مسائل خلافية حار فيها أهل السنة

الشيخ علي آل محسن

مسائل خلافية حار فيها أهل السنة

المؤلف:

الشيخ علي آل محسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الميزان
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٤

واختلفوا في القنوت ، فذهب مالك إلى أن القنوت في صلاة الصبح مستحب. وذهب الشافعي إلى أنه سنة. وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يجوز القنوت في صلاة الصبح ، وأن القنوت إنما موضعه الوتر ، وقال قوم : بل يقنت في كل صلاة. وقال قوم : لا قنوت إلا في رمضان. وقال قوم : بل في النصف الأخير منه. وقال قوم : بل في النصف الأول منه (١).

هذا شيء مما ذكره في اختلافاتهم في أقوال الصلاة ، والاختلاف في أفعال الصلاة أكثر ، وما ذكرناه كاف في الدلالة على ما قلناه.

ومنه يتضح مدى ما وقع على الصلاة من جور التحريف والتبديل ، حتى ضاعت معالمها ، وتهدّمت أركانها ، وتغيّرت هيئتها. فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

بِدَع كثيرة ذكروها :

لقد ذكر علماء أهل السنة جملة كثيرة من البِدَع الأخرى التي أحدثها الخلفاء ، وهي كثيرة جداً وذكرها يخرجنا عن موضوع الكتاب ، وحيث أنا لا نريد البحث فيها ، فإنا نذكر جملة منها ، وللقارئ العزيز أن يراجع فيها المطوّلات. منها (٢) :

١ ـ أول من نقص التكبير معاوية ، كان إذا قال : ( سمع الله لمن حمده ) انحطّ إلى السجود ، ولم يكبّر. وقيل : زياد. ( ٩٤ ، ٩٥ ) ( ص ١٦٤ )

٢ ـ أول من ترك قنوت في الصبح معاوية. (٩٧)

٣ ـ أول من جمع الناس في صلاة الجنائز على أربع تكبيرات : عمر. (٢٤) ( ص ١١٣ )

__________________

(١) نقلنا مقتطفات من كلام ابن رشد في كتابه بداية المجتهد ، ص ١٢١ ـ ١٣٣.

(٢) نقلناه من كتاب ( الوسائل في مسامرة الأوائل ) للسيوطي ، وأدرجنا أرقام الكتاب بعد كل بند ذكرناه. ثم أدرجنا بعدها أرقام صفحات البند نفسه إن وجد من كتاب الأوائل للعسكري ، ط العلمية.

١٨١

ورووا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلي على الجنائز أربعاً أو خمساً ، وأول من جمع الناس على أربع فقط هو عمر (١).

٣ ـ أول من جهر بالتسليم عمر بن الخطاب ، فأنكرت عليه الأنصار وقالوا : ما شأنك؟ قال : أردت أن يكون أذاناً ... وقوله : ( أذاناً ) أي إعلاماً بانتهاء الصلاة. ( ٩٨ ، ٩٩ )

٤ ـ أول من خفض صوته بالتكبير عثمان. (٩٣)

٥ ـ أول من أحدث المحراب المجوّف عمر بن عبد العزيز حين بنى المسجد النبوي. (٩٢)

٦ ـ أول من عمل المقصورة في المسجد معاوية ، لأنه رأى على منبره كلباً ، وقيل : مروان بن الحكم ، لأنه ضُرب بسكين وهو يصلي ... وقيل : عثمان بن عفان ، خوفاً أن يصيبه ما أصاب عمر. (٨٩) ( ص ١٦٣ )

٧ ـ أول من أمر المؤذن أن يشعره ويناديه ، فيقول : ( السلام على أمير المؤمنين ، الصلاة يرحمك الله ) معاوية. قال ابن عبد البر : وقيل : إن المغيرةبن شعبة أول من فعل ذلك. والأول أصح. (٧٦)

٨ ـ أول من خطب جالساً معاوية ، حين كثر شحمه وعظم بطنه. وأخرج ابن أبي شيبة عن طاووس : خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائماً وأبو بكر وعمر وعثمان ، وإن أول من جلس على المنبر في الجمعة معاوية بن أبي سفيان. ( ١٢٣ ، ١٢٤ ) ( ص ١٦٤ )

٩ ـ أول من خطب بمكة على منبر معاوية بن أبي سفيان ، قدم به من الشام سنة حجَّ في خلافته ، وكانت الخلفاء والولاة يخطبون يوم الجمعة على أرجلهم قياماً في وجه الكعبة وفي الحِجْر. (٢٥٢)

١٠ ـ أول من فوَّض إلى الناس إخراج زكاتهم عثمان. (١٨٩) ( ص ١٢٥ )

__________________

(١) رواه البيهقي في السنن الكبرى ٤ / ٣٧ ، وصححه ابن حجر في فتح الباري ٣ / ١٥٧ وذكره السيوطي في تاريخ الخلفاء ، ص ١٠٨.

١٨٢

١١ ـ أول من حمى الحمى عثمان. (١٩٠) ( ص ١٢٣ )

١٢ ـ أول من جعل مُدَّين حنطة في زكاة الفطر عدل صاع من تمر : عثمان. (١٩١)

١٣ ـ أول من جعل العشور : عمر بن الخطاب. وأخرج ابن أبي شيبة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : ليس على المسلم عشور ، إنما على اليهود والنصارى. ( ٢٠١ ، ٢٠٣ )

١٤ ـ أول من قنت في النصف الأخير من رمضان : عمر. (٢١٠)

١٥ ـ أول من ركب عند رمي الجمار ذاهباً وراجعاً : معاوية بن أبي سفيان ، وكان الناس يمشون. ( ٢١٨ ، ٢٥٣ )

١٦ ـ أول من فرَّق بين الرجال والنساء في الطواف : خالد القسري والي مكة لعبد الملك بن مروان ، فاستمر ذلك إلى اليوم. ( ٢٤٤ ، ٢٤٥ )

