الكشف والبيان - ج ١

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ١

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٥

وقال السريّ بن مغلس : ((الرَّحْمنِ) بكشف الكروب ، و (الرَّحِيمِ) بغفران الذنوب).

وقال عبد الله بن الجرّاح : ((الرَّحْمنِ) ب ... (١) .. الطريق ، و (الرَّحِيمِ) بالعصمة والتوفيق).

وقال مطهر بن الوراق : ((الرَّحْمنِ) بغفران السيّئات وإن كن عظيمات ، و (الرَّحِيمِ) بقبول الطاعات وإن كنّ [قليلات] (٢)).

وقال يحيى بن معاذ الرازي : ((الرَّحْمنِ) بمصالح معاشهم ، و (الرَّحِيمِ) بمصالح معادهم).

وقال الحسين بن الفضل : ((الرَّحْمنِ) الذي يرحم العبد على كشف الضر ودفع الشر ، و (الرَّحِيمِ) الذي يرقّ وربما لا يقدر على الكشف).

وقال أبو بكر الوراق أيضا : ((الرَّحْمنِ) بمن جحده و (الرَّحِيمِ) بمن وحّده ، و (الرَّحْمنِ) بمن كفر و (الرَّحِيمِ) بمن شكر ، و (الرَّحْمنِ) بمن قال ندّا و (الرَّحِيمِ) بمن قال فردا).

في أن التسمية من الفاتحة أو لا؟

واختلف الناس في أنّ التسمية ؛ هل هي من الفاتحة؟ فقال قرّاء المدينة والبصرة وقرّاء الكوفة : إنها افتتاح التيمّن والتبرّك بذكره ، وليست من الفاتحة ولا من غيرها من السور ، ولا تجب قراءتها وأن الآية السادسة قوله تعالى : (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ). وهو قول مالك بن أنس والأوزاعي وأبي حنيفة ـ رحمهم‌الله ـ ورووا ذلك عن أبي هريرة.

أخبرنا أبو القاسم الحسين بن محمد بن الحسن النيسابوري ، حدّثنا أبو الحسن محمد بن الحسن الكابلي ، أخبرنا علي بن عبد العزيز الحلّي ، حدّثنا أبو عبيد القاسم بن سلام البغدادي ، حدّثنا الحجاج عن أبي سعيد الهذلي عن ... (٣) .. عن أبي هريرة قال (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) الآية السادسة ، فزعمت فرقة أنها آية من أمّ القرآن ، وفي سائر السور فصل ، فليست هاهنا أنها يجب قراءتها.

[وقال قوم : إنها آية من فاتحة الكتاب] (٤) رووا ذلك عن سعيد بن المسيب ، وبه قال قرّاء مكة والكوفة وأكثر قرّاء الحجاز ، ولم يعدّوا (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) آية.

وقال الشافعي والشعبي وهو رأي عبد الله أنها نزلت في الآية الأولى من فاتحة الكتاب ،

__________________

(١) بياض في المخطوط.

(٢) بياض في المخطوط ، وما ذكرناه هو الظاهر.

(٣) بياض في المخطوط.

(٤) كلام غير مقروء والظاهر ما أثبتناه.

١٠١

وهي من كل سورة آية إلّا التوبة. والدليل عليه الكتاب والسنة ؛ أمّا الكتاب سمعت أبا عثمان بن أبي بكر الزعفراني يقول : سمعت أبي يقول : سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن موسى يقول : سمعت الحسن بن المفضّل يقول : رأيت الناس ..... (١) .. في النمل أن (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فيها من القرآن فوجدتها بخطها ولو أنها مكرّرات في القرآن ، فعرفنا أماكنها منه بل حتى (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٢) ، (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٣) لما كانا في القرآن كانت مكرّراتهما من القرآن.

وبلغنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب في بدء الأمر على رسم قريش : «باسمك اللهم» حتى نزلت : (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) (٤) فكتب : (بِسْمِ اللهِ) حتى نزلت : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) (٥) ، فكتب : «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ» ، حتى نزلت : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (٦) ، فكتب مثلها فلمّا كانت ..... هذه .... وحيث أن يكون .. (٧) .. منه ثم افتخر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه الآية ، وحقّ له ذلك.

حدّثنا عبد الله بن حامد بن محمد الوراق : أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه حدّثنا محمد ابن يحيى بن سهل ، حدّثنا آدم بن أبي إياس ، حدّثنا سلمة بن الأحمر عن يزيد بن أبي خالد عن عبد الكريم بن أمية عن أبي بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أخبرك بآية لم تنزل على أحد بعد سليمان بن داود غيري؟». فقلت : بلى. قال : «بأي شيء تفتتح إذا افتتحت القرآن؟». قلت : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فقال : «هي هي» (٨) [١٨].

وفي هذا الحديث دلّ دليل على كون التسمية آية تامّة من الفاتحة وفواتح السور ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين لفظ الآية كلها ، والتي في سورة النمل ليست بآية وإنما هي بعض الآية ، وبالله التوفيق.

وأمّا الأخبار الواردة فيه ، فأخبرنا أبو القاسم السدوسي ، حدّثنا أبو زكريا يحيى بن محمد ابن عبد الله العنبري ، حدّثنا إبراهيم بن إسحاق الأنماطي حدّثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي ، حدّثنا أبو سفيان المعمري عن إبراهيم بن يزيد قال : قلت لعمرو بن دينار : إن الفضل الرقاشي زعم أن (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ليس من القرآن؟ قال : سبحان الله! ما أجرأ هذا الرجل! سمعت سعيد بن جبير يقول : سمعت ابن عباس يقول : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزلت آية (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) علم أن السورة قد ختمت وفتح غيرها.

__________________

(١) بياض في المخطوط.

(٢) سورة الرّحمن : ١٣.

(٣) سورة المرسلات : ١٥.

(٤) سورة هود : ٤١.

(٥) سورة الإسراء : ١١٠.

(٦) سورة النمل : ٣١.

(٧) بياض في المخطوط.

(٨) مجمع الزوائد : ٢ / ١٠٩ بتفاوت.

١٠٢

وحدّثنا الحسن بن محمد : حدّثنا أبو الحسن عيسى بن زيد العقيلي : حدّثنا أبو محمد إسماعيل ابن عيسى الواسطي : حدّثنا عبد الله بن نافع عن جهم بن عثمان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كيف تقول إذا قمت إلى الصلاة؟» [١٩] قال : أقول : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). قال : «قل : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)» (١).

وحدّثنا الحسن بن محمد ، أخبرنا أبو الحسين. (٢) .. ، حدّثنا علي بن عبد العزيز ، حدّثنا أبو عبيد ، حدّثنا عمر بن هارون البلخي عن أبي صالح عن أبي مليكة عن مسلمة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) يعني يقطّعها آية آية حتّى عدّ سبع آيات عدّ الأعراب.

