مسائل خلافية حار فيها أهل السنة

الشيخ علي آل محسن

مسائل خلافية حار فيها أهل السنة

المؤلف:

الشيخ علي آل محسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الميزان
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٤

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلي عليه‌السلام ابن عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والعباس عمّه ، وابن العم لا يرِث مع وجود العم.

ومما أنشده مروان بن أبي الجنوب للمتوكل :

مُلْكُ الخليفةِ جعفرٍ

للدينِ والدنيا سلامهْ

لكمُ تُراثُ محمدٍ

وبِعَدْلِكم تُنفى الظُّلامهْ

يرجو التراثَ بنو البنا

تِ و ما لهم فيها قُلامهْ

والصِّهرُ ليس بوارث

والبنتُ لا ترِثُ الإمامهْ

ما للذين تنحّلوا

ميراثَكم إلا الندامهْ

أخَذَ الوِراثةَ أهلُها

فعَلامَ لومُكمُ علامهْ

لو كان حقَّكمُ لَمَا

قامتْ على الناسِ القيامهْ

ليس التراثُ لغيركم

لا والإلهٍ ، و لا كرامهْ

أصبحت بين مُحِبّكم

والمبغضين لكم علامهْ

قال مروان : فعَقَد لي على البحرين واليمامة ، وخلع لي أربع خلع ، وخلع عليَّ المنتصر ، وأمر لي المتوكل بثلاثة آلاف دينار ، فنُثرت عليّ (١).

قال ابن حزم في كتابه الإحكام في أصول الأحكام :

وليعلم مَن قرأ كتابنا أن هذه البدعة العظيمة ـ نعني التقليد ـ إنما حدثت في الناس وابتُدئ بها بعد الأربعين ومائة من تاريخ الهجرة ، وبعد أزيد من مائة عام وثلاثين عاماً بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنه لم يكن قط في الإسلام قبل الوقت الذي ذكرنا مسلم واحد فصاعداً على هذه البدعة ، ولا وجد فيهم رجل يقلد عالماً بعينه ، فيتبع أقواله في الفتيا ، فيأخذ بها ولا يخالف شيئاً منها.

ثم ابتدأت هذه البدعة من حين ذكرنا في العصر الرابع في القرن المذموم ، ثم لم تزل تزيد حتى عمَّت بعد المائتين من الهجرة عموماً طبق الأرض ، إلا من عصم الله عز وجل وتمسك بالأمر الأول الذي كان عليه الصحابة والتابعون

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٧ / ١٠١.

١٢١

وتابعو التابعين بلا خلاف من أحد منهم.

نسأل الله تعالى أن يثبِّتنا عليه ، وأن لا يعدل بنا عنه ، وأن يتوب على من تورَّط في هذه الكبيرة من إخواننا المسلمين ، وأن يفيء بهم إلى منهاج سلفهم الصالح (١).

وسواء كانت هذه المذاهب سبقت هذا الزمان قليلاً أو كثيراً فهي على كل حال لم تكن في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنما استُحدِثت بعد أكثر من قرن من وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فرض المذاهب الأربعة مذاهب رسمية :

بقي العمل بالمذاهب المتعدّدة عند أهل السنة ، الأربعة وغيرها ، إلى أن جعل الخلفاء المدارس وقصروا التدريس في هذه المذاهب ، كما أن مناصب القضاء حُصرت أيضاً في القضاة الذين يقضون بفتاوى الأئمة الأربعة ، واستمر الحال على ذلك إلى أن أمر السلطان الظاهر بيبرس الذي كان له النفوذ والسلطان على مصر والشام وغيرهما من بلاد الإسلام بجعل قضاة أربعة في مصر : لكل مذهب قاض خاص ، وكان ذلك في سنة ٦٦٣ هـ ، ثم جعل بعد ذلك بعام في بلاد الشام قضاة أربعة أيضاً ، وعلى ذلك استمر الحال ، فانحصرت المذاهب عند أهل السنة في هذه الأربعة منذ ذلك الوقت إلى زماننا الحاضر.

قال المقريزي : فلما كانت سلطنة الظاهر بيبرس البندقداري ولَّى بمصر أربعة قضاة ، وهم شافعي ومالكي وحنفي وحنبلي ، فاستمر ذلك من سنة ٦٦٥ هـ ، حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يُعرف من مذاهب الإسلام سوى هذه المذاهب الأربعة ، وعملت لأهلها مدارس والخوانك والزوايا والربط في سائر ممالك الإسلام ، وعُودي مَن تمذهب بغيرها ، وأُنكر عليه ، ولم يولَّ قاضٍ ولا قُبِلت شهادة أحد ، ولا قُدِّم للخطابة والإمامة من لم يكن مقلِّداً لأحد هذه المذاهب ، وأفتى فقهاء الأمصار في طول هذه المدة

__________________

(١) الإحكام في أصول الأحكام ٦ / ١٢٦.

١٢٢

بوجوب اتّباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها (١).

قال ابن كثير في البداية والنهاية : ثم دخلت سنة أربع وستين وستمائة ، استهلَّت والخليفة : الحاكم العباسي ، والسلطان : الملك الظاهر ، وقضاة مصر أربعة ، فيها جعل بدمشق أربعة قضاة من كل مذهب قاض كما فعل بمصر عام أول ... وقد كان هذا الصنيع الذي لم يسبق إلى مثله قد فعل في العام الأول بمصر كما تقدم ، واستقرت الأحوال على هذا المنوال (٢).

وذكر ذلك أيضاً : الذهبي في كتابه « العبر » في حوادث سنة ٦٦٣ هـ. وابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب ، وتغري بردي في النجوم الزاهرة وغيرهم (٣).

وقال السيد سابق : وبالتقليد والتعصب للمذاهب فقدت الأمة الهداية بالكتاب والسنة ، وحدث القول بانسداد باب الاجتهاد ، وصارت الشريعة هي أقوال الفقهاء ، وأقوال الفقهاء هي الشريعة ، واعتُبر كل من يخرج عن أقوال الفقهاء مبتدعاً لا يوثق بأقواله ، ولا يُعتد بفتاويه.

