مسائل خلافية حار فيها أهل السنة

الشيخ علي آل محسن

مسائل خلافية حار فيها أهل السنة

المؤلف:

الشيخ علي آل محسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الميزان
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٤

مُلزِمة لغيرهم ، وتكون مشمولة لقول عمر : فمَن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يُتابَع هو ولا الذي بايعه تغِرَّة أن يُقتَلا (١).

٤ ـ أن مبايعتهم لذلك الحاكم معارَضة بمبايعة غيرهم لحاكم آخر في بلاد أخرى من بلاد المسلمين ، ولا يصح بيعة خليفتين في عصر واحد ، ومع تحقق ذلك فإحدى البيعتين باطلة قطعاً.

ثم إن البيعة لا تصح عندهم إلا إذا كان الحاكم قرشياً عادلاً مجتهداً كما مرّ.

والحاصل : أن كل أهل السنة لم يبايعوا إماماً واحداً لهم من الحُكّام المعاصرين ولا من غيرهم ، وبذلك يكونون قد تركوا واجباً من أعظم الواجبات الشرعية ، وتخلفوا عن وظيفة من أهم الوظائف الدينية.

محاولة أخرى وردّها :

وقد يقال أيضاً : إن كل واحد من أهل السنة اتَّبع إماماً من أئمة المسلمين ، ومن الواضح المعلوم أن أهل السنة منهم من يتّبع أبا حنيفة النعمان ، ومنهم من يتَّبع مالك بن أنس ، ومنهم من يتبع محمد بن إدريس الشافعي ، ومنهم من يتّبع أحمد بن حنبل ، فكل واحد منهم يموت وفي عنقه بيعة لإمام من هؤلاء الأئمة ، فلا إشكال عليهم حينئذ.

والجواب :

١ ـ أن محل الكلام هو مبايعة الإمام الذي يتولَّى أمور المسلمين ويكون حاكماً له سلطة زمنية على الناس ، وهذا هو الذي أوجبه علماء أهل السنة فيما تقدم من عباراتهم ، ودلّت عليه الأحاديث السابقة ، وليس محل البحث هو علماء الدين الذين يعمل الناس بفتاواهم ، فإن هؤلاء لا تجب مبايعتهم بالاتفاق ، بل يجب سؤالهم لمعرفة الأحكام الشرعية لا غير ، كما قال جل شأنه

__________________

(١) صحيح البخاري ٩ / ١٠٠ كتاب الأحكام ، باب الاستخلاف. وهو الحديث الذي تقدم تخريجه في حديثنا عن بيعة أبي بكر وأنها كانت فلتة في الفصل الثاني.

٢٢١

( فاسألوا أهل الذِّكْر إن كنتم لا تعلمون ) (١).

٢ ـ لم يُفْتِ أحد من أئمة المذاهب الأربعة بوجوب أخذ البيعة له أو لغيره من فقهاء الأمصار ، ولم ينقل أحد من أعلام أهل السنة أن البيعة أُخِذَت لهم ، لا في عصورهم ولا في العصور المتأخرة عنهم ، ولو كانت البيعة لهم واجبة لبيَّنوا ذلك للناس وحثّوهم عليها.

٣ ـ أنا قلنا فيما مرَّ أن البيعة هي المعاهدة ، وهي لا تتحقق إلا مع الإمام الحي الحاضر ، وعليه فلا يمكن مبايعة واحد من الأئمة الماضين ، لأنها مفاعلة بين طرفين ، والميت لا يعلم ببيعة الحي له ولا تقع منه معاهدة معه على شيء ، وهو واضح لا يحتاج إلى زيادة تفصيل.

محاولة ثالثة وردّها :

فإن أجابوا عن هذه المسألة بأن إمام المسلمين واحد من العلماء المعاصرين من أهل السنة.

فالجواب :

١ ـ ما قلناه فيما تقدّم يأتي هنا أيضاً ، فإن محل الكلام في الإمام الذي يتولَّى أمور المسلمين ويكون حاكماً عليهم ، وليس الكلام في أئمة العلم ، فإن أئمة العلم لا تجب بيعتهم عند أهل السنة.

٢ ـ قلنا فيما تقدم أنه يشترط في الإمام أن يكون مجتهداً ، وحيث إن أهل السنة قد أغلقوا باب الاجتهاد ، وحصروا التقليد في أئمة المذاهب الأربعة ، فلا يوجد في علماء أهل السنة في هذا العصر إلا المقلِّدة ، ومن يدَّعي الاجتهاد منهم لا يوافقونه على اجتهاده ولا يسلِّمون له به ، فحينئذ لا يصلح واحد منهم لإمامة المسلمين.

٣ ـ لو سلَّمنا أن واحداً من العلماء المعاصرين فيه الأهلية للإمامة عندهم ،

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية ٧.

٢٢٢

إلا أنه لا يكون إماماً بمجرد كونه أهلاً للإمامة ، وذلك لأن علماء أهل السنة أنفسهم اعتبروا أيضاً في إمام المسلمين أن يبايعه أهل الحل والعقد ، أو يكون مبسوط اليد على بلاد المسلمين متسلِّطاً عليها ، ولأجل ذلك عدّوا معاوية مثلاً من الخلفاء الاثني عشر الذين بشَّر بهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما مرَّ مفصّلا ، ولم يعدّوا منهم مَن هو خير منه من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار المعاصرين له الذين لم تكن لهم إمرة ، كما لم يعدُّوا منهم غيرهم ممن وصفوهم بأنهم من المبشَّرين بالجنة ، كسعد بن أبي وقاص مثلاً.

بل لم يعدوا من الخلفاء الاثني عشر علماء الصحابة كابن عباس وابن مسعود وغيرهما ، للسبب الذي ذكرناه.

