موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

وحينئذٍ نقول : لو وفى بنذره فلا إشكال في سقوط الزكاة ، للخروج بذلك عن الملك ، ولا زكاة إلّا في ملكٍ كما تقدّم (١).

إنّما الكلام في انقطاع الحول بنفس الوجوب لا بالتصدّق الخارجي ، وأنّ وجوب التصدّق الناشئ من قبل النذر هل يمنع عن تعلّق الزكاة أم لا؟

فنقول : نذر الصدقة على ما ذكره في المدارك (٢) ـ :

تارةً : يكون بنحو نذر النتيجة.

وأُخرى : بنحو نذر الفعل.

فإن كان الأوّل ، فلا ينبغي الشكّ في أنّه يقطع الحول ويمنع عن الزكاة ، لخروجه عن الملك ودخوله في ملك الفقراء ، ولا زكاة إلّا في ملكٍ كما مرّ. إلّا أنّ الكلام في صحّة النذر بهذا النحو فإنّه لم يدلّ عليه أيّ دليل.

والوجه فيه : ما ذكرناه في محلّه (٣) من أنّ التمليك وإن أمكن إبرازه بأيّ مبرز ولا تعتبر فيه صيغة خاصّة ، إلّا أنّه لا بدّ وأن يستند إلى سببٍ ويندرج تحت عنوان ، وليس النذر بنفسه من أسباب التمليك وعناوينه بالضرورة ، بل العنوان المتصوّر في المقام القابل للانطباق على التمليك المجّاني ليس إلّا الهبة ، فإنّ الصدقة فردٌ من أفرادها لا يفترق عنها إلّا باعتبار قصد التقرّب ، فهي بالآخرة نوعٌ خاصٌّ من الهبة ، فيجري عليها أحكامها : من اعتبار القبول ، لكونها من العقود ، ومن اعتبار القبض ، فما لم يتحقّق شي‌ء منهما كما هو المفروض لم تتحقّق الهبة الشرعيّة ، فلم يتحقّق السبب الناقل لتخرج العين المنذورة عن الملك حتى تسقط الزكاة.

__________________

(١) في ص ٣٠.

(٢) المدارك ٥ : ٣١ ٣٢.

(٣) في ص ٢٩ ٣٠.

٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

وعلى الجملة : لو صحّ نذر النتيجة فلا إشكال في قاطعيّته للحول ، إلّا أنّه لا يصحّ ، لعدم خروج التمليك المجّاني صدقة عن الهبة ، ويعتبر فيها القبول والقبض ، ولم يتحقّق شي‌ء منهما على الفرض ، فكيف تدخل في ملك الفقراء ليمنع عن الزكاة؟! وإن كان الثاني أعني : نذر الفعل ، الذي هو الظاهر من كلام المحقّق (١) وغيره ممّن تعرّض للمسألة نذراً مطلقاً غير معلّق على شرط ولا موقّت بوقت ، فلا إشكال في أنّه بمجرّد النذر لا يخرج عن الملك ، غايته أنّه يجب عليه أن يفي بنذره ، عملاً بعموم أدلّته.

فهل يكون هذا الوجوب مانعاً عن تعلّق الزكاة؟

نُسِبَ إلى المشهور ذلك ، ويُستدَلّ له بوجوه :

أحدها : ما ذكره في الجواهر من أنّ وجوب الوفاء بالنذر يوجب قصراً في الملك وعدم كونه تامّاً ، فلا تشمله أدلّة الزكاة (٢).

وفيه ما لا يخفى ، بل لا نعقل معنىً صحيحاً لذلك ، ضرورة أنّ مجرّد الإلزام والوجوب التكليفي لا يستدعي قصوراً في الملك بوجهٍ بعد ترتّب آثار الملك التامّ : من الانتقال إلى الوارث ، وضمان الغاصب ، ونحو ذلك.

فوجوب الصرف في الصدقة كوجوب الصرف في النفقة أو في نجاة شخص عن الهلكة حكم تكليفي محض ، لا يترتّب على مخالفته سوى العصيان ، ولا يوجب أيّ نقصان في الملك.

ولا مائز بين هذا الوجوب وبين الوجوب الناشئ من جهات أُخر ، كالشرط في ضمن العقد ، فلو باعه مشروطاً بأن لا يبيعه أو لا يهبه من زيد ، لم يستوجب

__________________

(١) الشرائع ١ : ١٦٧.

