي بـ ( م ) أي على شرط مسلم. المطالب العالية ٤ / ٣٣٢. مختصر إتحاف السادة المتقين ١٠ / ٥٠٥ وقال : رواه أبو يعلى ورواته ثقات. البداية والنهاية ٦ / ٢٤٨.

(٣) الدر المنثور ٥ / ٣١٠. البداية والنهاية ٦ / ٢٤٨. وراجع إن شئت تاريخ بغداد ٩ / ٤٤ ، معجم الطبراني الكبير ٢ / ٩٢.

(٤) المستدرك ٤ / ٤٨١ قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه

٢٧

ومنها : ما دلَّ على سوء فعلهم وعظم ضررهم إذا كثر عددهم.

فقد أخرج الحاكم والبوصيري وحسَّنه والهيثمي والبيهقي وابن حجر عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا بلغ بنو أبي العاص (١) ثلاثين رجلاً اتّخذوا مال الله دُوَلاً (٢) ، ودين الله دَغَلاً (٣) ، وعباد الله خَوَلاً (٤) (٥).

وفي رواية أخرجها الحاكم قال : إذا بلغت بنو أمية أربعين ... (٦)

ومنها : ما دلَّ على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعن بعض هؤلاء الخلفاء وهم في الأصلاب.

ومن ذلك ما أخرج الحاكم وصحَّحه ووافقه الذهبي عن عبد الله بن الزبير ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعن الحكَم وولده (٧).

__________________

ووافقه الذهبي. وأخرجه البويصري في مختصر إتحاف السادة المتقين ٩ ـ ١٠ / ٢٠٢ ، وروى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : ( وشر قبائل العرب بنو أمية ) ، قال البويصري : رواه أبو يعلى الموصلي بإسناد حسن. مجمع الزوائد ١٠ / ٧١ وقال : رواه أحمد وأبو يعلى ... وكذلك الطبراني ، ورجالهم رجال الصحيح غير عبد الله بن مطرف بن الشخير وهو ثقة.

(١) هم الحكم وابنه مروان وأولادهما.

(٢) أي يتداولونه فيما بينهم.

(٣) قال ابن الاثير في النهاية ٢ / ١٢٣ : أي يخدعون به الناس ، وأصل الدغل الشجر الملتف الذي يكمن أهل الفساد فيه...

(٤) أي خدم وعبيد.

(٥) المستدرك ٤ / ٤٨٠. مجمع الزوائد ٥ / ٢٤٣ إلا أنه قال : بنو أبي الحكم. وقال : رواه الطبراني ، وفيه ابن لهيعة وفيه ضعف ، وحديثه حسن. دلائل النبوة ٦ / ٥٠٧. مختصر إتحاف السادة المتقين ١٠ / ٥٠٥ وقال : رواه أبو يعلى بسند صحيح. المطالب العالية ٤ / ٣٣٢. البداية والنهاية ٦ / ٢٤٨.

(٦) المستدرك ٤ / ٣٧٩.

(٧) المصدر السابق ٤ / ٤٨١ وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه

٢٨

واخرج الحاكم وصحَّحه عن عمرو بن مرة الجهني وكانت له صحبة أن الحكم بن أبي العاص استأذن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فعرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صوته وكلامه ، فقال : ايذنوا له ، عليه لعنة الله وعلى من يخرج من صلبه إلا المؤمن منهم ، وقليل ما هم ، يشرفون في الدنيا ، ويضعون في الآخرة ، ذو مكر وخديعة ، يعطون في الدنيا ، وما لهم في الآخرة من خلاق (١).

ومنها : ما دلَّ على أن بعضهم أشر على هذه الأمة من فرعون لقومه ، وهو الوليد بن عبد الملك ، أو الوليد بن يزيد.