محاولة رابعة وردّها :

فإن قالوا : إنَّا نسلّم أن أهل السنة تركوا القيام بهذا الفرض فلم يبايعوا إماماً في هذا العصر ولا في العصور المتقدمة التي تلت عصر الخلافة ، لكن لا تلزم المعصية والضلالة والموت ميتة جاهلية ، وذلك إنما يلزم لو تركوه عن قدرة واختيار لا عن عجز واضطرار (١).

فالجواب :

١ ـ أنَّا لا نسلّم أن أهل السنة عاجزون عن بيعة إمام لهم في هذا العصر ، لأن البيعة هي نوع من إظهار الطاعة للحاكم ، وهذا مقدور عليه ، ويمكن لعلماء أهل السنة أن يرشدوا العوام في جميع البلاد إلى مبايعة من يرونه الأصلح للإمامة من حُكام المسلمين أو من غيرهم.

وخوفهم من سخط حُكَّام بلادهم لا يسوّغ لهم ترك بيان فريضة من أهم الفرائض ووظيفة من أعظم الوظائف ، لأن أهل السنة لا يرون جواز التقية من الحاكم المسلم ، ولهذا عدّوا من فضائل الإمام مالك بن أنس والإمام أحمد بن حنبل وغيرهما الجهر ببيان المعتقد مع ما كان فيه من سخط الخلفاء والوقوع في

__________________

(١) هذا الجواب للتفتازاني في شرح المقاصد ٥ / ٢٣٩.

٢٢٣

المحنة.

هذا مع أن هناك منابر دولية يُتمكَّن بها من بيان كل عقيدة وإيضاح كل وظيفة بلا أي محذور ولا خوف ولا ضرر ، وهذا أمر مقدور للكل أو للأغلب ، مع أنَّا لا نرى أحداً من أهل السنة قام به.

٢ ـ مع الإغماض عن كل ذلك وتسليم أن أهل السنة عاجزون عن مبايعة إمام لهم ، فهذا يرفع الإثم والعقاب عنهم ، لأن الله جل شأنه لا يكلف الناس بما لا يطيقون ، أما أن ميتتهم لا تكون بسبب الاضطرار جاهلية فهذا لا نسلّم به ، فإن أهل الفَتْرة ـ الذي عاشوا في الجاهلية وهم لا يعلمون بدين سماوي ، وكانوا مستضعفين في الأرض ، ولا يفقهون من أمرهم إلا ما يتعلق بمعاشهم ـ فإن هؤلاء لا يُعذَّبون ، عملاً بقوله جل شأنه ( وما كنا معذِّبين حتى نبعث رسولاً ) ، مع أنهم لا شك في كونهم ضُلاّلاً ، لأن كل من لم يتّبع الحق ـ وإن كان معذوراً ـ فهو ضال.

وما نحن فيه كذلك ، فإن حديث مسلم نص على أن كل من لم تكن في عنقه بيعة لإمام فميتته جاهلية ، وبإطلاقه يشمل من كان معذوراً لجهل أو اضطرار أو عجز أو غير ذلك.

* * * * *

وعلى ضوء ما تقدّم نقول : إن أهل السنة في جميع البلاد الإسلامية إما أن يكون فيهم من هو أهل للإمامة ، ومتَّصف بالصفات التي ذكروها ، فحينئذ يجب عليهم جميعاً أن يبايعوه إماماً لهم.

وإما أن لا يكون فيهم مَن يتَّصف بالصفات المزبوة ، فالواجب عليهم حينئذ بيعة رجل منهم يكون إماماً على جميع المسلمين ، ولا يجوز ترك المسلمين من دون إمام بَرّ أو فاجر.

هذا ما نصَّ عليه علماؤهم في مصنفاتهم.

وأهل السنة في جميع البلدان لم يبايعوا إماماً لهم ، فهم بأجمعهم أو

٢٢٤

أكثرهم مخالفون لفتاوى علمائهم التي دلَّت على أنه يجب على المسلمين في كل عصر أن يبايعوا مَن يصلح منهم للإمامة ، ومعرضون عن الأحاديث الصحيحة ، غير عاملين بمضمونها ، وبذلك تكون ميتتهم جاهلية بنص الأحاديث السابقة.

* * * * *

وأما الشيعة الإمامية فقد ذهبوا إلى أن إمام هذا العصر هو المهدي المنتظر الإمام محمد بن الحسن العسكري عليهما‌السلام. فهو الإمام الحق على مسلك الشيعة وعلى مسلك أهل السنة أيضاً.

أما على مسلك الشيعة فتدل على ذلك أدلة كثيرة ، نكتفي ببعضها :

الدليل الأول : أن إمام المسلمين يجب أن يكون معصوماً.

ويدل على ذلك أمور :

١ ـ أن غير المعصوم لا يوثق بصحة قوله ، ويُشَك في نفاذ أمره وحكمه ، لاحتمال خطئه ونسيانه وغفلته وجهله وكذبه ، فلا يتوجَّه الأمر بطاعته مطلقاً في قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) (١) ، فإن الله سبحانه ساوى بين طاعته جل وعلا وطاعة أولي الأمر ـ وهم الأئمة ـ ، وذلك لانتفاء الخطأ في الكل.

٢ ـ أن غير المعصوم ظالم لنفسه ، لوقوع المعاصي منه ، فكل من ارتكب معصية فقد ظلم نفسه على أقل تقدير ، فلا يصلح حينئذ للإمامة ، لقوله تعالى ( قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ) (٢). فذِكْر الظالمين بصيغة العموم يشمل مَن ظلم نفسه ومَن ظلم غيره ، ومراده بالعهد في الآية هو الإمامة بدليل الكلام المتقدم فيها.