وكان مما ساعد على انتشار هذه الروح الرجعية ما قام به الحكام والأغنياء من إنشاء المدارس ، وقصر التدريس فيها على مذهب أو مذاهب معينة ، فكان ذلك من أسباب الإقبال على تلك المذاهب ، والانصراف عن الاجتهاد ، محافظة على الأرزاق التي رُتّبت لهم!

سأل أبو زرعة شيخه البلقيني قائلاً : ما تقصير الشيخ تقي الدين السبكي عن الاجتهاد وقد استكمل آلته؟ فسكت البلقيني. فقال أبو زرعة : فما عندي أن الامتناع عن ذلك إلا للوظائف التي قُدّرت للفقهاء على المذاهب الأربعة ، وإن خرج عن ذلك لم ينله شيء ، وحُرم ولاية القضاء ، وامتنع الناس عن

__________________

(١) المواعظ والاعتبار ( خطط المقريزي ) ٣ / ٣٩٠.

(٢) البداية والنهاية ١٣ / ٢٦٠.

(٣) العبر في خبر من غبر ٣ / ٣٠٧. شذرات الذهب ٥ / ٣١٢. النجوم الزاهرة ٧ / ١٢١.

١٢٣

إفتائه ، ونُسبَتْ إليه البدعة. فابتسم البلقيني ووافقه على ذلك (١).

أصحاب المذاهب الأربعة :

١ ـ أبو حنيفة النعمان :

هو النعمان بن ثابت بن زوطي ، مولى بني تيم الله بن ثعلبة ، أصله من كابل ، وُلد بالكوفة سنة ٨٠ هـ ونشأ فيها ، رأى أنس بن مالك ، وكان يبيع الخز ويطلب العلم في صباه ، ثم انقطع للتدريس والإفتاء ، وهو إمام أهل الرأي.

روى له الترمذي والنسائي في سُنَنهما ، من أشهر تلاميذه القاضي أبو يوسف ، ومحمد بن حسن الشيباني ، له كتاب « المسند » في الحديث ، جمعه تلاميذه ، و « المخارج » كتيب صغير في الفقه ، رواه عنه تلميذه أبو يوسف.

ضربه أمير العراقين عمر بن هبيرة ليتولّى قضاء الكوفة فامتنع ، وأراده أبو جعفر المنصور بعد ذلك للقضاء ببغداد ، فامتنع أيضاً ، فحبسه إلى أن مات ببغداد سنة ١٥٠ هـ ، وله مزار معروف بالقرب من بغداد في محلّة تعرف بالأعظمية نسبة إليه ، وقد بنى ذلك على قبره محمد بن منصور الخوارزمي مستوفي مملكة السلطان ملك شاه السلجوقي سنة ٤٥٩ هـ (٢).

* * * * *

__________________

(١) فقه السنة ١ / ١٠.

(٢) له ترجمة في الأنتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء ، ص ١٢١ ـ ١٧٥ ، ميزان الاعتدال ٤ / ٢٦٥. تقريب التهذيب ، ص ٥٦٣ ت ٧١٥٣. سير أعلام النبلاء ٦ / ٣٩٠ ت ١٦٣. تهذيب التهذيب ١٠ / ٤٠١ ت ٨١٩. التاريخ الكبير ٨ / ٨١ ت ٢٢٥٣. الجرح والتعديل ٨ / ٤٤٩ ت ٢٠٦٢. تاريخ بغداد ١٣ / ٣٢٣. الطبقات الكبرى ٦ / ٣٦٨. طبقات الحفاظ ، ص ٨٠ ت ١٥٦. شذرات الذهب ١ / ٢٢٧. تاريخ الثقات ، ص ٤٥٠ ت ١٦٩٤. البداية والنهاية ١٠ / ١١٠. تذكرة الحفاظ ١ / ١٦٨ ت ١٦٣. العبر في خبر من غبر ١ / ١٦٤. تهذيب الأسماء والصفات ٢ / ٢١٦. النجوم الزاهرة ٢ / ١٢. وفيات الأعيان ٥ / ٤٠٥ ت ٧٦٥. مفتاح السعادة ٢ / ١٧٤. الأعلام ٨ / ٣٦.

١٢٤

٢ ـ مالك بن أنس :

هو مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث الأصبحي الحميري ، أبو عبد الله المدني. ولد سنة ٩٣ هـ ، وقيل غيرها ، وقيل : حملت به أمّه سنتين ، وقيل : ثلاث سنين ، لُقِّب بإمام دار الهجرة.

روى عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام ونافع وابن المنكدر وغيرهم ، وروى عنه الإمام الشافعي والسفيانيان والأوزاعي وغيرهم.

له كتاب الموطأ في الحديث. قال الشافعي : ما في الأرض كتاب أكثر صواباً من موطأ مالك ، وقال البخاري : أصح الأسانيد : مالك عن نافع عن ابن عمر. مات بالمدينة سنة ١٧٩ هـ وعمره تسعون سنة ، وقيل : خمس وثمانون ، ودُفن بالبقيع (١).

٣ ـ محمد بن إدريس الشافعي :

هو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب القرشي المطلبي المكي. وُلد في غزة بفلسطين سنة ١٥٠ هـ ، وقيل : باليمن ، مات أبوه وهو صغير وحملته أمّه إلى مكة وهو ابن سنتين. فنشأ بمكة ، ثم انتقل إلى المدينة وقرأ الموطأ على مالك.

روى عن ابن عيينة ومالك وغيرهم ، وروى عنه أحمد بن حنبل وأبو ثور والمزني وغيرهم. اعتبره بعضهم هو المجدد على رأس المائتين ، له كتاب « الأم » وفيه آراؤه الفقهية الجديدة ، وكتاب « المسند » في الحديث ،

__________________

(١) له ترجمة في البداية والنهاية ١٠ / ١٨٠. تذكرة الحفاظ ١ / ٢٠٧ ت ١٩٩. شذرات الذهب ١ / ٢٨٩. تهذيب الأسماء والصفات ٢ / ٧٥. تهذيب التهذيب ١٠ / ٥. طبقات الحفاظ ، ص ٩٦ ت ١٨٩. تقريب التهذيب ، ص ٥١٦ ت ٦٤٢٥. حلية الاولياء ٦ / ٣١٦ ت ٣٩٤. صفة الصفوة ٢ / ١٧٧ ت ١٨٩. العبر في خبر من غبر ١ / ٢١٠. النجوم الزاهرة ٢ / ٩٦. وفيات الاعيان ٤ / ١٣٥ ت ٥٥٠. الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء ، ص ٩ ـ ٦٣. التاريخ الكبير ٧ / ٣١٠ ت ١٣٢٣. الجرح والتعديل ٨ / ٢٠٤ ت ٩٠٢. سير أعلام النبلاء ٨ / ٤٨. مفتاح السعادة ٢ / ١٩٥.