أخبرنا أبو الحسن محمّد بن أحمد ، حدّثنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ ، حدّثنا محمد ابن جعفر ، حدّثنا إسماعيل بن أبي أويس ، حدّثنا الحسين بن عبد الله عن أبيه عن جدّه عن علي بن أبي طالب (كرّم الله وجهه) أنه كان إذا افتتح السورة في الصلاة يقرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، وكان يقول : «من ترك قراءتها فقد نقص». وكان يقول : «هي تمام السبع المثاني والقرآن العظيم».

وأخبرنا الحسين بن محمد بن جعفر ، حدّثنا أبو العباس الأصم ، حدّثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي ، حدّثنا جعفر بن حيّان عن عبد الملك بن جريح عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) (٣) قال : فاتحة الكتاب.

وقيل لابن عباس : أين السابعة؟ قال : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وعدّها في يديه ثم قال : أخرجها لكم ، وما أجد فيها أمركم.

أخبرنا [محمّد بن الحسين] حدّثنا عبد الله بن محمد بن مسلم ، حدّثنا يزيد بن سنان ، حدّثنا أبو بكر الحنفي ، حدّثنا نوح بن أبي بلال قال : سمعت المقبري عن أبي هريرة أنه قال : إذا قرأتم أمّ القرآن فلا تبرحوا (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فإنها إحدى آياتها وإنها السبع المثاني.

وأخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب ، أخبرنا أبو زكريا يحيى بن محمد بن عبد الله العنبري ، حدّثنا جعفر بن أحمد بن نصر الحافظ ، حدّثنا أحمد بن نصر ، حدّثنا آدم بن إياس عن أبي سمعان عن العلا ، عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقول الله : قسمت الصلاة

__________________

(١) تاريخ جرجان : ٤٩١.

(٢) بياض في المخطوط.

(٣) سورة الحجر : ٨٧.

١٠٣

بيني وبين عبادي نصفين ؛ فإذا قال العبد : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قال الله : مجّدني عبدي ، وإذا قال العبد (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) قال الله : حمدني عبدي ، وإذا قال : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قال : أثنى عليّ عبدي ، وإذا قال : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قال الله : فوّض إليّ أمره عبدي ، وإذا قال : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قال الله : هذا بيني وبين عبدي ، وإذا قال : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) قال الله : هذا لعبدي ، ولعبدي ما سأل» (١) [٢٠].

وأخبرنا علي بن محمد بن الحسن المقري ، أخبرنا أبو نصر أحمد بن محمد القصّار ، حدّثنا محمد بن بكر البصري ، حدّثنا محمد بن علي الجوهري ، حدّثنا. (٢) .. حدثني أبو إسماعيل بن يحيى. (٣) .. ، حدّثنا سفيان الثوري عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : كنت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحدّث أصحابه ؛ إذ دخل رجل يصلّي ، وافتتح الصلاة ، وتعوّذ ، ثم قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). فسمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا رجل ، قطعت على نفسك الصلاة ، أما علمت أن (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) من الحمد؟ فمن تركها فقد ترك آية ، ومن ترك آية منه فقد قطعت عليه صلاته» (٤). لا تكون الصلاة إلّا بفاتحة الكتاب ، ومن ترك آية فقد بطلت صلاته [٢١].

وأخبرنا أبو الحسين علي بن محمد الجرجاني ، حدّثنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي ، حدّثنا أبو بكر محمد بن عمر بن هشام ، أخبرنا محمد بن يحيى ، حدّثنا حكيم بن الحسين ، حدّثنا سليمان بن مسلم المكّي عن نافع عن أبي مليكة عن طلحة بن عبيد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ترك (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فقد ترك آية من كتاب الله» (٥) [٢٢].

وقد عدّها علي عليه‌السلام فيما عدّ من أمّ الكتاب.

وأما الإجماع ، فأخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد الورّاق ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الضبعي ، حدّثنا عبد الله بن محمد ، حدّثنا محمد بن يحيى ، حدّثنا علي بن المديني ، حدّثنا عبد الوهّاب بن فليح ، عن عبد الله بن ميمون عن عبيد بن رفاعة أن معاوية بن أبي سفيان قدم المدينة فصلّى بالناس صلاة يجهر فيها ، ولمّا قرأ أم القرآن ولم يقرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وقضى صلاته ، ناداه المهاجرون والأنصار من كل ناحية : أنسيت! أين (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) حين استفتحت القرآن؟ فأعادها لهم معاوية فقرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

__________________

(١) السنن الكبرى : ١ / ٣١٦ ، أحكام القرآن : ١ / ٨ ، تفسير ابن كثير : ١ / ١٢ ، بتفاوت.

(٢) بياض في المخطوط.

(٣) بياض في المخطوط.

(٤) الدر المنثور : ١ / ٧ ، عن الثعلبي.

(٥) الدر المنثور : ١ / ٧.

١٠٤

الكلام في جزئية البسملة من باقي السور

هذا في الفاتحة ، فأما في غيرها من السور ، فأخبرنا أبو القاسم الحبيبي ، حدّثنا أبو العباس الأصم ، حدّثنا الربيع بن سليمان ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا عبد المجيد بن عبد العزيز ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم ، أن أبا بكر بن حفص بن عاصم قال : صلى معاوية بالمدينة صلاة يجهر فيها بالقراءة ، وقرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) لأم القرآن ولم يقرأ للسورة التي بعدها حتى قضى صلاته ، فلمّا سلّم ناداه المهاجرون من كل مكان : يا معاوية ، أسرقت الصلاة أم نسيت؟ فصلى بهم صلاة أخرى وقرأ فيها للسورة التي بعدها.

وما ... (١) النظر بآيات [السور] (٢) مقاطع القرآن على ضربين متقاربة ومتشاكلة. والمتشاكلة نحو ما في سورة القمر والرّحمن وأمثالهما ، والمتقاربة قيل : في سورة (ق * وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) (٣) ، وما ضاهاها. ثم نظرنا في قوله : (قَبْلِهِمْ) ، فلم يكن من المتشاكلة ولا من المتقاربة ، ووجدنا أواخر آي القرآن على حرفين : ميم ونون أو حرف صحيح قبلها نا مكسورة فأوّلها ، أو واو مضموم ما قبلها ، أو ألف مفتوح ما قبلها ، ووجدنا سبيلهم هو هو مخالف لنظم الكتاب.

هذا ولم نر غير مبتدأ آية في كتاب الله .. (٤) .. إذ يقول أيضا : إن التسمية لا [تخلو] (٥) ؛ إما أن تكون مكتوبة للفصل بين السور ، أو في آخر السور ، أو في أوائلها أو حين نزلت كتبت ، وحيث لم تنزل لم تكتب ، فلو كتبت للفصل لكتبت. (٦) .. وتراخ ، ولو كتبت في الابتداء لكتبت في (براءة) ، ولو كتبت في الانتهاء لكتبت في آخر (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) (٧). فلمّا أبطلت هذه الوجوه علمنا أنها كتبت حيث نزلت ، وحيث لم تنزل لم تكتب.