__________________

(١) سورة النساء ، الآية ٥٩.

(٢) سورة البقرة ، الآية ١٢٤.

٢٢٥

٣ ـ أن الإمامة العظمى التي يتوقف عليها بقاء الدين واستقامة أمور المسلمين لا يصح أن تُوكَل إلى إمام يخطئ ويصيب ، لأن ذلك يترتب عليه انمحاق الدين وتبدّل الأحكام مع توالي الأئمة وتطاول الأزمنة ، ولهذا عصم الله سبحانه أنبياءه ورسله من كل ذلك ، لأنهم القائمون بتبليغ الشرائع والأحكام ، حياطة للدين ، وحفظاً لأحكام شريعة سيد المرسلين.

إذا اتّضح ذلك كله نقول : إن إمامة العصر متعيّنة في الإمام المهدي عليه‌السلام ، وذلك لأن المهدي عليه‌السلام معصوم بنص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ قال : « يملأها قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً » (١) ، وذلك لا يتم إلا بعصمته وتمام معرفته بأحكام الدين.

قال البرزنجي : وأما عصمة المهدي ففي حكمه (٢).

ثم قال : لا يحكم المهدي إلا بما يلقي إليه الملَك من عند الله الذي بعثه إليه يسدِّده ، وذلك هو الشرع الحنيفي المحمدي ، الذي لو كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حياً ورُفعت إليه تلك النازلة لم يحكم فيها إلا بحكم هذا الإمام ... ولذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صفته : « يقفو أثري لا يخطئ » فعرفنا أنه متَّبِع لا مشرِّع وأنه معصوم ، ولا معنى للمعصوم في الحكم إلا أنه معصوم من الخطأ ، فإن حكم الرسول لا يُنسب إلى الخطأ ، فإنه لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى (٣).

وعليه ، فإن قلنا بعصمة الإمام المهدي عليه‌السلام ووجوده في هذا العصر تعيَّنت إمامته ، لأن الأمة أجمعت على أن غير المهدي في هذا الزمان ليس

__________________

(١) أخرجه أبو داود في سننه ٤ / ١٠٦ ، ١٠٧ ح ٤٢٨٢ ، ٤٢٨٣ ، ٤٢٨٥. وصححها الألباني في صحيح سنن ابي داود ٣ / ٨٠٧ ، ٨٠٨ ح ٣٦٠١ ، ٣٦٠٢ ، ٣٦٠٤. مشكاة المصابيح ٣ / ١٥٠١ ح ٥٤٥٢ ، ٥٤٥٤. الجامع الصغير ٢ / ٤٣٨ ح ٧٤٨٩ ، ٧٤٩٠ ورمز له بالصحة. صحيح الجامع الصغير ٢ / ٩٣٨ ح ٥٣٠٤ ، ٥٣٠٥. مسند أحمد بن حنبل ٣ / ٢٧ ، ٢٨ ، ٣٦ ، ٣٧ ، ٥٢ ، ٧٠.

(٢) الإشاعة لأشراط الساعة ، ص ١٠٨.

(٣) المصدر السابق ، ص ١١٠.

٢٢٦

بمعصوم ، وإلا خلا الزمان ممن يصلح للإمامة ، وهذا باطل بالاتفاق.

الدليل الثاني : أن إمام المسلمين يجب أن يكون منصوصاً عليه :

ويدل على ذلك :

١ ـ أنه قد ثبت اشتراط العصمة في الإمام ، والعصمة أمر نفساني لا يعلمه الناس ، فلا بد من نص العالم بخفايا النفوس وخبايا القلوب جل وعلا.

٢ ـ أن ترك التنصيص على الإمام يفتح باب الخلاف ويفضي إلى النزاع ، كما وقع في سقيفة بني ساعدة ، واستمر منها الخلاف في الخلافة إلى يومنا هذا ، مع أن الله أمر بالأُلفة ونبذ الفرقة ، حيث قال ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ) (١) وقال : ( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ) (٢) ، فلا يصح حينئذ بحال أن يفتح الله للمسلمين باباً واسعاً للفرقة والنزاع ، فيوكل اختيار الخليفة إليهم يتنازعون فيه.

٣ ـ أن غير النص ـ وهو الشورى ـ في أكثر الأحوال لا يفضي إلى تنصيب الأفضل ، لأن اختيار الخليفة كثيراً ما يكون بداعي المصالح الشخصية والمنافع الفردية ، أو بباعث الميول النفسية واتباع العصبية.

والناس قد ينصرفون عن أفضل رجل في الأمة إذا كان حازماً في الحق ، أو قليل المال والأعوان والعشيرة.

هذا إذا عرف الناس من هو الأفضل ، وربما لا يميِّزونه ولا يشخِّصونه ، ولا سيما إذا كان بعيداً عن دائرة الضوء وأماكن الأحداث.

وعليه فلا يصح أن يوكل الله سبحانه أمر الإمامة العظمى إلى الناس الذين وصف أكثرهم في كتابه العزيز بأوصاف سيّئة ، ونعتهم بنعوت قبيحة ، فقال ( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ) (٣) ، ( وما أكثر

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١٠٣.

(٢) سورة الأنفال ، الآية ٤٦.

(٣) سورة الأنعام ، الآية ١١٦.

٢٢٧

الناس ولو حرصت بمؤمنين ) (١) ، ( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (٢) ، ( وأكثرهم للحق كارهون ) (٣).

إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة.

فلا مناص حينئذ من النص على الإمام ، لأنه سبحانه هو العالم بمصالح خلقه وبأولاهم بالإمامة وأجدرهم بالخلافة.

٤ ـ أن الإمامة خلافة لله ورسوله ، والإمام خليفة لهما ، ولا تكون الخلافة عنهما إلا بقولهما.