١٢٥

و « أحكام القرآن » وغيرها ، وله شعر جيد ، ومنه :

ما حَكَّ جلدَك مثلُ ظفركْ

فتولَّ أنت جميعَ أمرِك

وإذا بُليتَ بحاجةٍ

فاقصد لمعترِفٍ بفضلكْ

وله أشعار جيدة في حب أهل البيت عليه‌السلام ، زار بغداد سنة ١٩٥ هـ فاجتمع به أحمد بن حنبل وأبو ثور وغيرهما ، وأقام بها حولين وصنف بها كتابه القديم ، ثم عاد إلى مكة ، ثم رجع إلى بغداد سنة ١٩٨ هـ ، ومكث فيها شهراً ، ثم قصد مصر سنة ١٩٩ هـ ، وصنف بها كتبه الجديدة كالأم ، والأمالي الكبرى ، ومختصر البويطي ، ومختصر المزني ، ومات فيها سنة ٢٠٤ هـ وعمره ٥٤ سنة ، وقبره معروف بالقرب من المقطم (١).

٤ ـ أحمد بن حنبل :

هو أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني المروزي البغدادي ، صاحب المسند. خرجت به أمه من مرو حملاً ، ووُلد في بغداد سنة ١٦٤ هـ ، ونشأ بها ، وتوفي أبوه وهو ابن ثلاث سنين ، طلب الحديث سنة ١٧٩ هـ ، وقيل : ١٨٧ هـ ، وطاف بالبلاد ، ودخل الكوفة والبصرة والحجاز واليمن والشام والجزيرة ، سمع من هشيم عن الشافعي وسفيان بن عيينة وغيرهم ، وروى عنه البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم ، وروى عنه الترمذي والنسائي وابن ماجة بواسطة رجل واحد.

__________________

(١) له ترجمة في الأنتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء ، ص ٦٥ ـ ١١٩. طبقات الحفاظ ، ص ١٥٧ ت ٣٣٦. البداية والنهاية ١٠ / ٢٦٢. شذرات الذهب ٢ / ٩. تاريخ بغداد ٢ / ٥٦. تهذيب الأسماء واللغات ١ / ٤٤. تذكرة الحفاظ ١ / ٣٦١ ت ٣٥٤. تهذيب التهذيب ٩ / ٢٣. العبر في خبر من غبر ١ / ٢٦٩. حلية الأولياء ٩ / ٦٣ ت ٤٥١. وفيات الأعيان ٤ / ١٦٣ ت ٥٥٨. تقريب التهذيب ، ص ٤٦٧ ت ٥٧١٧. سير أعلام النبلاء ١٠ / ٥. طبقات الحنابلة ١ / ٢٨٠. الجرح والتعديل ٧ / ٢٠١ ت ١١٣٠. النجوم الزاهرة ٢ / ١٧٦. الوافي بالوفيات ٢ / ١٧١. صفة الصفوة ٢ / ٢٤٨ ت ٢٢٠. مفتاح السعادة ٢ / ١٩٩. الأعلام ٦ / ٢٦.

١٢٦

دُعي إلى القول بخلق القرآن في زمن المأمون العباسي سنة ٢١٨ هـ ، ثم في زمن المعتصم ، فأبى وامتنع ، فحُبس نحواً من ثمانية وعشرين شهراً ، أو ٢٨ يوماً على اختلاف النقل ، وضُرب ، فثبت على قوله ، فأطلقه المعتصم سنة ٢٢١ هـ ، وبقي مدة في منزله ، وفي سنة ٢٣٧ هـ استقدمه المتوكل العباسي إليه وأكرمه وقرّبه.

مات ببغداد سنة ٢٤١ هـ ، وعمره سبع وسبعون سنة (١).

أقوالهم في عدم جواز التقليد في الدين :

لقد تطابقت كلمات أعلام أهل السنة على عدم جواز تقليد الرجال في الدين ، وقد ذكر ابن القيم في كتابه أعلام الموقعين ثمانين دليلاً على عدم جواز التقليد في أحكام الله ، وعدم جواز الالتزام باتباع واحد من أصحاب المذاهب وغيرهم.

وإليك بعض كلماتهم :

قال ابن حزم : التقليد حرام ، ولا يحل لأحد أن يأخذ قول أحد غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا برهان ، لقوله تعالى ( اتّبعوا ما أُنزل إليكم من ربكم ولا تتّبعوا من دونه أولياء) (٢).

وقال : ويكفي في إبطال التقليد أن القائلين به مقِرّون على أنفسهم

__________________

(١) له ترجمة في طبقات الحفاظ ، ص ١٨٩ ت ٤١٧. شذرات الذهب ٢ / ٩٦. تذكرة الحفاظ ٢ / ٤٣١ ت ٤٣٨. سير أعلام النبلاء ١١ / ١٧٧. العبر في خبر من غبر ١ / ٣٤٢. التاريخ الكبير ٢ / ٥ ت ١٥٠٥. الطبقات الكبرى ٧ / ٣٥٤. تهذيب الاسماء واللغات ١ / ١١٠. طبقات الحنابلة ١ / ٤. البداية والنهاية ١٠ / ٣٤٠. تهذيب التهذيب ١ / ٦٢ ت ١٢٦. تقريب التهذيب ، ص ٨٤ ت ٩٦. تاريخ بغداد ٤ / ٤١٢. حلية الأولياء ٩ / ١٦١ ت ٤٥٣. صفة الصفوة ٢ / ٣٣٦ ت ٢٦٢. وفيات الاعيان ١ / ٦٣ ت ٢٠. النجوم الزاهرة ٢ / ٣٠٤. مفتاح السعادة ٢ / ٢٠٨.

