الكشف والبيان - ج ١

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ١

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٥

وقال مجاهد : إضاءة النار : إقبالهم الى المسلمين والهدى ، وذهاب نورهم : إقبالهم الى المشركين والضّلالة.

سعيد بن جبير ومحمد بن كعب وعطاء ، ويمان بن رئاب : نزلت في اليهود وانتظارهم خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإيمانهم به واستفتاحهم به على مشركي العرب ، فلمّا خرج كفروا به ، وذلك بأنّ قريظة والنضير وبنو قينقاع قدموا من الشام الى يثرب حتى انقطعت النبوة من بني إسرائيل وأفضت الى العرب ، فدخلوا المدينة يشهدون لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنبوة وأنّ أمّته خير الأمم وكان يغشاهم رجل من بني إسرائيل يقال له : عبد الله بن هيبان قبل أن يوحي الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلّ سنة فيعظهم على طاعة الله تعالى وإقامة التوراة والإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسول إذا خرج : فلا تفرّقوا عنه وانصروه وقد كنت أطمع أن أدركه ، ثمّ مات قبل خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقبلوا منه ، ثم لمّا خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفروا به فضرب الله لهم هذا المثل.

وقال الضحاك : لمّا أضاءت النار أرسل الله عليه ريحا قاصفا فأطفأها ، فكذلك اليهود كلّما أوقدوا نارا لحرب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَطْفَأَهَا اللهُ).

ثم وصفهم جميعا فقال : (صُمٌ) : أي هم صمّ عن الهدى فلا يسمعون.

(بُكْمٌ) : عنه فلا يقولون.

(عُمْيٌ) : عنه فلا يرونه.

وقيل : (صُمٌ) يتصاممون عن سماع الحقّ ، (بُكْمٌ) يتباكمون عن قول الحقّ ، (عُمْيٌ) يتعامون عن النظر الى الحق بغير اعتبار.

وقرأ عبد الله : صمّا بكما عميا على معنى وتركهم كذلك ، وقيل : على الذّم ، وقيل : على الحال.

(فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) عن الضلالة والكفر الى الهداية والإيمان.

ثم قال : (أَوْ كَصَيِّبٍ) هذا مثل آخر ضربه الله لهم أيضا معطوف على المثل الأوّل مجازه : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) ومثلهم أيضا (كَصَيِّبٍ).

قال أهل المعاني : (أَوْ) بمعنى الواو ، يريد وكصيّب ، كقوله تعالى : (أَمْ تُرِيدُونَ) (١) وأنشد الفرّاء :

وقد زعمت سلمى بأنّي فاجر

لنفسي تقاها أو عليها فجورها (٢)

__________________

(١) سورة البقرة : ١٠٨.

(٢) لسان العرب : ١٤ / ٥٥.

١٦١

وأنشد أبو عبيدة :

يصيب قد راح يروي الغدرا

[فاستوعب] الأرض لمّا أن سرا

وأصله من صاب يصوب صوبا إذا نزل.

قال الشاعر :

فلست لإنسي ولكن لملاك

تنزّل من جوّ السماء يصوب (١)

وقال امرأ القيس :

كأن المدام وصوب الغمام

وريح الخزامي ونشر القطر (٢)

فسمّي المطر صيّبا لأنّه ينزل من السماء.

واختلف النّحاة في وزنه من الفعل ، فقال البصريون : هو على وزن فيعل بكسر العين ، ولا يوجد هذا المثال إلّا في المعتل نحو سيّد وميّت وليّن وهيّن وضيّق وطيّب ، وأصله صهيوب ، فجعلت الواو ياء فأدغمت إحدى الياءين في الأخرى.

وقال الكوفيون : هو وأمثاله على وزن فعيل بكسر العين وأصله : صييب فاستثقلت الكسرة على الياء فسكّنت وأدغمت إحداهما في الأخرى وحرّكت الى الكسر.

والسماء : كلّ ما علاك فأظلك (٣) وأصله : سماو ؛ لأنه من سما يسمو ، فقلبت الواو همزة لأنّ الألف لا تخلو من مدّة وتلك المدّة كالحركة ، وهو من أسماء الأجناس ، يكون واحدا أو جمعا ، قال الله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) (٤) ثم قال : (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) (٥).

وقيل : هو جمع واحدتها سماوة ، والسموات جمع الجمع.

قال الرّاجز :

سماوة الهلال حتى احقوقفا

طي الليالي زلفا فزلفا (٦)

(فِيهِ) أي في الصيّب ، وقيل : في الليل كناية عن [ضمير] مذكور ، وقيل : في السماء ؛ لأنّ المراد بالسماء السّحاب ، وقيل : هو عائد الى السماء على لغة من يذكرها.

__________________

(١) لسان العرب : ١٠ / ٣٩٤ ، وتاج العروس : ١ / ٣٣٩.

(٢) تاج العروس : ٣ / ٥٦٥.

(٣) لسان العرب : ١٤ / ٣٩٨.

(٤) سورة البقرة : ٢٩.

(٥) سورة البقرة : ٢٩.

(٦) لسان العرب : ٩ / ٥٢ ، ولكن العبارة هكذا :

طي الليالي زلفا فزلفا

سماوة الهلال حتى احقوقفا

١٦٢

قال الشاعر :

فلو رفع السماء إليه قوما

لحقنا بالسماء مع السّحاب (١)

والسماء يذكّر ويؤنّث. قال الله تعالى : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) (٢). وقال : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) (٣).

(ظُلُماتٌ) : جمع ظلمة ، وضمّت اللام على الإتباع بضمّ الظاء.

وقرأ الأعمش : (ظُلْماتٌ) بسكون اللام على أصل الكلام لأنّها ساكنة في التوحيد.

كقول الشاعر وهو ذو الرّمّة :

أبت ذكر من عوّدن أحشاء قلبه

خفوقا ورفصات الهوى في المفاصل (٤)

ونزّل الفاء ساكنة على حالها في التوحيد.