فقد أخرج أحمد في المسند ، والهيثمي في مجمع الزوائد عن عمر ، قال : وُلد لأخي أم سلمة زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غلام فسمَّوه الوليد ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سمّيتموه بأسماء فراعنتكم؟ ليكونن في هذه الأمة رجل يقال له الوليد ، لَهُو أشر على هذه الأمة من فرعون لقومه (٢).

قال ابن كثير : قال أبو عمر الأوزاعي : كان الناس يرون أنه الوليد بن عبد الملك ، ثم رأينا أنه الوليد بن يزيد ، لفتنة الناس به ، حتى خرجوا عليه فقتلوه ، وانفتحت على الأمة الفتنة والهرج (٣).

أقول : سواء أكان هذا أم ذاك فكلاهما من الخلفاء الاثني عشر عندهم ، فيكون واحد من هؤلاء الخلفاء أشر على هذه الأمة من فرعون.

ومنها : ما دلَّ على أن بعضهم جبابرة.

ومن ذلك ما أخرجه الهيثمي وابن كثير وغيرهما عن ابن وهب ـ في حديث ـ قال : وذكر مروان حاجة له ـ أي لمعاوية ـ فردَّ مروان عبد الملك إلى

__________________

ووافقه الذهبي.

(١) المستدرك ٤ / ٤٨١ وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه.

(٢) مسند أحمد بن حنبل ١ / ١٨ ، مجمع الزوائد ٥ / ٢٤٠ وقال : رواه أحمد وإسناده حسن.

(٣) البداية والنهاية ٦ / ٢٤٧.

٢٩

معاوية ، فكلمه فيها ، فلما أدبر عبد الملك قال معاوية [ لابن عباس وكان جالساً معه على سريره ] : أنشدك بالله يا ابن عباس ، أما تعلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر هذا فقال : أبو الجبابرة الأربعة؟ فقال ابن عباس : اللهم نعم (١).

أقول : الجبابرة الأربعة هم أولاد عبد الملك ، وهم : الوليد وسليمان ويزيد وهشام ، وهم من الخلفاء الاثني عشر عندهم ، فتدبَّر.

فهل يصح بعد النظر في هذه الأحاديث الصحيحة وغيرها أن يقال : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشَّر بهؤلاء الملوك من بني أمية ، وأخبر أن الدين بهم يكون عزيزاً منيعاً صالحاً ...

ثم إن الخطابي أخرج مروان بن الحكم من عداد هؤلاء الاثني عشرللاختلاف في صحبته ، مع أن أقوال علماء أهل السنة تنص على عدم صحبته.

قال البخاري : لم يرَ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

وقال ابن حجر : روى عن النبي ، ولا يصح له منه سماع (٣).

وقال أيضاً : لم أرَ من جزم بصحبته (٤).

وقال الذهبي : لم يرَ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنه خرج مع أبيه وهو طفل (٥).

وقال النووي : لم يسمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا رآه ، لأنه خرج إلى الطائف طفلاً لا يعقل حين نفى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أباه الحكم ، فكان مع أبيه بالطائف حتى استخلف

__________________

(١) مجمع الزوائد ٥ / ٢٤٣. وقال : رواه الطبراني ، وفيه أبن لهيعة وفيه ضعف ، وحديثه حسن. البداية والنهاية ٦ / ٢٤٧.

(٢) ميزان الاعتدال ٤ / ٨٩.

(٣) تهذيب التهذيب ١٠ / ٨٣.

(٤) الإصابة ٣ / ٤٧٧.

(٥) التجريد ٢ / ٦٩.

٣٠

عثمان فردَّهما (١).

وكذلك قال ابن الأثير في أسد الغابة وابن عبد البر في الاستيعاب وغيرهما (٢).

ثم إن لازم إخراج مروان من عدّة هؤلاء الخلفاء لتغلّبه إخراج كل خلفاء بني أمية معه ، لأن خلافتهم كانت بالتغلّب والقهر أيضاً كما هو معلوم.

