مسائل خلافية حار فيها أهل السنة

الشيخ علي آل محسن

مسائل خلافية حار فيها أهل السنة

المؤلف:

الشيخ علي آل محسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الميزان
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٤

سنين من الوفاة أو الطلاق ، لحقه الولد ، وانقضت العدة به (١).

٣ ـ بعض فتاوى الشافعي :

١ ـ أفتى الشافعي بحِلِّية الزواج من بنته من الزنا ، ومن أخته وبنت ابنه ، وبنت بنته ، وبنت أخيه وأخته من الزنا ، مستدلاً بنفس دليل الإمام مالك في هذه المسألة كما مرّ آنفاً (٢).

وهذه المسألة ذكرها الفخر الرازي في مناقب الشافعي مسلِّماً بها ومدافعاً فيها عنه (٣).

وإليها أشار الزمخشري في الأبيات المتقدمة بقوله :

فإن شافعيّاً قلتُ قالوا بأنني

أبيحُ نكاحَ البنتِ والبنتُ تحرُمُ

٢ ـ وأفتى بحليّة الذبيحة التي لم يُذكر اسم الله عليها ، لأن التسمية مستحبة عنده غير واجبة ، لا في عمد ولا في سهو (٤) ، وهذا القول مروي أيضاً عن أحمد بن حنبل ، مع أن الله تعالى يقول ( ولا تأكلوا مما لم يُذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) (٥).

٤ ـ بعض فتاوى أحمد بن حنبل :

١ ـ إذا ادَّعى اثنان ولداً فإن لم يكن لأحدهما بيِّنة ، أو كان لكل منهما بيِّنة تعارض الأخرى ، فهنا يُعرض على القافة (٦) ، فإن ألحقه القافة بأحدهما

__________________

(١) المحلى ١٠ / ١٣٢.

(٢) المغني لابن قدامة ٧ / ٤٨٥.

(٣) مناقب الإمام الشافعي ، ص ٥٣٢.

(٤) المغني لابن قدامة ١١ / ٣٤. المحلى ٦ / ٨٧. وذكر الفخر الرازي هذا المسألة في مناقب الإمام الشافعي ، ص ٥٣٥ وانتصر للشافعي فيها.

(٥) سورة الانعام ، الآية ١٢١.

(٦) القافة : جمع قائف ، وهو من يزعم فيه أنه يعرف النسب بفراسته ونظره إلى أعضاء المولود.

٢٠١

لحق به ، وإن ألحقوه بالاثنين لحق بهما ، فيرثانه جميعاً ميراث أب واحد ، ويرثهما ميراث ابن (١). وكذا لو ادَّعاه أكثر من اثنين ، فألحقه القافة بهم (٢).

قلت : بهذه الفتوى يكون له أبوان أو ثلاثة آباء أو أكثر ، مع أن المقطوع به أنه ابن لواحد فقط ، ثم إن مسألة الميراث الأمر فيها سهل ، ولكن إلى مَن ينتسب هذا المولود ، فإن الانتساب إلى أكثر من واحد لا يتأتى.

قال ابن حزم : لا يجوز أن يكون ولد واحد ابن رجلين ، ولا ابن امرأتين (٣).

٢ ـ ذهب الأمام أحمد إلى أن أقصى مدة الحمل أربع سنين ، فلو طلَّق الرجل امرأته أو مات عنها ، فلم تنكح زوجاً آخر ، ثم جاءت بولد بعد أربع سنين من الوفاة أو الطلاق ، لحقه الولد ، وانقضت العدة به (٤).

٥ ـ فتاوى مختلفة لعلماء آخرين :

١ ـ أفتى ابن حزم وداود الظاهري بأن الرجل الكبير البالغ له أن يرتضع من امرأة فيكون ابنها من الرضاعة ، فيحل له بعد ذلك ما يحل لابنها من الرضاعة ، وهذا الحكم يثبت له وإن كان المرتضع شيخاً. وهذا هو مذهب عائشة (٥) ، وسنذكر قريباً بعض الأحاديث في ذلك.

٢ ـ وذهب الزهري إلى أن الجنين قد يبقى في بطن أمة سبع سنين ، وقال أبو عبيد : ليس لأقصاه وقت يُوقف عليه (٦).

٣ ـ وأفتى المالكيون بحلية أكل لحوم السباع ، ومن ضمنها الكلاب

__________________

(١) المغني لابن قدامة ٦ / ٤٣٠.

(٢) المصدر السابق ٦ / ٤٣٢.

(٣) المحلى ٩ / ٣٣٩.

(٤) المغني لابن قدامة ٩ / ١١٧.

(٥) المحلى ١٠ / ٢٠٢. وراجع بداية المجتهد ٢ / ٣٦.

(٦) المغني لابن قدامة ٩ / ١١٧.

٢٠٢

والسنانير.

قال ابن حزم في معرض الرَّد عليهم : ثم قد شهدوا على أنفسهم بإضاعة المال والمعصية في ذلك ، إذ تركوا الكلاب والسنانير تموت على المزابل وفي الدُّور ، ولا يذبحونها فيأكلونها ، إذ هي حلال ، ولو أن امرءاً فعل هذا بغنمه وبقره لكان عاصياً لله تعالى بإضاعة ماله (١).

٤ ـ وأفتى محمد بن الحسن الشيباني ـ تلميذ أبي حنيفة ـ بأن ما أسكر كثيرُه مما عدا الخمر مكروه وليس بحرام (٢).

٥ ـ وأفتى عطاء ومجاهد ومكحول والأوزاعي والليث بأنه لو ذبح النصارى لكنائسهم أو ذبحوا على اسم المسيح أو الصليب ، أو أسماء من مضى من أحبارهم ورهبانهم فذبيحتهم لا يحرم الأكل منها (٣).