وقرأ أشهب العقيلي : (ظُلَماتٌ) بفتح اللام ، وذلك إنّه لمّا أراد تحريك اللام حرّكها الى أخفّ الحركات.

كقول الشاعر :

فلمّا رأونا باديا ركباتنا

على موطن لا نخلط (٥) الجدّ بالهزل (٦)

(وَرَعْدٌ) : وهو الصوت الذي يخرج من السحاب.

(وَبَرْقٌ) : وهو النار الذي تخرج منه.

قال مجاهد : الرعد ملك يسبّح بحمده ، يقال لذلك الملك : رعد ، والصّريم أيضا رعد.

والبرق : ملك يسوق السحاب.

وقال عكرمة : الرعد ملك موكّل بالسحاب يسوقها كما يسوق الراعي الإبل (٧).

شهر بن حوشب : الرعد ملك يزجي السحاب كما يحثّ الراعي الإبل فإذا انتبذت السحاب ضمّها فإذا اشتدّ غضبه طار من فيه النار فهي الصواعق.

__________________

(١) لسان العرب : ١٤ / ٣٩٨.

(٢) سورة المزمل : ١٨.

(٣) سورة الإنفطار : ١.

(٤) لسان العرب : ١ / ٤٧٥.

(٥) في تفسير القرطبي : «نخلط» بدلا من «يخلط».

(٦) تفسير القرطبي : ١٦ / ٣١٠.

(٧) زاد المسير : ١ / ٣٤.

١٦٣

ربيعة بن الأبيض عن علي عليه‌السلام قال : البرق مخاريق الملائكة (١).

وقال أبو الدرداء : الرعد للتسبيح ، والبرق للخوف والطمع ، والبرد عقوبة ، والصواعق للخطيئة ، والجراد رزق لقوم وزجر لآخرين ، والبحر بمكيال ، والجبال بميزان.

وأصل البرق من البريق والضوء ، والصواعق : المهالك ، وهو جمع صاعقة ، والصاعقة والصاقعة والصّعقة : المهلكة ، ومنه قيل : صعق الإنسان ، إذا غشي عليه ، وصعق ، إذا مات.

(حَذَرَ الْمَوْتِ) أي مخافة الموت ، وهو نصب على المصدر ، وقيل لنزع حرف الصفة.

وقرأ قتادة : حذار الموت.

(وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) أي عالم بهم ، يدل عليه قوله : (وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (٢).

وقيل : معناه : والله مهلكهم وجامعهم ، دليله قوله : (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) (٣) : أي تهلكوا جميعا.

وأمال أبو عمرو والكسائي (الكافرين) في حال الخفض والنّصب ولكسرة الفاء والراء.

(يَكادُ الْبَرْقُ) أي يقرب. يقال : كاد ، أي قرب ولم يفعل ، والعرب تقول : كاد يفعل ـ بحذف أن ـ فإذا سببّوه بقي قالوا : كاد أن يفعل ، والأوّل أوضح وأظهر. قال الشاعر :

قد كاد من طول البلى أن تمسحا

(يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) : أي يخطفها ويشغلها ، ومنه الخطّاف.

وقرأ أبيّ : يتخطف.

وقرأ ابن أبي إسحاق : نصب الخاء والتشديد (يخطّف) فأدغم. وقرأ الحسن : كسر الخاء والطّاء مع التشديد أتبع الكسرة الكسرة.

وقرأ العامة : التخفيف لقوله : (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ) (٤) وقوله : (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) (٥).

(كُلَّما) : حرف علة ضمّ إليه (ما) الجزاء فصار أداة للتكرار ، وهي منصوبة بالظرف ، ومعناهما : متى ما.

__________________

(١) السنن الكبرى (البيهقي) : ٣ / ٣٦٣ ؛ الصحاح (الجوهري) : ٤ / ١٤٦٧.

(٢) سورة الطلاق : ١٢.

(٣) سورة يوسف : ٦٦.

(٤) سورة الحج : ٣١.

(٥) سورة الصافات : ١٠.

١٦٤

(أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) : وفي حرف عبد الله [.....] (١).

(وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) : أي أقاموا ووقفوا متحيّرين.

القول في معنى الآيتين ونظمهما وحكمهما

قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ) أي كأصحاب صيّب ، كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (٢) شبههم الله في كفرهم ونفاقهم وحيرتهم وتردّدهم بقوم كانوا في مفازة في ليلة مظلمة فأصابهم مطر فيه ظلمات من صفتها إنّ الساري لا يمكنه المشي من ظلمته ، فذلك قوله : (إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا).

ورعد من صفته أن يضع السامع يده الى أذنه من الهول والفرق مخافة الموت والصعق ، ذلك قوله تعالى : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ).

وبرق من صفته أن يقرب من أن يخطف أبصارهم ويذهب بضوئها ونعيمها من كثرته وشدّة توقّده ، وذلك قوله (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ).

وهذا مثل ضربه الله تعالى للقرآن واجماع الناس والكافرين معه :

فالمطر : هو القرآن لأنه حياة الجنان كما أن المطر حياة الأبدان.

(فِيهِ ظُلُماتٌ) وهو ما في القرآن من ذكر الكفر والشرك والشك وبيان الفتن والمحن.

(وَرَعْدٌ) : وهو ما خوّفوا به من الوعيد وذكر النار والزّواجر والنواهي.

(وَبَرْقٌ) : وهو ما في القرآن من الشفاء والبيان والهدى والنّور والرعد وذكر الجنة.

فكما أنّ أصحاب الرعد والبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم حذر الموت كذلك المنافقون واليهود والكافرون يسدّون آذانهم عند قراءة القرآن ولا يصغون إليه مخافة ميل القلب الى القرآن فيؤدّي ذلك الى الإيمان ؛ لأنّ الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عندهم كفر والكفر موت.

وقال قتادة : هذا مثل ضربه الله للمنافق لجبنه ، لا يسمع صوتا إلّا ظنّ أنه قد أتي ولا يسمع صياحا إلّا ظنّ إنه ميّت أجبن قوم وأخذ له للحق (٣) كما قال في آية أخرى : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ) (٤).