(٢) الجواهر ١٥ : ٤٢ ٤٣.

٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ذلك قصر الملك بحيث لو خالف فباع أو وهب كان باطلاً ، بل غايته الإثم فقط.

وعلى الجملة : فغاية ما يترتّب على النذر وجوب الفعل ، فإذا لم يفعل فقد عصى ، ولكن الملكيّة لا قصور فيها أبداً ، فلا موجب لانقطاع الحول بوجه.

ثانيها : ما قد يقال من أنّ تعلّق النذر بشي‌ء الموجب للوفاء به يمنع عن كلّ فعل يضادّه وينافيه من الأفعال التكوينيّة أو الاعتباريّة ، من بيعٍ أو هبةٍ ونحو ذلك ، فإنّها بأجمعها ممنوعة ، فهي غير مقدورة شرعاً ، فكانت كالممنوع عقلاً ، فيوجب ذلك بطلان البيع لا محالة ، لأنّ القدرة فيه على التسليم شرطٌ في صحّة المعاملة ، فلا جرم يكشف ذلك عن قصور في الملك ، نظير الوقف الذي ليس له التسلّط على رقبة المال ، لعدم تماميّة الملك ، فلأجله لا تتعلّق به الزكاة.

ويندفع بما تعرّضنا له في بحث المكاسب عند التكلّم حول منذور التصدّق ، من أنّه لم يدلّ أيّ دليلٍ على اعتبار القدرة الشرعيّة على التسليم في صحّة البيع بحيث لا يكون منافياً لواجبٍ آخر ، بل المعتبر إنّما هي القدرة الخارجيّة التكوينيّة فقط ، نظراً إلى أنّ البيع ليس هو مجرّد الاعتبار النفسي المبرَز ، فإنّه وإن حصلت الملكيّة بمجرّد العقد إلّا أنّ متمّمة في نظر العقلاء إنّما هو الأخذ والعطاء والقبض والإقباض المعبّر عنه بالفارسيّة «داد وستد» فإنّه الموجب لانقطاع علاقة الطرفين من العوضين ، بحيث لا عبرة بالتلف بعد ذلك ، وإلّا فالتلف قبل القبض من مال بائعه ، فبالتسليم الخارجي يتحقّق تمام الملك ، ولأجله كانت القدرة عليه شرطاً في الصحّة ، سواء استلزم التسليم المزبور ترك واجب أو فعل حرام أم لا ، فإنّ ذلك لا دخل له في صحّة المعاملة بوجه ، بل هو من باب التضادّ ، ولا يترتّب على مخالفته إلّا الإثم أو مع الكفّارة كما في موارد مخالفة النذر.

وعلى الجملة : فالأمر بالتصدّق الناشئ من قبل النذر لا يستوجب بطلان

٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

المعاملة بوجه ، فلو باع وسلم إلى المشتري صحّ البيع وإن خالف النذر وعصى ، فهو نظير ما لو وجب الإنفاق على الزوجة ولم يكن له عدا هذا المال فباعه ، فإنّ البيع صحيح حينئذٍ بلا إشكال ، غايته أنّ هذا البيع ملازمٌ لترك واجب ، ولا ضير فيه ، لما عرفت من عدم الدليل على اعتبار القدرة الشرعيّة على التسليم ، بمعنى عدم المزاحمة لواجب آخر في صحّة البيع.

وعليه ، فلا يمكن القول بأنّ النذر يوجب سقوط الحول لقصور الملك ، إذ التكليف المحض لا يستتبع نقصاً في الملك أبداً ، لبقاء آثار الملكيّة على حالها بجميع أحكامها ، فلو مات قبل التصدّق بالمنذور ينتقل إلى وارثه ولا يجب عليه الوفاء ، لأنّ النذر أوجب الوفاء على الناذر لا على الوارث كما هو ظاهر.

فهذا الوجه الذي ربّما يظهر من الشيخ في بيع منذور التصدّق من كتاب المكاسب توجيهاً لقصور الملك من عدم جواز التصرّف المنافي للمنذور ، لا يمكن المساعدة عليه بوجه ، إذ الوجوب التكليفي لا ينافي الجواز الوضعي أبداً ، والقدرة على التسليم ثابتة بمعنى وغير لازمة بالمعنى الآخر حسبما عرفت.