٦ ـ وأفتى ابن حزم بجواز الاستمناء ، ونقل الفتوى بذلك عن الحسن البصري وعمرو بن دينار وزياد بن أبي العلاء ومجاهد (٤).

٧ ـ قال ابن حزم : أباح الأحناف لمن طالت يده من الفسَّاق أو قصُرت أن يأتي إلى زوج أي امرأة عشقها ، فيضربه بالسوط على ظهره حتى ينطق بطلاقها مكرهاً ، فإذا اعتدَّت المرأة أكرهها الفاسق على أن تتزوّجه بالسياط أيضاً ، حتى تنطق بالقبول مكرهة ، فيكون ذلك عندهم نكاحاً طيّباً ، وزواجاً مباركاً ، ووطءً حلالاً ، يُتقرَّب به إلى الله تعالى (٥).

٨ ـ وأفتى ابن تيمية أن إنشاء السفر لزيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير جائز ، ويعد معصية. وقد وصف زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنها غير واجبة باتفاق المسلمين ، بل ولم

__________________

(١) المحلى ٦ / ٧٠.

(٢) المحلى ٦ / ١٩٤.

(٣) اقتضاء الصراط المستقيم ، ص ٢٥٤.

(٤) المحلى ١٢ / ٤٠٧ ـ ٤٠٨.

(٥) المصدر السابق ١٢ / ٤١٧.

٢٠٣

يشرع السفر إليها ، بل هو منهي عنه (١).

٩ ـ وأفتى محمد بن إسماعيل البخاري صاحب الصحيح بأن لبن البهيمة ينشر الحرمة ، فلو شرب اثنان أو أكثر من لبن شاة واحدة صاروا إخوة أو أخوات من الرضاعة.

قال السرخسي في المبسوط : ولو أن صبيّين شربا من لبن شاة أو بقرة لم تثبت به حرمة الرضاع ، لأن الرضاع معتبر بالنسب ، وكما لا يتحقق النسب بين آدمي وبين البهائم فكذلك لا تثبت حرمة الرضاع بشرب لبن البهائم. وكان محمد بن إسماعيل البخاري صاحب التاريخ رضي‌الله‌عنه يقول : تثبت الحرمة. وهذه المسألة كانت سبب إخراجه من بخارا ، فإنه قدم بخارا في زمن أبي حفص الكبير رحمه‌الله ، وجعل يفتي فنهاه أبو حفص رحمه‌الله ، وقال : لست بأهل له. فلم ينته ، حتى سُئل عن هذه المسألة فأفتى بالحرمة ، فاجتمع الناس وأخرجوه (٢).

أحاديث عجيبة عند أهل السنة :

الأحاديث الصحيحة التي تثير الدهشة عند أهل السُّنّة كثيرة جداُ ، واستقصاؤها يستدعي الإطالة ، ونحن نكتفي بذكر خمسة أحاديث صحيحة عجيبة :

١ ـ إرضاع الكبير (٣) : أخرج مسلم في صحيحه ـ واللفظ له ـ ، وأبو داود

__________________

(١) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ، ص ٧٣. اقتضاء الصراط المستقيم ، ص ٤٣٠.

(٢) المبسوط ٣٠ / ٢٩٧ ، ١ / ١٣٩.

(٣) حاصل هذه الواقعة أن أبا حذيفة كان قد تبنى سالم المعروف بسالم مولى أبي حذيفة ، فلما نزل قوله تعالى ( ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ) جاءت سهلة بنت سهيل زوجة أبي حذيفة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : يارسول الله ، كنا نرى سالماً ولداً ، وكان يدخل علي وأنا فضل ( أي مكشوفة غير متحجبة ). وإني أرى في وجه حذيفة من دخول سالم. فقال لها : أرضعيه خمس رضعات.

٢٠٤

والنسائي وابن ماجة والدارمي والبيهقي في سننهم ، ومالك في الموطأ ، وأحمد في المسند والطبراني في الكبير وغيرهم ، عن عائشة ، قالت : جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : يا رسول الله ، إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم ( وهو حليفه ). فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أرضعيه. فقالت : وكيف أرضعه وهو رجل كبير؟! فتبسّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : قد علمت أنه رجل كبير (١).

وفي رواية أخرى : فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أرضعيه تحرمي عليه ، ويذهب الذي في نفس أبي حذيفة. فرجَعَتْ فقالت : إني قد أرضعته ، فذهب الذي في نفس أبي حذيفة (٢).

وفي رواية ثالثة : قالت : إنه ذو لحية. فقال : أرضعيه يذهب ما في وجه أبي حذيفة (٣).

وعند أبي داود : فأرضعته خمس رضعات ، فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة.

وعند النسائي : فأرضعته وهو رجل.

٢ ـ وضع مشين يُنزَّه عنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أخرج البخاري ومسلم في

__________________

(١) صحيح مسلم ٢ / ١٠٧٦ الرضاع ، ب٧ ح ١٤٥٣ ( ستة أحاديث ). سنن أبي داود ٢ / ٢٢٣ ح ٢٠٦١. صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود ٢ / ٣٨٨ ح ١٨١٥. سنن النسائي ٦ / ٤١٣ ـ ٤١٥ ح ٣٣١٩ ـ ٣٣٢٥. صححه الألباني في صحيح سنن النسائي ٢ / ٦٩٨ ح ٣١١٢ ـ ٣١١٨. سنن ابن ماجة ١ / ٦٢٥ ح ١٩٤٣. صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ١ / ٣٢٨ ح ١٥٧٩. سنن الدارمي ٢ / ١٥٨. الموطأ ، ص ٣٢٣ ح ١٢٨٤. مسند أحمد بن حنبل ٦ / ٢٠١ ، ٢٥٥ ، ٢٧١. السنن الكبرى ٧ / ٤٥٩ ، ٤٦٠. المعجم الكبير للطبراني ٢٤ / ٢٨٩ ـ ٢٩٢ ح ٧٣٧ ـ ٧٤٢.