__________________

(١) غير مقروءة في المخطوط.

(٢) سورة يوسف : ٨٢.

(٣) تفسير الدر المنثور : ١ / ٣٣.

(٤) سورة المنافقون : ٤.

١٦٥

وقوله : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) يعني المنافقين إذا أظهروا كلمة الإيمان أمنوا وصارت لهم نورا فإذا ماتوا عادوا الى الخشية والظلمة.

قتادة : والمنافق إذا كثر ماله وحسن حاله وأصاب في الإسلام رخاء وعافية ثبت عليه فقال : أنا معكم ، وإذ ذهب ماله وأصابته شدّة ، قام متحيرا وخفق عندها فلم يصبر على بلائها ولم يحتسب أجرها. وتفسيره في سورة الحجّ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) (١) الآية.

الوالبي عن ابن عباس : هم اليهود لما نصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببدر طمعوا وقالوا : هذا والله النبي الذي بشرّنا به موسى لا تردّ له راية ، فلمّا نكب بأحد ارتدّوا وسكتوا.

(وَلَوْ) : حرف تمنّي وشك وفيه معنى الجزاء وجوابه اللام.

ومعنى الآية : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) : أي أسماعهم وأبصارهم الظاهرة كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنية حتى صاروا صمّا بكما عميا.

(إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قادر ، وكان حمزة يكسر شِاء ، وجِاء وأمثالها لانكسار فاء الفعل ، إذا أخبرت عن نفسك قلت : شئت وجئت وزدتّ وطبت وغيرها.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥))

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) : قال ابن عباس : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) خطاب أهل مكة ، و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطاب أهل المدينة ، وهو هاهنا عام.

(اعْبُدُوا) وحّدوا وأطيعوا. (رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) أوجدكم وأنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئا. (وَالَّذِينَ) أي وخلق الذين (مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) : لكي تنجوا من السحت والعذاب.

قال سيبويه : لعل وعسى حرفا ترج وهما من الله [.....] (٢).

__________________

(١) سورة الحج : ١١.

(٢) كلمة غير مقروءة في المخطوط.

١٦٦

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) بساطا ومقاما ومناما. (وَالسَّماءَ بِناءً) سقفا مرفوعا محفوظا.

(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) : من السحاب. (ماءً) وهو المطر (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ) من ألوان الثمرات وأنواع النبات.

(رِزْقاً) طعاما. (لَكُمُ) وعلفا لدوابكم.

(فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) أي أمثالا [وأعدالا] وقرأ ابن المسيقع : ندّا على الواحد ، كقول جرير :

أتيما تجعلون إليّ ندّا

وما تيم لذي حسب نديد (١)

(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إنّه واحد وأنّه خالق هذه الأشياء.

قال ابن مسعود في قوله : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) قال : أكفّاء من الرجال تطيعوهم في معصية الله.

وقال عكرمة : هو قول الرجل : لو لا كلبنا لدخل اللص دارنا.

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) الآية نزلت في الكفّار ، وذلك أنهم قالوا لما سمعوا القرآن : ما يشبه هذا كلام الله وإنّا لفي شكّ منه ، فأنزل الله تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ) يا معشر الكفّار ، [وإن] (٢) لفظة جزاء وشرط ، ومعناه : إذ ؛ لأنّ الله تعالى علم إنهم شاكّون كقوله : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٣) وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٤).

قال الأعشى :

بانت وقد أسفرت في النفس حاجتها

بعد ائتلاف وخير الودّ ما نفعا (٥)

قال المؤرّخ : أصلها من السّورة وهي الوثبة : تقول العرب سرت إليه وثبت إليه.

قال العجاج :

وربّ ذي سرادق محجور

سرت إليه في أعالي السّور

قال الأعشى :

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٩ / ١٨٢.

(٢) غير موجودة في المخطوط ، أضفناها لزيادة بيان المطلب.

(٣) سورة آل عمران : ١٣٩.

(٤) سورة البقرة : ٢٧٨.

(٥) جامع البيان للطبري : ١ / ٧٢.

١٦٧

وسمعت حلفتها التي حلفت

إن كان سمعك غير ذي وقر (١)

(فِي رَيْبٍ) أي في شك وتهمة.

(مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) محمد يعني القرآن.

(فَأْتُوا) لم يأتوا بمثله ، لأنّ الله علم عجزهم عنه.

(بِسُورَةٍ) أصلها في قول بعضهم : من أسارت ، أي أفضلت فحذفت الهمزة كأنّها قطعة من القرآن ، وقيل : هي الدرجة الرفيعة ، وأصلها من سورة البناء ، أي منزلة بعد منزلة. قال النابغة :

ألم تر أنّ الله أعطاك سورة

ترى كل ملك دونها يتذبذب (٢)

(مِنْ مِثْلِهِ) يعني مثل القرآن ، و (من) صلة كقوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ) (٣).

كقول النابغة :

ولا أرى ملكا في الناس يشبهه

ولا أخا [لي] من الأقوام من أحد

أي أحدا.

وقيل في قوله : (مِثْلِهِ) : راجعة الى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعناه : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) أي من رجل أمّي لا

يحسن الخط والكتابة.

(وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ) يعني استعينوا بآلهتكم التي تعبدونها من دون الله.

وقال مجاهد والقرظي : ناسا يشهدون لكم.

وإنما ذكر الاستعانة بلفظ الدعاء على عادة العرب في دعائهم القائل في الحروب والشدائد : [ياك .....] (٤).

قال الشاعر :

فلمّا التقت فرساننا ورجالهم

دعوا يا لكعب واعتزينا لعامر (٥)

__________________

(١) لسان العرب : ٥ / ٤٤.

(٢) لسان العرب : ٤ / ٣٨٦.

(٣) سورة النور : ٣٠ ـ ٣١.

(٤) كذا في المخطوط.

(٥) لسان العرب : ١٥ / ٥٣.

١٦٨

(إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إنّ محمدا أسرّ قوله من تلقاء نفسه ، فلما تحدّاهم وعجزوا [قال الله تعالى] : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) أي فإن لم تجيئوا بمثل القرآن.