على أنَّا إذا أخرجنا مروان من العدّة فلا بد أن ندخل إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك ليتم العدد ، مع أن إبراهيم هذا تولّى الملك سبعين ليلة ، ثم خلع نفسه ، وسلَّم الأمر إلى مروان بن محمد ، وبايعه طائعاً (٣).

وقوله : ( وعند خروج الخلافة من بني أميّة وقعت الفتن العظيمة ... ) إلى آخر ما قاله ، يفسده أن ما وقع من الحوادث والفتن في زمن هؤلاء الخلفاء من بني أمية أعظم وأشنع من الفتن الواقعة في زمن جملة من خلفاء بني العباس ، كالمنصور والمهدي والهادي وهارون والمأمون والمعتصم ، وهذا ظاهر معلوم.

٦ ـ قول ابن حبَّان :

قال ابن حبَّان (٤) : معنى الخبر عندنا : أن مَن بعد الثلاثين سنة يجوز أن يقال لهم خلفاء أيضاً على سبيل الاضطرار وإن كانوا ملوكاً على الحقيقة ،

__________________

(١) تهذيب الاسماء اللغات ٢ / ٨٧.

(٢) اُسد الغابة ٤ / ٣٤٨ ، الاستيعاب ٣ / ٤٢٥.

(٣) تاريخ الخلفاء ، ص ٢٠٤.

(٤) قال السيوطي في طبقات الحفاظ ، ص ٣٧٤ : أبن حبان الحافظ العلامة أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد بن معاذ ... التميمي البستي صاحب التصانيف ، سمع النسائي والحسن بن سفيان وأبا يعلى الموصلي ، وولي قضاء سمرقند ، وكان من قفهاء الدين وحفاظ الآثار ، عالماً بالنجوم والطب وفنون العلم. صنّف المسند الصحيح و ( التاريخ ) و ( الضعفاء ). قال الخطيب : كان ثقة نبيلاً فهماً. وقال ابن الصلاح : ربما غلط الغلط الفاحش. مات في شوال سنة ٣٥٤ هـ.

٣١

وآخر اثني عشر من الخلفاء كان عمر بن عبد العزيز ، فلما ذكر المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخلافة ثلاثين سنة وكان آخر الاثني عشر عمر بن عبد العزيز ، وكان من الخلفاء الراشدين المهديين ، أطلق على مَن بينه وبين الأربع الأول اسم الخلفاء ...

ثم ساق كلاماً طويلاً ذكر فيه كل مَن تولّى ، ولم يعيِّن من هم الاثنا عشر ، إلا أنه ذكر الأربعة ، ومعاوية ، والإمام الحسن عليه‌السلام ، ويزيد ، ومعاوية ابن يزيد ، وعبد الله بن الزبير ، ومروان بن الحكم ، وعبد الملك ، والوليد ، وسليمان ، وعمر بن عبد العزيز ، وهو آخرهم (١).

أقول : هؤلاء أربعة عشر نفساً ، وهو قول فاسد على جميع الاحتمالات.

قال ابن كثير : وعلى كل تقدير فهم اثنا عشر قبل عمر بن عبد العزيز.

ثم أوضح ذلك بما حاصله : أنه إن أُدخل يزيد بن معاوية خرج عمربن عبد العزيز ، مع أن الأئمة عدّوه من الخلفاء الراشدين ، وإن أعتُبر مَن اجتمعت الأمة عليه خرج علي وابنه الحسن ، وهذا خلاف ما نصّ عليه أئمة السنة بل والشيعة ، وخلاف ما دلَّ عليه نصّاً حديث سفينة ، وقد بيَّنَّا دخول خلافة الحسن وكانت نحواً من ستة أشهر فيها أيضاً ... إلى آخر ما قاله (٢).

٧ ـ رأي المهلب :

نُسب إلى المهلَّب (٣) أنه قال : الذي يغلب على الظن أنه عليه الصلاة

__________________

(١) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ٨ / ٢٢٧.

(٢) البداية والنهاية ٦ / ٢٥٥.