(٢) صحيح مسلم ٢ / ١٠٧٦ الرضاع ، ب٧ ١٤٥٣.

(٣) المصدر السابق ٢ / ١٠٧٨ الرضاع ، ب٧ ١٤٥٣.

٢٠٥

صحيحيهما ، والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة والدارمي في سننهم ، ومالك في الموطأ ، وأحمد في المسند وغيرهم عن عبد الله بن عمر ، قال : ارتقيتُ فوق ظهر بيت حفصة لبعض حاجتي ، فرأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقضي حاجته ، مستدبر القبلة ، مستقبل الشام (١).

وفي رواية أخرى : فرأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على لبنتين ، مستقبلاً بيت المقدس لحاجته (٢).

وفي رواية عند الترمذي : عن جابر قال : نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن نستقبل القبلة ببول ، فرأيته قبل أن يُقْبَض بعام يستقبلها (٣).

٣ ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلميبول قائماً : أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما ، والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة والدارمي في سُننهم ، وأحمد في المسند وغيرهم عن حذيفة ، قال : أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سُباطة قوم ، فبال قائماً ، ثم دعا بماء ، فجئته بماء فتوضّأ (٤).

__________________

(١) صحيح البخاري ١ / ٧٥ الوضوء ، ب١٤ ، ح ١٤٨ ، ١٤٩. صحيح مسلم ١ / ٢٢٥ الطهارة ، ب١٧ ح ٢٢٦. سنن الترمذي ١ / ١٦ ح ١١. وقال : هذا حديث حسن صحيح. مسلم أحمد بن حنبل ٦ / ٢٧٦ ، ح ٤٦٠٦ ، ٤٦١٧ ( ط شاكر ).

(٢) صحيح البخاري ١ / ٧٤ الوضوء ، ب١٢ ، ح ١٤٥. صحيح مسلم ١ / ٢٢٤ الطهارة ، ب١٧ ح ٢٦٦. سنن أبي داود ١ / ٤ ح ١٢. صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود ١ / ٥ ح ٩. سنن النسائي ١ / ٢٨ ح ٢٣. صححه الألباني في صحيح سنن النسائي ١ / ٧ ح ٢٣. سنن ابن ماجة ١ / ١١٦ ح ٣٢٢. صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ١ / ٥٨ ح ٢٦٠. سنن الدارمي ١ / ١٧١. مسند أحمد بن حنبل ٧ / ٨٤ ح ٤٩٩١ ( ط شاكر ).

(٣) سنن الترمذي ١ / ١٥ ح ٩.

(٤) صحيح البخاري ١ / ٢٢٤ الوضوء ، ب٦٠ ـ ٦٢ ، ح ٢٢٤ ـ ٢٢٦ ، ٢ / ٧٤٢ المظالم ، ب٢٧ ح ٢٤٧١. صحيح مسلم ١ / ٢٢٨ الطهارة ، ب٢٢ ح ٢٧٣. سنن الترمذي ١ / ١٩ ح ١٣. سنن أبي داود ١ / ٦ ح ٢٣. صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود ١ / ٨

٢٠٦

هذا مع أنهم رَوَوا عن عائشة أنها قالت : مَن حدَّثكم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بال قائماً فلا تصدِّقوه ، ما كان يبول إلا جالساً (١).

٤ ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمقدَّم لغيره طعاماً ذُبح على الأنصاب : أخرج البخاري في صحيحه ، وأحمد في المسند وغيرهما عن سالم أنه سمع عبد الله يحدّث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بَلْدَح ، وذاك قبل أن يُنَزَّل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوحي ، فقدَّم إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سفرة فيها لحم ، فأبى أن يأكل منها ، وقال : إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم ، ولا آكل إلا مما ذُكر اسم الله عليه (٢).

٥ ـ أن النبي أبدى عورته أمام الناس : أخرج البخاري ومسلم ـ واللفظ له ـ عن جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه إزاره ، فقال له العباس عمُّه : يا ابن أخي ، لو حللتَ إزارك فجعلته

__________________

ح ١٨. سنن النسائي ١ / ٢٥ ، ٣١ ح ١٨ ، ٢٦ ـ ٢٨. صححه الألباني في صحيح سنن النسائي ١ / ٧ ، ٨ ح ٢٦ ـ ٢٨. سنن ابن ماجة ١ / ١١١ ح ٣٠٥ ، ٣٠٦. سنن الدارمي ١ / ١٧١. مسند أحمد بن حنبل ٢٣ / ٥٤٦ ، ٥٤٩ ، ٥٥٠ ، ٥٩٣ ، ٦١٦ ، ٦١٨ ، ح ٢٣٣٤٨ ، ٢٣٣٥٣ ، ٢٣٣٥٥ ، ٢٣٤٥٢ ، ٢٣٥٢١ ، ٢٣٥٢٩.