(وَلَنْ تَفْعَلُوا) : ولن تقدروا على ذلك.

وقيل (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) فيما مضى (وَلَنْ تَفْعَلُوا) فيما بقي.

(فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا) حطبها وعلفها (النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) قال الحسن ومجاهد : (وُقُودُهَا) بضم الواو حيث كان وهو رديء ، لأن الوقود بضم الراء المصدر وهو الالتهاب ، والوقود بالفتح وهو ما يوقد به النار كالظهور والبرود ، ومثليهما ومثل الوضوء والوضوء.

وقرأ عبيد بن عمير : وقيدها الناس والحجارة.

قيل : تلك الحجارة [كجت الأرض النائية] مثل الكبريت يجعل في أعناقهم إذا اشتعلت فيها النار أحرق توهجها وجوههم ، فذلك قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ) (١).

اختلفوا في الحجارة ، فقال ابن عباس وأكثر المفسّرين : إنها حجارة الكبريت [الأسود وهي أشد الأشياء حرا] ، وقال حفص ابن المعلى : أراد بها الأصنام لأن أكثر أصنامهم كانت معمولة من الحجر ، دليله قوله : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) (٢).

وقيل : هي أن أهل النار إذا عيل صبرهم بكوا وشكوا فتنشأ سحابة سوداء مظلمة فيرجون الفرج ويرفعون رؤوسهم إليها فتمطرهم حجارة عظاما كحجارة الرّحا ، فتزداد النار اتّقادا والتهابا كنار الدنيا إذا زيد حطبها زاد لهيبها.

وقيل : ذكر الحجارة ها هنا تعظيما لأمر النار لأنها لا تأكل الحجارة إلّا إذا كانت فظيعة وهائلة.

(أُعِدَّتْ) : خلقت وهيئت (لِلْكافِرِينَ) ، وفي هذه الآية دليل على أنّ النار مخلوقة ؛ لأنّ المعدّ لا يكون إلّا موجودا.

(وَبَشِّرِ) أي وأخبر.

(الَّذِينَ آمَنُوا) وأصل التبشير : إيصال الخبر السار على [مسامع الناس] ويستبشر به ، وأصله من البشرة ؛ لأنّ الإنسان إذا فرح بان ذلك في وجهه وبشرته ، ثمّ كثر حتى وضع موضع الخبر فيما [ساء وسرّ] قال الله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣).

__________________

(١) سورة الزمر : ٢٤.

(٢) سورة الأنبياء : ٩٨.

(٣) سورة آل عمران : ٢١.

١٦٩

(وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الخصال والفعلات (الصَّالِحاتِ) نعت لاسم مؤنث محذوف.

وقال عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه في (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : معناه أخلصوا الأعمال ، يدلّ عليه قوله : (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) (١) أي خالصا لأن المنافق والمرائي لا يكون عمله خالصا ، وقال : أقاموا الصلوات المفروضات ، دليله قوله تعالى : (وَأَقامُوا الصَّلاةَ).

(إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (٢) من المسلمين.

وقال ابن عباس : (عَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فيما بينهم وبين ربّهم ، وقال : العمل الصالح يكون فيه أربعة أشياء : العلم ، والنية ، والصبر ، والإخلاص.

وقال سهل بن عبد الله : لزموا السنّة ؛ لأنّ عمل المبتدع لا يكون صالحا.

وقيل : أدّوا الأمانة ، يدل عليه قوله : (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) (٣) أي أمينا.

وقيل : تابوا ، ودليله قوله تعالى : (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) (٤) أي التائبين.

(أَنَّ لَهُمْ) : محل (أن) نصب بنزع حرف الصّفة ، أي بأنّ لهم.

(جَنَّاتٍ) : في محل النصب فخفض لأنها جمع التأنيث ، وهي جمع الجنّة وهي البستان ، سمّيت جنّة لاجتنانها بالأشجار.

(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) : أي من تحت شجرها ومساكنها. وقيل : بأمرهم ، كقوله : (وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) (٥) أي بأمري.

والأنهار : جمع نهر ، سمّي نهرا لسعته وضيائه ومنه النهار.

وأنشد أبو عبيدة :

ملكت بها كفّي فأنهرت فتقها

يرى قائم من دونها ما وراءها (٦)

أي وسعتها ، يصف طعنة.

وأراد بالأنهار المياه على قرب الجوار لأن النهر لا يجري.

وقد جاء في الحديث : «أنهار الجنّة تجري في غير أخدود» [٧٦].

__________________

(١) سورة الكهف : ١١٠.

(٢) سورة الأعراف : ١٧٠.

(٣) سورة الكهف : ٨٢.

(٤) سورة يوسف : ٩.

(٥) سورة الزخرف : ٥١.

(٦) لسان العرب : ٥ / ٢٣٧.

١٧٠

(كُلَّما) متى ما (رُزِقُوا) أطعموا (مِنْها) من الجنّة (مِنْ ثَمَرَةٍ) : أي ثمره ، و (من) صلة.

(رِزْقاً) طعاما. (قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا) أطعمنا (مِنْ قَبْلُ) : طعامهما ، وقيل معناه : هذا الذي رزقنا من قبل ، أي وعدنا الله في الدنيا وهو قول عطاء ، و (قَبْلُ) رفع على الغاية ، قال الله تعالى : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) (١).

(وَأُتُوا) وجيئوا (بِهِ) بالرزق.

قرأ هارون بن موسى : (وأتوا) بفتح الألف ، أراد أتاهم الخدم به.

(مُتَشابِهاً) اختلفوا في معناه ، فقال ابن عباس ومجاهد والربيع والسّدي : (مُتَشابِهاً) في الألوان ، مختلفا في الطعوم.

الحسن وقتادة : (مُتَشابِهاً) في الفضل ، خيارا كلّه ؛ لأنّ ثمار الدنيا [تبقى] ويرذل منها ، وإن ثمار الجنة لا يرذل منها شيء.

محمد بن كعب وعلي بن زيد : بمعنى يشبه ثمر الدنيا غير أنها أطيب.