(٣) هو ابو القاسم المهلب بن أحمد بن أبي صفرة اسيد بن عبد الله الاسدي الاندلسي ، مصنف شرح صحيح البخاري. قال الذهبي في سير أعلام النبلاء ١٧ / ٥٧٩ : كان أحد الائمة الفصحاء الموصوفين بالذكاء ... ولي قضاء المرية ، وتوفي في سنة ٤٣٥ هـ ( بتصرف ).

٣٢

والسلام أخبر بأعاجيب تكون بعده من الفتن ، حتى يفترق الناس في وقت واحد على اثني عشر أميراً. قال : ولو أراد غير هذا لقال : « يكون اثنا عشر أميراً يفعلون كذا ... » ، فلما أعراهم من الخبر عرفنا أنه أراد أنهم يكونون في زمن واحد.

قال ابن حجر : وهو كلام مَن لم يقف على شيء من طرق الحديث غير الرواية التي وقعت في البخاري هكذا مختصرة ، وقد عرفت من الروايات التي ذكرتها من عند مسلم وغيره أنه ذكر الصفة التي تختص بولايتهم ، وهو كون الإسلام عزيزاً منيعاً. وفي الرواية الأخرى صفة أخرى ، وهي أن كلهم يجتمع عليه الناس كما وقع عند أبي داود.

إلى أن قال : ولو لم يرِد إلا قوله : كلهم يجتمع عليه الناس [ لكفى ] فإن وجودهم في عصر واحد عين الافتراق ، فلا يصح أن يكون المراد (١).

٨ ـ قول أبي الحسين بن المنادي (٢) :

فإنه قال في الجزء الذي جمعه في المهدي : يحتمل في معنى حديث : ( يكون اثنا عشر خليفة ) أن يكون هذا بعد المهدي الذي يخرج في آخر الزمان ، فقد وجدت في كتاب دانيال : إذا مات المهدي مَلَكَ بعده خمسة رجال من ولد السبط الأكبر ، ثم خمسة من ولد السبط الأصغر ، ثم يوصي آخرهم بالخلافة لرجل من ولد السبط الأكبر ، ثم يملك بعده ولده ، فيتم بذلك اثنا عشر ملكاً ،

__________________

(١) المصدر السابق ١٣ / ١٨٠.

(٢) قال الذهبي في سير أعلام النبلاء ١٥ / ٣٦١ : الإمام المقرئ الحافظ أبو الحسين ، أحمد بن جعفر بن المحدث أبي جعفر محمد بن عبيد الله بن أبي داود بن المنادي البغدادي صاحب التواليف. ولد سنة ٢٥٧ هـ تقريباً ، وتوفي سنة ٣٣٦ هـ. قال الداني : مقرئ جليل غاية في الإتقان ، فصيح اللسان عالم بالآثار ، نهاية في علم العربية ، صاحب سنة ، ثقة مأمون ( بتصرف ). قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ٤ / ٦٩ : كان صلب الدين ، شرس الأخلاق ، فلذلك لم تنتشر عنه الرواية ، وقد صنف أشياء وجمع.

٣٣

كل واحد منهم إمام مهدي.

ثم ساق رواية رواها أبو صالح عن ابن عباس ، ورواية أخرى عن كعب بهذا المعنى (١).

قال ابن حجر : الوجه الذي ذكره ابن المنادي ليس بواضح ، ويعكِّر عليه ما أخرجه الطبراني من طريق قيس بن جابر الصدفي ، عن أبيه ، عن جدّه رفعه : ( سيكون من بعدي خلفاء ، ثم من بعد الخلفاء أمراء ، ومن بعد الأمراء ملوك ، ومن بعد الملوك جبابرة ، ثم يخرج رجل من أهل بيتي ، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً ، ثم يؤمّر القحطاني ، فوالذي بعثني بالحق ما هو دونه ) ، فهذا يرِد على ما نقله ابن المنادي من كتاب دانيال ، وأما ما ذكره عن أبي صالح فواهٍ جداً ، وكذا عن كعب (٢).