(٢) الرد على من أخلد ألى الارض ، ص ١٣١.

١٢٧

بالباطل ، لأن كل طائفة من الحنفية والمالكية والشافعية مقرّة بأن التقليد لا يحل ، وأئمتهم الثلاثة قد نهوا عن تقليدهم ، ثم مع ذلك خالفوهم وقلّدوهم ، وهذا عجب ما مثله عجب ، حيث أقرّوا ببطلان التقليد ، ثم دانوا الله بالتقليد (١).

وقال ابن القيم في أعلام الموقعين : إن العالِم قد يَزِلّ ولا بد ، إذ ليس بمعصوم ، فلا يجوز قبول كل ما يقوله ، ويُنَزَّل منزلة قول المعصوم ، فهذا الذي ذمَّه كلُّ عالِم على وجه الأرض ، وحرّموه وذمّوا أهله ، وهو أصل بلاء المقلِّدين وفتنتهم ، فإنهم يقلِّدون العالِم فيما زلَّ وفيما لم يزِلّ فيه ، وليس لهم تمييز بين ذلك ، فيأخذون الدين بالخطأ ولا بد ، فيُحِلُّون ما حرَّم الله ، ويُحرِّمون ما أحلَّ الله ، ويشرِّعون ما لم يشرِّع ، ولا بد لهم من ذلك إذا كانت العصمة منتفية عمن قلَّدوه ، فالخطأ واقع منه ولا بد (٢).

وقال المعصومي : لمَّا غيَّر المسلمون أوامر رب العالمين ، جازاهم الله تعالى بتغيير النعمة عليهم ، وسلب عنهم الدولة ، وأزال عنهم الخلافة ، كما تشهد به آيات كثيرة. فمِن جملة ما غيَّروا : التمذهب بالمذاهب الخاصة ، والتعصّب لها ولو بالباطل ، وهذا [ بدعة ] لا شك فيه ولا شبهة ، وكل بدعة تُعتَقد دِيناً وثواباً فهي ضلالة (٣).

وقال ابن حزم أيضاً : فليعلم مَن أخذ بجميع أقوال أبي حنيفة أو جميع أقوال مالك ، أو جميع أقوال الشافعي ، أو جميع أقوال أحمد رضي الله عنهم ، ولم يترك من اتبع منهم أو من غيرهم إلى قول غيره ، ولم يعتمد على ما جاء في القرآن والسنة ، غير صارف لذلك إلى قول إنسان بعينه ، أنه خالف إجماع الأمة كلها ، أولها عن آخرها بيقين لا إشكال فيه ، وأنه لا يجد لنفسه سلفاً ولا

__________________

(١) المصدر السابق ، ص ١٣٣.

(٢) أعلام الموقعين ٢ / ١٩٢.

(٣) هدية السلطان ، ص ٤٧.

١٢٨

إنساناً في جميع الأعصار المحمودة الثلاثة ، نعوذ بالله من هذه المنزلة (١).

إلى غير ذلك مما يطول ذكره ، وفيما ذكرناه كفاية.

نهي الأئمة الأربعة عن تقليدهم :

إن أئمة المذاهب الأربعة نهوا الناس عن تقليدهم واتّباعهم ، وقد نُقل ذلك عنهم ، وهو محفوظ من أقوالهم وكلماتهم :

قال ابن القيم في أعلام الموقعين : وقد نهى الأئمة الأربعة عن تقليدهم ، وذمّوا مَن أخذ أقوالهم بغير حُجّة (٢).

وقال ابن حزم : وقد ذكرنا أن مالكاً وأبا حنيفة والشافعي لم يُقلِّدوا ، ولا أجازوا لأحد أن يقلِّدهم ، ولا أن يقلِّد غيرهم (٣).

وقال أبو حنيفة : لا يحل لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه (٤).

وقال : لا يحل لمن يفتي من كتبي أن يفتي حتى يعلم من أين قلت (٥).

وروى ابن حزم بسنده عن المازني ، عن الشافعي أنه نهى الناس عن تقليده وتقليد غيره (٦).

ونقل السيوطي عن الإمام أبي شامة أنه قال : نهى إمامنا الشافعي عن تقليده وتقليد غيره (٧). وذكر المزني صاحب الشافعي ذلك في مقدمة مختصره (٨).

__________________

(١) الرد على من أخلد إلى الارض ، ص ١٣٢.

(٢) أعلام الموقعين ٢ / ٢٠٠.

(٣) الإحكام في اصول الأحكام ٦ / ٣١٤.

(٤) أعلام الموقعين ٢ / ٢٠٠.

(٥) الانتقاء ، ص ١٤٥.

(٦) الإحكام في أصول الأحكام ٦ / ١٧٤.

(٧) الرد على من أخلد الى الارض ، ص ١٤١.

(٨) مختصر المزني ، ص ١. ونقل ذلك عنه السيوطي في المصدر السابق ، ص ١٤٢.

١٢٩

وقال أحمد بن حنبل : لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الثوري ولا الأوزاعي ، خذ من حيث أخذوا. وقال : من قلة فقه الرجل أن يقلد في دينه الرجال.

وقال : لا تقلّد دينك أحداً (١).

قال ابن القيم : ولأجل هذا لم يؤلف الإمام أحمد كتاباً في الفقه ، وإنما دوّن أصحابه مذهبه من أقواله وأفعاله وأجوبته وغير ذلك.

ثم إن كل واحد من الأئمة الأربعة نهى أن يؤخذ بقوله إذا كان مخالفاً لما هو مروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فالمعتمد هو قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا أقوالهم :

قال أبو حنيفة : إذا جاء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعلى العين والرأس ، وإذا جاء عن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نختار من قولهم ، وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم ... (٢)

وقال الشافعي : كل ما قلت وكان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلاف قولي مما يصح ، فحديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولى ، فلا تقلدوني (٣).

وقال مالك بن أنس : إنما أنا بشر أخطئ وأصيب ، فانظروا في رأيي ، فكل ما وافق الكتاب والسنّة فخذوا به ، وما لم يوافق الكتاب والسنّة فاتركوه (٤).