وقال بعضهم : (مُتَشابِهاً) في الإسم مختلفا في الطعم.

قال ابن عباس : ليس في الجنة شيء ممّا في الدنيا غير الأسماء.

(وَلَهُمْ فِيها) في الجنّات. (أَزْواجٌ) نساء وجوار ، يعني الحور العين.

قال ثعلب : الزوج في اللغة : المرأة والرجل ، والجمع والفرد ، والنوع واللون ، وجميعها أزواج.

(مُطَهَّرَةٌ) من الغائط والبول والحيض والنفاس والمخاط والبصاق والقيء والمني والولد وكل قذر ودنس.

وقال إبراهيم النخعي : في الجنة جماع ما شئت ولا ولد (٢).

وقيل : مطهّرة عن مساوئ الأخلاق.

وقال يمان : مطهّرة من الإثم والأذى.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يتفلون ولا يتغوّطون ولا يبولون ولا يتمخطون». قيل : فما بال الطعام؟ قال : «جشأ ورشح تجري من أعرافهم كريح المسك يلهمون التسبيح والتهليل كما يلهمون النفس» [٧٧] (٣).

__________________

(١) سورة الروم : ٤.

(٢) الدر المنثور : ١ / ٤٠.

(٣) كنز العمال : ١٤ / ٤٦٩ بتفاوت.

١٧١

(وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) دائمون مقيمون لا يموتون فيها ولا يخرجون منها.

الحسن عن ابن عمر قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الجنة : كيف هي؟

قال : «من يدخل الجنة يحيى ولا يموت وينعم ولا يبؤس ولا تبلى ثيابه ولا شبابه».

قيل : يا رسول الله كيف بناؤها؟ قال : «لبنة من فضّة ولبنة من ذهب ، بلاطها مسك أذفر ، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت ، وترابها الزعفران» [٧٨] (١).

وقال يحيى بن أبي كثير : إنّ الحور العين لتنادينّ أزواجهنّ بأصوات حسان ، فيقلن : طالما انتظرناكم ، نحن الراضيات الناعمات الخالدات ، أنتم حبّنا ونحن حبّكم ليس دونكم مقصد ولا وراءكم معذر.

وقال الحسن في هذه الآية : هنّ عجائزكم الغمض الرّمض العمش طهّرن من قذرات الدنيا.

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩))

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً) هذه الآية نزلت في اليهود ، وذلك أنّ الله تعالى ذكر في كتابه العنكبوت والذباب فقال : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) (٢) الآية.

وقال : (الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ) (٣) الآية ، ضحكت اليهود وقالوا : ما هذا الكلام وماذا أراد الله بذكر هذه الأشياء الخبيثة في كتابه وما يشبه هذا كلام الله ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً) أي لا يترك ولا يمنعه الحياء أن يضرب مثلا أن تصف للحق شبها. (ما بَعُوضَةً). (ما) صلة ، وبعوضة نصب يدلّ على المثل.

(فَما فَوْقَها) : ابن عباس يعني الذباب والعنكبوت. وقال أبو عبيدة : يعني فما دونها.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) بمحمد والقرآن (فَيَعْلَمُونَ) يعني أنّ هذا المثل هو (أَنَّهُ الْحَقُ) الصدق الصحيح. (مِنْ رَبِّهِمْ).

__________________

(١) الدر المنثور : ١ / ٣٦.

(٢) سورة الحج : ٧٣.

(٣) العنكبوت : ٤١.

١٧٢

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن. (فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) : أي بهذا المثل. فلمّا حذف الألف واللام نصب على الحال والقطع والتمام ، كقوله : (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) (١).

فأجابهم الله تعالى فقال : أراد الله بهذا المثل (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) من الكافرين ذلك أنهم ينكرونه ويكذّبونه (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) من المؤمنين يعرفونه ويصدّقون.

(وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) الكافرين ، وأصل الفسق : الخروج ، قال الله تعالى : (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (٢) أي خرج. تقول العرب : فسقت الرّطبة عن القشر ، أي خرجت.

ثمّ وصفهم فقال : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ) أي يتركون ويخالفون ، وأصل النقض : الكسر.

(عَهْدَ اللهِ) أمره الذي عهد إليهم يوم الميثاق بقوله تعالى : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) (٣) وما عهد إليهم في التوراة أن يؤمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم [وضمّنه] نعته وصفته.

(مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) توكيده وتشديده ، وهو مفعال من الوثيقة.

(وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) يعني الأرحام ، وقيل : هو الإيمان بجميع الرّسل والكتب ، وهو نوع من الصّلة ؛ لأنهم قالوا : (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) (٤) فقطعوا ، وقال المؤمنون : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (٥) فوصلوا.

(وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالمعاصي وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن.

(أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) : أي المغبونون بالعقوبة وفوت المثوبة ، ثمّ قال : لمشركي مكة على التعجّب : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ) واو الحال (أَمْواتاً) نطفا في أصلاب آبائكم (فَأَحْياكُمْ) في الأرحام في الدنيا (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انقضاء آجالكم. (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) للبعث. (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) تأتون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم.

وقرأ يعقوب : تَرْجِعُونَ ، وبيانه بفتح الأول وكسر الجيم جعل الفعل لهم.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ) لأجلكم. (ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) أي قصد وعمد الى خلق السماء.

__________________

(١) سورة النحل : ٥٢.

(٢) سورة الكهف : ٥٠.

(٣) سورة الأعراف : ١٧٢.

(٤) سورة النساء : ١٥٠.

(٥) سورة البقرة : ٢٨٥.

١٧٣

(فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) أي خلق سبع سماوات مستويات بلا فطور ولا شطور ولا عمد تحتها ولا علامة فوقها. (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) : عالم.

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩))

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ) يعني : وقد قال ، وقيل معناه : واذكر إذ قال ربّك ، وكل ما ورد في القرآن من هذا النحو فهذا سبيله.

و (إذ) و (إذا) حرفا توقيت ، إلّا أنّ (إذ) للماضي و (إذا) للمستقبل ، وقد يوضع أحدهما موضع الآخر.