(١) سنن الترمذي ١ / ١٧ ح ١٢ ، قال الترمذي : حديث عائشة أحسن شيء في الباب وأصح. سنن النسائي ١ / ٣١ ح ٢٩. صححه الألباني في صحيح سنن النسائي ١ / ٨ ح ٢٩. سنن ابن ماجة ١ / ١١٢ ح ٣٠٧ ، صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة١ / ٥٦ ح ٢٤٩. سلسلة الاحاديث الصحيحة ١ / ٣٤٥ ح ٢٠١ ، إرواء الغليل ١ / ٩٥. مسند أبي داود الطيالسي ، ص ٢١١ ح ١٥١٥. مسند أحمد بن حنبل ٦ / ١٣٦ ، ١٩٢ ، ٢١٣. المستدرك ١ / ١٨١ وصححه على شرط الشيخين. السنن الكبرى ١ / ١٠١. مسند أبي عوانة ١ / ١٩٨.

(٢) صحيح البخاري ٧ / ١١٨ الذبائح والصيد ، باب ما ذبح على النصب والأصنام ، ٣ / ١١٧٠ ح ٣٨٢٦ ، ٤ / ١٧٧٠ ح ٥٤٩٩. مسند أحمد بن حنبل ٧ / ١٩٦ ح ٥٣٦٩. ٨ / ٢٧ ، ٢٣٤ ح ٥٦٣١ ، ٦١١١.

٢٠٧

قال : فما رؤي بعد ذلك اليوم عرياناً (١).

وأخرج الترمذي عن عائشة قالت : قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيتي ، فأتاه فقرع الباب ، فقام إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرياناً يجر ثوبه ، والله ما رأيته عرياناً قبله ولا بعده ، فاعتنقه وقبَّله (٢).

إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي لا يسعها المقام ، فراجع إن شئت ما كتبناه في كتابنا ( كشف الحقائق ) ، ففيه المزيد.

أسباب ضياع الشريعة عند أهل السنة :

إن الأسباب الداعية إلى ضياع الأحكام وتحريفها كثيرة ، وحيث أن المقام لا يستدعي بسط الكلام في هذه المسألة ، فإننا سنذكر أمرين مهمّين كان لهما بالغ الأثر في حصول ذلك :

الأمر الأول : عدم اتِّباع أهل البيت عليهم‌السلام والتمسّك بهم.

وقد تقدّم مفصَّلا بيان أن التمسك بأهل البيت عليهم‌السلام سبب للنجاة من الضلال والأمن من الوقوع في الهلكات في الفصل الثالث. وبما أن أهل السنة أعرضوا عنهم عليهم‌السلام واتّبعوا غيرهم ، فإن النتيجة التي لا مفرّ منها هي الوقوع في الضلال ، الذي يتمثّل في ضياع الأحكام وتحريف الشريعة المقدسة.

الأمر الثاني : اتّباع كل مَن هبَّ ودَرَجَ من الصحابة.

فإن أهل السنّة لما قالوا بعدالة كل الصحابة وقداستهم ، ورأوا أن كل مَن رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو ثقة عدْل ، تؤخذ منه أحكام الدين وشرائع الإسلام ،

__________________

(١) صحيح مسلم ١ / ٢٦٨ كتاب الحيض ، باب الاعتناء بحفظ العورة. صحيح البخاري ٥ / ٥١ كتاب فضائل أصحاب النبي ، باب بنيان الكعبة. مسند أحمد بن حنبل ٣ / ٢٩٥ ، ٣ / ٣١٠ ، ٣ / ٣٣٣ ، ٣ / ٣٨٠. ٢٣ / ٣٠ ، ١٤٦ ، ٥٥١ ، ح ١٤١٨٠ ، ١٤٣٧٣ ، ١٥١١١.

(٢) سنن الترمذي ٥ / ٧٦ ح ٢٧٣٢ قال الترمذي : هذا حديث حسن.

٢٠٨

وإن كان من المنافقين والطلقاء والأعراب والأجلاف وأعداء أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فحينئذ من الطبيعي أن تُختلق الأحاديث وتتبدّل الأحكام ، سواء كان ذلك بعمد وقصد ، أم كان بغفلة وجهل.

هذا وقد سُئل أمير المؤمنين عليهم‌السلام عما في أيدي الناس من الأحاديث فقال عليهم‌السلام:

إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً ، وصدقاً وكذباً ، وناسخاً ومنسوخاً وعاماً وخاصاً ، ومحكماً ومتشابهاً ، وحفظاً ووهماً. وقد كُذِب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عهده حتى قام خطيباً ، فقال : « مَن كذب عليَّ متعمّداً فليتبوّأ مقامه من النار » ، وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ، ليس لهم خامس :

رجل منافق مُظهِر للإيمان ، متصنِّع بالإسلام ، لا يتأثَّم ولا يتحرَّج ، يكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متعمّداً ، فلو علِم الناس أنه منافق كاذب لم يقبلوا منه ، ولم يصدِّقوا قوله ، ولكنهم قالوا : صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، رآه وسمع منه ، ولَقِف عنه ، فيأخذون بقوله ، وقد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك ، ووصَفهم بما وصفهم به لك ، ثم بقوا بعده ، فتقرَّبوا إلى أئمة الضلال والدعاة إلى النار بالزور والبهتان ، فولَّوهم الأعمال ، وجعلوهم حُكَّاماً على رقاب الناس ، فأكلوا بهم الدنيا ، وإنما الناس مع الملوك والدنيا ، إلا من عصم الله ، فهذا أحد الأربعة.

ورجل سمع من رسول الله شيئاً لم يحفظه على وجهه ، فوَهِمَ فيه ، ولم يتعمَّد كذباً ، فهو في يديه ، ويرويه ويعمل به ، ويقول : أنا سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلو علم المسلمون أنه وَهِمَ فيه لم يقبلوه منه ، ولو علم هو أنه كذلك لرفضه.