٥ ـ أن آيات القرآن العزيز قد أوضحت بأجلى بيان أن جعل النبي والإمام والوزير والخليفة موكول إلى الله ، ولم نرَ في كتاب الله العزيز آية أشارت إلى أن شيئاً من ذلك موكول إلى الناس.

أما جعل الأنبياء فيدل عليه قوله جل وعلا ( اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء ) (٤) ، ( ووهبنا له إسحاق ويعقوب وكلاَّ جعلنا نبيًّا ) (٥) ، ( ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب ) (٦) ، ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) (٧) ، ( إنا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين ) (٨).

وأما جعل الخليفة والإمام والوزير فيدل عليه قوله تعالى ( يا داود إنَّا

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية ١٠٣.

(٢) سورة الأعراف ، الآية ١٨٧.

(٣) سورة المؤمنون ، الآية ٧٠.

(٤) سورة المائدة ، الآية ٢٠.

(٥) سورة مريم ، الآية ٤٩.

(٦) سورة الحديد ، الآية ٢٦.

(٧) سورة الأنعام ، الآية ١٢٤.

(٨) سورة القصص ، الآية ٧.

٢٢٨

جعلناك خليفة في الأرض ) (١) ، ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) (٢). وقوله سبحانه ( وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين ) (٣) ، ( قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذرّيتي قال لا ينال عهدي الظالمين ) (٤) ، ( واجعلنا للمتقين إماماً ) (٥) ، ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لمَّا صبروا ) (٦). وقوله جل من قائل ( واجعل لي وزيراً من أهلي * هارون أخي ) (٧).

هذه هي سنة الله جل وعلا الجارية في خلقه والثابتة في دينه ( سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ) (٨).

فإذا اتّضح ذلك نقول : إن الإمام المهدي عليه‌السلام إما أن يكون هو ذلك الإمام المنصوص عليه في هذا الزمان ، فيثبت المطلوب. وأما إذا لم نقل بوجوده فضلاً عن النص عليه فقد خلا الزمان ممن يصلح للإمامة ، لأن غير الإمام المهدي عليه‌السلام قد أجمعت الأمة على أنه غير منصوص عليه ، وخلو الزمان من متأهِّل للإمامة باطل بإجماع المسلمين.

* * * * *

الدليل الثالث : حديث الثقلين الذي تقدَّم الكلام فيه مفصلاً ، وهو قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إني تركتُ فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا بعدي : الثقلين ،

__________________

(١) سورة ص ، الآية ٢٦.

(٢) سورة البقرة ، الآية ٣٠.

(٣) سورة الأنبياء ، الآية ٧٣.

(٤) سورة البقرة ، الآية ١٢٤.

(٥) سورة الفرقان ، الآية ٧٤.

(٦) سورة السجدة ، الآية ٢٤.

(٧) سورة طه ، الآيتان ٢٩ ـ ٣٠.

(٨) سورة الفتح ، الآية ٢٣.

٢٢٩

أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض.

وهو يدل على لزوم التمسك بإمام صالح للإمامة من أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا يفترق عن كتاب الله في قوله وفعله ، ويفهم معاني الكتاب الظاهرة والباطنة ، ويعرف الناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه ، والخاص والعام ، والمطلق والمقيد ، والمجمل والمبيَّن ، وهو مع كل ذلك يعمل بما فيه في جميع شؤونه وكافة أحواله ، لا يحيد عنه ولا يميل إلى سواه ، كما مرَّ ذلك مفصّلاً.

وعليه ، فلا بد أن يكون الإمام المهدي عليه‌السلام موجوداً في هذا العصر ، وهو المتعين للإمامة ، لأنه أهل للتمسك به ، وغيره قد أجمعت الأمة على أنه يفترق عن القرآن قولاً وعملاً ، لعدم عصمته ، وإلا فلا يوجد من يصلح للإمامة من أهل البيت النبوي وغيرهم في هذا الزمان وهو باطل بالاتفاق.

* * * * * *

هذا كله على مسلك الشيعة الإمامية ، وأما على مسلك أهل السنة ، فأيضاً يكون إمام العصر هو الإمام المهدي محمد بن الحسن العسكري عليه‌السلام ، وتقريب ذلك يتم بعدة وجوه :

١ ـ أنه من قريش لكونه من ذرية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعادل لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يملؤها قسطاً وعدلاً ، وهو أعلم من سائر المجتهدين ، لأنه يحكم في كل واقعة بحكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وغيره ليس كذلك كما مرَّ.

فإذا سلَّم الخصم بأنه عليه‌السلام هو إمام العصر فقد ثبت المطلوب ، وإلا فقد خلا الزمان من صالح للإمامة ، لأن أهل السنة وغيرهم ليس فيهم صالح للإمامة قائم بها ، والشيعة لا يرون أحداً صالحاً للإمامة غير الإمام المهدي عليه‌السلام ، وخلو الزمان من صالح للإمامة باطل كما تقدم.

٢ ـ لو لم يكن الإمام المهدي عليه‌السلام هو إمام هذا العصر لكان جميع

٢٣٠

المسلمين آثمين بتركهم هذا الفرض ، فتكون الأمَّة المرحومة قد اجتمعت على خطأ وضلال ، وهذا باطل ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تجتمع أمتي على ضلالة أو خطأ (١).

شبهة وجوابها :

فإن قال قائل : إن الإمام المهدي ليس بمولود ولا موجود ، وإنما سيولد في آخر الزمان ، وليس هو محمد بن الحسن العسكري كما تزعم الشيعة.