قال المبرّد : إذا جاء (إذ) مع المستقبل كان معناه ماضيا نحو قوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ) (١) و (إِذْ يَقُولُ) ، يريد وإذ مكر وإذ قال ، وإذا إذ جاء مع الماضي كان معناه مستقبلا كقوله : (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٢) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣) إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) (٤) أي يجيء ، وقال الشاعر :

ثمّ جزاه الله عنا إذ جزا

جنّات عدن والعلا إلى العلا (٥)

أي يجزيه.

__________________

(١) سورة الأنفال : ٣٠.

(٢) سورة النازعات : ٣٤.

(٣) سورة عبس : ٣٣.

(فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) : النازعات ـ ٣٤

(٤) سورة النصر : ١.

(٥) لسان العرب : ١٥ / ٤٦٣ ، وتاج العروس : ١ / ٤٢٤.

١٧٤

(لِلْمَلائِكَةِ) الذين كانوا في الأرض ، والملائكة : الرسل ، واحدها ملك ، وأصله : مالك ، وجمعه : ملائكة ، وهي من الملكة والمالكة والألوك الرسالة ويقال : ألكني الى فلان ، أي كن رسولي إليه فقلبت ، فقيل : ملاك. قال الشاعر :

فلست لإنسي لكن لملاك

تنزّل من جوّ السماء يصوب (١)

ثمّ حذف الهمزة للخفّة وكثير استعماله فقيل : ملك.

قال النضر بن شميل في الملك : إن العرب لا تشتق فعله ولا تصرفه ، وهو مما فات علمه.

(إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) أي بدلا منكم ورافعكم إليّ ، سمّي (خليفة) لأنه يخلف الذاهب ويجيء بعده ، فالخليفة من يتولى إمضاء الأمر عن الآمر ، وقرأ [زيد بن علي] (٢) : (خليقة) بالقاف.

قال المفسرون : وذلك أن الله تعالى خلق السماء والأرض وخلق الملائكة والجن ، فأسكن الملائكة السماء ، وأسكن الجنّ الأرض ، فعبدوا دهرا طويلا في الأرض ثم ظهر فيهم الحسد والبغي ، فاقتتلوا وأفسدوا ، فبعث الله إليهم جندا من الملائكة يقال لهم : الجن ، رأسهم عدو الله إبليس وهم خزّان الجنان اشتق لهم اسم من الجنّة فهبطوا إلى الأرض ، وطردوا الجنّ عن وجهها فالحقوهم بشعوب الجبال ، وجزائر البحر ، وسكنوا الأرض وخفف الله عنهم العبادة ، وأحبّوا البقاء في الأرض لذلك ، وأعطى الله إبليس ملك الأرض وملك سماء الدنيا وخزانة الجنان ، فكان يعبد الله تارة في الأرض ، وتارة في السماء ، وتارة في الجنة.

فلما رأى ذلك دخله الكبر والعجب ، وقال في نفسه : أعطاني الله هذا الملك إلّا لأني أكرم الملائكة عليه ، وأعظمهم منزلة لديه ؛ فلما ظهر الكبر جاء العزل ، فقال الله له ولجنده : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فلما قال لهم ذلك كرهوا ؛ لأنّهم كانوا أهون في الملائكة عبادة ، ولأنّ العزل شديد.

(قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) بالمعاصي. (وَيَسْفِكُ) يصبّ (الدِّماءَ) بغير حق.

فإن قيل : كيف علموا ذلك وهو غيب؟

والجواب عنه ما قال السّدي : لما قال الله لهم ذلك ، قالوا : وما يكون من ذلك الخليفة؟

قال : تكون له ذرية ، يفسدون في الأرض [ويتحاسدون] (٣) ويقتل بعضهم بعضا (٤). قالوا عند ذلك : (أَتَجْعَلُ فِيها) ومعناه : فقالوا ، فحذف فاء التنسيق. كقول الشاعر :

__________________

(١) الصحاح : ١ / ١٦٥.

(٢) تفسير القرطبي : ١ / ٢٦٣.

(٣) كذا في المخطوط.

(٤) تفسير الطبري : ١ / ٢٨٩.

١٧٥

لما رأيت نبطا أنصارا

شمرّت عن ركبتي الإزارا

كنت لهم من النّصارى جارا (١)

أي فكنت لهم.

وقال أكثر المفسرين : أرادوا كما فعل بنو الجانّ قاسوا بالشاهد على الغائب ، وقال بعض أهل المعاني : فيه إضمار واختصار معناه : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ)؟ أم تجعل فيها من لا يفسد ولا يسفك الدماء؟ لقوله تعالى : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ) (٢) يعني كمن هو غير قانت ، وهو اختيار الحسن بن الفضل.

(وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ).

قال الحسن : يقولون : سبحان الله وبحمده ، وهو صلاة الخلق وتسبيحهم وعليها يرزقون.

يدل عليه الحديث المروي عن أبي ذر إنه قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أي الكلام أفضل؟ قال : «ما اصطفاه الله تعالى لملائكته : سبحان الله وبحمده» [٧٩] (٣).

وقيل : معناه : ونحن نصلي لك بأمرك ، والتسبيح يكون بمعنى التنزيه ويكون بمعنى الصلاة ، ومنه قيل : للصلاة سبحة ، وقيل : معناه : نصلي ، ونقرأ فيها فاتحة الكتاب.

(وَنُقَدِّسُ لَكَ) وننزهك واللام صلة ، وقيل : هي لام الأجل ، أي ونطهّر لأجلك قلوبنا من الشرك بك [وأبداننا] من معصيتك.