١٧ ـ أول من أدار الصفوف حول الكعبة : خالد بن عبد الله القسري. وعن عقبة بن الأزرق : كان الناس يقومون قيام شهر رمضان في أعلى المسجد الحرام ... فلما ولي خالد القسري مكة لعبد الملك بن مروان ، وحضر شهر رمضان أمر خالد القرّاء أن يتقدّموا ويصلّوا خلف المقام ، وأدار الصفوف حول الكعبة ، وذلك أن الناس ضاق عليهم أهل المسجد ، فأدارهم حول الكعبة. فقيل له : تقطع الطواف لغير المكتوبة؟ قال : فأنا آمرهم يطوفون بين كل ترويحتين سبعاً. فأمرهم يفصلون بين كل ترويحتين بطواف سبع ... (٢٤٩)

١٨ ـ أول من اتخذ المحامل في زمن الحجَّاج ، وإنما كانوا يحجّون على الرحال. أخرجه عبد الله بن أحمد بن حنبل ، وذكره المبرد في الكامل. وفي ذلك يقول الراجز :

أولُ عبْـدٍ عمل المحامـلا

أخزاه ربي عاجلاً وآجِــلا

( ٢٦٩ ، ٢٧٠ )

١٩ ـ أول من استَلحق بنسبه في الإسلام : معاوية ، استلحق زياد بن

١٨٣

أبيه. (٣٢٩) ( ص ١٦٧ )

٢٠ ـ أول من سنَّ للصداق أربعمائة درهم : عمر بن عبد العزيز. (٣٣٣)

٢١ ـ أخرج ابن سعد عن الشعبي : أن أول رأس حمل في الإسلام ، وأول رأس رُفع على خشبة رأس الحسين عليه‌السلام. ( ٤٢٩ ، ٤٣٠ )

٢٢ـ أول من سُمّي ( أمير المؤمنين ) : عمر. (٤٩١) ( ص ١٠٣ )

٢٣ ـ أول من عَهد بالخلافة : أبو بكر. (٦١٥) ( ص ١٠٢ )

٢٤ ـ أول من أقطع الأرضين : عثمان. (٦٢٥) ( ص ١٢٢ )

٢٥ ـ أول الملوك : معاوية. (٦٢٩)

٢٦ ـ أول مَن بايع لولده : معاوية. (٦٣٠) ( ص ١٥٩ )

٢٧ ـ قال مالك : أول مَن استقضى : معاوية. (٦٨٤)

٢٨ ـ أول من قضى بشهادة الغلمان : مروان بن الحكم. (٦٩٧).

٢٩ ـ أول مَن أحلف بالطلاق : سنان بن سلمة وكان عاملاً على كرمان ، ولاّه زياد بن أبيه زمن معاوية. ( ٧٠٧ ، ٧٠٨ ).

٣٠ ـ أول مَن جمع الناس في القرآن على حرف واحد : عثمان. أخرجه البخاري (٧١٦).

لفت نظر :

ربما يُظَن لأول وهلة أن بعض ما أدرجناه في هذه البِدع ليس من البدع ، مثل : أن معاوية هو أول الملوك ، وأول من بايع لابنه. إلا أنه بعد التأمل يتّضح أن الأمر كما قلناه ، وذلك لأن الاستيلاء على أمور المسلمين بالقهر والغلبة ، لا بالنص ولا بالشورى ، مما لم يأمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يرِد في شيء من آيات الكتاب ، أو أحاديث السُنَّة المطهرة ، بل الوارد خلافه ، وكذلك الحال في جعل الخلافة كسروية يتوارثها الأبناء عن الآباء ، فإن بعض الأحاديث وصفت ذلك

١٨٤

بالملك العضوض. وكل ما لم يكن مأموراً به ، بل كان منهيّاً عنه وجُعل من الدين فهو بدعة ، وهكذا الحال في غير هذين الأمرين.

محرَّمات عند أهل السنة جوَّزتها الأحاديث :

لو ألقينا نظرة فاحصة على فتاوى علماء أهل السنة ، وتأملنا الأحاديث الصحيحة التي يروونها في صِحاحهم وغيرها ، لوجدنا أن هناك كمّاً هائلاً من الأحكام عندهم تصطدم مع رواياتهم ، وهي كثيرة ، ونحن سنذكر بعضاً منها :

١ ـ نكاح المتعة : وقد مرَّ الكلام فيها.

٢ ـ الجمع بين الصلاتين لا لعذر :

لم يجوّزه أحد من أصحاب المذاهب الأربعة :

قال ابن رشد في بداية المجتهد : وأما الجمع في الحضر لغير عذر ، فإن مالكاً وأكثر الفقهاء لا يجيزونه ، وأجاز ذلك جماعة من أهل الظاهر ، وأشهب من أصحاب مالك (١).

وقال الترمذي : والعمل على هذا عند أهل العلم : أن لا يُجمع بين الصلاتين إلا في السفر أو بعرَفة. ورخَّص بعض أهل العلم من التابعين في الجمع بين الصلاتين للمريض ، وبه يقول أحمد وإسحاق ، وقال بعض أهل العلم : يُجمع بين الصلاتين في المطر ، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق. ولم يرَ الشافعي للمريض أن يجمع بين الصلاتين (٢).

وجوزه الشيعة الإمامية ، ودلَّت عليه أخبار رووها في الصحاح وغيرها.

منها : ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما ، وأحمد والطيالسي في مسنديهما ، عن ابن عباس قال : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى بالمدينة سبعاً وثمانياً :

__________________

(١) بداية المجتهد ١ / ١٧٣.

(٢) سنن الترمذي ١ / ٣٥٧.

١٨٥

الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء (١).

ومنها : ما أخرجه مسلم في صحيحه ، ومالك في الموطأ ، وأبو داود والنسائي في سُننهما ، وأحمد في المسند ، وابن خزيمة في صحيحه ، وأبو عوانة في مسنده ، والبيهقي في السنن وغيرهم ، عن ابن عباس قال : صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الظهر والعصر جميعاً ، والمغرب والعشاء جميعاً ، في غير خوف ولا سفر (٢).

ومنها : ما أخرجه مسلم في صحيحه ، والترمذي وأبو داود والنسائي في سُننهم ، وأحمد في المسند ، وأبو عوانة في مسنده ، والبيهقي في السنن ، وغيرهم عن ابن عباس قال : جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء بالمدينة ، في غير خوف ولا مطر ... قال : قلت لابن عباس : لمَ فعل ذلك؟ قال : كي لا يُحرج أمَّته (٣).