والجواب :

١ ـ أن جمعاً من علماء أهل السنة قد اعترفوا بأن المهدي الموعود هو محمدبن الحسن العسكري عليه‌السلام ، وأنه باقٍ إلى الآن. ومع أن هذا المعتقد مخالف لما عليه أكثر علماء أهل السنة إلا أن هؤلاء رأوه مذهباً حقاً يعتنقونه ويذبّون عنه ، فذكروه في مصنفاتهم التي صحت نسبتها إليهم.

ومن هؤلاء المذكورين :

١ ـ محمد بن طلحة الشافعي (٢) ( ٥٨٢ ـ ٦٥٢ هـ ) : ذكر ذلك في كتابه ( مطالب السَّؤول ) في الباب الثاني عشر.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في سننه ٤ / ٤٦٦٠ ح ٢١٦٧ بلفظ : إن الله لا يجمع أمتي ... على ضلالة. وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير ١ / ٣٧٨ ، واخرجه ابن ماجة في السنن ٢ / ١٣٠٣ ح ٣٩٥٠ ، وابن أبي عاصم في كتاب السنة بالفاظ مختلفة تؤدي هذا المعنى ، حسن الألباني بعضها واستجود بعضها الآخر. وصحح الألباني الحديث بلفظ : ( لا تجتمع أمتي على ضلالة ) في تخريج مشكاة المصابيح ١ / ٦١ ، وضعيف سنن ابن ماجة ، ص ٣١٨ ، وكتاب السنة ١ / ٤١ ، وأورده السخاوي في المقاصد الحسنة ص ٤٦٠ وقال : وبالجملة فهو حديث مشهور المتن ، ذو اسانيد كثيرة وشواهد متعددة. وهي عين عبارة العجلوني في كشف الخفا ٢ / ٣٥٠. وعده الكتاني في نظم المتناثر ، ص ١٧٢ من الأحاديث المتواترة.

(٢) راجع ترجمته في كتاب العبر في خبر من غبر للذهبي ٣ / ٢٩٦ ، وطبقات الشافعية للسبكي ٨ / ٦٣ ، شذرات الذهب ٥ / ٢٥٩ ، البداية والنهاية ١٣ / ١٩٨.

٢٣١

٢ ـ محمد بن يوسف بن محمد الكنجي الشافعي (١) ( ت ٦٥٨ هـ ) : ذكر ذلك في كتابه ( البيان في أخبار صاحب الزمان ) في الباب الأخير منه ، في الدلالة على جواز بقاء المهدي عليه‌السلام منذ غيبته.

٣ ـ علي بن محمد المشهور بابن الصباغ المالكي (٢) ( ٧٨٤ ـ ٨٥٥ هـ ) : ذكر ذلك في كتابه ( الفصول المهمة ) في الفصل الثاني عشر منه (٣).

٤ ـ سبط ابن الجوزي (٤) ( ٥٨١ ـ ٦٥٤ هـ ) : ذكر ذلك في كتابه ( تذكرة الخواص ) في الفصل المعقود للإمام المهدي عليه‌السلام (٥).

٥ ـ عبد الوهاب الشعراني (٦) ( ٨٩٨ ـ ٩٧٣ هـ ) : ذكر ذلك في الباب الخامس والستين من الجزء الثاني من كتابه ( اليواقيت والجواهر في عقائد الأكابر ) ، وسنذكر قريباً عبارته بنصّها (٧).

٦ ـ محي الدين بن عربي (٨) ( ٥٦٠ ـ ٦٣٨ هـ ) : ذكر ذلك في الباب السادس

__________________

(١) راجع ترجمته في كتاب الوافي بالوفيات ٥ / ٢٥٤ ، ومعجم المؤلفين ١٢ / ١٣٤ ، الأعلام ٧ / ١٥٠.

(٢) راجع ترجمته في الأعلام للزركلي ٥ / ٨ ، معجم المؤلفين ٧ / ١٧٨.

(٣) الفصول المهمة ، ص ٢٨٦ ، ٢٨٧.

(٤) ترجم له في شذرات الذهب ٥ / ٢٦٦ ، الاعلام ٨ / ٢٤٦ ، ميزان الاعتدال ٤ / ٤٧١ ، وفيات الأعيان ٣ / ١٤٢ ، البداية والنهاية ١٣ / ٢٠٦.

(٥) تذكرة الخواص ، ص ٣٢٥.

(٦) ترجم له في شذرات الذهب ٨ / ٣٧٢ ، الأعلام ٤ / ١٨٠ ، معجم المؤلفين ٦ / ٢١٨ ، جامع كرامات الأولياء ٢ / ١٣٤.

(٧) عن إسعاف الراغبين ، ص ١٥٤.

(٨) ترجم له في ميزان الاعتدال ٣ / ٦٥٩ ، الوافي بالوفيات ٤ / ١٧٣ ، فوات الوفيات ٣ / ٤٣٥ ، لسان الميزان ٥ / ٣١١ ، شذرات الذهب ٥ / ١٩٠ ، جامع كرامات الاولياء ١ / ١١٨ ، دائرة المعارف الإسلامية ١ / ٢٣١ ، سير اعلام النبلاء ٢٣ / ٤٨ ، الأعلام ٦ / ٢٨١.

٢٣٢

والستين وثلاثمائة من كتابه ( الفتوحات المكية ).

٧ ـ صلاح الدين الصفدي (١) ( ٦٩٦ ـ ٧٦٤ هـ ) : ذكر ذلك في كتابه شرح الدائرة (٢).