وقال بعض العلماء : في الآية تقديم وتأخير مجازها : ونحن نسبّح ونقدّس لك بحمدك ؛ لأنّه إذا حملت الآية على التأويل الأول تنافي قول الملائكة المتزكية بالإدلال بالعمل ، وإذا حملت على هذا التأويل ضاهى قولهم التحدّث بنعمة الله واضافة [.....] (٤) إلى الله فكأنّهم قالوا : وأن سبّحنا وقدّسنا وأطعنا وعبدنا فذلك كله بحمدك لا بأنفسنا ، قال الله :

(إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) من استخلافي في الأرض ووجه المصلحة فيه ، فلا تعترضوا عليّ في حكمي وتدبيري ، وقيل : أراد أني أعلم أنّ في من استخلفه في الأرض : أنبياء وأولياء وعلماء وصلحاء ، وقيل : أني أعلم إنّهم يذنبون وأغفر لهم.

قال بعض الحكماء : إنّ الله تعالى أخرج [أدم] من الجنّة قبل أن يدخله فيها (٥). لقوله

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ١ / ٤٥٤.

(٢) سورة الزمر : ٩.

(٣) مسند أحمد : ٥ / ١٤٨.

(٤) كلمة غير مقروءة في المخطوط.

(٥) الدر المنثور : ١ / ٤٤.

١٧٦

(إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ثم كان خروجه من الجنّة بذنبه يدل أنه كان بقضاء الله وقدره.

ابن نجيح عن مجاهد في قوله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) قال : علم من إبليس المعصية وخلقه لها.

ابن شهاب عن حميد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «احتج آدم وموسى. فقال له موسى : أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنّة. فقال له آدم : أنت موسى اصطفاك الله لرسالته وكلامه ، ثم تلومني على أمر قدّر قبل أن أخلق. فحج آدم موسى» [٨٠] (١).

فصل في معنى الخليفة

قيل : سأل أمير المؤمنين الخطاب ، طلحة والزبير وكعبا وسلمان : ما الخليفة من الملك؟ فقال طلحة والزبير : ما ندري. فقال سلمان : الخليفة الذي يعدل في الرّعية ويقسم بينهم بالسّويّة ويشفق عليهم شفقة الرّجل على أهله ويقضي بكتاب الله ، فقال كعب : ما كنت أحسب أن في المجلس أحدا يعرف الخليفة من الملك غيري ، ولكنّ الله عزوجل ملأ سلمان حكما وعلما وعدلا.

وروى زاذان عن سلمان : إنّ عمر قال له : أملك أنا أم خليفة؟ فقال سلمان : إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهما أو أقل أو أكثر ووضعته في غير حقّه فأنت ملك. قال : فاستعبر عمر رضي‌الله‌عنه.

وعن يونس : إنّ معاوية كان يقول إذا جلس على المنبر : أيّها الناس إنّ الخلافة ليست لجمع المال ولا تفريقه ، ولكنّ الخلافة بالحقّ والحكم بالعدل وأخذ الناس بأمر الله عزوجل.

(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) وذلك إنّ الله تعالى لمّا قال للملائكة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) قالوا فيما بينهم : ليخلق ربّنا ما شاء فلن يخلق خلقا أفضل ولا أكرم عليه منّا ، وإن كان خيرا منّا فنحن أعلم منه لأنّا خلقنا قبله ورأينا ما لم يره ، فلما أعجبوا بعلمهم وعبادتهم ، فضّل الله تعالى عليهم آدم عليه‌السلام بالعلم فعلّمه الأسماء كلّها وهذا معنى قول ابن عباس والحسن وقتادة.

واختلف العلماء في هذه الأسماء ، فقال الربيع وابن أنس : أسماء الملائكة ، وقال عبد الرحمن بن زيد : أسماء الذّرّية.

وقال ابن عبّاس ومجاهد وقتادة والضّحّاك : علّمه الله اسم كلّ شيء حتى القصعة والقصيعة.

__________________

(١) مسند أحمد : ٢ / ٢٦٤.

١٧٧

قال مقاتل : خلق الله كلّ شيء ـ الحيوان والجماد وغيرها ـ ثمّ علّم آدم أسماءها كلها.

فقال له : يا آدم هذا فرس ، وهذا بغل ، وهذا حمار حتى أتى على آخرها ثم عرض تلك الأشياء كما عرض الموجودات على الملائكة. فكذلك قال : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ) ولم يقل : عرضها ، وردّه الى الشخوص والمسمّيات لأنّ الأعراض لا تعرض.

وقيل : علّم الله آدم عليه‌السلام صنعة كل شيء.

جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس قال : علّم الله آدم أسماء الخلق والقرى والمدن والجبال والسباع وأسماء الطير والشجر وأسماء ما كان وما يكون وكل نسمة الله عزوجل بارئها إلى يوم القيامة ، وعرض تلك الأسماء على الملائكة.

(فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إنّ الخليفة الذي أجعله في الأرض (يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ). أراد الله تعالى بذلك : كيف تدّعون علم ما لم يكن بعد ، وأنتم لا تعلمون ما ترون وتعاينون.

وقال الحسن وقتادة : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إني لا أخلق خلقا إلّا كنتم أعلم وأفضل منه ، قالت الملائكة : إقرارا بالعجز واعتذارا.

(قالُوا سُبْحانَكَ) : تنزيها لك عن الاعتراض لعلمك في حكمك وتدبيرك ، وهو نصب على المصدر ، أي نسبح سبحانا في قول الخليل.

وقال الكسائي : خارج عن الوصف ، وقيل : على النداء المضاف أي : يا سبحانك.

(لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ) بخلقك (الْحَكِيمُ) في أمرك.

وللحكيم معنيان : أحدهما : المحكم للفعل ، كقوله : (عَذابٌ أَلِيمٌ) ، وحز وجيع. قال الشاعر :

أمن ريحانة الداعي السّميع

يؤرّقني وأصحابي هموع (١)

أي المؤلم والموجع ، والمسمع (٢) فعيل بمعنى : مفعل وعلى هذا التأويل هو صفة فعل.

والآخر : بمعنى (الحاكم العالم) وحينئذ يكون صفة ذات ، وأصل الحكمة في كلام العرب : المنع. يقال : أحكمت اليتيم عن الفساد وحكمته ، أي منعته.

قال جرير :

__________________

(١) تفسير الطبري : ١ / ١٧٩ ، وهو لعمرو بن معد يكرب.