أقول : الذي ذكره ابن المنادي ليس بظاهر البتة من أحاديث الخلفاء الاثني عشر المتقدمة ، بل الظاهر منها خلافه ، فإن الخطاب في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يكون عليكم اثنا عشر خليفة » إنما هو لصحابته الباقين بعده ، ولأنهم فهموا ذلك علا الضجيج الذي حال دون سماع جابر بن سمرة باقي كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولو كان الأمر مرتبطاً بغيرهم ويقع في آخر الزمان لما كان ثمة ما يثير مشاعرهم إلى هذا الحد.

هذا مضافاً إلى أن أحاديث آخر الزمان لم تذكر هؤلاء الخلفاء الاثني عشر الذين ذكرهم ابن المنادي في كلامه ، اللهم إلا ما ورد في كتاب دانيال ، وهو كتاب إن صحَّ فلعل المراد بيان أن ثمة اثني عشر ملكاً يكونون بعد المهدي ، غير الاثني عشر الذين يكونون بعد زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

هذه بعض أقوالهم التي وقفت عليها في هذه المسألة ، وهي كلها كما رأيت ضعيفة واهية ، لا يمكن الأخذ بها بحال.

__________________

(١) فتح الباري ١٣ / ١٨١.

(٢) المصدر السابق ١٣ / ١٨٢.

٣٤

الخلفاء الاثنا عشر هم أئمة أهل البيت عليهم‌السلام :

بعد أن تبين بطلان الأقوال السابقة كلها نقول :

إن الخلفاء الاثني عشر الذين بشَّر بهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأحاديث المتقدمة هم أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، ويدل على ذلك أمور :

١ ـ أن هذه الأحاديث نصَّت على العدد المعيَّن ـ أي الاثني عشر ـ وهو عدد أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، بلا زيادة ولا نقيصة ، فلا نحتاج لأن نتكلَّف إسقاط بعض أو ضم بعض آخر.

ولا يصح أن يراد بهم ملوك بني أمية أو ملوك بني العباس كلهم ، لأنهم يزيدون على هذا العدد بكثير ، ولا أن يُراد بعضهم دون بعض ، لأنه لا ترجيح في البين ، لأن أحوالهم متقاربة ، وسِيَرهم متشابهة ، مع أن كل واحد منهم لا تنطبق عليه الأوصاف المذكورة في الأحاديث كما مرَّ مفصَّلاً.

٢ ـ أن الأحاديث المذكورة أشارت إلى أوصافهم ، فأوضحت أن الدين يكون بهم عزيزاً منيعاً قائماً ، وأن أمر الناس يكون بهم صالحاً ماضياً ، وهذا لا يتحقق إلا إذا تولى أمر المسلمين من يرشدهم إلى الحق ، ويدلّهم على الهدى ، ويحملهم على الخير ، ويكون اتّباع الناس له سبباً لسعادتهم في الدنيا ولفوزهم في الآخرة.

ولا يختلف المسلمون في أن الإسلام يكون عزيزاً منيعاً قائماً ، وأمر الناس يكون ماضياً صالحاً بأئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، الذين أجمعت الأمة على أنهم عصمة للأمة من الضلال ، وأمان لها من الفرقة والاختلاف (١).

وأما غيرهم ـ ولا سيما بنو أمية ـ فإن الأمة لم تنل بولايتهم إلا التفرق والوقوع في الفتن والمهالك ، وهو واضح لا يحتاج إلى بيان.

____________

(١) فإن أهل السنة لا يختلفون في ورعهم وتقواهم وعلمهم ، وأن الناس لو اتبعوهم لما ضلو ، ولو اجتمعوا عليهم لما افترقوا ، فلذا قلنا بأن الأمة اجمعت واجتمعت عليهم.