ورجل ثالث سمع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأمر به ، ثم إنه نهى عنه وهو لا يعلم ، أو سمعه ينهى عن شيء ، ثم أمر به وهو لا يعلم ، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ ، فلو علم أنه منسوخ لَرَفَضَه ، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه

٢٠٩

أنه منسوخ لرفضوه.

وآخر رابع لم يكذب على الله ولا على رسوله ، مبغض للكذب خوفاً من الله ، وتعظيماً لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لم يَهِم ، بل حفظ ما سمع على وجهه ، فجاء به على ما سمعه ، لم يزد فيه ولم ينقص منه ، فهو حفظ الناسخ فعمل به ، وحفظ المنسوخ فجنَّب عنه ، وعرف الخاص والعام والمحكم والمتشابه ، فوضع كل شيء موضعه ، وقد كان يكون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكلام له وجهان ، فكلام خاص وكلام عام ، فيسمعه مَن لا يعرف ما عنى الله سبحانه به ، ولا ما عنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيحمله السامع ويوجِّهه على غير معرفة بمعناه وما قُصِد به ، وما خرج من أجله ، وليس كل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مَن كان يسأله ويستفهمه ، حتى إن كانوا ليحبّون أن يجيء الأعرابي والطارئ فيسأله عليه‌السلام حتى يسمعوا ، وكان لا يمرّ بي من ذلك شيء إلا سألته عنه وحفظته. فهذه وجوه ما عليه الناس في اختلافهم وعِلَلِهم في رواياتهم (١).

أقـول : بهذا كله يُعلَّل اختلاف الحديث عند أهل السنة ، وما تبع ذلك من اختلاف فتاواهم في أكثر الفروع الفقهية ، حتى صار كل مذهب يحتج على ما ذهب إليه بأحاديث يرويها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى المسائل التي كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكرِّرها كل يوم أمام الناس مرات ومرات كالوضوء والصلاة وغيرهما ولم تسلم أيضاً من الخلاف والاختلاف.

* * * * *

خلاصة البحث :

لقد اتضح من كل ما تقدَّم أن أهل السنة لم يبق عندهم شيء من أحكام الدين مما كان على زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا حُرِّف وبُدِّل ، حتى الصلاة لم تسلم من التغيير والتحريف كما نصَّت عليه الأحاديث الصحيحة عندهم ،

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٣ / ١٣. ط محققة ١١ / ٣٨.

٢١٠

وكما شهد به مَن أدرك الحوادث من صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فلينظر أهل السنة ـ هداهم الله ـ بعد هذا بمَ يأخذون ، وأي مسلك يسلكون ، وأي نهج ينهجون ، فإن السُّبُل واضحة ، والأمور منكشفة ، وسُفُن النجاة معلومة ، فلا يغرَّنهم الشيطان ، ولا يأخذنَّهم التعصب ، ويستحوذ عليهم العناد ، فإنهم يوم القيامة مسؤولون ، وعلى أعمالهم محاسَبون ، فليبادروا إلى التمسّك بأهل البيت عليهم‌السلام الذين أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأتباعهم ، قبل فوات الفوت وحلول الموت.

( وإذا قيل لهم اتّبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتّبع ما وجدنا عليه
آباءنا أوَلَوا كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير
).

سورة لقمان : ٢١.

٢١١

(٦)

مَن هو إمام المسلمين في هذا العصر؟

تمهيد :

إن مسألة معرفة إمام العصر من المسائل المهمة التي تترتب عليها أعظم المصالح الدينية والدنيوية ، وتُؤدَّى بها أهم الوظائف الشرعية ، وقد وردت فيها أحاديث صحيحة مشتملة على التحذير الشديد ، وتصف من مات جاهلاً بها بأن ميتته جاهلية.

مضافاً إلى أن علماء أهل السنة قد أكَّدوا في مصنفاتهم على أن نصب الإمام في كل عصر واجب على المسلمين كافة ، بل جعلوه من أعظم الواجبات الدينية التي لا يسع المسلمين تركها أو التهاون في المبادرة إليها.

قال الإيجي في المواقف : نصب الإمام عندنا واجب علينا سمعاً ...

وقال : انه تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على امتناع خلو الوقت عن إمام ، حتى قال أبو بكر رضي‌الله‌عنه في خطبته : « ألا إن محمداً قد مات ، ولا بد لهذا الدين ممن يقوم به » ، فبادر الكل إلى قبوله ، وتركوا له أهم الأشياء ، وهو دفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يزل الناس على ذلك في كل عصر إلى زماننا هذا من نصب إمام متَّبع في كل عصر ... (١).

وقال الماوردي : وعقدها ـ أي الإمامة ـ لمن يقوم بها في الأمَّة واجب

__________________

(١) المواقف ، ص ٣٩٥. والإيجي عاش بين سنة ٧٠٠ هـ وسنة ٧٥٦ هـ.

٢١٢

بالإجماع (١).

وقال ابن حجر : قال النووي : أجمعوا على أنه يجب نصب خليفة ، وعلى أن وجوبه بالشرع لا بالعقل (٢).

وقال التفتازاني : نصب الإمام واجب على الخلق سمعاً عندنا وعند عامة المعتزلة (٣).

وقال ابن حزم : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نص على وجوب الإمامة ، وأنه لا يحل بقاء ليلة دون بيعة (٤).

وقال : لا يحل لمسلم أن يبيت ليلتين ليس في عنقه لإمام بيعة (٥).

إلى غير ذلك مما يطول ذكره (٦).