ثالثها : ما قد يقال أيضاً من أنّ نذر التصدّق على الفقراء يوجب حقّا لهم في المال ، كما في حقّ الرهانة ، فكما أنّ العين المرهونة موردٌ لحقّ المرتهن ، ولأجله كانت الملكيّة قاصرة كما مرّ (١) ، فكذلك الحال في منذور التصدّق ، فإنّه أيضاً موردٌ لحقّ الفقير ، الموجب لقصر الملك ، المستتبع لسقوط الزكاة.

وفيه ما لا يخفى ، لوضوح الفرق بين الموردين ، فإنّ العين المرهونة وثيقة بيد المرتهن وفي قبضته ، وليس للمالك أن يتصرّف فيها بما ينافي الرهن ، فتعلّق حقّ المرتهن أوجب خروج العين عن استيلاء المالك ، فيستلزم قصوراً في الملك بطبيعة الحال ، وأين هذا من مورد النذر؟! إذ ليس للفقراء أخذ المال قهراً من

__________________

(١) في ص ٣٩.

٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

المالك ومنعه عن التصرّف بالضرورة ، كما هو الحال في النذر على غير الفقراء ، مثل ما لو نذر أن يهب ماله لزيد ، فكما لا يجوز لزيد أن يأخذ المال من صاحبه قهراً فكذلك الفقراء.

وعلى الجملة : لا يستتبع النذر عدا تكليفاً محضاً متوجّهاً إلى الناذر ، وليس في البين أيّ حقّ للمنذور له أبداً حتى يستوجب قصوراً في الملك ، كما لعلّه أوضح من أن يخفى.

رابعها : أنّ الفعل المتعلّق للنذر أعني التصدّق بما أنّه يجعله لله فهو ملك له تعالى ، وبما أنّ المال موضوعٌ للتصدّق المملوك فهو متعلّق لحقّه تعالى ، ولأجله كانت الملكيّة قاصرة وقاطعة للحول ، لاشتراط الزكاة بالملكيّة التامّة كما سبق (١).

وهذا أيضاً لا يتمّ بكلا جزأيه :

أمّا أوّلاً : فلأنّ النذر لا يتضمّن التمليك بوجه ، بل معنى قوله : «لله عليّ» كقوله تعالى (لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) (٢) ليس إلّا إيجاب الشي‌ء وجعله على نفسه والتزامه به لله ، كما هو مقتضى لفظ النذر لغةً ، حيث إنّه بمعنى : إيجابُ شي‌ءٍ على النفس ، وإلّا فلا يحتمل أن يكون الحجّ مثلاً مملوكاً لله تعالى بالملكيّة الاعتباريّة الثابتة في الأموال نظير ملكيّة زيد للدار ، فليس معنى نذر الصدقة أنّ التصدّق ملكٌ لله تعالى ، بل هو واجب ومجعول من قبل الناذر نفسه لا من قبل الله تعالى ابتداءً كما في الحجّ.

وثانياً : لو سلّمنا ذلك في الحجّ ، فلا نكاد نسلّمه في النذر ، ضرورة أنّ هذه

__________________

(١) في ص ٢٩ ٣٠.

(٢) آل عمران ٣ : ٩٧.

٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الملكيّة المزعومة إنّما حدثت بفعل الناذر وبالجعل الثانوي ، وليس حكماً ابتدائيّاً كما في الحجّ ، فلا بدّ وأن يلتفت إليه الناذر ليفرضه على نفسه ، ولا يكاد يلتفت أحدٌ من الناذرين إلى هذا المعنى بحيث يعتبر ملكيّة التصدّق لله كما يعتبرها في مثل قوله : هذا لك بالضرورة ، فإنّه يعتبر الملكيّة في مثل الهبة ويبرزها بمبرز ، ولا يحتمل ذلك في النذر جزماً ، وإنّما هو التزامٌ وتعهّدٌ بفعلٍ لله وإيجابٌ له على نفسه لا يزيد عليه بشي‌ء.

وثالثاً : سلّمنا أنّ التصدّق ملكٌ لله تعالى ، إلّا أنّه لا يستلزم بوجهٍ أن يكون موضوعه وهو المال متعلّقاً لحقّه تعالى ، لعدم الدليل عليه ، فإنّ التصدّق وإن كان مقيّداً بالمال إلّا أنّ التقيّد داخل والقيد خارج ، فلا المال مملوك ولا متعلّق لأحد.