يقول أيضا : إنا وجدناهم كتبوا ما كان غير قرآن من الآي والأخرى ، أو خضرة ، وكتبوا التسمية بالسواد فعلمنا أنها قرآن ، وبالله التوفيق.

حكم الجهر بالبسملة في الصلاة

ثم الجهر بها في الصلاة سنّة لقول الله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (٨) [فأمر] (٩) رسوله أن يقرأ القرآن بالتسمية ، وقال : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) (١٠) فأوجب الفلاح لمن صلّى بالتسمية.

__________________

(١) بياض في المخطوط.

(٢) بياض في المخطوط والظاهر ما أثبتناه.

(٣) سورة ق : ١ ـ ٢.

(٤) بياض في المخطوط.

(٥) بياض في المخطوط والظاهر ما أثبتناه.

(٦) بياض في المخطوط.

(٧) سورة الناس : ١.

(٨) سورة العلق : ٢.

(٩) بياض في مصورة المخطوط ، والظاهر ما أثبتناه. (١٠) سورة الأعلى : ١٤ و ١٥.

١٠٥

وأخبرنا أبو القاسم [الحسن بن محمّد بن جعفر] حدّثنا أبو صخر محمد بن مالك السعدي بمرو ، حدّثنا عبد الصمد بن الفضل الآملي ، حدّثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة الحضرمي بغوطة [دمشق] (١) قال : صليت خلف المهديّ أمير المؤمنين فجهر بـ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، فقلت : ما هذه القراءة يا أمير المؤمنين؟ [فقال :] حدثني أبي عن أبيه عن عبد الله بن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جهر بـ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، قلت : أآثرها عنك؟ قال : نعم (٢).

وحدّثنا الحسن بن محمد بن زكريا العنبري ، حدّثنا محمد بن عبد السلام ، حدّثنا إسحاق ابن إبراهيم ، أخبرنا خيثمة بن سليمان قال : سمعت ليثا قال : كان عطاء وطاوس ومجاهد يجهرون بـ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

وحدّثنا الحسن بن محمد : حدّثنا أبو بكر أحمد بن عبد الرّحمن المروزي ، حدّثنا الحسن ابن علي بن نصير الطوسي ، حدّثنا أبو ميثم سهل بن محمد ، حدّثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخزاعي ، عن عمّار بن سلمة ، عن علي بن زيد بن جدعان ، أن العبادلة كانوا يستفتحون القراءة بـ بسم (اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) يجهرون بها : عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن صفوان.

وحدّثنا الحسن بن محمد ، حدّثنا أبو نصر منصور بن عبد الله الاصفهاني ، حدّثنا أبو القاسم الاسكندراني ، حدّثنا أبو جعفر الملطي عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر بن محمد أنه قال : «اجتمع آل محمد على الجهر بـ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، وعلى أن يقضوا ما فاتهم من صلاة الليل بالنهار ، وعلى أن يقولوا في أبي بكر وعمر أحسن القول وفي صاحبهما».

وبهذا الإسناد قال : سئل الصادق عن الجهر بالتسمية ، فقال : «الحق الجهر به ، وهي التي التي ذكر الله عزوجل : (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) (٣)».

وحدّثنا الحسن ، حدّثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن موسى بن كعب العدل ، حدّثنا الحسين ابن أحمد بن الليث ، حدّثنا محمد بن المعلّى المرادي ، حدّثنا أبو نعيم عن خالد بن

__________________

(١) بياض في مصورة المخطوط ، والظاهر ما أثبتناه.

(٢) البداية والنهاية : ١٠ / ١٦٢.

(٣) سورة الإسراء : ٤٦.

١٠٦

إياس عن سعيد ابن أبي سعيد المقرئ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتاني جبريل فعلمني الصلاة» (١) [٢٣] ، ثم قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكبّر فجهر بـ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

وحدّثنا الحسن بن محمد ، حدّثنا أبو الطيب محمد بن أحمد بن حمدون ، حدّثنا الشرقي ، حدّثنا محمد بن يحيى ، حدّثنا ابن أبي مريم عن يحيى بن أيوب ونافع بن أيوب قالا : حدّثنا عقيل عن الزهري قال : من سنّة الصلاة أن تقرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) في فاتحة الكتاب [فإن] لم يقرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) لم يقرأ السورة. وقال : إن أوّل من ترك (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) عمرو ابن سعيد بن العاص بالمدينة ، واحتجّ من أنّ إتيان التسمية أنها من الفاتحة ، والجهر بها في الصلاة بما أخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا محمد بن الحسين بن الحسن بن الخليل النيسابوري القطّان ، حدّثنا محمد بن إبراهيم الجرجاني ، حدّثنا إبراهيم بن عمّار عن سعيد بن أبي عروبة عن الحجاج بن الحجاج عن قتادة عن أنس بن مالك قال : صليت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ، فلم أسمع أحدا منهم يقرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

وأخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا محمد بن إسماعيل العماريّ ، حدّثنا يزيد بن أحمد بن يزيد ، حدّثنا أبو عمرو ، حدّثنا محمد بن عثمان ، حدّثنا سعيد بن بشير ، عن قتادة عن أنس ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا لا يجهرون ، ويخفون (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

فعلم بهذا الحديث أنه لم ينف كون هذه الآية من جملة السورة ، لكنه تعرّض لترك الجهر فقط ، على أنه أراد بقوله : (لا يجهرون) : أنهم لا يتكلفون في رفع الصوت ولم يرد الإسراء والتخافت أو تركها أصلا.

ويدل عليه ما أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد الحبيبي ، أخبرنا أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري ، حدّثنا محمد بن عبد السلام الوراق وعبد الله بن محمد بن عبد الرّحمن قالا : حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ، أخبرنا يحيى بن آدم ، أخبرنا شريك ، عن ياسر ، عن سالم الأفطس ، عن ابن أبي ليلى ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجهر بـ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) جهر بها صوته ، فكان المشركون يهزئون بمكّة ويقولون : يذكر إله اليمامة ، يعنون مسيلمة الكذاب ، ويسمونه الرّحمن ، فأنزل الله : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) فيسمع المشركون فيهزؤون ، (وَلا تُخافِتْ) عن أمتك ولا تسمعهم (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) (٢).

واحتجّوا أيضا بما أخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا محمد بن جعفر المطيري ، حدّثنا بشر

__________________

(١) كنز العمّال : ٧ / ٤٤١.

(٢) سورة الإسراء : ١١٠.

١٠٧

ابن مطر [عن سفيان عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة] عن أبيه عن قتادة عن أنس أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يستفتحون القراءة بـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، وإنما عنى بها أنهم كانوا يستفتحون الصلاة بسورة (الحمد) ، فعبّر بهذه الآية عن جميع السورة كما يقول : قرأت (الْحَمْدُ لِلَّهِ) و (البقرة) ، أي سورة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) وسورة (البقرة). (١) .. أي رويناها نحكم على هذين الحديثين وأمثالهما وبالله التوفيق.

قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ)

. (٢) .. على نفسه ، نعيما منه على خلقه. ولفظه خبر ومعناه أمر ، تقريره : قولوا : الحمد لله. قال ابن عباس : يعني : الشكر منه ، وهو من الحمد .. (٣) .. والحمد لله نقيض الذم. وقال ابن الأنباري : هو مقلوب عن المدح كقوله : جبل وجلب ، و: بض وضبّ.

واختلف العلماء في الفرق بين الحمد والشكر ، فقال بعضهم : الحمد : الثناء على الرجل بما فيه من الخصال الحميدة ، تقول : حمدت الرجل ، إذا أثنيت عليه بكرم أو [حلم] أو شجاعة أو سخاوة ، ونحو ذلك. والشكر له : الثناء عليه أو لآله.

فالحمد : الثناء عليه بما هو به ، والشكر : الثناء عليه بما هو منه.

وقد يوضع الحمد موضع الشكر ، فيقال : حمدته على معروفه عندي ، كما يقال : شكرته ، ولا يوضع الشكر موضع الحمد ، [ف] لا يقال : شكرته على علمه وحلمه.

والحمد أعمّ من الشكر ؛ لذلك ذكره الله فأمر به ، فمعنى الآية : الحمد لله على صفاته العليا وأسمائه الحسنى ، وعلى جميع صنعه وإحسانه إلى خلقه.

وقيل : الحمد باللسان قولا ، قال الله : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) (٤) ، وقال : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) (٥) والشكر بالأركان فعلا ، قال الله تعالى : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) (٦).

وقيل : الحمد لله على ما حبا وهو النعماء ، والشكر على ما زوى وهو اللأواء.

وقيل : الحمد لله على النعماء الظاهرة ، والشكر على النعماء الباطنة ، قال الله تعالى : (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) (٧).

__________________

(١) بياض في المخطوط.

(٢) بياض في المخطوط.

(٣) بياض في المخطوط.

(٤) سورة الإسراء : ١١١.

(٥) سورة النمل : ٥٩.

(٦) سورة سبأ : ١٣.

(٧) سورة لقمان : ٢٠.

١٠٨

وقيل : الحمد ابتداء والشكر (١) ....

حدّثنا الحسن بن محمد بن جعفر النيسابوري لفظا ، حدّثنا إبراهيم بن محمد بن يزيد النسفي ، حدّثنا محمد بن علي الترمذي ، حدّثنا عبد الله بن العباس الهاشمي ، حدّثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن عبد الله بن عمرو [بن العاص] قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده» (٢) [٢٤].

وحدّثنا الحسن بن محمد ، أخبرنا أبو العباس أحمد بن هارون الفقيه ، حدّثنا عبد الله بن محمود السعدي ، حدّثنا علي بن حجر ، حدّثنا شعيب بن صفوان عن مفضّل بن فضالة عن علي بن يزيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أنه سئل عن (الْحَمْدُ لِلَّهِ) قال : كلمة شكر أهل الجنة.

في إعراب (الْحَمْدُ لِلَّهِ)

وقد اختلف القرّاء في قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ، فقرأت العامّة بضمّ الدال على الابتداء ، وخبره فيما بعده. وقيل : على التقديم والتأخير ، أي لله الحمد.

وقيل : على الحكاية. وقرأ هارون بن موسى الأعور ورؤبة بن العجاج بنصب الدال على الإضمار ، أي أحمد الحمد ؛ لأن الحمد مصدر لا يثنّى ولا يجمع. وقرأ الحسن البصري بكسر الدال ، أتبع الكسرة الكسرة. وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة الشامي بضم الدال واللام ، أتبع الضمة الضمّة.

(رَبِّ الْعالَمِينَ) قرأ زيد بن علي : رَبَّ الْعالَمِينَ بالنصب على المدح ، وقال أبو سعيد ابن أوس الأنصاري : على معنى أحمد ربّ العالمين. وقرأ الباقون (رَبِّ الْعالَمِينَ) بكسر الباء ، أي خالق الخلق أجمعين ومبدئهم ومالكهم والقائم بأمورهم ، والرب بمعنى السيّد ، قال الله تعالى : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) (٣) أي سيّدك ، قال الأعشى (٤) :

واهلكن يوما ربّ كندة وابنه

وربّ معبين خبت وعرعر (٥)

__________________

(١) بياض في المخطوط.

(٢) المصنّف لعبد الرزّاق : ١٠ / ٤٢٤ ، ح ١٩٥٧٤.

(٣) سورة يوسف : ٤٢.

(٤) في المصدر نسبه إلى لبيد بن ربيعة.

(٥) جامع البيان للطبري : ١ / ٩٣.

١٠٩

وربّ عمر والرومي من رأس حضية

وأنزلن بالأسباب رب المشقرة

يعني : رئيسها وسيّدها.

ويكون بمعنى المالك ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أربّ إبل أنت أم رب غنم؟» (١) [٢٥]. فقال : من كل قد آتاني الله فأكثر وأطنب وقال طرفة :

كقنطرة الرومي أقسم ربها

لتكتنفنّ حتى تشاد بقرمد (٢)

وقال النابغة :

وإن يك ربّ أذواد فحسبي

أصابوا من لقائك ما أصابوا (٣)

ويكون بمعنى الصاحب ، قال أبو ذؤيب :

فدنا له رب الكلاب بكفّه

بيض رهاب ريشهن مقزع (٤)

ويكون بمعنى المرعى ، يقول : ربّ يربّ ربابة وربوبا ، فهو ربّ ، مثل برّ وطب ، قال الشاعر :

يربّ الذي يأتي من العرف إنه

إذا سئل المعروف زاد وتمّما (٥)

ويكون بمعنى المصلح للشيء ، قال الشاعر :

كانوا كسالئة حمقاء إذ حقنت

سلاءها في أديم غير مربوب (٦)

أي غير مصلح.

وقال الحسين بن الفضل : الرب : اللبث من غير إثبات أحد ، يقال : ربّ بالمكان وأربّ ، ولبث وألبث إذا أقام وفي الحديث أنه كان يتعوّذ بالله من فقر ضرب أو قلب قال الشاعر :

ربّ بأرض تخطّاها الغنم

لب بأرض ما تخطاها الغنم (٧)

وهو الاختيار ؛ لأن المتكلمين أجمعوا على أنّ الله لم يزل ربّا وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : سمعت أبي يقول : سئل أبو بكر محمد بن موسى الواسطي عن الرب ، فقال : هو الخالق ابتداء ، والمربي غذاء ، والغافر انتهاء. ولا يقال للمخلوق : هو الرب ، معرّفا بالألف

__________________

(١) مسند الحميدي : ٢ / ٣٩٠ ، غريب الحديث : ١ / ١٦٦.

(٢) لسان العرب : ٥ / ١١٨ ، والقرمد : الحجارة.