ومع كل ذلك فإن أهل السنة بعد عصر الخلافة عندهم أطبقوا على ترك هذا الواجب ، بل تركوا الخوض في هذه المسألة وتجنبوا البحث فيها من قريب أو بعيد ، فلا نرى منهم اهتماماً بالبحث في هذا الأمر مع عظم أهميته ، حتى تركه من تعرض لشرح تلك الأحاديث وقابله بالإعراض والإهمال الشديدين (٧). ولعل السبب في ذلك خشية علماء أهل السنة من سخط حكّام

__________________

(١) الأحكام السلطانية ، ص ٢٩.

(٢) فتح الباري ١٣ / ١٧٦.

(٣) شرح المقاصد ٥ / ٢٣٥.

(٤) الفصل في الملل والأهواء والنحل ٤ / ١٦٩.

(٥) المحلى ٨ / ٤٢٠.

(٦) راجع إن شئت كلام ابن حزم في الفصل في الملل ٤ / ١٤٩ ، والبغدادي في الفرق بين الفرق ، ص ٣٤٩.

(٧) خذ مثالاً على ذلك الإمام النووي الذي شرح صحيح مسلم ، فإنه لم يعلق بحرف واحد على حديث ( من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ) ، راجع صحيح مسلم بشرح النووي ١٢ / ٢٤٠ ، مع أن النووي توفي سنة ٦٧٦ هـ بعد سقوط الخلافة

٢١٣

عصرهم إذا نفوا عنهم أهليتهم لإمامة المسلمين ، وخوفهم من العامة ، وحذرهم من تخطئة كل أهل السنة في ترك أمر مهم واجب لا ينبغي تركه.

والأحاديث المروية في هذه المسألة كثيرة ، وإليك بعضاً منها :

حديث من مات وليس في عنقه بيعة :

أخرج مسلم في صحيحه ، والبيهقي في السنن ، والهيثمي في مجمع الزوائد ، والتبريزي في مشكاة المصابيح ، والألباني في السلسلة الصحيحة وغيرهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : مَن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية (١).

وأخرج أحمد في المسند ، والهيثمي في مجمع الزوائد ، وأبو داود الطيالسي في مسنده ، وابن حبان في صحيحه ، وأبو نعيم في حليته ، والمتقي الهندي في كنز العمال وغيرهم ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : مَن مات بغير إمام مات ميتة جاهلية (٢).

وفي رواية أخرجها الهيثمي وابن أبي عاصم ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من مات وليس عليه إمام مات ميتة جاهلية (٣).

__________________

العباسية وتشتت بلاد المسلمين إلى دويلارت على كل دولة خليفة.

(١) صحيح مسلم ٣ / ١٤٧٨ كتاب الإمارة ، باب ١٣ ، ح ٥٨ ، السنن الكبرى ٨ / ١٥٦ ، مجمع الزوائد ٥ / ٢١٨ ، مشكاة المصابيح ٢ / ١٠٨٨ ح ٣٦٧٤ ، سلسلة الأحاديث الصحيحة ٢ / ٧١٥ ح ٩٨٤.

(٢) مسند أحمد ٤ / ٩٦ ، مجمع الزوائد ٥ / ٢١٨ ، مسند الطيالسي ، ص ٢٥٩ ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ٧ / ٤٩ ، حلية الأولياء ٣ / ٢٢٤ ، كنز العمال ١ / ١٠٣ ح ٤٦٤ ، ٦ / ٦٥ ح ١٤٨٦٣.

(٣) مجمع الزوائد ٥ / ٢٢٤ ، ٢٢٥ ، كتاب السنة ، ص ٤٨٩ ح ١٠٥٧ ، قال الألباني : إسناده حسن ورجاله ثقات ...

٢١٤

وفي رواية أخرى : من مات وليست عليه طاعة مات ميتة جاهلية (١).

تأملات في الحديث :

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من مات : فيه إشعار إلى أن بيعة إمام المسلمين الحق ينبغي المبادرة إليها وعدم إهمالها أو التهاون فيها خشية مباغتة الموت والوقوع في الهلاك.

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وليس في عنقه بيعة : أي ولم تكن بيعة ملازمة له لا تنفك عنه ، كما في قوله تعالى ( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ). فلا يجوز نقض بيعة إمام الحق ولا النكث عنها. ولأجل الدلالة على اللزوم لم يعبِّر بـ ( من مات ولم يبايع إماماً ... ).

والبيعة : هي المعاقدة والمعاهدة على السمع والطاعة ، ولعلها مأخوذة من البيع ، فكأن من بايع الإمام قد باع نفسه للإمام ، وأعطاه طاعته وسمعه ونصرته.

وعليه فلا تقع البيعة إلا مع الإمام الحاضر الحي ، دون الإمام الغابر الميت ، لأن الميت لا تتحقق معه المعاهدة ، واعتقاد إمامة الأئمة الماضين لا يستلزم تحقق البيعة لهم.

وقوله : لإمام : يدل على أنه لا يجوز مبايعة أكثر من إمام واحد في عصر واحد ، وهذا مما اتفقت عليه كلمة المسلمين ودلَّت عليه الأحاديث الصحيحة عند الفريقين.

فمما ورد من طرق أهل السنة ما أخرجه مسلم في صحيحه وغيره عن أبي سعيد الخدري أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما (٢).

__________________

(١) مسند أحمد ٣ / ٤٤٦ ، كنز العمال ٦ / ٦٥ ح ١٤٨٦١ ، كتاب السنة ، ص ٤٩٠ ح ١٠٥٨ ، المطالب العالية ٢ / ٢٢٨.

(٢) صحيح مسلم ٣ / ١٤٨٠ كتاب الإمارة ، باب ١٥ ح ٦١ ، السنن الكبرى ٨ / ١٤٤.