نعم ، هو متعلّق للتكليف بتسليم التصدّق إلى مالكه ، من غير أن يستتبع ذلك حقّا يمنعه عن التصرّف فيه أبداً ليستوجب قصراً في الملك ، نظير ما لو آجر نفسه ليخيط ثوباً لزيد في دار خاصّة أو بإبرة أو مكينة مخصوصة ، فإنّ المستأجر وإن ملك الفعل أعني الخياطة إلّا أنّ ذلك لا يستتبع حقّا له في الدار أو الإبرة أو المكينة ، بحيث يسلب السلطنة التامّة عن مالكها بنحوٍ لا يسعه التصرّف فيها من بيعٍ أو هبةٍ ونحو ذلك ، فإنّ ذلك باطلٌ جزماً ولا قائل به قطعاً.

نعم ، يجب عليه تكليفاً حفظها مقدّمةً للوفاء بالإجارة على الكيفيّة المقرّرة ، إلّا أنّ ذلك لا يستلزم بطلان البيع وضعاً بالضرورة.

ونحوه ما لو آجر نفسه ليصلّي عن زيدٍ في مكانٍ أو لباسٍ مخصوص ، فإنّ شيئاً من ذلك لا يستوجب الحقّ في متعلّق التكليف بلا خلافٍ ولا إشكال.

ثمّ إنّ ممّا يؤكّد ما ذكرناه من أنّ المال ليس مورداً لحقّ الفقراء وهم

٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

أجنبيّون عنه ـ : أنّه لو تعلّق النذر بالتصدّق لفقيرٍ معيّن ، أفهل يجوز له أن يطالب بحقّه؟! ليس له ذلك قطعاً ، فلو كان النذر مستوجباً لثبوت حقٍّ للفقراء لكان ثابتاً فيما لو نذر التصدّق لشخصٍ خاصٍّ كزيد أو أشخاص معيّنين كأولاده مثلاً وجاز له أو لهم المطالبة بالحقّ ، وليس كذلك قطعاً كما عرفت.

وممّا يؤكّد ما ذكرناه من أنّ نذر التصدّق لا يمنع عن تعلّق الزكاة ـ : أنّ هذا لو تمّ لعمّ وجرى في كلّ نذرٍ مشروع ، إذ مقتضى ذلك : أنّ النذر بنفسه يرفع موضوع الزكاة ، ولا خصوصيّة لتعلّقه بالتصدّق ، بل يعمّ كلّ نذر سائغ راجح المتعلّق ، كما لو نذر أنّ كلّ ما يملكه من ذهبٍ أو فضّةٍ يصرفه في توسعة معاش عياله أو في شراء دارٍ لولده ، ونحو ذلك من الأُمور الراجحة شرعاً ، أفهل يمكن القول بأنّ هذا يوجب سقوط الزكاة؟! نعم ، لو وفى بنذره قبل حلول الحول ، لا إشكال في السقوط ، لانعدام الموضوع وزوال الملك كما هو واضح ، وإنّما الكلام فيما قبل الوفاء ، فإنّه لا يظنّ بأحدٍ الالتزام بالسقوط بمجرّد النذر المزبور وإن لم يف بنذره حتى حال عليه الحول كما هو محلّ الكلام.

فتحصّل : أنّ الظاهر عدم سقوط الزكاة بمجرّد النذر. وحينئذٍ فإن بقي المال إلى أن حال الحول فمقتضى عموم أدلّة الزكاة وجوب زكاته ، كما أنّ مقتضى أدلّة الوفاء وجوب صرفه في النذر.

وفي تقدّم أيّهما على الآخر كلامٌ سنتعرّض له بعد عدّة مسائل عند تعرّض الماتن له.

وكلامنا فعلاً في أنّ هذا النذر لا يقطع الحول ولا يرتفع به موضوع الزكاة ما لم يف قبل الحول حسبما عرفت.

٤٧

والمدار في التمكّن على العرف (١) ، ومع الشكّ يعمل بالحالة السابقة (*) ، ومع عدم العلم بها فالأحوط الإخراج.

______________________________________________________

(١) ذكر (قدس سره) أنّه مع الشكّ في التمكّن فالعبرة بالصدق العرفي ، ومع الشكّ في الصدق أيضاً فالمرجع استصحاب الحالة السابقة ، ومع الجهل بها أو تعارضها كما في تعاقب الحالتين مع الشكّ في المتقدّم منهما والمتأخّر فالأحوط الإخراج.