(٣) التبيان : ٦ / ١٤٤.

(٤) لسان العرب : ١ / ٤٣٨.

(٥) تاج العروس : ١ / ٢٦١.

(٦) الصحاح : ١ / ٥٥.

(٧) لسان العرب : ١ / ٧٣١.

١١٠

واللام ، وإنما يقال على الإضافة : هو رب كذا ؛ لأنه لا يملك الكل غير الله ، والألف واللام تدلّان على العموم. وأمّا العالمون فهم جمع عالم ، ولا واحد له من لفظه (١) ، كالأنام والرهط والجيش ونحوها.

واختلفوا في معناه ، حدّثنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن ، أخبرنا أبو إسحاق بن أسعد بن الحسن بن سفيان عن جدّه عن أبي نصر ليث بن مقاتل عن أبي معاذ الفضل بن خالد عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم عن الربيع بن أنس عن شهر بن حوشب عن أبي بن كعب قال : العالمون هم الملائكة ، وهم ثمانية عشر ألف ملكا منهم أربعة آلاف وخمسمائة ملك بالمشرق ، وأربعة آلاف وخمسمائة ملك بالمغرب ، وأربعة آلاف وخمسمائة ملك بالكهف الثالث من الدنيا ، وأربعة آلاف وخمسمائة ملك في الكهف الرابع من الدنيا ، مع كل ملك من الأعوان ما لا يعلم عددهم إلّا الله عزوجل ومن ورائهم أرض بيضاء كالرخام .. (٢) .. مسير الشمس أربعين يوما ، طولها لا يعلمه إلّا الله عزوجل مملوءة ملائكة يقال لهم الروحانيون ، لهم زجل بالتسبيح والتهليل ، لو كشف عن صوت أحدهم لهلك أهل الأرض من هول صوته فهم العالمون ، منتهاهم إلى حملة العرش.

وقال أبو معاذ [النحوي] : هم بنو آدم.

وقال أبو هيثم خالد بن يزيد : هم الجن والإنس ؛ لقوله تعالى : (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) (٣) ، وهي رواية عطية العوفي وسعيد بن جبير عن ابن عباس.

وقال الحسين بن الفضل : العالمون : الناس ، واحتجّ بقوله تعالى : (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ) (٤).

وقال العجاج : بخلاف هذا العالم.

وقال الفراء وأبو عبيدة : هو عبارة عمن يعقل ، وهم أربع أمم : الملائكة ، والجن ، والإنس ، والشياطين ، لا يقال للبهائم : عالم. وهو مشتق من العلم ، قال الشاعر :

ما إن سمعت بمثلهم في العالمينا

وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني : هم أهل التنزيه من الخلق. وقال عبد الرّحمن بن زيد ابن أسلم : هم المرتزقون. وقال الخضر بن إسماعيل : هو اسم الجمع الكثير ، قال ابن الزبعري :

__________________

(١) أي من لفظ العالم.

(٢) بياض في المخطوط.

(٣) سورة الفرقان : ١.

(٤) سورة الشعراء : ١٦٥.

١١١

إني وجدتك يا محمد عصمة

للعالمين من العذاب الكارث (١)

وقال أبو عمرو بن العلاء : هم الروحانيون. وهو معنى قول ابن عباس : كل ذي روح دبّ على وجه الأرض. وقال سفيان بن عيينة : هو جمع للأشياء المختلفة.

وقال جعفر بن محمد الصادق : «العالمون : أهل الجنة وأهل النار».

وقال الحسن وقتادة ومجاهد : هو عبارة عن جميع المخلوقات ، واحتجوا بقوله : (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) (٢).

واشتقاقه على هذا القول من (العلم) و (العلامة) ؛ لظهورهم ولظهور أثر الصنعة فيهم ثم اختلفوا في مبلغ العالمين وكيفيتهم ، فقال سعيد بن المسيب : لله ألف عالم ؛ منها ستمائة في البحر وأربعمائة في البر. وقال الضحاك : فمنهم ثلاثمائة وستون عالما حفاة عراة لا يعرفون من خالقهم ، وستون عالما يلبسون الثياب. وقال وهب : لله تعالى ثمانية عشر ألف عالم ، الدنيا عالم منها ، وما العمارة في الخراب إلا كفسطاط في الصحراء. وقال أبو سعيد الخدري : إن لله أربعين ألف عالم ، الدنيا من شرقها إلى غربها عالم واحد. وقال أبو القاسم مقاتل بن حيان : العالمون ثمانون ألف عالم ؛ أربعون ألفا في البرّ وأربعون ألفا في البحر. وقال مقاتل بن سليمان : لو فسّرت (الْعالَمِينَ) ، لاحتجت إلى ألف جلد كل جلد ألف ورقة. وقال كعب الأحبار : لا يحصي عدد العالمين إلّا الله ، قال الله : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) (٣).

(مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤))

(مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (٤).

اختلف القراء فيه من عشرة أوجه :

الوجه الأول : مالِكِ ـ بالألف وكسر الكاف ـ على النعت ، وهو قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرّحمن بن عوف وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وابن عباس وأبي ذر وأبي هريرة وأنس ومعاوية ، ومن التابعين وأتباعهم عمر بن عبد العزيز ومحمد بن شهاب الزهري ومسلمة بن زيد والأسود بن يزيد وأبو عبد الرّحمن السلمي وسعيد بن جبير وأبو رزين وإبراهيم وطلحة بن عوف وعاصم بن أبي النجود و ... (٥) بن عمر

__________________

(١) لم نجده في المصادر نعم هو في مناقب ابن شهر آشوب (١ / ١٤٤) وفيه : العذاب الواصب.

(٢) سورة الشعراء : ٢٣ ـ ٢٤.

(٣) سورة المدّثّر : ٣١.

(٤) سورة الفاتحة : ٤.

(٥) بياض في المخطوط.

١١٢

الهمذاني وشيبان ابن عبد الرّحمن وعلي بن صالح بن حي وابن أبي ليلى وعبد الله بن إدريس وعلي بن حمزة الكسائي وخلف بن هشام والحسين بن أبي الحسن البصري من أهل البصرة وأبو رجاء العطاردي ومحمد بن سيرين وبكر بن عبد الله المزني وقتادة بن دعامة السدوسي ويحيى بن يعمر .. (١) .. وعيسى بن عمر النفعي وسلام بن سليمان أبو المنذر ويعقوب بن أعين الحضرمي وأيوب بن المتوكل وأبو عبيدة و.. (٢) .. وسعيد بن مسعدة الأخفش وخالد بن معدان والضحاك بن مزاحم.

أخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد ، أخبرنا أحمد بن محمد بن علي ، حدّثنا محمد بن يحيى ، حدّثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن ابن المسيب وأخبرنا أبو العباس الأصمّ ، أخبرنا ابن عبد الحكم : حدّثنا .. (٣) .. بن سويد الحميري عن يونس عن يزيد عن ابن شهاب عن أنس بن مالك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يقرءون : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ).

وأخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم ، أخبرنا محمد بن محمد بن خلف العطار ، حدّثنا المنذر بن المنذر الفارسي ، حدّثنا هارون بن حاتم ، حدّثنا إسحاق بن منصور الأسدي عن أبي إسحاق .. (٤) .. عن مالك بن دينار عن أنس قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبا بكر وعمر وعثمان وعليّا يقرءون : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، وأوّل من قرأها : (ملك يوم الدين) مروان بن الحكم.

والوجه الثاني : ملك ، بغير ألف وكسر الكاف على التفسير أيضا ، وهو قراءة زيد بن ثابت وأبي الدرداء وشعيب بن يزيد والمسور بن المخرمة ومن التابعين وأتباعهم عروة بن الزبير وأبو بكر بن عمر بن حزم ومروان بن الحكم و.. (٥) .. وعبد الرّحمن بن هرمز الأعرج وأبان بن عثمان وأبو جعفر يزيد بن المفضل ونسيبة بن نصّاح ونافع بن نعيم ومجاهد وابن كثير وابن محسن وحميد بن معين ويحيى بن وثاب وحمزة بن حبيب ومحمد بن سيرين وعبد الله بن عمر وأبو عمرو بن العلاء وعمرو بن .. (٦) .. وعبد الله بن عامر النصيبي.

وروي ذلك أيضا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن عثمان وعلي عليه‌السلام.

أخبرنا ابن حمدويه ، أخبرنا أبن أيوب [المنقري] : أخبرنا ابن حامد (٧) وابن .. (٨) ..

قالا : أخبرنا حامد بن محمّد ، حدّثنا وأخبرنا ابن عمر ، حدّثنا الرفاء ، قالوا : حدّثنا علي بن عبد العزيز ، حدّثنا أبو عبيد ، حدّثنا يحيى بن سعيد القطّان ، حدّثنا عبد الملك بن جريج عن عبد الله

__________________

(١) بياض في المخطوط.

(٢) بياض في المخطوط.

(٣) بياض في المخطوط.

(٤) بياض في المخطوط.

(٥) بياض في المخطوط.

(٦) بياض في المخطوط.

(٧) وهو الوزان.

(٨) بياض في المخطوط.

١١٣

ابن أبي مليكة عن أمّ سلمة قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقطّع قراءة : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ.

والوجه الثالث : ملك ـ بجزم اللام ـ على النعت ، وهو رواية الحسن بن عليّ الجعفي وعبد الوارث بن سعيد ، وروي عن ابن عمر.

والوجه الرابع : أنّ مالكَ ـ بالألف ونصب الكاف ـ على النداء ، وهي قراءة الأعمش ومحمد بن [السميقع] وعبد الملك قاضي الجند ، وروي ذلك عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في بعض غزواته : «يا مالك يوم الدين» (١) [٢٦].

والوجه الخامس : ملك ـ بنصب الكاف من غير ألف ـ على النداء أيضا ، وهي قراءة عطية .. (٢) ..

والوجه السادس : مالكُ ـ بالألف ورفع الكاف ـ على معنى : هو مالك ، وهي قراءة عزير العقيلي.

والوجه السابع : ملك ـ برفع الكاف من غير ألف ـ وهي قراءة أبي حمزة وابن سيرين.

والوجه الثامن : مالك ، بالإمالة والإضجاع البليغ. روي ذلك عن يحيى بن يعمر. وعن أيوب السختياني بين الإمالة والتفخيم .. (٣) .. عن .. (٤) .. عن الكلبي.

والوجه التاسع : (ملك يوم الدين) على الفعل ، وهي قراءة الحسن ويحيى بن يعمر وأبي حمزة وأبي حنيفة.

الفرق بين ملك و (مالِكِ)

[أما] الفرق بين (مالِكِ) وملك فقال قوم : هما لغتان بمعنى واحد ، مثل (فرهين) و (فارِهِينَ) و (حذرين) و (حاذرين) و (فَكِهِينَ) و (فاكِهِينَ) .. (٥) .. بينهما ، فقال أبو عبيدة والأصمعي وأبو سالم والأخفش وأبو الهيثم : (مالِكِ) أجمع وأوسع وأمدح ، ألا ترى أنه يقال : الله مالك الطير والدواب والوحش وكل شيء ، ولا يقال : ملك كل شيء ، وإنما يقال : (مَلِكِ النَّاسِ)؟ قالوا : ولا يكون مالك الشيء إلّا هو يملكه ويكون ملك الشيء وهو لا يملكه ، كقولهم : ملك العرب والعجم والروم.

__________________

(١) مجمع الزوائد : ٥ / ٣٢٨.

(٢) بياض في المخطوط.

(٣) بياض في المخطوط.

(٤) بياض في المخطوط.

(٥) بياض في المخطوط.

١١٤

وقالوا أيضا : إن (المالك) يجمع الفعل والاسم.

وقال بعضهم : في (مالِكِ) .. (١) .. و (مالِكِ) قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات» (٢) [٢٧].

وقال أبو عبيد : الذي نختار ملك .. (٣) .. مرويا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أثبت. ومن قرأ بها من أهل العلم أكثر. وهي مع هذا في المعنى أصحّ لقوله تعالى : (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) (٤) ، و: (الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) (٥) ، و: (مَلِكِ النَّاسِ) (٦) ، و: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) (٧) ، ولم يقل : لمن الملك اليوم؟

والملك مصدر الملك وغيره ، وملك يصلح للمالك والمليك ، يقال : ملك الشيء يملكه ملكا ، فهو مالك ومليك ، و: ملكه يملكه ملكا فهو ملك لا غير. وهما بعد الناس ، ومعناهما الربّ ؛ لأن العرب تقول : رب الدار والعبد والضيعة بمعنى أنه مالكها ، ولا يفرّقون بين قولهم : ربّها ومالكها ومن .. (٨) .. قال : إن المالك والملك هو القادر على استخراج الأعيان من العدم إلى الوجود ، ولا يقدر في الحقيقة على إخراجها إلّا الله المالك ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا ملك إلّا الله» (٩) [٢٨].

فأما غيره ، فيسمى مالكا وملكا على المجاز.

والمراد بذلك : أنه مأذون له في التصرّف فيه.

وقال عبد العزيز بن يحيى : المالك يمكن بما يملكه ، منفرد به عن أبناء جنسه ، تعود منافعه إليه ، والمالك الثاني الذي بيده الشيء ، ويستولي عليه ، ويصرفه فيما يريده. تقول العرب : ملّكك زمام البعير ، وملكت العجين إذا شددته ، وأملكت المرأة إملاكا ، قال الشاعر :

وجبرئيل أمين الله أملكها

معنى قوله : (الدِّينِ) وأما معنى قوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، فقال ابن عباس والسدي ومقاتل : قاضي يوم الحساب. ودليله قوله عزوجل : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (١٠) ، أي الحساب المستقيم.