٨ ـ محمد بن علي بن طولون (٣) ( ٨٨٠ ـ ٩٥٣ هـ ) : نص على ذلك في كتابه ( الأئمة الاثنا عشر ) في أبيات ساقها فيه من نظمه ، وهي :

عليكَ بالأئمةِ الاثنـي عشــرْ

من آل بيتِ المصطفى خيرِ البشرْ

أبو ترابٍ ، حسنٌ ، حسيــنُ

وبُغضُ زينِ العابديـنَ شَيْـــنُ

محمدُ الباقِرُ كـم عِلــمٍ درى

والصادقَ ادْعُ جعفـراً بين الورى

موسى هو الكاظمُ وابنُه علــي

لقِّبْه بالرضا وقَــدْرُه علـــي

محمدُ التقــيُّ قلبُه معمــورُ

علـيٌّ النقــيُّ دُرُّه منثـــورُ

والعسكريُّ الحسنُ المطهَّـــرُ

محمدُ المهديُّ سوف يظهــرُ (٤)

وقد ذكر الميرزا حسين النوري قدس الله نفسه في كتابه « كشف الأستار » أسماء أربعين من علماء أهل السنة الذين عثر على بعض كتبهم التي يعترفون فيها بأن الإمام محمد بن الحسن العسكري عليه‌السلام هو المهدي المنتظر ، مع اعترافه قدس‌سره بقلة المصادر التي لديه وكثرة كتب علماء أهل السنة وتفرقها في البلدان ، ولعل من وقف على أكثرها يجد أضعاف

__________________

(١) له ترجمة في طبقات الشافعية الكبرى ١٠ / ٥ ، شذرات الذهب ٦ / ٢٠٠ ، العبر في خبر من غبر ٤ / ٢٠٣ ، البداية والنهاية ١٤ / ٣١٨ ، الأعلام ٢ / ٣١٥ ، معجم المؤلفين ٤ / ١١٤ ، وذكر أن له ترجمة في الدرر الكامنة لابن حجر ٢ / ٨٧ ، ٨٨ والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي ١١ / ١٩ ـ ٢١ والبدر الطالع للشوكاني ١ / ٢٤٣ ، ٢٤٤ وغيرها.

(٢) عن ينابيع المودة ، ص ٤٧١.

(٣) له ترجمة في شذرات الذهب ٨ / ٢٩٨ ، الكواكب السائرة ٢ / ٥٢ ، الأعلام ٦ / ٢٩١ ، معجم المؤلفين ١١ / ٥١.

(٤) الأئمة الاثنا عشر ، ص ١١٨.

٢٣٣

هذا العدد (١).

٢ ـ أن بعض علماء أهل السنة اعترف برؤية الإمام المهدي ولقائه.

قال عبد الوهاب الشعراني في كتابه ( اليواقيت والجواهر ) بعد كلام طويل : ... إلى أن يصير الدين غريباً كما بدأ ... فهناك يُترقَّب خروج المهدي عليه‌السلام ، وهو من أولاد الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام ، ومولده ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين هجرية ، وهو باقٍ إلى أن يجتمع بعيسى بن مريم عليه‌السلام ... هكذا أخبرني الشيخ حسن العراقي (٢) ... عن الإمام المهدي حين اجتمع به ، ووافقه على ذلك سيدي علي الخواص (٣).

والنتيجة : أن الإمام المهدي عليه‌السلام هو إمام هذا العصر على كلا المسلكين : مسلك الشيعة ومسلك أهل السنة.

وأما الإشكالات التي ذكروها في هذه المسألة المتعلّقة بطول عمره عليه‌السلام ، وبالفائدة منه حال غيبته وغير ذلك ، فقد أجاب عنها علماؤنا الأعلام في مصنفاتهم بما يقطع ألسن المخالفين ويخمد تشويش المشوشين ، والمقام لا يقتضي ذِكرها هنا ،فراجعها في مظانِّها(٤).

* * * * *

إذا اتضح كل ما تقدم نقول :

إن أهل السنة إما أن يردُّوا أقوال علمائهم ، ويُسقطوا اعتبار إجماعاتهم ، ويطرحوا حديث : « من مات وليس في عنقه بيعة » المروي في

__________________

(١) كشف الأستار ، ص ٨٩.

(٢) ذكر قصة لقائه بالإمام المهدي عليه‌السلام في جامع كرامات الأولياء ١ / ٤٠٠.

(٣) عن إسعاف الراغبين ، ص ١٥٤.

(٤) راجع إن شئت كتاب المهدي للسيد صدر الدين الصدر ، كشف الأستار للميرزا حسين النووي ، كتابنا دليل المتحيرين ، ص ٣٢٩ ـ ٣٣٩ وغيرها.

٢٣٤

صحيح مسلم وغيره ويرفضوه ، فيلزمهم إعادة النظر في كل إجماعاتهم والتحقق من صحة مستندها ، كما يلزمهم القول بأن صحيح مسلم فيه أحاديث باطلة.

وإما أن يَرَوا صحّة إجماعاتهم وصحّة أحاديث صحيح مسلم فيلزمهم حينئذ أمران :

الأول : أن يبحثوا عن إمام زمانهم الذي ثبتت إمامته عندهم في هذا العصر على جميع المسلمين ويبايعوه ، وإلا فهُم مقصِّرون في القيام بأهم الوظائف الشرعية والواجبات الدينية.

والثاني : أن يعتقدوا أن كل مَن كان على مذهب أهل السنة في هذا العصر وفي العصور المتأخرة التي لم يبايعوا فيها إماماً واحداً لهم ، كلهم ماتوا ميتة جاهلية ، وأنهم كانوا مخطئين بتركهم واجباً من أعظم الواجبات الدينية ، ووظيفة من أهم الوظائف الشرعية.