__________________

(١) صحيح البخاري ١ / ١٨٢ مواقيت الصلاة ، ب١٢ ( ط مرقمة ) ، ١ / ١٨٦ ب١٨ ، ١ / ٣٤٨ التهجد ، ب٣٠. صحيح مسلم ١ / ٤٩١ صلاة المسافرين ، ب٦. مسند أحمد بن حنبل ٣ / ٢٨٠ ح ١٩١٨ ، ٣ / ٢٨٣ ح ١٩٢٩ ، ٤ / ١٥٤ ح ٢٤٦٥ ، ص ٢٠١ ح ٢٥٨٢ ، ٥ / ٩٢ ح ٣٢٦٥ ، ص ١٣٤ ح ٣٣٩٧ ( ط شاكر ). مسند أبي داود الطيالسي ، ص ٣٤١ ، ٣٤٢ ، ح ٢١٦٤ ، ٢٦٢٩.

(٢) صحيح مسلم ١ / ٤٨٩ صلاة المسافرين ، ب٦. الموطأ ، ص ٧٣ ح ٣٢٧ ، سنن أبي داود ٢ / ٦ ح ١٢١٠ ، ١٢١٤. صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود ١ / ٢٢٤ ح ١٠٦٨. سنن النسائي ١ / ٣١٥ ح ٦٠٠. صحح الألباني في صحيح سنن النسائي ١ / ١٣٠ ح ٥٨٥. مسند أحمد بن حنبل ٣ / ٢٩٢ ح ١٩٥٣ ، ٤ / ١٩١ ح ٢٥٥٧ ( ط شاكر ) ، صحيح ابن خزيمة ٢ / ٨٥ ح ٩٧١. مسند أبي عوانة ٢ / ٣٥٣. السنن الكبرى ٣ / ١٦٦ ، ١٦٧.

(٣) صحيح مسلم ١ / ٤٩٠ صلاة المسافرين ، ب٦. سنن الترمذي ١ / ٣٥٤ ح ١٨٧ ، سنن ابي داود ٢ / ٦ ح ١٢١١. صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود ١ / ٢٢٤ ح ١٠٧٠. سنن النسائي ١ / ٣١٥ ح ٦٠١. صححه الالباني في صحيح سنن النسائي ١ / ١٣٠ ح ٥٨٦

١٨٦

ومنها : ما أخرجه مسلم في صحيحه ، وأحمد في المسند ، وأبو عوانة في مسنده ، عن عبد الله بن شقيق ، قال : خطَبَنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتى غربت الشمس وبَدَت النجوم. وجعل الناس يقولون : الصلاة.قال : فجاءه رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني : الصلاة الصلاة. فقال ابن عباس : أتعلّمني بالسُّنّة؟ لا أم لك. ثم قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمع بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء. قال عبد الله بن شقيق : فَحَاك في صدري من ذلك شيء ، فأتيت أبا هريرة ، فسألته فصدَّق مقالته (١).

وفي رواية أخرى قال : لا أم لك ، أتُعلِّمنا بالصلاة؟ وكنا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

وقولهم : ( إن هذه الأحاديث محمولة على أن الجمع بين الصلاتين كان لأجل المطر ).

يَرُدّه ما ذُكِر في بعضها ، من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلى سبعاً وثمانياً في غير خوف ولا مطر. وفي بعضها : في غير خوف ولا سفر. والجمع بينها يقتضي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمع بين الصلاتين في غير خوف ولا سفر ولا مطر.

ثم إن التعليل الوارد في أكثر تلك الأحاديث ، وهو قول ابن عباس : ( أراد ألاّ يُحرج أمَّته ) يدل على أن الجمع لم يكن لعذر من تلك الأعذار ، فإن تفريق الصلوات كثيراً ما يكون فيه حرَج نوعي ، وهذا ملاحظ في البلاد التي

__________________

وفي إرواء الغليل ٣ / ٣٤ ح ٥٧٩. مسند أحمد بن حنبل ٥ / ٨١ ح ٣٢٣٥ ، ص ١١٣ ح ٣٣٢٣ ( ط شاكر ). مسند أبي عوانة ٢ / ٣٥٣. سنن البيهقي ٣ / ١٦٧.

(١) صحيح مسلم ١ / ٤٩١ صلاة المسافرين ، ب٦. مسند أحمد بن حنبل ٤ / ٧٠ ح ٢٢٦٩ ( ط شاكر ). مسند أبي عوانة ٢ / ٣٥٤.

(٢) صحيح مسلم ١ / ٤٩٢ صلاة المسافرين ، ب٦. مسند أحمد بن حنبل ٥ / ١٠٠ ح ٣٢٩٣ ( ط شاكر ).

١٨٧

تتعطَّل فيها جميع المصالح العامة لأجل إقامة الجماعة بعد دخول وقت الصلاة.

٣ ـ التكبير على الجنائز خمساً :

قال ابن المنذر : ذهب أكثر أهل العلم إلى أن التكبير أربع ، وفيه أقوال أخر (١).

أقول : ذهبت الإمامية إلى أن التكبيرات على الجنائز خمس ، ودلَّ على ذلك الأحاديث الصحيحة التي رواها أهل السنة :

منها : ما أخرجه مسلم في صحيحه ، والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة والبيهقي والدارقطني في سُننهم ، وأحمد والطيالسي في مسنديهما ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : كان زيد يكبِّر على جنائزنا أربعاً ، وإنه كبَّر على جنازة خمساً. فسألته فقال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكبِّرها (٢).

٤ ـ وجوب الإفطار للسفر :

ذهب أئمة المذاهب الأربعة إلى أن المكلَّف إذا سافر بالشروط المذكورة في محلِّها فهو مخيَّر بين الصيام والإفطار ، واختلفوا في أيهما الأفضل ، فذهب أحمد وإسحاق أن الفطر أفضل وإن لم يشق عليه الصوم. وذهب مالك وسفيان الثوري وابن المبارك إلى أن مَن وجد قوّة فالصيام له أفضل. وذهب الشافعي

__________________

(١) فتح الباري ٣ / ١٥٧.