أقول : أمّا كون المرجع لدى الشكّ في صدق التمكّن هو العرف فأمرٌ واضح لا غبار عليه ، كما هو الشأن في كلّ عنوانٍ أُخذ في موضوع التكليف ، فإنّ العبرة في تشخيص مفهومه بالصدق العرفي.

وفي المقام وإن لم يرد عنوان التمكّن من التصرّف في شي‌ءٍ من الأخبار إلّا أنّ هذا العنوان مذكورٌ فيها ، ك : كون المال عنده ، أو : تحت يده ، أو : عند ربّه ، ونحو ذلك ممّا يرجع إلى ذاك المفهوم.

وسيجي‌ء قريباً تفصيل الموارد التي يُشَكّ معها في الصدق العرفي (١) ، ومنها : ما لو فرضنا أنّ المال مسروق والمالك يتمكّن من أخذه بسهولة ، غير أنّه يتساهل في الأخذ ، فهل يصدق عرفاً أنّه متمكّن من التصرّف مطلقاً أم لا لأنّه غائب وليس عنده؟ فالمرجع في أمثال ذلك هو العرف ، فإن صدق لديهم

__________________

(*) إذا كان الشكّ في التمكّن من جهة الشبهة الحكميّة فالاحتياط بالإخراج بل الحكم بلزومه وإن كان في محلّه إلّا أنّه لا وجه حينئذٍ للرجوع إلى الحالة السابقة ، وإن كان الشكّ من جهة الشبهة الموضوعيّة فلا بأس بالرجوع إليها ، إلّا أنّه لا وجه معه للاحتياط اللزومي مع عدم العلم بها.

(١) في ص ٥١.

٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

أنّه حال الحول والمال عنده وجبت الزكاة ، وإلّا فلا كما عرفت.

وأمّا ما ذكره (قدس سره) بعد ذلك من أنّه مع الشكّ يرجع إلى الاستصحاب إن أمكن وإلّا فإلى أصالة الاحتياط ، فالظاهر أنّ هذين الأمرين لا يجتمعان في موردٍ واحد ، فإنّ الشبهة المفروضة أمّا أنّها حكميّة مفهوميّة ، أو موضوعيّة خارجيّة.

فعلى الأوّل كما لعلّه الظاهر من العبارة بقرينة الرجوع إلى العرف الذي هو المرجع في الشبهات المفهوميّة لا المصداقيّة كما لا يخفى ـ : فما ذكره (قدس سره) حينئذٍ من الاحتياط في وجوب الزكاة هو الصحيح ، بل الأمر أوضح من ذلك ، وينبغي الفتوى به صريحاً ، لأنّ أدلّة وجوب الزكاة مطلقة ، والدليل المنفصل قيّد الوجوب بما إذا كان المال عنده وتحت يده ، فإذا شُكّ في هذا العنوان لشبهةٍ مفهوميّةٍ دائرةٍ بين الأقلّ والأكثر فلا محالة يُشَكّ في التقييد الزائد على المقدار المتيقّن ، فيُرجَع فيه إلى الإطلاق.

ووجهه ظاهرٌ على ما بيّناه في الأُصول (١) ، فإنّ ظهور العامّ أو المطلق حجّة لا يُرفَع اليد عنها إلّا بحجّةٍ أقوى ، والمخصّص أو المقيّد المنفصل إنّما يتقدّم ويكون أقوى فيما إذا انعقد له الظهور وتمّت الدلالة ، أمّا إذا كان مجملاً دائراً بين الأقلّ والأكثر كما هو المفروض في المقام فلا بدّ من الاقتصار على المقدار المتيقّن إرادته المحرز دلالته ، وهو الأقلّ ، وأمّا الزائد المشكوك فلا موجب لرفع اليد عن ظهور العامّ أو المطلق بالإضافة إليه ، لعدم نهوض حجّة أقوى على خلافه.

فلا بدّ من الالتزام بوجوب الزكاة في المقام ، عملاً بظهور العامّ ، ما لم يحرز أنّ المال ليس عنده كما هو المفروض.

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٥ : ١٦٢ ١٦٦.

٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ولكن ما ذكره (قدس سره) من الرجوع إلى الاستصحاب غير وجيه ، إذ لا مجال للرجوع إليه في الشبهات المفهوميّة الدائرة بين الأقلّ والأكثر.