وبعد هذا كله هل يجوز لمؤمن أن يتَّبع إماماً نهى عن تقليده واتّباعه ، وأمر الناس بعرض أقواله على كتاب الله وسُنة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمر بطرح كل ما

__________________

(١) أعلام الموقعين ٢ / ٢١١.

(٢) الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء ، ص ١٤٤ ، ١٤٥.

(٣) آداب الشافعي ومناقبه ، ص ٦٨. حلية الاولياء ٩ / ١٠٦ ، ١٠٧. توالي التأسيس ، ص ١٠٧. مناقب الإمام الشافعي ، ص ٣٥٩. أعلام الموقعين ٢ / ٢٨٥. البداية والنهاية ١٠ / ٢٦٥. تذكرة الحفاظ ١ / ٣٦٢. سير أعلام النبلاء ١٠ / ٣٣ ، ٣٤ ، ٣٥.

(٤) الإحكام في أصول الأحكام ٦ / ٢٩٤. تهذيب التهذيب ١٠ / ٨.

١٣٠

خالفهما ، وعلى ذلك يكون كل مَن لم يفعل ذلك فهو مخالفاً لهم وهو يزعم أنه يتّبعهم ، ولعلهم يتبرّؤون من كل أولئك الذين اتبعوهم يوم العرض على الله.

( إذ تبرَّأ الذين اتُّبِعُوا من الذين اتَّبَعُوا وَرَأَوْا العذاب وتقطعت بهم الأسباب * وقال الذين اتَّبَعُوا لو أن لنا كرَّة فَنَتَبَرَّأَ منهم كما تبرّأوا منا كذلك يُريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار ) (١).

قال ابن حزم : هكذا والله يقول هؤلاء الفضلاء الذين قلَّدهم أقوام قد نهوهم عن تقليدهم ، فإنهم رحمهم‌الله قد تبرأوا في الدنيا والآخرة من كل من قلَّدهم ، وفاز أولئك الأفاضل الأخيار ، وهلك المقلِّدون لهم ، بعدما سمعوا من الوعيد الشديد ، والنهي عن التقليد (٢).

وقال : ووالله لو أن هؤلاء [ الأئمة ] وَرَدُوا عرصة القيامة بملء السماوات والأرض حسنات ، ما رحموه ـ يعني مَن قلَّدهم ـ بواحدة ، ولو أنه المغرور وَرَدَ ذلك الموقف بملء السماوات والأرض سيئات ، ما حطُّوا منها واحدة ، ولا عرَّجوا عليه ، ولا التفتوا إليه ، ولا نفعوه بنافعة (٣).

أحاديث ضعيفة وأحلام سخيفة :

لقد رووا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم روايات في فضل بعض هؤلاء الأئمة ، وهي إما ضعيفة من جهة السند ، أو ضعيفة من ناحية الدلالة.

وإليك بعضاً منها :

١ ـ ما رووه في فضل أبي حنيفة :

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يكون في أمتي رجل اسمه النعمان ، وكنيته أبو

__________________

(١) سورة البقرة ، الآياتان ١٦٦ ، ١٦٧.

(٢) الإحكام في أصول الأحكام ٦ / ٢٧٦.

(٣) المصدر السابق ٦ / ٢٨١.

١٣١

حنيفة ، هو سراج أمتي ، هو سراج أمتي ، هو سراج أمتي (١).

وهذا الحديث موضوع.

قال الخطيب : وهو حديث موضوع تفرد بروايته البورقي ، وقد شرحنا فيما تقدم أمره وبينّا حاله (٢).

وذكره السيوطي في الموضوعات ، ونقل تضعيفه عن الخطيب والحاكم (٣).

وقال الشوكاني : هو موضوع ، وفي إسناده وضَّاعان : مأمون بن أحمد السلمي ، وأحمد بن عبد الله الجويباري (٤).

ومنها : عن أنس مرفوعاً قال : سيأتي من بعدي رجل يقال له : النعمان ابن ثابت ، ويكنى أبا حنيفة ، ليُحيِيَنّ دين الله وسُنّتي على يده.

قال الخطيب : باطل موضوع ، محمد بن يزيد متروك الحديث ، وسليمان وشيخه مجهولان ، وأبان يُرمى بالكذب (٥).

وعن أنس أيضاً مرفوعاً : يكون في أمتي رجل يقال له النعمان ، يُكنّى أبا حنيفة ، يجدِّد الله له سُنّتي على يديه (٦).

قال السيوطي : موضوع ، آفته الجويباري (٧).

وقال الملا علي القاري في ضمن تعداده للموضوعات في أحاديث المناقب : ومن ذلك ما وضعه الكذَّابون في مناقب أبي حنيفة والشافعي على

__________________

(١) تاريخ بغداد ١٣ / ٣٣٥.

(٢) المصدر السابق.

(٣) اللآلي المصنوعة ١ / ٤٥٧.

(٤) الفوائد المجموعة ، ص ٤٢٠ ح ١٨٥.

(٥) اللآلي المصنوعة ١ / ٤٥٨.

(٦) الكامل في ضعفاء الرجال ١ / ١٧٨.

(٧) اللآلي المصنوعة ١ / ٤٥٨.

١٣٢

التنصيص على اسميهما (١).

٢ ـ ما رووه في فضل مالك :

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل فلا يجدون أحداً أعلم من عالم المدينة (٢).

قالوا : المراد به مالك بن أنس.

وهذا الحديث وإن حسَّنه الترمذي ، إلا أنه لا دلالة فيه على أن عالم المدينة هو مالك بن أنس ، لأن المدينة ضمَّت رجالاً أفذاذاً قبل أحمد وفي زمانه وبعده ، وحسبك أن منهم : علي بن الحسين زين العابدين ، وابنه الإمام محمد ابن علي الباقر ، وابنه الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهم‌السلام ، وغيرهم من العلماء البارزين ، ومالك لم يسبق هؤلاء ولا غيرهم في نسب ولا فضل ولا علم ولا غير ذلك ، بل نصَّ بعضهم على أن غيره أفضل منه (٣) ، فكيف يتعيَّن أن يكون هو عالم المدينة.