٢١٥

وعن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : … وستكون خلفاء فتكثر. قالوا : فما تأمرنا؟ قال : فوا ببيعة الأول فالأول (١).

قال النووي : في هذا الحديث معجزة ظاهرة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومعنى هذا الحديث : إذا بويع لخليفة بعد خليفة فبيعة الأول صحيحة يجب الوفاء بها ، وبيعة الثاني باطلة يحرم الوفاء بها ، وسواء عقدوا للثاني عالمين بعقد الأول [ أم ] جاهلين ، وسواء كانا في بلدين أو بلد ، أو أحدهما في بلد الإمام المنفصل والآخر في غيره ، هذا هو الصواب الذي عليه أصحابنا وجماهير العلماء ... واتفق العلماء على أنه لا يجوز أن يعقد لخليفتين في عصر واحد ، سواء اتسعت دار الإسلام أم لا (٢).

وقال البغدادي : وقالوا ـ أي أهل السنة ـ : لا تصح الإمامة إلا لواحد في جميع أرض الإسلام (٣).

ونصَّ على ذلك أيضاً ابن حزم (٤) والماوردي (٥) والتفتازاني (٦) وغيرهم.

وقوله : مات ميتة جاهلية : ميتة على وزن فِعْلة ، وهو اسم هيئة ، والمعنى : مات كميتة أهل الجاهلية.

قال النووي : أي على صفة موتهم من حيث هي فوضى لا إمام لهم (٧).

أقول : لعل تشبيه موت من ترك بيعة إمام الزمان بميتة أهل الجاهلية من حيث أن ترك تلك البيعة يستلزم ترك متابعة إمام الحق ، ويؤدي إلى متابعة أئمة

__________________

(١) صحيح مسلم ٣ / ١٤٧١ كتاب الإمارة ، باب ١٠ ح ٤٤.

(٢) صحيح مسلم بشرح النووي ١٢ / ٢٣١.

(٣) الفرق بين الفرق ، ص ٣٥٠.

(٤) الفصل في الملل والأهواء والنحل ٤ / ١٥٠. المحلى ٨ / ٤٢٢.

(٥) الأحكام السلطانية ، ص ٣٧.

(٦) شرح المقاصد ٥ / ٢٣٣.

(٧) المصدر السابق ١٢ / ٢٣٨.

٢١٦

الجور ، وهذا مسبِّب للوقوع في الضلال ، فتكون حاله حال أهل الجاهلية الذين يموتون على ضلال.

بعض مؤهّلات إمام المسلمين وصفاته :

إن إمام العصر لا بد أن تتوفر فيه عدة مزايا تؤهّله لأن يكون إماماً على سائر المسلمين دون غيره ، وقد ذكر علماء أهل السنة بعضاً من تلك المزايا التي ينبغي توفرها في إمام المسلمين ، ومع أنهم اختلفوا في بعض الصفات إلا أنهم يكادون يتفقون على بعض آخر منها. فمما اشترطوه :

١ ـ أن يكون قرشياً : فلا تصح إمامة غير القرشي كائناً من كان ، وذلك لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الأئمة من قريش (١).

قال المناوي : ذهب الجمهور إلى العمل بقضية هذا الحديث ، فشرطوا كون الإمام قرشياً (٢).

وقال : قال عياض : اشتراط كون الإمام قرشياً مذهب كافة العلماء ، وقد عدّوها من مسائل الإجماع ، ولا اعتداد بقول الخوارج وبعض المعتزلة.

__________________

(١) أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده ٣ / ١٢٩ ، ١٨٣ ، ٤ / ٤٢١ ، والطيالسي في مسنده ، ص ١٢٥ ، ٢٨٤ ، والحاكم في مستدركه ٤ / ٥٠١ وصححه ووافقه الذهبي ، وأخرجه السيوطي في الجامع الصغير ١ / ٤٨٠ ، أبو نعيم في حلية الاولياء ١ / ١٧١ ، ٥ / ٨ ، ٧ / ٢٤٢ ، ٨ / ١٢٣ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٥ / ١٩٢ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٣ / ١٢١ ، ٤ / ٧٦ ، والطبراني في المعجم الصغير ١ / ١٥٢ ، والألباني في صحيح الجامع الصغير ١ / ٥٣٤ ، قال أبو نعيم في الحلية ٣ / ١٧١ : هذا حديث مشهور ثابت من حديث أنس. وقال البيهقي في السنن ٣ / ١٢١ : مشهور من حديث أنس. وعده من الأحاديث المتواترة السيوطي في قطف الأزهار المتناثرة ، ص ٢٤٨ ، والكتاني في نظم المتناثر ، ص ١٦٩ وابن حزم في الفصل في الملل والأهواء والنحل ٤ / ١٥٢ وغيرهم ، واستقصى الألباني طرق هذا الحديث وصححها في إرواء الغليل ٢ / ٢٩٨ ـ ٣٠١ ونفى الشك في تواتر الحديث.

(٢) فيض القدير ٣ / ١٨٩.

٢١٧

وقال أيضاً : به ـ أي بهذا الحديث ـ احتج الشيخان يوم السقيفة ، فقبله الصحب وأجمعوا عليه (١).

ونص أيضاً على اشتراط القرشية في الإمام عبد القاهر البغدادي في الفرق بين الفرق (٢) ، وابن حزم في الفصل في الملل والأهواء والنحل (٣) والمحلّى (٤) ، والتفتازاني في شرح المقاصد (٥) ، والماوردي في الأحكام السلطانية (٦) والغزالي في قواعد العقائد (٧) وغيرهم.

٢ ـ أن يكون عالماً مجتهداً :

قال الإيجي : الجمهور على أن أهل الإمامة مجتهد في الأصول والفروع ، ليقوم بأمور الدين (٨).