(٢) هذا تفسير للشعر فقوله فيه : السميع : أي المسمع كما في تفسير الطبري.

١٧٨

أبني حنيفة احكموا سفهاءكم

إني أخاف عليكم أن أغضبا (١)

ويقال للحديدة المعترضة في فم الدابة : حكمة ؛ لأنها تمنع الدابة من الاعوجاج ، والحكمة تمنع من الباطل ، ومالا يجمل فلا يحلّ في المحكم من الأمر بمنعه من الخلل ، وفي هذه الآية دليل على جواز تكليف ما لا يطاق حيث أمر الله تعالى الملائكة بإنباء ما لم يعلموا ، وهو عالم بعجزهم عنه.

فلما ظهر عجزهم ، قال الله تعالى : (يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) فسمّى كل شيء باسمه ، وألحق كل شيء بجنسه.

(فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ) أخبرهم. (بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) يا ملائكتي. (إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ما كن فيها وما يكون. (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) من الخضوع والطاعة لآدم.

(وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) تخفون في أنفسكم من العداوة له. وقيل : (ما تُبْدُونَ) من الإقرار بالعجز والاعتذار ، (وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) من الكراهية في استخلاف آدم.

قال ابن عباس : هو أنّ إبليس مرّ على جسد آدم وهو ملقى بين مكة والطائف لا روح فيه ، فقال : لأمر ما خلق هذا ، ثمّ دخل من فيه وخرج من دبره ، وقال : إنّه لا يتماسك إلّا بالجوف ، ثمّ قال للملائكة الذين معه : أرأيتم أن فضّل هذا عليكم ، وأمرتم بطاعته ماذا تصنعون؟ قالوا : نطيع أمر ربّنا. فقال إبليس في نفسه : والله لئن سلطت عليه لأهلكته ، ولئن سلّط عليّ لأعصينّه.

فقال الله تعالى : (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) يعني الملائكة من الطاعة (وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) يعني إبليس من المعصية.

قال الحسن وقتادة : (ما تُبْدُونَ) يعني قولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ... وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) يعني قولهم لن يخلق خلقا أفضل ولا أعلم ولا أكرم عليه منّا.

القول في حدّ الاسم وأقسامه

فقال أصحابنا : الاسم : كل لفظة دلت على معنى ما وشيء ما ، وهو مشتق من السّمة ، وهي العلامة التي يعرف بها الشيء ، وأقسامه ثمانية منها : اسم علم مثل زيد ، وعمرو ، وفاطمة ، وعائشة ، ودار ، وفرس.

ومنها : اسم لازم كقولك : رجل ، وامرأة ، وشمس ، وقمر ، وحجر ، ومدر ونحوها ؛ سمّي لازما لأنّه لا ينقلب ولا يفارق ، فلا يقال للشمس قمر ولا للقمر حجر.

ومنها : اسم مفارق مثل : صغير ، وكبير ، وطفل ، وكهل ، وقليل ، وكثير ، وقيل له مفارق لأنّه كان ولم يكن له هذا الاسم ويزول عنه المعنى المسمّى به.

ومنها : اسم مشتق : ككاتب ، وخياط ، وصائغ ، وصبّاغ ؛ فالاسم مشتق من فعله.

__________________

(١) لسان العرب : ١٢ / ١٤٤.

١٧٩

ومنها : اسم مضاف مثل : غلام جعفر ، وركوب عمرو ، ودار زيد.

ومنها : اسم مشبهة كقولك : فلان أسد وحمار وشعلة نار.

ومنها : اسم منسوب يثبت بنفسه ويثبت غيره ، كقولك : أب ، وأمّ ، وأخ ، وأخت ، وابن ، وبنت ، وزوج ، وزوجة ، فإذا قلت أب فقد أثبته وأثبت له الولد ، وإذا قلت : أخ أثبته وأثبت له الأخت.

ومنها : اسم الجنس : وهو اسم واحد ويدل على أشياء كثيرة ، كقولك : حيوان ، وناس ونحوهما.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) سجدة تعظيم وتحية لا سجود صلاة وعبادة ، نظيره قوله في قصة يوسف : (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) (١) وكان ذلك تحيّة الناس ، ويعظم بعضهم بعضا ، ولم يكن وضع الوجه على الأرض [وإنما] كان الانحناء والتكبير والتقبيل. فلما جاء الإسلام بطّل ذلك بالسّلام.

وفي الحديث إنّ معاذ بن جبل رجع من اليمن فسجد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتغيّر وجه رسول الله فقال : ما هذا؟ قال : رأيت اليهود يسجدون لأحبارهم والنصارى يسجدون لقسّيسيهم.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مه يا معاذ كذب اليهود والنصارى إنّما السجود لله تعالى» [٨١] (٢).

وقال بعضهم : كان سجودا على الحقيقة جعل آدم قبلة لهم والسجود لله ، كما جعلت الكعبة قبلة لصلاة المؤمنين والصلاة لله تعالى.

قال ابن مسعود : أمرهم الله تعالى أن يأتوا بآدم فسجدت الملائكة وآدم لله ربّ العالمين.

وقال أبيّ بن كعب : معناه : أقروا لآدم إنّه خير وأكرم عليّ منكم فأقروا بذلك ، والسجود على قول عبد الله وأبيّ بمعنى الخضوع والطاعة والتذلل ، كقول الشاعر :

ترى الأكم فيه سجّدا للحوافر (٣)

وآدم على وزن افعل.

فلذلك لم يصرفه.

السّدي عمّن حدّثه عن ابن عباس قال : إنّما سمّي آدم لأنّه خلق من أديم الأرض ، ومنهم من قال : سمّي بذلك لأنه خلق من التراب ، والتراب بلسان العبرانية آدم ، وبعضهم من قال :

__________________

(١) سورة يوسف : ١٠٠.

(٢) المعجم الكبير : ٨ / ٣١. بتفاوت.

(٣) جامع البيان للطبري : ١ / ٤٢٧. والعبارة كالتالي :

بجمع تضل البلق في حجراته

ترى الاكم فيه سجدا للحوافر

١٨٠