__________________

(١) الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة ، ص ٤٥٥.

(٢) سنن الترمذي ٥ / ٤٧ ح ٢٦٨٠. مسند أحمد ١٥ / ١٣٥ ح ٧٩٦٧.

(٣) ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء ٨ / ١٥٦ عن الشافعي أنه قال : الليث أفقه من مالك ، ولكن الخطوة لمالك رحمه‌الله. وعن الشافعي : الليث أتبع للأثر من مالك. وفي تاريخ بغداد ٢ / ٢٩٨ عن أحمد بن حنبل قال : كان أبن أبي ذئب ثقة صدوقاً ، أفضل من مالك بن أنس. وفي ٢ / ١٧٥ عن يحيى بن صالح قال : محمد بن الحسن فيما يأخذه لنفسه أفقه من مالك. وفي ٩ / ١٦٤ عن علي بن المديني قال : سألت يحيى بن سعيد قلت له : أيما أحب إليك ، رأي مالك أو رأي سفيان؟ قال : سفيان لا يشك في هذا ... سفيان فوق مالك في كل شيء ، يعني في الحديث وفي الفقه وفي الزهد. وفي ٢ / ٣٠٢ أن شامياً سأل الإمام أحمد : من أعلم ، مالك أو أبن أبي ذئب؟ فقال : أبن أبي ذئب في هذا أكبر من مالك ، وأبن أبي ذئب اصلح في دينه وأورع ورعاً ، وأقوم بالحق من مالك عند السلاطين.

١٣٣

ثم إن الظاهر من الحديث هو الدلالة إلى علماء المدينة ، وأن العلماء في غيرها من البلدان لا يقاسون بهم ، لا أن المراد به الدلالة على عالم مخصوص ، حتى يقع الكلام في أنه مالك بن أنس أو غيره. ولهذا قال : «فلا يجدون أحداً أعلم من عالم المدينة » ، أي من جنس العالم الذي بالمدينة ، ولم يقُل : فلا يجدون أحداً أعلم من عالمٍ بالمدينة. حتى يكون المراد به عالماً مخصوصاً.

ولو سلَّمنا أن المراد به عالم مخصوص فلم يحصل اتفاقهم على أنه مالك بن أنس ، فإن الترمذي في السُّنَن ذكر في رواية عن سفيان بن عيينة أنه قال : إنه مالك ، وفي رواية أخرى قال : إنه العُمَري (١).

وقال أحمد في المسند : وقال قوم : هو العمري ، قال : فَقَدَّموا مالكاً (٢).

وذكر الخطيب أن أبا موسى سأل سفيان : أكان ابن جُرَيْج يقول : نرى أنه مالك بن أنس؟ فقال : إنما العالم من يخشى الله ، ولا نعلم أحداً كان أخشى لله من العمري (٣).

٣ ـ ما رووه في فضل الشافعي :

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : عالم قريش يملأ طباق الأرض علماً. يعني الشافعي.

أورده الشوكاني في الموضوعات ، وقال : هو موضوع. قاله الصغاني (٤).

ومع ضعف الحديث فإنه لا يدل على خصوص الشافعي ، وما قلناه في ( عالم المدينة ) يأتي هنا أيضاً ، فإن عالم قريش لا يدل على رجل مخصوص ، وأئمة العترة النبوية الطاهرة عليهم‌السلام كلهم من قريش ، وهم أفقه من الشافعي وغيره ، وهذا لا نحتاج فيه إلى مزيد بيان.

__________________

(١) سنن الترمذي ٥ / ٤٧ ح ٢٦٨٠.

(٢) مسند أحمد ١٥ / ١٣٥ ح ٧٩٦٧.

(٣) تاريخ بغداد ١٣ / ٣٧٧.

(٤) الفوائد المجموعة ، ص ٤٢٠ ح ١٨٦.

١٣٤

وأما الأحلام التي أيَّدوا بها مذاهبهم فهي كثيرة ، ولا يحسن بنا إضاعة الوقت بذكرها ، لأن الأحلام ليست حُجة في بيع حزمة بقل فما دونها ، فكيفتكون حجة في إمامة الدين والعلم ، وهو واضح لا يحتاج إلى إطالة الكلام فيه.

ولكن لا بأس أن نذكر بعضاً منها للدلالة على مبلغ سخافتها :

١ ـ أبو حنيفة : ذكر ابن عبد البر في كتاب الانتقاء وغيره أن أبا حنيفة قال : رأيت في المنام كأني نبشتُ قبر النبي عليه‌السلام ، فأخرجت عظامه فاحتضنتها ، قال : فهالتني هذه الرؤيا ، فرحلت إلى ابن سيرين ، فقصصتها عليه ، فقال : إن صدقت رؤياك لتُحيِيَنَّ سُنّة نبيِّك محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وذكرها بعينها أيضاً عن رجل رأى هذه الرؤيا في أبي حنيفة.

وعن أبي رجاء وكان من العبادة والصلاح بمكان ، قال : رأيت محمد بن الحسن في المنام ، فقلت : ما صنع الله بك؟ قال : غفر لي. قلت : وأبو يوسف؟ قال : هو أعلى درجة مني. قلت : فما صنع أبو حنيفة؟ قال : هيهات ، هو في أعلى عليين (١).

٢ ـ مالك بن أنس : ذكر أبو نعيم في الحلية عن إسماعيل بن مزاحم المروزي أنه قال : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام ، فقلت : يا رسول الله مَن نسأل بعدك؟ قال : مالك بن أنس.

وعن محمد بن رمح التجيبي أنه قال : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما يرى النائم ، فقلت : يا رسول الله قد اختلف علينا في مالك والليث ، فأيهما أعلم؟ قال : مالك ورث حدي ، معناه أي علمي.

وعن عبد الله مولى الليثيين وكان مختاراً قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المسجد قاعداً والناس حوله ، ومالك قائم بين يديه ، وبين يدي رسول الله

__________________

(١) الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء ، ص ١٤٥ ـ ١٤٦.

١٣٥

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسك ، وهو يأخذ منه قبضة قبضة فيدفعها إلى مالك ، ومالك ينشرها على الناس. قال مطرف : فأُوّلت ذلك العلم واتباع السنّة (١).