ووجهه : ما تعرّضنا له في الأُصول مستقصًى (١).

وملخّصه : أنّ الاستصحاب ناظرٌ إلى إبقاء ما شكّ في بقائه من وجودٍ أو عدم ، وهذا غير متحقّق في موارد الشبهات المفهوميّة ، لتعلّق الشكّ فيها بشي‌ءٍ آخر أجنبي عن يقين المكلّف ، وشكّه مثلاً إذا شكّ في بقاء النهار من أجل الشكّ في مفهوم الغروب وتردّده بين سقوط القرص أو زوال الحمرة المشرقيّة ، فليس لدينا حينئذٍ أيّ شكٍّ في الموجود الخارجي ، لأنّ الغروب بمعنى السقوط متحقّق وجداناً ، وبمعنى الزوال غير متحقّق وجداناً أيضاً ، فيستصحب أيّ شي‌ءٍ بعد كون كلٍّ منهما متيقّناً؟! نعم ، يشكّ في مفهوم الغروب عرفاً وأنّ اللفظ اسمٌ لأيٍّ منهما ، فالشكّ في الحقيقة شكٌّ في الوضع اللغوي أو العرفي ، ومن البديهي خروج إثباته عن عهدة الاستصحاب.

وبالجملة : فليس لدينا موجود خارجي أو معدوم يُشَكّ في بقائه كي يُستصحَب.

نعم ، الحكم الشرعي مشكوكٌ فيه ، وهو جواز الإتيان بالظهرين أو عدم جواز الإتيان بالعشاءين أو الإفطار في المتخلّل ما بين الوقتين ، فإنّه في نفسه قابلٌ للاستصحاب ، لتماميّة الأركان ، إلّا أنّه لا يجري من جهة الشكّ في الموضوع ، فإنّ جواز الإتيان بالظهرين قبل ذلك إنّما كان من أجل بقاء موضوعه وهو النهار وهذا فعلاً مشكوكٌ فيه حسب الفرض ، وكذا الحال في الحكمين الآخرين ، للشكّ في تحقّق موضوعهما ، وهو الليل. وتفصيل الكلام في محلّه.

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ٢٣٤.

٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

وعليه ، فإذا شككنا في المقام في صدق مفهوم كون المال عنده عرفاً وأنّه متمكّن من تمام التصرّف أم لا ، بشبهةٍ حكميّة ، لم يكن مجالٌ للرجوع إلى الاستصحاب بوجه.

وعلى الثاني أعني كون الشبهة موضوعيّة خارجيّة ، كما لو كان متمكّناً من التصرّف سابقاً ، واحتُمِل أنّه سرقه سارقٌ أثناء السنة شهراً واحداً ، فلم يكن متمكّناً من التصرّف في تمام الحول. أو عكس ذلك ، بأن كان مسروقاً سابقاً ثمّ أخذه المالك وشكّ في تأريخ الأخذ وأنّه إن كان في شهر كذا فقد حال عليه الحول عنده وإلّا فلا ـ : ففي مثل ذلك لا مانع من الرجوع إلى الاستصحاب لإحراز الموضوع ، فيحرز به أنّ المال حال عليه الحول وهو عنده أو لم يحلّ.

ولكن لا وجه لما ذكره (قدس سره) بعد ذلك من الرجوع إلى الاحتياط لو لم يجر الاستصحاب ، بل المرجع حينئذٍ أصالة البراءة ، إذ الشكّ في الحقيقة إنّما هو في تحقّق شرط الوجوب وهو التمكّن من التصرّف المستلزم للشكّ في فعليّة المشروط ، فبحسب النتيجة يشكّ في تعلّق التكليف الفعلي بالزكاة ، فيرجع لا محالة إلى أصالة البراءة.

اللهمّ إلّا إذا بنينا على جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة ، كما ربّما يُنسَب ذلك إلى السيّد الماتن (قدس سره) وإن لم تثبت النسبة فإنّ مقتضى العموم وجوب الزكاة في كلّ فرد ما لم يحرز دخوله في أفراد المخصَّص ، ولكن المبنى فاسد.

وكيفما كان ، فلا بدّ من التفصيل بين الشبهات الحكميّة والموضوعيّة ، فيُرجَع في الاولى إلى عمومات وجوب الزكاة ، وفي الثانية إلى الاستصحاب إن كان ، وإلّا فأصالة البراءة حسبما عرفت.