الضحاك وقتادة : (الدِّينِ) : الجزاء ، يعني : يوم يدين الله العباد بأعمالهم. دليله قوله : (أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) (١١) ، أي مجرّبون. قال لبيد :

__________________

(١) بياض في المخطوط.

(٢) البرهان : ١ / ٤٤٥.

(٣) بياض في المخطوط.

(٤) سورة طه : ١١٤.

(٥) سورة الحشر : ٢٣.

(٦) سورة الناس : ٢.

(٧) سورة غافر : ١٦.

(٨) بياض في المخطوط.

(٩) مجمع الزوائد : ١٠ / ٤٤.

(١٠) سورة التوبة : ٣٦. (١١) سورة الصافّات : ٥٣.

١١٥

حصادك يوما ما زرعت وإنما

يدان الفتى يوما كما هو دائن (١)

وقال عثمان بن زيات : يوم القهر والغلبة ، تقول العرب : مدان فدان ، أي قهرته فخضع وذلّ. وقال الأعشى :

هو دان الرباب إذ كرهوا الدين

دراكا بغزوة وارتحال

ثم دانت بعد الرباب وكانت

كعذاب عقوبة الأقوال (٢)

وسمعت أبا القاسم الحسين بن محمد الأديب يقول : سمعت أبا المضر محمد بن أحمد ابن منصور يقول : سمعت أبا عمر غلام ثعلب يقول : كان الرجل إذا أطاع ودان إذا عصى ، ودان إذا عزّ وكان إذا ذلّ ، ودان إذا قهر.

وقال الحسن بن الفضل : يوم الإطاعة ، قال زهير :

لئن حللت بواد في بني أسد

في دين عمرو وحالت بيننا فدك (٣)

أي في طاعة ، وكل ما أطيع الله فيه فهو دين.

وقال بعضهم : يوم العمل ، قال الفراء : دين الرجل خلقه وعمله وعادته ، وقال المثقب العبدي :

تقول إذا درأت وضيني لها

أهذا دينه أبدا وديني (٤)

وقال محمد بن كعب القرضي : مالك يوم لا ينفع فيه إلّا الدين ، وهذه من قول الله تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (٥) ، وقوله : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) (٦).

وإنما خصّ يوم الدين بكونه مالكا له ؛ لأن الأملاك في ذلك اليوم زائلة [فينفرد تعالى بذلك] (٧) ، وهي باطلة والأملاك خاصة. وقيل : خص (يَوْمِ الدِّينِ) بالمالك فيه ؛ لأن ملك الدنيا قد اندرج في قوله : (رَبِّ الْعالَمِينَ) (٨) ، فأثبت أنه مالك الآخرة بقوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ؛ ليعلم أن الملك له في الدارين. وقيل : إنما خصّ (يَوْمِ الدِّينِ) بالذكر ؛ تهويلا وتعظيما لشأنه كما قال تعالى : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ * لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) (٩) ، ولا خفاء بهم في كل الأوقات عن الله عزوجل.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١ / ١٤٤.

(٢) الصحاح : ٥ / ٢١١٨.

(٣) لسان العرب : ١٠ / ٤٧٣.

(٤) الصحاح : ٥ / ٢١١٨.

(٥) سورة الشعراء : ٨٨ ـ ٨٩.

(٦) سورة سبأ : ٣٧.

(٧) زيادة لتقويم النص.

(٨) سورة الحمد : ٢.

(٩) سورة غافر : ١٦.

١١٦

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥))

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) رجع من الخبر الى الخطاب على التلوين. وقيل فيه إضمار ، أي قولوا : (إِيَّاكَ). وإيا كلمة ضمير ، لكنه لا يكون إلّا في موضع النصب ، والكاف في محلّ الخفض بإضافة إيا إليها ، وخصّ بالإضافة إلى الضمير ؛ لأنه يضاف إلى الاسم المضمر ألا يقول الشاعر :

فدعني وإيا خالد

لأقطعن عري نياطه (١)

وحكى الخليل عن العرب : إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإياكم.

ويستعمل مقدّما على الفعل مثل (إياك أعني) و (إياك أسأل) ، ولا يستعمل مؤخّرا على الفعل إلّا أنّ ... (٢) .. به حين الفعل ، فيقال : ما عبدت إلّا إياك ونحوها. وقال أبو ميثم سهل ابن محمد : إياك ضمير منفصل ، والضمير ثلاثة أقسام :

ضمير متّصل نحو الكاف والهاء والياء في قولك : أكرمك ، وأكرمني. سمي بذلك لاتصاله بالفعل.

وضمير منفصل نحو إياك وإياه وإياي. سمي بذلك لانفصاله عن الفعل.

وضمير مستكن ، كالضمير في قولك : قعد وقام. سمي بذلك لأنه استكن في الفعل ولم يستبق في اللفظ ويعمّ أن فيه ضمير الفاعل ؛ لأن الفعل لا يقوم إلّا بفاعل ظاهر أو مضمر.

وقال أبو زيد : إنما هما ياءان : الأولى للنسبة والثانية للنداء ، تقديرها : (أي يا) ، فأدغمت وكسرت الهمزة لسكون الياء. وقال أبو عبيد : أصله (أوياك) ، فقلبت الواو ياء فأدغموه ، وأصله من (آوى ، يؤوي ، إيواء) كأن فيه معنى الانقطاع والقصد. وقرأ الفضل الرقاشي (أياك) بفتح الألف وهي لغة.

وإنما لم يقل : نعبدك [لأنه] يصحّ في العبارة ، وأحسن الإشارة ؛ لأنهم إذا قالوا : إياك نعبد ، كان نظرهم منه إلى العبادة لا من العبادة إليه. وقوله : (نَعْبُدُ) أي نوحد ونخلص ونطيع ونخضع ، والعبادة رياضة النفس على حمل المشاق في الطاعة. وأصلها الخضوع والانقياد والطاعة والذلة ، يقال : طريق معبّد إذا كان مذللا موطوءا بالأقدام. قال طرفة :

تبارى عتاقا ناجيات وأتبعت

وظيفا وظيفا فوق مور معبّد (٣)

__________________

(١) لسان العرب : ١٤ / ٦٠.

(٢) بياض في المخطوط.

(٣) الصحاح : ٢ / ٨٢٠.

١١٧

وبعير معبد إذا كان مطليا بالقطران ، قال طرفة :

إلى أن تحامتني العشيرة كلّها

وأفردت إفراد البعير المعبّد (١)

وسمّي العبد عبدا لذلّته وانقياده لمولاه.

(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) : نستوفي ونطلب المعونة على عبادتك وعلى أمورنا كلّها ، يقال : استعنته واستعنت به ، وقرأ يحيى بن رئاب : (نستعين) بكسر النون. قال الفرّاء : تميم وقيس وأسد وربيعة يكسرون علامات المستقبل إلّا الياء ، فيقولون إستعين ونستعين ونحوها ، ويفتحون الياء لأنها أخت الكسرة. وقريش وكنانة يفتحونها كلّها وهي الأفصح والأشهر.