٣ ـ الشافعي : ذكر الخطيب عن المزي أنه قال : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام ، فسألته عن الشافعي ، فقال لي : من أراد محبّتي وسُنّتي فعليه بمحمد بن إدريس الشافعي المطلبي ، فإنه مني وأنا منه.

وعن أحمد بن حسن الترمذي قال : كنت في الروضة فأغفيت ، فإذا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أقبل ، فقمت إليه فقلت : يا رسول الله قد كثر الاختلاف في الدين ، فما تقول في رأي أبي حنيفة؟ فقال : أف. ونفض يده ، قلت : فما تقول في رأي مالك؟ فرفع يده وطأطأ وقال : أصاب وأخطأ. قلت : فما تقول في رأي الشافعي؟ فقال : بأبي ابن عمّي ، أحيى سُنّتي (٢).

٤ ـ أحمد بن حنبل : ذكر الخطيب في تاريخ بغداد عن أبي الفرج الهندبائي قال : كنت أزوز قبر أحمد بن حنبل ، فتركته مدة ، فرأيت في المنام قائلاً يقول : لمَ تركتَ زيارة قبر إمام السُّنّة؟ (٣)

أقول : لا أدري لِمَ قطع هذا الرجل بأن رؤياه ليست من أضغاث الأحلام؟ وهلاّ حثّه هذا القائل على زيارة الحسين عليه‌السلام ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ ولا سيما أن المسافة بين قبر أحمد في بغداد وقبر الحسين عليه‌السلام في كربلاء ليست كثيرة. اللهم إلا إذا كان أحمد ـ بنظر ذلك القائل كما هو الظاهرـ خيراً من سيد شباب أهل الجنة عليه‌السلام ، وزيارته أفضل وأكثر ثواباً.

وعن يحيى بن أيوب المقدسي ، قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النوم وهو نائم ، وعليه ثوب مغطّى به ، وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين يذبّان عنه (٤).

__________________

(١) حلية الاولياء ٦ / ٣١٧.

(٢) تاريخ بغداد ٢ / ٦٩.

(٣) تاريخ بغداد ٤ / ٤٢٣.

(٤) البداية والنهاية ١٠ / ٣٥٧.

١٣٦

ما ذكروه في ذم الأئمة الأربعة :

ما قيل في ذم الأئمة الأربعة كثير ، ولا يسعنا حصره ، وما سندرجه في هذه الفقرة لم نتقوّله عليهم ، بل هو مذكور في كتب علماء أهل السنة ، وصادر من علمائهم ، وقد ذكرنا مصادره في الحواشي لتوثيق النقل عنهم.

وليس غرضنا من نقله الإزراء بهم أو الطعن فيهم ، فإن أئمة المذاهب وفدوا على ربّهم ، والله أعلم بحالهم ، ولكن الغاية هي أن يعلم القارئ الكريم أن هؤلاء رجال غير معصومين ، وقد قيل فيهم ما قيل إن صدقاً وإن كذباً ، ونحن نذكره لكي يتحقق الفرد المسلم في اختيار الأئمة في الدين ، وليعلم أن الواجب عليه هو اتباع مَن أُمر باتباعهم ، وهم أهل البيت عليهم‌السلام دون غيرهم ، والله أعلم بحقائق الأمور.

وإليك بعض ما قالوه فيهم :

١ ـ ما قالوه في أبي حنيفة :

قال البخاري : كان مرجئاً ، سكتوا عن رأيه وعن حديثه (١).

وروى البخاري في تاريخه الصغير أن سفيان لَمَّا نُعي أبو حنيفة قال : الحمد لله ، كان ينقض الإسلام عروة ، ما وُلد في الإسلام أشأم منه (٢).

وقال ابن عبد البر في كتاب الانتقاء : ممن طعن عليه وجرحه أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ، فقال في كتابه في الضعفاء والمتروكين :

أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي ، قال نعيم بن حماد : نا يحيى بن

____________

(١) التاريخ الكبير ٨ / ٨١ ت ٢٢٥٣. وذكر الخطيب في تاريخ بغداد ١٣ / ٣٧٩ ـ ٣٨٠. ٣٩٨ ، ٣٩٩ من قال إن أبا حنيفة من المرجئة. وقال أبن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله ٢ / ١٠٧٢ ( ط محققة ) : ونقموا أيضاً على أبي حنيفة الإرجاء ، ومن أهل العلم من ينسب إلى الإرجاء كثير ، ولم يعن أحد بنقل قبيح ما قيل فيه كما عنوا بذلك في أبي حنيفة لإمامته. وراجع الكامل في ضعفاء الرجال ٧ / ٨.

(٢) التاريخ الصغر ٢ / ٩٣. تاريخ بغداد ١٣ / ٤١٨. الكامل في ضعفاء الرجال ٧ / ٨.

١٣٧

سعيد ومعاذ بن معاذ ، سمعا سفيان الثوري يقول : قيل : استُتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين (١). وقال نعيم عن الفزاري : كنت عند سفيان بن عيينة ، فجاء نعي أبي حنيفة ، فقال : لعنه الله ، كان يهدم الإسلام عروةً عروة ، ما وُلد في الإسلام مولود أشر منه. هذا ما ذكره البخاري (٢).

وقال : قال ابن الجارود في كتابه في الضعفاء والمتروكين : النعمان بن ثابت جُل حديثه وهم ، وقد اختُلف في إسلامه.

وقال : وقد روي عن مالك رحمه‌الله أنه قال في أبي حنيفة نحو ما ذكر سفيان أنه شر مولود وُلد في الإسلام ، وأنه لو خرج على هذه الأمة بالسيف كان أهون (٣).

قلت : ورواه الخطيب البغدادي أيضاً عن الأوزاعي وحماد (٤) ومالك (٥).

وقال الذهبي : ضعَّفه النسائي من جهة حفظه ، وابن عدي وآخرون (٦) ، وترجم له الخطيب في فصلين من تاريخه ، واستوفى كلام الفريقين : معدِّليه ومضعِّفيه (٧).