وقال عبد القاهر البغدادي : وأوجبوا ـ أي أهل السنة ـ من العِلم له مقدار ما يصير به من أهل الاجتهاد في الأحكام الشرعية (٩).

ونص أيضاً على لزوم كون إمام المسلمين مجتهداً في الأحكام الشرعية الماوردي في الأحكام السلطانية (١٠) ، والتفتازاني (١١) ، والباقلاني في التمهيد (١٢) ،

__________________

(١) المصدر السابق ٣ / ١٩٠.

(٢) الفرق بين الفرق ، ص ٣٤٩.

(٣) الفصل في الملل والأهواء والنحل ٤ / ١٥٢.

(٤) المحلى ٨ / ٤٢٠.

(٥) شرح المقاصد ٥ / ٢٤٣.

(٦) الأحكام السلطانية ، ص ٣٢.

(٧) قواعد العقائد ، ص ٢٣٠.

(٨) المواقف ، ص ٣٩٨.

(٩) الفرق بين الفرق ، ص ٣٤٩.

(١٠) الأحكام السلطانية ، ص ٣١.

(١١) شرح المقاصد ٥ / ٢٣٣.

(١٢) التمهيد ، ص ١٨١ ( عن كتاب الإلهيات ٢ / ٥١٨ ).

٢١٨

وغيرهم.

٣ ـ أن يكون عادلاً غير فاسق :

قال البغدادي بعد أن ذكر شرط العدالة في الإمام : وأوجبوا ـ أي أهل السنة ـ من عدالته أن يكون ممن يجوز حكم الحاكم بشهادته ، وذلك بأن يكون عدلاً في دينه ، مُصلِحاً لماله وحاله ، غير مرتكب لكبيرة ولا مُصِرّ على صغيرة ، ولا تارك للمروءة في جل أسبابه (١).

وقال الإيجي : يجب أن يكون عدلاً لئلا يجور. وذكر أنه شرط بالإجماع (٢).

ونص على اشتراط العدالة في إمام المسلمين الماوردي (٣) في الأحكام السلطانية ، والغزالي في قواعد العقائد (٤) ، والتفتازاني في شرح المقاصد (٥) ، وغيرهم.

إلى غيرها من الصفات التي ذكروها ، وفيما ذكرناه كفاية.

حيرة أهل السنة في هذا العصر :

عندما نلقي نظرة على واقع أهل السنة في هذا العصر نجد أنهم لم يبايعوا إماماً واحداً لهم مع وجوبه عليهم ، بل مع كونه من أعظم الواجبات كما مرَّ مفصلاً.

فلم يبايعوا واحداً من حكام المسلمين المعاصرين ولا غيرهم إماماً لهم. إما لأن الإمام يجب أن يكون قرشيًّا ، وجُل حكَّام المسلمين اليوم ليسوا من قريش ، والقرشي منهم لم يقم دليل على إمامته العامة على كل المسلمين ، لا

__________________

(١) الفرق بين الفرق ، ص ٣٤٩.

(٢) المواقف ، ص ٣٨٩.

(٣) الأحكام السلطانية ، ص ٣١.

(٤) قواعد العقائد ، ص ٢٣٠.

(٥) شرح المقاصد ٥ / ٢٣٣.

٢١٩

عند أهل السنة ولا عند غيرهم ، وإما لعدم توفّر الصفات الأخرى فيه.

محاولة لدفع الإشكال وردّها :

قد يقال : إن أهل السنة في بعض البلاد الإسلامية بايعوا حاكمهم بيعة شرعية صحيحة ، وبذلك يكونون قد أدَّوا ما فرضه الله عليهم من مبايعة إمام لهم في هذا الزمان.

والجواب :

١ ـ على فرض حصول بيعة ( شرعية ) لحاكم من حُكّام المسلمين في بلد ما ، فإن باقي أهل السنة في كل البلاد الأخرى لم يبايعوا ذلك الحاكم ، فإما أن تكون بيعة المبايِعين صحيحة فيجب على غيرهم متابعتهم فيها ، وحيث لم يفعلوا فقد تركوا أهم الواجبات عليهم ، وإما أن تكون تلك البيعة باطلة فلا اعتبار بها ، فوجودها كعدمها.

٢ ـ أن أولئك المبايعين إنما بايعوه على السمع والطاعة وعلى كونه حاكماً على بلادهم ، لا على كونه خليفة أو إماماً لكل المسلمين ، ولذلك لم نرَ حاكماً معاصراً ادَّعى الخلافة أو الإمامة على كل المسلمين ، والذي يتأدَّى به الفرض هو البيعة على النحو الثاني لا الأول.

٣ ـ أن الخليفة الحق لا تثبت خلافته عندهم إلا بالنص من الله ورسوله ، أو بنصّ إمام الحق الذي قبله ، أو بالشورى من المسلمين كافة ، أو بالقهر والغلبة على سائر بلاد الإسلام ، وشيء من ذلك كله لم يتم لحاكم معاصر كما هو واضح.

وتثبت الخلافة أيضاً ببيعة أهل الحل والعقد ، وعليه فإن كان أولئك المبايعون هم أهل الحل والعقد (١) فبيعتهم صحيحة ، وإلا فلا ، ولا تُعْرَف فئة في أهل السنة اليوم موصوفة بهذه الصفة ، فحينئذ لا تصح بيعة هؤلاء ، ولا تكون

__________________

(١) أهل الحل والعقد هم أصحاب الرأي والدين والمشورة في المسلمين الذي يلزم غيرهم متابعتهم عند أهل السنة ، مثل الصحابة في المدينة بعد زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٢٢٠