(٢) صحيح مسلم ٢ / ٦٥٩ الجنائز ، ب٢٣ ح ٩٥٧. سنن الترمذي ٣ / ٣٤٣ ح ١٠٢٣ ، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح. سنن ابي داود ٣ / ٢١٠ ح ٣١٩٧. وصححه الألباني في صحيح سنن ابي داود ٢ / ٦١٦ ح ٢٧٣٨ ، وأحكام الجنائز ، ص ١١٢ ، وصحيح سنن النسائي ٢ / ٤٢٧ ح ١٨٧٣ ، وصحيح سنن ابن ماجة ١ / ٢٥٢ ح ١٢٢٢. سنن النسائي ٤ / ٣٧٥ ح ١٩٨١ ( ط محققة ). سنن ابن ماجة ١ / ٤٨٢ ح ١٥٠٥. السنن الكبرى ٤ / ٣٦. مسند أبي داود الطيالسي ، ص ٩٣ ح ٦٧٤. مسند أحمد بن حنبل ٤ / ٣٦٧ ، ٣٧٠ ، ٣٧٢. سنن الدارقطني ٢ / ٧٣.

١٨٨

وأبو حنيفة إلى أن الصيام أفضل إلا إذا حصلت له مشقة فالفطر أفضل (١).

وذهب الشيعة الإمامية إلى وجوب الإفطار ، وقد دلَّت عليه أحاديث رووها في كتبهم :

منها : ما أخرجه مسلم في صحيحه ، والترمذي والنسائي والبيهقي في سُننهم ، وابن خزيمة في صحيحه ، والطيالسي في مسنده ، وغيرهم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان ، فصام حتى بلغ كراع الغميم ، فصام الناس. ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ، ثم شرب فقيل له بعد ذلك : إن بعض الناس قد صام. فقال : أولئك العصاة ، أولئك العصاة (٢).

ومنها : ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما ، والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة والبيهقي في سُننهم ، وأحمد والطيالسي في مسنديهما ، والحاكم في المستدرك ، وابن أبي شيبة في المصنف وغيرهم ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ليس من البِر الصيام في السفر (٣).

__________________

(١) راجع أقوالهم في سنن الترمذي ٣ / ٩٠ ، الفقه على المذاهب الأربعة ١ / ٥٧٥ ، بداية المجتهد ١ / ٢٩٦.

(٢) صحيح مسلم ٢ / ٧٨٥ الصيام ، ب١٥ ، ح ١١١٤. سنن الترمذي ٣ / ٨٩ ح ٧١٠ قال الترمذي : حديث جابر حديث حسن صحيح. سنن النسائي ٤ / ٤٨٨ ح ٢٢٦٢ ( ط محققة ). وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي ٢ / ٤٨٢ ح ٢١٣٦. السنن الكبرى ٤ / ٢٤١. مسند أبي داود الطيالسي ، ص ٢٣٢ ح ١٦٦٧. صحيح ابن خزيمة ٣ / ٢٥٥ ح ٢٠١٩.

(٣) صحيح البخاري ٢ / ٥٧٨ الصوم ، ب٣٦ ، ح ١٩٤٦. صحيح مسلم ٢ / ٧٨٦ الصيام ، ب١٥ ، ح ١١١٥. سنن الترمذي ٣ / ٩٠ ، ح ٧١٠. سنن النسائي ٤ / ٤٨٥ ، ح ٢٢٥٤ ـ ٢٢٦١. سنن ابي داود ٢ / ٣١٧ ح ٢٤٠٧. سنن ابن ماجة ١ / ٥٣٢ ح ١٦٦٤ ، ١٦٦٥. مسند أحمد بن حنبل ٥ / ٤٣٤. سنن الدارمي ٢ / ٩. مسند أبي داود

١٨٩

والبِر هو الطاعة والعبادة كما نصَّ عليه ابن الأثير وغيره.

قال ابن الأثير : وفي حديث الاعتكاف : « البِر يُردن » أي الطاعة والعبادة ، ومنه الحديث : ليس من البر الصيام في السفر (١).

وعليه لا يكون الصيام في السفر عبادة ولا طاعة ، فيكون غير مشرَّعاً ولا مأموراً به ، فيتعيّن حينئذ الإفطار.

وقالوا : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما قال ذلك لما رأى زحاماً ورجلاً قد ظُلِّل عليه ، فقال : ما هذا؟ فقالوا : صائم ...

وهذا يدل على أن الصيام الذي هو ليس بِبِر إنما هو الصيام الذي تكون معه مشقة ، لا مطلق الصيام في السفر.

وهذا مردود بأن خصوص المورد لا يخصِّص الوارد ، فإن لفظ ( الصيام ) في الحديث مطلق غير مقيد بحالة حصول المشقة والحرج ، فلا يصح تخصيصه بما حدث في تلك الواقعة.

على أن الحديث الأول أوضح دلالة من هذا الحديث ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصف كل الصائمين بأنهم عصاة ، مع أنه لم يستعلم أحوالهم فوجدهم قد شقَّ عليهم الصوم ، بل ظاهر الحديث أن صومهم لا مشقة فيه عليهم ، لأنهم لو وجدوا فيه أدنى مشقّة وكانوا قد رأوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفطر لأفطروا معه ، ولكنهم لما وجدوا في أنفسهم طاقة على الصوم بلا حرج عليه صاموا ، وهو واضح لا

__________________

الطيالسي ، ص ١٩١ ح ١٣٤٣ ، ص ٢٣٨ ح ١٧٢١. السنن الكبرى ٤ / ٢٤٢ ـ ٢٤٣. المستدرك ١ / ٤٣٣. صحيح ابن حبان ٢ / ٧٠ ح ٣٥٥ ، ٨ / ٣١٧ ، ٣٢٠ ، ٣٢٢ ح ٣٥٤٨ ، ٣٥٥٢ ، ٣٥٥٤. المعجم الكبير للطبراني ١٢ / ٣٧٤ ، ٣٧٩ ، ٤٤٦ ، ح ١٣٣٨٧ ، ١٣٤٠٣ ، ١٣٦١٨. إرواء الغليل ٤ / ٥٨. المصنف لابن أبي شيبة ٢ / ٢٧٩ ح ٨٩٥٩ ، ٨٩٦٠. صحيح ابن خزيمة ٣ / ٢٥٣ ، ٢٥٤ ح ٢٠١٦ ، ٢٠١٧ ، ٢٠١٨. مسند الحميدي ٢ / ٥٣٩ ح ١٢٨٩.