وإنّما كرّر (إِيَّاكَ) ؛ ليكون أدلّ على الإخلاص والاختصاص والتأكيد لقول الله تعالى خبرا عن موسى : (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً) (٢) ، ولم يقل : كي نسبحك ونذكرك كثيرا.

وقال الشاعر :

وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به

بين النهار وبين الليل قد فصلا (٣)

ولم يقل بين النهار والليل. وقال الآخر :

بين الأشجّ وبين قيس باذخ

بخ بخ لوالده وللمولود (٤)

وقال أبو بكر الورّاق : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) لأنك خلقتنا ، (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) لأنك هديتنا وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا الحسن علي بن عبد الرّحمن الفرّان ، وقد سئل عن الآية فقال : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) لأنك الصانع ، و (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) لأن المصنوع لا غنى به عن الصانع ، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) لتدخلنا الجنان ، و (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) لتنقذنا من النيران ، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) لأنّا عبيد و (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) لأنك كريم مجيد ، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) لأنك المعبود بالحقيقة و (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) لأننا العباد بالوثيقة.

(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦))

(اهْدِنَا) ، قال علي بن أبي طالب (كرّم الله وجهه) وأبيّ بن كعب : أرشدتنا فهذا كما يقال للرجل الذي يأكل : كل ، والذي يقرأ : اقرأ ، وللقائم : قم لي حتّى أعود لك أي دم على ما أنت

__________________

(١) لسان العرب : ٣ / ٢٧٤.

(٢) سورة طه : ٣٣ ـ ٣٤.

(٣) ترتيب إصلاح المنطق : ٣٥٥.

(٤) الصحاح : ١ / ٤١٨.

١١٨

عليه. وقال السدّي ومقاتل : أرشدنا ، يقال : هديته للدّين وهديته الى الدين هدى وهداية ، قال الحسن بن الفضل : الهدى في القرآن على وجهين :

الوجه الأول : هدى دعاء وبيان كقوله : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١) ، وقوله : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (٢) و (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) (٣).

الوجه الثاني : هدى توفيق وتسديد كقوله : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٤) ، وقوله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) (٥).

و (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) الطريق الواضح المستوي ، قال عامر بن الطفيل :

خشونا أرضهم بالخيل حتّى

تركناهم أذل من الصراط (٦)

وقال جرير :

أمير المؤمنين على صراط

إذا اعوجّ الموارد مستقيم (٧)

الإختلاف في قراءة (الصِّراطَ)

وفي (الصِّراطَ) خمس قراءات : بالسين وهو الأصل ، سمّي الطريق سراطا لأنّه يسترط المارّة.

أخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا محمد بن حمدويه ، حدّثنا محمود بن آدم ، حدّثنا سفيان عن عمر عن ثابت قال : سمعت ابن عباس قرأ السراط بالسين ، وبه قرأ ابن كثير [من] طريق .. (٨) .. ويعقوب [من] طريق .. (٩) ...

وبإشمام السين وهي رواية أبي حمدون عن الكسائي ، وبالزاي وهي رواية أبي حمدون عن سليم عن حمزة.

وبإشمام الزاي وهي قراءة حمزة في أكثر الروايات والكسائي في رواية نهشل والشيرازي.

وبالصاد قراءة الباقين من القرّاء.

وكلّها لغات فصيحة صحيحة إلّا إن الاختيار الصاد ؛ لموافقة المصحف لأنها كتبت في جميع المصاحف بالصاد. ولأن آخرتها بالطاء لأنهما موافقتان في الاطباق والاستعلاء.

واختلف المفسّرون في (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)

فأخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد ، وأبو

__________________

(١) سورة الشورى : ٥٢.

(٢) سورة الرعد : ٧.

(٣) سورة فصّلت : ١٧.

(٤) سورة النحل : ٩٣.

(٥) سورة القصص : ٥٦.

(٦) الفروق اللغوية : ٣١٣.

(٧) الصحاح : ٢ / ٥٥٠.

(٨) بياض في المخطوط.

(٩) بياض في المخطوط.

١١٩

القاسم الحسن بن محمد النيسابوري قالا : أخبرنا أبو محمد أحمد بن عبد الله المزني ، حدّثنا محمد بن عبد الله بن سليمان ، حدّثنا الحسين بن علي عن حمزة الزيّات عن أبي المختار الطائي عن [ابن] أبي أخ الحرث الأعسر عن الحرث عن علي قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم [يقول] : «الصراط المستقيم كتاب الله عزوجل» (١) [٢٩].

وأخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا حامد بن محمد ، حدّثنا محمد بن شاذان الجوهري ، حدّثنا زكريا بن عديّ عن مقتضي عن منصور عن أبي وائل عن عبد الله قال : الصراط المستقيم كتاب الله عزوجل.

وأخبرنا عبد الله ، أخبرنا عبد الرّحمن بن محمد ، حدّثنا ليث ، حدّثنا عقبة بن سليمان ، حدّثنا الحسين بن صالح عن أبي عقيل عن جابر قال : الصراط المستقيم الإسلام ، وهو أوسع مما بين السماء والأرض [وإنما كان] الصراط المستقيم الإسلام لأن كل دين وطريق [غير] الإسلام فليس بمستقيم.

وروى عاصم الأحول عن أبي العالية الرياحي : هو طريق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصاحباه (٢).

قال عاصم : فذكرت ذلك للحسن فقال : صدق أبو العالية ونصح.

وقال بكر بن عبد الله المزني : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام ، فسألته عن (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) ، فقال : سنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي.

وقال سعيد بن جبير : يعني طريق [الحق].

وقال السدّي : أرشدنا إلى دين يدخل صاحبه به الجنة ولا يعذب في النار أبدا ، ويكون خروجه من قبره إلى الجنة.

وقال محمد بن الحنفية : هو دين [الله] الذي لا يقبل من عباده غيره.

أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله العايني ، حدّثنا أبو الحسين محمد بن عثمان النصيبي ببغداد ، حدّثنا أبو القاسم [....] (٣) ابن نهار ، حدّثنا أبو حفص المستملي ، حدّثنا أبي ، حدّثنا حامد بن سهل ، حدّثنا عبد الله بن محمد العجلي ، حدّثنا إبراهيم بن جابر عن مسلم بن حيان عن أبي بريدة في قول الله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) قال : صراط محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآله عليهم‌السلام (٤).

__________________

(١) معاني القرآن : ١ / ٧٦ ، وتفسير القرطبي : ٨ / ٣٢٩.

(٢) الكامل لابن عدي : ٣ / ١٦٣.

(٣) بياض في مصورة المخطوط ، والظاهر ما أثبتناه.

(٤) تفسير أبي حمزة الثمالي : ١٦٧ ، وشواهد التنزيل : ١ / ٧٤ ح ٨٦ ، ونهج الايمان لابن جبر عن كتاب ابن شاهين : ٥٤.

١٢٠