٥١

السادس : النصاب (١) ، كما سيأتي تفصيله.

[٢٦١٣] مسألة ١ : يستحبّ (*) للوليّ الشرعي إخراج الزكاة في غلّات غير البالغ (٢) يتيماً كان أو لا ، ذكراً كان أو أُنثى دون النقدين. وفي استحباب إخراجها من مواشيه إشكال ، والأحوط الترك.

______________________________________________________

(١) فإنّه شرطٌ في جميع الأجناس الزكويّة ، غير أنّ لكلّ منها نصاباً يخصّه ، كما سيأتي البحث عنها عند تعرّض الماتن لها في محالّها.

(٢) لا إشكال كما لا خلاف في عدم استحباب الزكاة في الصامت من أموال الصبي ، لعدم الدليل عليه.

وأمّا المواشي ، ففي إلحاقها بالغلّات التي ذهب المشهور فيها إلى الاستحباب كما ستعرف كلامٌ وإشكالٌ ينشأ من عدم ورود دليلٍ فيه ، عدا ما يدّعى من عدم القول بالفصل بينه وبين الغلّات ، ولكنّه لم يثبت ، فلا مخرج عن إطلاق ما دلّ على عدم الزكاة في مال اليتيم ، مضافاً إلى أصالة عدم جواز التصرّف في مال الصغير من غير دليلٍ قاطع.

وأمّا الغلّات ، فالمشهور فيها هو الاستحباب ، بل نُسِبَ إلى السيّد المرتضى القول بالوجوب (١) ، ولكن تقدّم ضعفه مستقصًى (٢).

والكلام فعلاً في ثبوت الاستحباب ، ومستنده صحيحة زرارة ومحمّد بن

__________________

(*) فيه تأمّل ، والترك أحوط.

(١) الناصريات : ٢٤١.

(٢) في ص ٩.

٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) : «أنّهما قالا : ليس على مال اليتيم في الدين والمال الصامت شي‌ء ، فأمّا الغلّات فعليها الصدقة واجبة» (١).

هكذا رواها الشيخ ، وأمّا ما في الكافي من روايتها عن زرارة ومحمّد بن مسلم نفسهما من غير الإسناد إلى الصادقَين (عليهما السلام) فهو سقطٌ إمّا من العبارة أو من الأصل.

وكيفما كان ، فقد ذكروا أنّها دلّت على وجوب الزكاة في غلّات اليتيم ، ولكن تُرفَع اليد عن الظهور بما دلّ على عدم الوجوب صريحاً ، وهي موثّقة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) : «أنّه سمعه يقول : ليس في مال اليتيم زكاة ، وليس عليه صلاة ، وليس على جميع غلّاته من نخلٍ أو زرعٍ أو غلّةٍ زكاة» (٢).

فيجمع بالحمل على الاستحباب كما هو الشائع في نظائره في جميع الأبواب.

ولكن ناقش فيه جماعة فأنكروا الاستحباب أيضاً ، نظراً إلى أنّ الحمل عليه ليس بأولى من حمل ما دلّ على الوجوب على التقيّة ، حيث إنّ العامّة يرون الزكاة في الغلّات مطلقاً ، أي من غير فرقٍ بين القُصّر والبالغين على ما نُسِبَ إليهم.

وربّما يورد عليه : بأنّ الحمل على التقيّة خاصٌّ بفرض استقرار المعارضة وعدم تيسّر الجمع العرفي ، أمّا معه فلا تصل النوبة إلى التصرّف في الجهة ، والجمع العرفي هنا موجود ، فيُرفَع اليد عن ظهور إحدى الروايتين في الوجوب بصراحة الأُخرى في العدم ، ونتيجته الاستحباب.

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٨٣ / أبواب من تجب عليه الزكاة ب ١ ح ٢ ، الكافي ٣ : ٥٤١ / ٥ ، التهذيب ٤ : ٢٩ / ٧٢ ، الاستبصار ٢ : ٣١ / ٩٠.

(٢) الوسائل ٩ : ٨٦ / أبواب من تجب عليه الزكاة ب ١ ح ١١.

٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا يخفى أنّ هذا الكلام وجيهٌ بحسب الكبرى ، فلا يُحمَل على التقيّة إلّا مع تحقّق المعارضة بنحوٍ يبقى العرف متحيّراً. أمّا لو كان أحد الدليلين قرينةً على التصرّف في الآخر عرفاً كما لو ورد في دليلٍ آخر أنّه لا بأس بتركه فلا موجب للحمل على التقيّة ، وهذا كثيرٌ في أبواب الفقه.