(١) النهاية في غريب الحديث والأثر ١ / ١١٦.

١٩٠

يحتاج إلى مزيد بيان.

٥ ـ مسح الرجلين في الوضوء :

ذهب الأئمة الأربعة إلى وجوب غَسل الرجلين في الوضوء ، وذهبت الشيعة الإمامية تبعاً لأئمة أهل البيت عليهم‌السلام إلى وجوب المسح عليهما. وهو ما دلَّت عليه آية الوضوء في الكتاب العزيز ، في قوله عز من قائل ( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ) (١)

وفي قراءة ابن عباس والحسن وعكرمة وحمزة وابن كثير : ( وأرجلِكم ) بالكسر (٢) ، بعطف الأرجل على الرؤوس في المسح عليها.

وقد دلَّ على ذلك أيضاً أحاديث صحيحة عندهم :

منها : ما أخرجه الترمذي في سننه ، وابن أبي شيبة في المصنّف عن الرُّبَيِّع قالت : أتاني ابن عباس فسألني عن هذا الحديث ـ تعني حديثها الذي ذكَرَتْ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توضّأ وغسل رجليه (٣) ـ فقال ابن عباس : إن الناس أبَوا إلا الغَسل ، ولا أجد في كتاب الله إلا المسح (٤).

ومنها : ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما ، وأحمد في المسند وغيرهم عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : تخلَّف عنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سفرة سافرناها ، فأدرَكَنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ ، فجعلنا نمسح على أرجلنا ، فنادى بأعلى صوته : « ويل للأعقاب من النار »

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ٥.

(٢) أحكام القرآن ٢ / ٣٤٥.

(٣) رواه أبو داود في سننه ١ / ٣١ ح ١٢٦.

(٤) سنن ابن ماجة ١ / ١٥٦ ح ٤٥٨ ، قال البوصيري في مصباح الزجاجة ١ / ١٨٣ : هذا إسناد حسن ، رواه ابن أبي شيبة في مصنفه. وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ١ / ٧٦. المصنف لابن أبي شيبة ١ / ٢٧ ح ١٩٩.

١٩١

مرتين أو ثلاثاً (١).

بتقريب : أن مسح أولئك الصحابة كلهم على أرجلهم دال على ثبوته في الوضوء في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإلا فكيف يصح أن يكون كل هؤلاء لا يعلمون أن الواجب هو غسل الأرجل ، ولا سيما أن فيهم أمثال عبد الله بن عمرو بن العاص الذي عدّوه من علماء الصحابة.

وقوله : « ويل للأعقاب من النار » لا يدل على وجوب غَسل القدمين كما ذهبوا إليه ، ولعل زجرهم إنما كان بسبب مسحهم على الأعقاب ، لا لعدم استيعاب القدمين بالغَسل ، فإن الواجب إنما هو مسح ظاهر القدمين دون باقي الأجزاء ، والمخالفة إنما حصلت في الأعقاب فقط ، ولذلك لحِقها الويل ، ولو كان الواجب هو الغَسل لَلَحِق الويل كل القَدم ، لوقوع المخالفة فيها جمعاء ، والله العالم.

ومنها : ما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنّف عن عكرمة قال : غَسلتان ومسحتان (٢).

ومنها : ما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنّف عن الشعبي قال : نزل جبريل بالمسح (٣).

ومنها : ما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنّف عن الشعبي قال : إنما هو المسح على القدمين ، ألا ترى أن ما كان عليه الغَسل جُعِل عليه التيمم ، وما

__________________

(١) صيحح البخاري ١ / ٤٦ العلم ، ب٣ ح ٦٠ ( ط مرقمة ) ، ص ٥٨ ب٣٠ ح ٩٦ ، ص ٧٨ الوضوء ، ب٢٧ ح ١٦٣. صحيح مسلم ١ / ٢١٤ الطهارة ، ب٩ ح ٢٤١. مسند أحمد بن حنبل ١١ / ١٦٦ ح ٦٩٧٦ ، ١٢ / ٥٠ ح ٧١٠٣ ( ط شاكر ).

(٢) هذا حديث صحيح ، رواه ابي شيبة في المصنف ١ / ٢٦ ح ١٨٠ عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة ، وكلهم ثقات عندهم.

(٣) هذا حديث صحيح أيضاً ، رواه ابن أبي شيبة في المصنف ١ / ٢٦ ح ١٨٥ عن وكيع عن إسماعيل ، وهو ابن إبراهيم بن علية ، عن الشعبي ، وكلهم ثقات عندهم.

١٩٢

كان عليه المسح أُهمِل ، فلم يُجعَل عليه التيمم (١).

ترك السنة الصحيحة لمخالفة الروافض :

مع ثبوت السُنَّة الصحيحة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالأحاديث الثابتة عند أهل السنة ، إلا أنهم في بعض الأحكام الشرعية بدا لهم أن يتعمَّدوا تجنّبها من أجل مخالفة الروافض.

قال ابن تيمية : ومن هنا ذهب مَن ذهب مِن الفقهاء إلى ترك بعض المستحبات إذا صارت شعاراً لهم [ أي للشيعة ] ، فإنه وإن لم يكن الترك واجباً لذلك ، لكن في إظهار ذلك مشابهة لهم ، فلا يتميَّز السُّني من الرافضي ، ومصلحة التميُّز عنهم لأجل هجرانهم ومخالفتهم أعظم من مصلحة هذا المستحب. وهذا الذي ذُهب إليه يُحتاج إليه في بعض المواضع إذا كان في الاختلاط والاشتباه مفسدة راجحة على مصلحة فعل ذلك المستحب (٢).

وهي موارد عديدة ، منها التختم باليمين ، وتسطيح القبور ، والصلاة على الآل ، وغيرها.