٣٥

٣ ـ قد قلنا فيما تقدم أن الغاية من ذِكر هؤلاء الخلفاء في هذه الأحاديث هي الحث على اتّباعهم والاهتداء بهم ، وحديث الثقلين وغيره من الأحاديث التي سنذكرها في الفصل الثالث قد أوضحت أن الذين يلزم اتّباعهم والاهتداء بهم هم أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، فتكون هذه الأحاديث مبيِّنة للمراد بالخلفاء الاثني عشر في تلك الأحاديث. ولا سيما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أطلق لفظ ( الخليفة ) على العترة النبوية الطاهرة كما في بعض طرق حديث الثقلين ، حيث قال : إني تارك فيكم خليفتين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يتفرَّقا حتى يَرِدَا عليَّ الحوض (١).

ولعل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « كلهم من قريش » فيه نوع إشارة إلى هؤلاء الخلفاء ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما أراد أن يوضح هؤلاء الأئمة وينص عليهم بأعيانهم حال الضجيج بينه وبين ذلك ، فاكتفى بالإشارة عن صريح العبارة.

وليس من البعيد أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أوضح هذا الأمر ونص على هؤلاء الأئمة من عترته أو من بني هاشم ، إلا أن يد التحريف عبثت بهذه الأحاديث رعاية لمآرب أعداء آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الحُكَّام وغيرهم.

ويشهد لذلك أنها رُويَت هكذا في بعض كتب القوم ، كما في ينابيع المودة وغيره ، عن جابر بن سمرة ، قال : كنت مع أبي عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسمعته يقول : بعدي اثنا عشر خليفة. ثم أخفى صوته ، فقلت لأبي : ما الذي أخفى صوته؟ قال : قال : كلهم من بني هاشم (٢).

والحاصل أن صلاح هؤلاء الأئمة ، وحسن سيرتهم ، وطيب سريرتهم ، وأهليتهم للإمامة العظمى والخلافة الكبرى مما لا ينكره إلا مكابر أو متعصب.

أما أهلية الإمام أمير المؤمنين وولديه الحسن والحسين عليهم‌السلام للإمامة والخلافة فهي واضحة لا تحتاج إلى بيان ، ومع ذلك فقد أقرَّ بها وبأهلية غيرهم

__________________

(١) سيأتي تخرجه في الفصل الثالث إن شاء الله تعالى.

(٢) ينابيع المودة ٣ / ١٠٤.

٣٦

من الأئمة بعض علماء أهل السنة.

قال الذهبي : فمولانا الإمام علي من الخلفاء الراشدين المشهود لهم بالجنة رضي‌الله‌عنه نُحِبّه ونتولاه ... وابناه الحسن والحسين فسبطا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيدا شباب أهل الجنة ، لو استُخلفا لكانا أهلاً لذلك (١).

وقال في ترجمة الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام : وكان له جلالة عجيبة ، وحقَّ له والله ذلك ، فقد كان أهلاً للإمامة العظمى ، لشرفه وسؤدده وعلمه وتألّهه ، وكمال عقله (٢).

وقال في ترجمة الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : وكان أحد مَن جمع بين العلم والعمل والسؤدد والشرف والثقة والرزانة ، وكان أهلاً للخلافة (٣).

وقال في ترجمة الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : مناقب جعفر كثيرة ، وكان يصلح للخلافة ، لسؤدده وفضله وعلمه وشرفه رضي‌الله‌عنه (٤).

وقال في الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام : كبير القدر ، جيّد العلم ، أولى بالخلافة من هارون [ الرشيد ] (٥).

وقال في ترجمة الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام : وقد كان علي الرضا كبير الشأن ، أهلاً للخلافة (٦).

وقال ابن تيمية في ضمن ردّه على من قال بإمامة الأئمة الاثني عشر دون غيرهم لِما امتازوا به من الفضائل التي لم يحزها غيرهم : إن تلك الفضائل

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١٣ / ١٢٠.

(٢) المصدر السابق ٤ / ٣٩٨. وذكر أهليته للخلافة أيضاً في ١٣ / ١٢٠.