( وكذَّب به قومك وهو الحق ، قل لست عليكم بوكيل )

الأنعام : ٦٦

٢٣٥

( ٧ )

ما هي الفرقة الناجية؟

تمهيد :

لقد جاءت الأحاديث الصحيحة المروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذرة بافتراق الأمة إلى فِرَق كثيرة ، وتشعّبها إلى طوائف مختلفة ، كلها في النار إلا واحدة.

وقد وقع ما أخبر به الصادق الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فافترقت هذه الأمة إلى فِرَق كثيرة يكفِّر بعضها بعضاً ، ويستحل بعضها دم بعض.

وصارت كل فرقة تدَّعي أنها هي الفرقة المُحِقَّة ، وأن أتْبَاعها هم الناجون دون غيرهم من طوائف الأمة ، وغدت كل طائفة تنافح في إثبات ذلك بكل ما أُوتيت من جهد وقوة ، فاختُلقَت الأحاديث الكثيرة التي تنتصر بها كل فرقة على غيرها من الفِرَق ، وأُلِّفَت كثير من الكتب المملوءة بالأحاديث الموضوعة المكذوبة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وصارت كل فرقة تحتج على غيرها بأقوال تنسبها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فزادت الفتنة ، وعظمت المحنة ، وخفي الحق ، وانتشر الباطل ، وصار الناس في ظلمة عمياء ، إذا أخرج المرء فيها يده لم يكد يراها.

إلا أن الحق لا تختفي أنواره ، ولا تندثر آثاره ، فأعلامه لائحه ، ودلائله واضحة ، فإن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة تصدح بالحق وتصدع بالهدى ، إلا أن مبتغي الحق يلزمه ألا يتعصّب للمخلوقين ، وأن يجانب هواه ، وأن يفر من عبادة السادة والكبراء ، وينأى عن تقليد الأجداد والآباء.

٢٣٦

فإنه إن تجرّد من كل ذلك ، وتمسَّك بآيات الكتب العزيز وبالآثار الصحيحة المروية عن سيد الأنام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أدرك الحق ووصل إليه ، ونال مبتغاه ، وحصل على ما يتمنَّاه ، فإن الوصول إلى الحق هو غاية الغايات ومنتهى الطلبات ، وهو منية كل طالب ، ورغبة كل راغب.

فاللازم إذن هو معرفة الفرقة الناجية والطائفة المحِقَّة من كل تلك الطوائف ، فما هي هذه الفرقة؟

إن المباحث الآتية ستتكفّل ببيان جواب هذا السؤال ، ونحن قد مهَّدنا لمعرفة الفرقة الناجية بالأبحاث المتقدمة ، وسنحيل القارئ الكريم إلى ما سبق بيانه فيما مرَّ كلما دعت الحاجة إلى ذلك ، فبه سبحانه نستعين فنقول :

أحاديث اختلاف الأمة :

أحاديث افتراق الأمة وردت في كتب الحديث بطرق كثيرة ، رواها جمع كبير من أعلام أهل السنة في كتبهم : كالترمذي وأبي داود وابن ماجة وأحمد والحاكم والهيثمي وابن حجر والذهبي والسيوطي وغيرهم.

وصحّحها كثير من حفاظ الحديث عند أهل السنة كما سنبيّنه قريباً إن شاء الله تعالى.

ورواها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طائفة من الصحابة : كأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وأبي هريرة ، وابن عباس ، وابن عمر ، وعبد الله بن عمرو ، ومعاوية ، وسعدبن أبي وقاص ، وغيرهم.

وجاءت بألفاظ مختلفة ، إلا أنها كلها تؤدي معنى واحداً ، وإليك بعضاً منها :

بعض ألفاظ الحديث :

١ ـ أخرج الترمذي ـ واللفظ له ـ وأبو داود وابن ماجة والحاكم وأحمدبن حنبل والدارمي وابن حبان وابن أبي عاصم والسيوطي وغيرهم ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تفرّقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ،

٢٣٧

أو اثنتين وسبعين فرقة ، والنصارى مثل ذلك ، وتفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة (١).

٢ ـ وأخرج الترمذي والحاكم وغيرهما عن عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل ، حتى إن كان منهم مَن أتى أُمَّه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك ، وإن بني إسرائيل تفرَّقت على اثنتين وسبعين ملّة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملّة ، كلهم في النار إلا ملّة واحدة. قالوا : ومن هي يا رسول الله؟ قال : ما أنا عليه وأصحابي (٢).

وعند الحاكم : قال : ما أنا عليه اليوم وأصحابي.

٣ ـ وأخرج أبو داود وابن ماجة وأحمد والهيثمي وابن أبي عاصم والسيوطي وابن حجر والتبريزي والألباني وغيرهم عن معاوية وغيره ، قال : ألا إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قام فينا فقال : ألا إن مَن قبلكم مِن أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملّة ، وإن هذه الملّة ستفترق على ثلاث وسبعين : ثنتان وسبعون في النار ، وواحدة في الجنة ، وهي الجماعة (٣).

__________________

(١) سنن الترمذي ٥ / ٢٥ ح ٢٦٤٠ قال الترمذي : حديث حسن صحيح. سنن أبي داود ٤ / ١٩٧ ح ٤٥٩٦. صحيح سنن أبي داود ٣ / ٨٦٩ ح ٣٨٤٢. سنن ابن ماجة ٢ / ١٣٢١ ح ٣٩٩١. صحيح سنن ابن ماجة ٢ / ٣٦٤ ح ٣٢٢٥. سنن الدارمي ٢ / ٦٩٠ ح ٢٤٢٣. مسند أحمد بن حنبل ٢ / ٣٣٢ ، ٣ / ١٢٠. المستدرك ١ / ٦ ، ١٢٨. الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ٨ / ٢٥٨ ح ٦٦٩٦. كتاب السنة ١ / ٣٣ ح ٦٦. السنن الكبرى ١٠ / ٢٠٨. الجامع الصغير ١ / ١٨٤ ح ١٢٢٣. صحيح الجامع الصغير ١ / ٢٤٥ ح ١٠٨٢ ، ١٠٨٣. سلسلة الأحاديث الصحيحة ١ / ٣٥٦ ح ٢٠٣.