نماذج من فتاواهم :

قال ابن حجر في فتح الباري : اختُلف في السلام على غير الأنبياء ، بعد الاتفاق على مشروعيته في تحية الحي ، فقيل : يشرع مطلقاً ، وقيل : بل تبعاً ، ولا يُفرد لواحد ، لكونه صار شعاراً للرافضة. ونقله النووي عن الشيخ أبي محمد الجويني.

وقال أيضاً : قال ابن القيم : المختار أن يُصلَّى على الأنبياء والملائكة وأزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآله وذرّيّته وأهل طاعته على سبيل الإجمال ، وتكره في

____________

(١) هذا حديث صحيح أيضاً ، رواه ابن أبي شيبة في المصنف ١ / ٢٦ ح ١٨١ عن وكيع عن ابن علية ، وهو إسماعيل بن إبراهيم بن علية المتقدم ذكره ، عن داود ، وهو ابن أبي هند ، عن الشعبي ، وكلهم ثقات عندهم.

(٢) منهاج السنة ٢ / ١٤٧.

١٩٣

غير الأنبياء لشخص مفرد بحيث يصير شعاراً ، ولا سيما إذا تُرك في حق مثله أو أفضل منه (١) كما يفعله الرافضة (٢).

وقال الزمخشري في الكشاف : القياس جواز الصلاة على كل مؤمن لقوله تعالى ( هو الذي يصلي عليكم ) وقوله تعالى ( وصلِّ عليهم إن صلاتك سكن لهم ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللهم صلِّ على آل أبي أوفى. ولكن للعلماء تفصيلاً في ذلك ، وهو أنها إن كانت على سبيل التبع كقولك : ( صلى الله على النبي وآله ) فلا كلام فيها ، وأما إذا أُفرد غيره من أهل البيت بالصلاة كما يُفرد هو فمكروه ، لأن ذلك صار شعاراً لذِكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولأنه يؤدّي إلى الاتهام بالرفض (٣).

قال مصنّف كتاب الهداية وهو من الأحناف : المشروع التختم في اليمين ، لكن لمَّا اتّخذته الرافضة عادة جعلنا التختم في اليسار (٤).

وذكر الغزالي في الذخيرة والماوردي وهما من الشافعية أن تسطيح القبورهو المشروع ، ولكن لما اتّخذته الرافضة شعاراً لهم عدلنا عنه إلى التسنيم (٥).

وقال محمد بن عبد الرحمن الدمشقي في كتابه رحمة الأمة في اختلاف الأئمة : السُّنَّة في القبر التسطيح ، وهو أولى من التسنيم على الراجح من

__________________

(١) كما لو صلى على الإمام علي عليه‌السلام ، وترك الصلاة على من هو خير منه عندهم كأبي بكر وعمر.

(٢) فتح الباري ١١ / ١٤٢. وقد ذكره ابن حجر بالمعنى ، وعبارة ابن القيم مذكورة في كتابه ( جلاء الأفهام على خير الأنام ) ، ص ٦٦٣.

(٣) الكشاف ٣ / ٢٤٦ في تفسير قوله تعالى ( إن الله وملائكته يصلون على النبي ) سورة الأحزاب ، الآية ٥٦.

(٤) عن الصراط المستقيم ٢ / ٥١٠. ومنهاج الكرامة ، ص ١٠٨. الغدير ١٠ / ٢١٠.

(٥) عن المصادر السابقة بأجزائها وصفحاتها.

١٩٤

مذهب الشافعي ، وقال الثلاثة [ أبو حنيفة ومالك وأحمد ] : التسنيم أولى ، لأن التسطيح صار من شعائر الشيعة (١).

وقال الحافظ العراقي في بيان كيفية إسدال طرف العمامة : فهل المشروع إرخاؤه من الجانب الأيسر كما هو المعتاد ، أو الأيمن لشرفه؟ لم أرَ ما يدل على تعيين الأيمن إلا في حديث ضعيف عند الطبراني ، وبتقدير ثبوته فلعله كان يرخيها من الجانب الأيمن ، ثم يردّها إلى الجانب الأيسر كما يفعله بعضهم ، إلا أنه صار شعار الإمامية ، فينبغي تجنّبه لترك التشبّه بهم (٢).

وقال عبد الله المغربي المالكي في كتابه ( المعلم بفوائد مسلم ) : إن زيداً كبَّر خمساً على جنازة ، قال : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُكبِّرها. وهذا المذهب الآن متروك ، لأنه صار علَماً على القول بالرفض (٣).

وفي التذكرة : قال الشافعي وأحمد والحكَم : المسح على الخفّين أولى من الغسل ، لما فيه من مخالفة الشيعة (٤).

وقال إسماعيل البروسوي في تفسيره ( روح البيان ) عند ذِكر يوم عاشوراء : قال في عقد الدرر واللئالي (٥) : ولا ينبغي للمؤمن أن يتشبّه بيزيد الملعون في بعض الأفعال ، وبالشيعة الروافض والخوارج أيضاً ، يعني لا يجعل ذلك اليوم يوم عيد أو يوم مأتم ، فمن اكتحل يوم عاشوراء فقد تشبَّه بيزيد

__________________

(١) رحمة الأمة في اختلاف الأئمة ، ص ١٥٥.

(٢) شرح المواهب للزرقاني ٥ / ١٣.

(٣) عن الصراط المستقيم ٢ / ٥١٠.

(٤) عن المصدر السابق.

(٥) في فضل الشهوروالأيام والليالي ، للشيخ شهاب الدين أحمد بن أبي بكر الحموي ، الشهير بابن الرسام ( عن الغدير ١٠ / ٢١١ ). ولد بحماة سنة ٧٧٣ هـ ، ولي قضاء حماة ثم قضاء حلب ، وتوفي سنة ٨٤٤ هـ تقريباً ، له ترجمة في شذرات الذهب ٧ / ٢٥٢ ، الضوء اللامع ١ / ٢٤٩ ، ومعجم المؤلفين ١ / ١٧٤.