(٣) المصدر السابق ٤ / ٤٠٢. وكذلك في ١٣ / ١٢٠.

(٤) تاريخ الاسلام : حوادث ووفيات سنة ١٤١ ـ ١٦٠ هـ ، ص ٩٣. سير أعلام النبلاء ١٣ / ١٢٠.

(٥) سير أعلام النبلاء ١٣ / ١٢٠.

(٦) المصدر السابق ٩ / ٣٩٢.

٣٧

غايتها أن يكون صاحبها أهلاً أن تُعقد له الإمامة ، لكنه لا يصير إماماً بمجرد كونه أهلاً ، كما أنه لا يصير الرجل قاضياً بمجرد كونه أهلاً لذلك.

ثم قال : إن أهلية الإمامة ثابتة لآخرين كثبوتها لهؤلاء ، وهم أهل أن يتولّوا الإمامة ، فلا موجب للتخصيص ، ولم يصيروا بذلك أئمة (١).

وكلامه واضح في الاعتراف بأهلية هؤلاء الأئمة الاثنا عشر عليهم‌السلام للخلافة ، ولو كان بوسعه إنكار أهليتهم للخلافة لأنكرها كما أنكر كثيراً من الأحاديث الصحيحة في كتابه منهاج السنة كما سيأتي ذِكر بعضها في تضاعيف الكتاب.

هذا ما عثرت عليه من إقرار علماء أهل السنة بأهلية هؤلاء الأئمة ، ولولا قلة المصادر لدي لعثرت على أكثر من ذلك ، ولعل الباحث المتتبّع يجد المزيد ، إلا أن فيما ذكرناه كفاية ، فإن علماءهم مع إقرارهم بأهلية أئمة أهل البيت عليه‌السلام للخلافة لم يتّفقوا على إدخال الخلفاء الثلاثة الأوائل في الخلفاء الاثني عشر ، فضلاً إثبات أهليتهم وأهلية غيرهم ، وهذا دليل واضح على أن كل ما قالوه لصرف هذه الأحاديث عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام إنما كان ظناً وتخرّصاً لا يغنيان عن الحق شيئاً.

شبهة وجوابها :

قد يقول قائل : إن أئمة أهل البيت لم يتولوا أمور المسلمين وإن كانوا

__________________

(١) منهاج السنة النبوية ٤ / ٢١٣. قول ابن تيمية هذا يدل على انه لم يكن في وسعه أن يجحد فضل أئمة أهل البيت عليهم‌السلام وأهليتهم للإمامة ، ولو كان ذلك في وسعه لأنكر ما وسعه الإنكار ، لإنه كان في مقام المناظرة مع خصمه لا في مقام المجاملة. وتنظيره الإمام بالقاضي مغالطة واضحة ، والصحيح ان ينظر بالقاضي المنصوب من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنه يكون قاضياً وإن جحده كثير من الناس ، ومع نص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على خلافتهم لا يضرهم من خالفهم ولا من ناواهم. وقوله : ( فلا موجب للتخصيص ) غير صحيح ، لأن التخصيص حاصل بالنصوص الصحيحة الآمرة بالتمسك بأهل البيت دون غيرهم ، فلا سبيل للعدول عنهم إلى غيرهم.

٣٨

أهلاً لذلك ، فلا يصدق عليهم أنهم خلفاء بمجرد أهليتهم للخلافة ، كما أن القاضي لا يصدق عليه أنه قاض بمجرد كونه أهلاً للقضاء ما لم يتولّ القضاء ، فكيف صار هؤلاء الأئمة هم الخلفاء الاثني عشر؟

والجواب :

لمَّا دلَّت النصوص الصحيحة على أن الخلفاء الاثني عشر هم أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، وأنهم هم الذين يجب اتّباعهم ومبايعتهم وطاعتهم دون سواهم. فحينئذ لا يجوز العدول عنهم ، ومبايعة من عداهم ، لأن ذلك تبديل لحكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورَدٌّ لقوله ، وإبطال لأمره.