(٢) سنن الترمذي ٥ / ٢٦ ح ٢٦٤١. شرح السنة ١ / ٢١٣. مشكاة المصابيح ١ / ٦١ ح ١٧١. المستدرك ١ / ١٢٨.

(٣) سنن أبي داود ٤ / ١٩٨ ح ٤٥٩٧. صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود

٢٣٨

إلى غير ذلك من الأحاديث المتقاربة في اللفظ والمعنى مع ما ذكرناه.

كل حزب بما لديهم فرحون :

لقد ادَّعت كل طائفة أنها هي الفرقة الناجية دون غيرها ، فكثر الأخذ والرد بين علماء الطوائف ، وساقت كل طائفة ما عندها من الأدلة.

ومن المعلوم أنه لا يمكن قبول كلام كل الطوائف في هذه المسألة ، لأنه يستلزم تكذيب الأحاديث الصحيحة السابقة التي نصَّت على أن الناجية هي واحدة من كل الفِرق ، ثم إن اعتقاد ذلك يؤدي إلى الوقوع في اعتقاد المتناقضات ، فنعتقد أن أهل السنة هم الناجون دون غيرهم ، والمعتزلة والخوارج والشيعة وغيرهم كذلك ، وهذا واضح الفساد.

وعليه ، فلا بد من النظر في الأدلة وتمحيصها ، والأخذ بالحُجج القطعية ، وطرح الادعاءات الواهية التي لا تستند إلى شيء ، فإنها لا قيمة لها ولا فائدة فيها.

ولنضرب أنموذجين لبعض استدلالات أهل السنة على أنهم هم الفرقة الناجية ، ليرى القارئ العزيز كيف تمسّك بعضهم بما لا ينفع ، وتشبّث بما لا يفيد :

الأول : ما ذكره الإيجي في المواقف ، حيث قال : وأما الفرقة المستثناة الذين قال فيهم : « هم الذين على ما أنا عليه وأصحابي » ، فهم الأشاعرةوالسلف من المحدّثين وأهل السنة والجماعة ، ومذهبهم خال من بِدَع هؤلاء ...

__________________

٣ / ٣٨٤٣ ، سنن ابن ماجة ٢ / ١٣٢٢ ح ٣٩٩٢ ، ٣٩٩٣ صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ٢ / ٣٦٤ ح ٣٢٢٦ ، ٣٢٢٧. مسند أحمد بن حنبل ٣ / ١٤٥ ، مجمع الزوائد ٧ / ٢٥٨. كتاب السنة ١ / ٣٣ ح ٦٥. مشكاة المصابيح ١ / ٦١ ح ١٧٢. الدر المنثور ٢ / ٢٨٦ في تفسير ٣ : ١٠٣. المطالب العالية ٣ / ٨٧ ح ٢٩٥٦. الجامع الصغير ١ / ٥١٦ ح ٢٦٤١. سلسلة الأحاديث الصحيحة ١ / ٣٥٨ ح ٢٠٤ ، ٣ / ٤٨٠ ح ١٤٩٢.

٢٣٩

ثم ساق عقائد أهل السنة (١).

وهذا الدليل كما ترى ركيك ضعيف ، فإن كل الفِرَق تدّعي أنها على ما كان عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ، وأن مذاهبهم خالية من البِدَع.

هذا مع أننا ذكرنا في ما تقدَّم كثيراً من البِدَع التي اتَّبع فيها أهل السنة خلفاءهم ، وقد فصَّلنا ذلك في الفصل الخامس ، فراجعه. ثم إن الأشاعرة وأهل السنة وأهل الحديث الذين ذكر أنهم هم الناجون هم أكثر من فرقة (٢).

والعجيب أن الإيجي نفسه ذكر الأشعرية من ضمن الفِرَق الضالة قبل هذا الكلام بصفحة ، فإنه قال أولاً : اعلم أن كبار الفِرَق الإسلامية ثمانية : المعتزلة ، والشيعة ، والخوارج ، والمرجئة ، والنجارية ، والجبرية ، والمشبِّهة ، والناجية (٣).

ثم قال : الفرقة السادسة : الجبرية ، والجبر إسناد فعل العبد إلى الله ، والجبرية متوسّطة تثبت للعبد كسباً كالأشعرية ، وخالصة لا تثبته كالجهمية ... (٤)

ثم قال : فهذه هي الفرق الضالّة الذين قال فيهم رسول الله : كلّهم في النار.

__________________

(١) المواقف ، ص ٤٢٩ ـ ٤٣٠.

(٢) قال السفاريني في لوامع الأنوار البهية ١ / ٧٣ : أهل السنة والجماعة ثلاث فرق : الأثرية وإمامهم أحمد بن حنبل ، والأشعرية وإمامهم أبو الحسن الأشعري ، والماتريدية وإمامهم أبو منصور الماتريدي. ثم قال في ص ٧٦ : قال بعض العلماء : هم يعني الفرقة الناجية أهل الحديث : يعني الأثرية ، والأشعرية والماتريدية. وعقب بما حاصلة : أن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( إلا فرقة واحدة ) ينافي التعدد ، فالفرقة الناجية هم الأثرية فقط أتباع أحمد بن حنبل ، دون الأشعرية والماتريدية.

(٣) المصدر السابق ، ص ٤١٤.

(٤) المواقف ، ص ٤٢٨.

٢٤٠