١٩٥

الملعون وقومه ، وإن كان للاكتحال في ذلك اليوم أصل صحيح ، فإن ترك السُّنّة سُنّة إذا كانت شعاراً لأهل البدعة ، كالتختم باليمين ، فإنه في الأصل سُنة ، لكنه لما صار شعار أهل البدعة والظلمة صارت السُّنة أن يُجعَل الخاتم في خنصر اليد اليسرى في زماننا ، كما في شرح القهستاني (١).

إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة.

فتاوى غريبة عند أهل السنة :

لقد صدرت من أعلام أهل السنة وأئمة مذاهبهم فتاوى غريبة ، وأحكام عجيبة ، صارت محل تندّر وتفكّه من غيرهم ، حتى نظمها الشعراء في أشعار ساخرة ، وقصائد لاذعة.

فقال ابن الحجاج :

الشافعيُّ من الأئمةِ قائلٌ

اللعْبُ بالشطرنجِ غيرُ حرامِ

وأبو حنيفةَ قالَ وهو مصدَّقٌ

فيما يبلِّغُه منَ الأحكامِ

شُرْبُ المثلّثِ والمنصَّفِ جائزٌ

فاشربْ على طرَبٍ من الأيامِ

وأباحَ مالكٌ الفُقاعَ تطرّقاً

وبه قوامُ الدينِ والإسلامِ (٣)

والحَبْرُ أحمدُ حلَّ جَلْدَ عميرة (٢)

وبذاك يُستغنى عن الأرحامِ

فاشربْ ولُط وازنِ وقامرْ واحتجِجْ

في كل مسألةٍ بقول إمامِ

وقال الزمخشري :

إذا سألوا عن مذهبي لم أبُحْ به

وأكتمُهُ كتمانُهُ لي أسلَمُ

فإن حنفيًّاً قلتُ قالوا بأنني

أبيح الطلا وهو الشرابُ المحرَّمُ

وإن مالكيًّاً قلتُ قالوا بأنني

أبيحُ لهم أكلَ الكلابِ وهمْ همُ

وإن شافعيًّاً قلتُ قالوا بأنني

أبيحُ نكاحَ البنتِ والبنتُ تحرمُ

__________________

(١) روح البيان ٤ / ١٤٢ ـ عن كتاب الغدير ١٠ / ٢١١.

(٢) جلد عميرة هو الاستمناء.

(٣) رواه بعضهم هكذا :

وأباح مالك اللواط تكرما

في ظهر جارية وظهر غلام

١٩٦

وإن حنبليًّاً قلتُ قالوا بأنني

ثقيلٌ حلولي بغيضٌ مجسِّمُ

وإن قلتُ من أهلِ الحديثِ وحزبِه

يقولون تَيْسٌ ليس يدري ويفهمُ (١)

والفتاوى الغريبة عندهم كثيرة جداً ، إلا أنا نذكر اليسير ، ومن أراد المزيد فلينظر في أقوالهم ، وليتتبَّع فتاواهم فسيجد الكثير.

وهي عدة طوائف :

١ ـ بعض فتاوى أبي حنيفة :

١ ـ صلاة أبي حنيفة : قال ابن خلكان في وفيات الأعيان : ذكر إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك الجويني في كتابه الذي سمَّاه ( مغيث الخَلْق في اختيار الأحق ) أن السلطان محمود [ بن سبكتكين ] كان على مذهب أبي حنيفة رضي‌الله‌عنه ، وكان مولعاً بعلم الحديث ، وكانوا يسمعون الحديث من الشيوخ بين يديه وهو يسمع ، وكان يستفسر الأحاديث ، فوجد أكثرها موافقاً لمذهب الشافعي رضي‌الله‌عنه ، فوقع في خلده حكة ، فجمع الفقهاء من الفريقين في مرْو ، والتمس منهم الكلام في ترجيح أحد المذهبين على الآخر ، فوقع الاتفاق على أن يُصلّوا بين يديه ركعتين على مذهب الإمام الشافعي رضي‌الله‌عنه ، وعلى مذهب أبي حنيفة رضي‌الله‌عنه ، لينظر فيه السلطان ويتفكر ويختار ما هو أحسنهما ، فصلّى القفال المروزي بطهارة مسبغة وشرائط معتبرة من الطهارة والسترة واستقبال القبلة ، وأتى بالأركان والهيئات والسنن والآداب والفرائض على وجه الكمال والتمام ، وقال : هذه صلاة لا يجوِّز الإمام الشافعي رضي‌الله‌عنه دونها ، ثم صلَّى ركعتين على ما يجوِّز أبو حنيفة رضي‌الله‌عنه ، فلبس جلد كلب مدبوغاً ، ولطَّخ ربعه بالنجاسة ، وتوضّأ بنبيذ التمر ، وكان في صميم الصيف في المفازة ، واجتمع عليه الذباب والبعوض ، وكان وضوؤه منكساً منعكساً ، ثم استقبل القبلة ، وأحرم للصلاة من غير نيَّة في الوضوء ، وكبَّر بالفارسية : دو برك سبز (٢) ، ثم

__________________

(١) تفسير الكشاف ٤ / ٣١٠.

(٢) هنا سقط ، وقد ذكر في بعض الطبعات الأخرى : ثم قرأ آية بالفارسية : ( دو برك

١٩٧

نقر نقرتين كنقرات الديك من غير فصل ومن غير ركوع ، وتشهَّد ، وضرط في آخره من غير نية السلام. وقال : أيها السلطان ، هذه صلاة أبي حنيفة. فقال السلطان : لو لم تكن هذه الصلاة صلاة أبي حنيفة لقتلتك ، لأن مثل هذه الصلاة لا يجوِّزها ذو دين. فأنكرت الحنفية أن تكون هذه صلاة أبي حنيفة ، فأمر القفال بإحضار كتب أبي حنيفة ، وأمر السلطان نصرانياً كاتباً يقرأ المذهبين جميعاً ، فوُجدتْ الصلاة على مذهب أبي حنيفة على ما حكاه القفال ، فأعرض السلطان عن مذهب أبي حنيفة ، وتمسّك بمذهب الشافعي رضي‌الله‌عنه (١).

٢ ـ أفتى بجواز شرب المثلَّت ، وهو أن يُطبخ عصير العنب حتى يذهب ثلثاه ، ويبقى الثلث ويشتد ، ويسكر كثيره لا قليله ، ويسمَّى ( الطلا ) (٢).