وروى ابن أبي حاتم عن ابن المبارك أنه قال : كان أبو حنيفة مسكيناً في الحديث. وعن أحمد بن حنبل أن أبا حنيفة ذُكِر عنده فقال : رأيه مذموم ، وبدنه لا يذكر. وعن محمد بن جابر اليمامي أنه قال : سرَق أبو حنيفة كتب

__________________

(١) وذكره أيضاً الخطيب في تاريخ بغداد ١٣ / ٣٩٠ ـ ٣٩٣.

(٢) الأنتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء ، ص ١٤٩ ـ ١٥٠.

(٣) المصدر السابق ، ص ١٥٠.

(٤) تاريخ بغداد ١٣ / ٤٢٠.

(٥) المصدر السابق ١٣ / ٤١٥.

(٦) روى الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ١٣ / ٤٥٠ ـ ٤٥١ أن أبا حنيفة ضعفة : يحيى بن معين ، وعلي بن المديني ، وعمرو بن علي ، والجوزجاني ، وابن أبي شيبة ، ومسلم ، والنسائي. وضعفه كذلك ابن عدي في الكامل ٧ / ٥ ـ ١٢.

(٧) ميزان الاعتدال ٤ / ٢٦٥ ت ٩٠٩٢.

١٣٨

حماد مني (١).

وذكر ابن سعد في الطبقات عن محمد بن عمر ، قال : كان ضعيفاً في الحديث (٢).

وذكر أبو نعيم في حلية الأولياء ، والخطيب في تاريخه أن مالك بن أنس ذَكَرَ أبا حنيفة ، فقال : كاد الدين ، ومَن كاد الدين فليس مِن أهله.

وعن الوليد بن مسلم قال : قال لي مالك : يُذْكَر أبو حنيفة ببلدكم؟ قلت : نعم. قال : ما ينبغي لبلدكم أن تُسكَن (٣).

وقال سفيان بن عيينة : ما زال أمر الناس معتدلاً حتى غيَّر ذلك أبو حنيفة بالكوفة ، والبتي بالبصرة ، وربيعة بالمدينة (٤).

وقال أحمد بن حنبل : ما قول أبي حنيفة والبعر عندي إلا سواء (٥).

وقال الشافعي : نظرت في كتاب لأبي حنيفة فيه عشرون ومائة ، أو ثلاثون ومائة ورقة ، فوجدت فيه ثمانين ورقة في الوضوء والصلاة ، ووجدت فيه إما خلافاً لكتاب الله ، أو لسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو اختلاف قول ، أو تناقض ، أو خلاف قياس (٦).

وروى الخطيب عن أبي بكر بن أبي داود أنه قال لأصحابه : ما تقولون في مسألة اتفق عليها مالك وأصحابه ، والشافعي وأصحابه ، والأوزاعي وأصحابه ، والحسن بن صالح وأصحابه ، وسفيان الثوري وأصحابه ، وأحمدبن حنبل وأصحابه؟ فقالوا : يا أبا بكر ، لا تكون مسألة أصح من

__________________

(١) الجرح والتعديل ٨ / ٤٥٠ ت ٢٠٦٢.

(٢) الطبقات الكبرى ٦ / ٣٦٨.

(٣) حلية الاولياء ٦ / ٣٢٥. تاريخ بغداد ١٣ / ٤٢١. الكامل في ضعفاء الرجال ٧ / ٦.

(٤) الإحكام في أصول الأحكام ٦ / ٢٢٣. تاريخ بغداد ١٣ / ٤١٣ ـ ٤١٤.

(٥) تاريخ بغداد ١٣ / ٤٣٩.

(٦) حلية الاولياء ١٠ / ١٠٣.

١٣٩

هذه. فقال : هؤلاء كلهم اتفقوا على تضليل أبي حنيفة (١).

وبالجملة ، فما قالوه في الطعن في أبي حنيفة كثير جداً ، ولا يسعنا استقصاؤه ، وقد أعرضنا عن أمور عظيمة ذكروها فيه ، ومن شاء الاستزادة فليرجع إلى تاريخ بغداد ، والانتقاء ، وجامع بيان العلم وفضله وغيرها (٢).

٢ ـ ما قالوه في مالك :

ذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ أن مالكاً لم يشهد الجماعة خمساً وعشرين سنة.

وذكر عن ابن سعد أن مالكاً كان يأتي المسجد ليشهد الصلوات والجنائز ، ويعود المرضى ، ويقضي الحقوق ، ويجلس في المسجد ، ثم ترك الجلوس فيه ، فكان يصلي وينصرف ، وترك شهود الجنائز ، فكان يأتي أصحابه فيعزّيهم ، ثم ترك ذلك كله والصلاة في المسجد والجمعة (٣).

وذُكر أنه بكى في مرض موته ، وقال : والله لوددت أني ضُرِبتُ في كل مسألة أفتيت بها ، وليتني لم أُفتِ بالرأي (٤).

وذكر الذهبي عن الهيثم بن جميل قال : سمعت مالكاً سُئل عن ثمان وأربعين مسألة ، فأجاب عن اثنتين وثلاثين منها بـ « لا أدري ».

وعن خالد بن خداش ، قال : قدمتُ على مالك بأربعين مسألة ، فما

__________________

(١) تاريخ بغداد ١٣ / ٣٩٤.

(٢) تاريخ بغداد ١٣ / ٣٧٠ ـ ٤٥٤ ذكر الخطيب أكثر من ١٥٠ قولا في ذمه ص ١٤٧ ـ ١٥٢. جامع بيان العلم وفضله ٢ / ١٠٧٤ ، ١٠٧٩ ، ١٠٨٦ ( ط محققة ) الكامل في ضعفاء الرجال ٧ / ٥ ـ ١٢.

(٣) تذكرة الحفاظ ١ / ٢١٠ ت ١٩٩. شذرات الذهب ١ / ٢٨٩ ـ ٢٩٠ وفيات الاعيان

(٤) شذرات الذهب ١ / ٢٩٢. وفيات الاعيان ٤ / ١٣٧. الإحكام في أصول الأحكام الدين ٦ / ٢٢٤. جامع بيان العلم وفضله ٢ / ١٠٧٢ ( ط محققة ).

١٤٠