على أن انصراف أكثر الناس عنهم لا يصيّرهم رعيّة ، ولا يصير غيرهم أئمة وخلفاء ، كما أن انصراف أكثر الناس عن الاعتقاد بنبوّة النبي لا يبطل نبوّته. قال تعالى ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخِيَرَة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضلَّ ضلالاً مبيناً ) (١).

ولا ريب في أن ثمة فرقاً بين القاضي المنصوب وبين مَن له أهلية القضاء ، فإن الأول يسمَّى قاضياً ، والآخر لا يسمَّى بذلك ، إلا أن هذا أجنبياً عما نحن فيه ، فإن الأئمة قد أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهم ونصَّ عليهم ، فهُم خلفاء لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمَّاهم بذلك ، وإن لم يبايعهم الناس أو يقرّوا لهم بالخلافة. وحال هؤلاء حال من نصَّبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للقضاء فأبى الناس ، فإنه يكون قاضياً شاء الناس أم أبوا ، وهذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.

ثم إن الأئمة عليهم‌السلام قاموا بأمور الإمامة خير قيام ، فبيّنوا الأحكام ، وأوضحوا شرائع الإسلام ، ونفوا عن الدين تحريف المبطلين وتأويل الجاهلين ، وردّوا شبهات المُضلّين ، فجزاهم الله خير الجزاء عن الإسلام والمسلمين. والنبوة فضلاً عن الإمامة لا تتقوم باتباع الناس أو بخلافهم ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان رسولاً نبيا وهو في مكة لم يؤمن به إلا قليل ، والإمام كذلك.

__________________

(١) سورة الاحزاب ، الآية ٣٦.

٣٩

شبهة أخرى وجوابها :

وقد يقول قائل : إن بعض الأحاديث الصحيحة دلّت على أن أولئك الخلفاء كلّهم يجتمع عليه الناس ، مع أن أئمة أهل البيت لم يجتمع عليهم أحد ، حتى أمير المؤمنين عليه‌السلام اختلف الناس في زمانه ، فكيف يكونون هم الأئمة المعنيين في تلك الأحاديث؟

والجواب :

إذا كان المراد باجتماع الناس عليهم هو ما فهمه بعض علماء أهل السنة من الاتفاق على البيعة ، فهذا لا ينطبق على أي واحد ممن تولّوا أمر الناس ، حتى أبي بكر وعمر ، فإن أبا بكر تمَّت له البيعة في سقيفة بني ساعدة وأكثر المهاجرين كانوا غائبين عنها ، وهذا سيأتي بيانه في الحديث حول بيعة أبي بكر في الفصل الآتي ، وأما عمر فكانت خلافته بنص أبي بكر لا باجتماع الناس ، حتى قال بعضهم لأبي بكر : ما أنت قائل لربّك إذا سألك عن تولية عمر علينا وقد ترى غلظته ... (١)

وأما غيرهما ممن جاء بعدهما فقد بيَّنّا أنهم لم يجتمع عليهم الناس بهذا المعنى.

وعليه فإن كان المراد من اجتماع الناس هذا المعنى فهو لا ينطبق على أحد ، فيكون هذا الحديث باطلاً ، فحينئذ لا مناص من القول بأن المراد من اجتماع الناس في الحديث هو اجتماعهم على صلاح هؤلاء الخلفاء ، وحسن سيرتهم ، وطيب سريرتهم ، والاجتماع بهذا المعنى متحقق في أئمة أهل البيت عليهم‌السلام دون غيرهم ، فهُم وحدهم الذين اتفق الشيعة وأهل السنة على اتّصافهم بذلك ، فيكون هذا المعنى هو المراد في الحديث ، لوجود مصاديق له دون المعنى الأول.

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٣ / ١٩٩ ، تاريخ الخلفاء ، ص ٦٢ ، الصواعق المحرقة ١ / ٢٥٤.

٤٠