قال ابن حزم : ولا خلاف عن أبي حنيفة في أن نقيع الدوشات عنده حلال وإن أسكر ، وكذلك نقيع الرُّب وإن أسكر. والدوشات من التمر ، والرُّب من العنب (٣).

٣ ـ وأفتى بأن رجلاً لو تزوّج امرأة في مجلس ، ثم طلّقها فيه قبل غيبته عنهم ، ثم أتت امرأته بولد لستة أشهر من حين العقد ، لحقه الولد ، وكذا لو تزوج رجل في المشرق بامرأة في المغرب ، ثم مضت ستة أشهر ، وأتت بولد ، فإنه يلحق به ، لأن الولد إنما يلحقه بالعقد ومضي مدة الحمل ، وإن علم أنه لم يحصل منه الوطء (٤).

__________________

سبز ). ومعناه : ( مدهامتان ).

(١) وفيات الأعيان ٥ / ١٨٠. وذكر ابن القيم في أعلام الموقعين ٢ / ٢٢٢ هذه الصلاة ولم يذكر من قال بإجزائها.

(٢) أوضحه السرخسي في المبسوط ٢٣ / ٢ ـ ١٥. الفقه على المذاهب الأربعة ٢ / ٧.

(٣) المحلى ٦ / ١٩٤.

(٤) المغني لابن قدامة ٩ / ٥٥. وذكر الفخر الرازي في مناقب الإمام الشافعي ، ص ٥٣٢

١٩٨

٤ ـ وأفتى بأنه لو تزوج رجلان امرأتين ، فغلط بهما عند الدخول ، فزُفَّت كل واحدة إلى زوج الأخرى ، فوطأها وحملت منه ، لحق الولد بالزوج لا بالواطئ ، لأن الولد للفراش (١).

٥ ـ وأفتى بأنه لو ادَّعى مسلم وذمّي ولداً ، وأقام كل منهما بيِّنة ، فإن الولد يُلحق بالمسلم وإن كان شهود الذمي مسلمين ، وشهود المسلم من أهل الذمة. معلِّلاً بأن ذلك موجب لإسلام الولد (٢).

٦ ـ قال ابن تيمية : إذا آجر الرجل الدار لأجل بيع الخمر واتخاذها كنيسة أو بيعة ، لم يجز قولاً واحداً ، وبه قال الشافعي ، كما لا يجوز أن يكري أمته أو عبده للفجور. وقال أبو حنيفة : يجوز أن يؤاجرها لذلك (٣).

٧ ـ وأفتى أبو حنيفة بأن الرجل إذا استأجر المرأة للوطء ، ولم يكن بينهما عَقد نكاح ، فليس ذلك بزنا ، ولا حدّ فيه. والزنا عنده ما كان مطارفة (٤) ، وأما ما فيه عطاء فليس بزنا (٥).

هذا وقد عقد ابن أبي شيبة في كتابه ( المصنَّف ) باباً لمخالفات أبي حنيفة للأحاديث المروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أسماه : كتاب الرد على أبي حنيفة. وقال : هذا ما خالف به أبو حنيفة الأثر الذي جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وذكر فيه ١٢٥ مورداً ، فراجعه (٦).

__________________

أن ذلك هو قول أبي حنيفة.

(١) المغني لابن قدامة ٩ / ٥٨ ـ ٥٩.

(٢) المبسوط للسرخسي ١٧ / ١٣٢.

(٣) اقتضاء الصراط المستقيم ، ص ٢٣٦.

(٤) المطروفة من النساء هي التي لا تغض طرفها عن الرجال ، وتشرف لكل من أشرف لها ، وتصرف بصرها عن بعلها إلى سواه.

(٥) المحلى ١٢ / ١٩٦.

(٦) المصنف ٧ / ٢٧٦ ـ ٣٢٦.

١٩٩

وروى ابن عبد البر في كتاب الانتقاء ، والخطيب في تاريخ بغداد عن وكيع بن الجراح قال : وجدت أبا حنيفة خالف مائتي حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

وروى الخطيب عن يوسف بن أسباط أنه قال : ردَّ أبو حنيفة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربعمائة حديث أو أكثر (٢).

٢ ـ بعض فتاوى مالك بن أنس :

١ ـ أفتى بطهارة الكلاب والخنازير ، وسؤرهما (٣) طاهر يُتوضَّأ به ويُشرب ، وإن ولغا في طعام لم يحرم أكله ، وعنده أن الأمر بغَسل الإناء من ولوغ الكلب فيه مجرد تعبّد (٤).

٢ ـ وأفتى بجواز أكل الحشرات كالديدان والصراصير والخنافس والفئران والجراذين والحرباء والعضاء ، والحيّة حلال إذا ذُكِّيت (٥).

٣ ـ وأفتى بحِلِّية الزواج من بنته من الزنا ، ومن أخته وبنت ابنه ، وبنت بنته ، وبنت أخيه وأخته من الزنا ، مستدلاً بأنها أجنبية منه ، ولا تنتسب إليه شرعاً ، ولا يجري التوارث بينهما ، ولا تعتق عليه إذا ملكها ، ولا تلزمه نفقتها ، فلا يحرم عليه نكاحها كسائر الأجانب (٦).

وسيأتي قريباً هذا القول للشافعي أيضاً.

٤ ـ وذهب الإمام مالك إلى أن أقصى مدة الحمل سبع سنين ، فلو طلَّق الرجل امرأته أو مات عنها ، فلم تنكح زوجاً آخر ، ثم جاءت بولد بعد سبع

__________________

(١) الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء ، ص ١٥١. تاريخ بغداد ١٣ / ٤٠٧.

(٢) تاريخ بغداد ١٣ / ٤٠٧.

(٣) السؤر : هو فضلة الشراب.

(٤) المغني لابن قدامة ١ / ٧٠.

(٥) المغني لابن قدامة ١١ / ٦٥. رحمة الأمة في اختلاف الأئمة ، ص ٢٥١.

(٦) المغني لابن قدامة ٧ / ٤٨٥.

٢٠٠