وأمّا بحسب الصغرى ، فليس كذلك ، إذ لو كانت صحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم متضمّنةً للأمر بالزكاة بمثل قوله : «زكّه» لاتّجه حينئذ رفع اليد عن ظهور الأمر في الوجوب بقرينة الرواية الأُخرى الصريحة في الترخيص في الترك ، فيُجمَع بالحمل على الاستحباب.

ولكن الوارد فيها هكذا : «فعليها الصدقة واجبة» أي ثابتة كما لا يبعد وقد تضمّنت موثّقة أبي بصير : أنّه ليس على غلّاته زكاة ، أي ليست بثابتة.

ومن الواضح أنّ هذين الكلامين أعني قولنا : الزكاة ثابتة ، والزكاة غير ثابتة متهافتان ، بل لا يبعد أن يكون من أظهر أفراد التعارض كما لا يخفى.

وقد ذكرنا في الأُصول : أنّ المناط في المعارضة أن يُفرَض الدليلان المنفصلان متّصلين ومجتمعين في كلامٍ واحد ، فإن كانا في نظر العرف بمثابة القرينة وذيها ، فكان أحدهما مانعاً عن انعقاد الظهور في الآخر وشارحاً للمراد منه كما في مثل قولنا : زكّ ولا بأس بتركه ، أو : اغتسل للجمعة ولا بأس أن لا تغتسل لم تكن ثَمّة معارضة ، وكانت القرينيّة محفوظة في ظرف الانفصال أيضاً.

وأمّا إذا عُدّا في نظر العرف متباينين ، وكان الصدر والذيل متهافتين ، فلا جرم تستقرّ المعارضة في البين لدى الانفصال أيضاً.

ولا ريب أنّا لو جمعنا بين هذين الكلامين فقلنا : إنّ الزكاة واجبة في مال اليتيم حتى لو قلنا : إنّ «واجبة» بمعنى ثابتة كما لا يبعد وقلنا : إنّه لا زكاة في

٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

مال اليتيم أي ليست بثابتة كما هو مقتضى نفي الجنس لكان الكلام في نظر العرف متهافتاً ومتناقضاً ، فإنّ قولنا : ثابت وغير ثابت متعارضان ، ومعه كيف يمكن الحمل على الاستحباب؟! وهذا نظير ما لو ورد الأمر بالإعادة في دليلٍ وورد نفي الإعادة في دليلٍ آخر ، فإنّه لا يمكن الجمع بالحمل على الاستحباب ، لأنّ الأمر بالإعادة إرشادٌ إلى الفساد ، والحكم بعدمها إرشادٌ إلى عدم الفساد ، والفساد وعدم الفساد متعارضان في نظر العرف ، ومن المعلوم أنّه لا معنى لاستحباب الفساد.

وعليه ، فلا سبيل إلى الجمع العرفي في المقام ، ولا مجال للحمل على الاستحباب ، بل الدليلان متعارضان.

إذن فالمناقشة المتقدّمة من أنّ الحمل على الاستحباب ليس بأولى من حمل صحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم على التقيّة في محلّها ، فلم ينهض دليلٌ على الاستحباب في الغلّات فضلاً عن أن يتعدّى إلى المواشي بعدم القول بالفصل.

نعم ، يمكن أن يناقَش في حمل الموثّقة على التقيّة الذي ذهب إليه صاحب الوسائل وغيره (١) مدّعياً موافقة الحديث لمذاهب أكثر العامّة بأنّا لم نجد بعد الفحص قولاً من العامّة مطابقاً لما تضمّنته الصحيحة من التفصيل في مال اليتيم بين الغلّات فتجب فيها الزكاة دون غيرها لتقبل الحمل على التقيّة ، فإنّ أكثرهم ذهبوا إلى وجوب الزكاة في مال اليتيم مطلقاً من غير فرقٍ بين الغلّات وغيرها.

__________________

(١) ذكره في الوسائل ٩ : ٨٦ / أبواب من تجب عليه الزكاة ب ١ ح ١١ في ذيل موثّقة أبي بصير.

٥٥

نعم ، إذا اتّجر الولي بماله يستحبّ إخراج زكاته أيضاً (١).

______________________________________________________

وذهب جماعة منهم إلى عدم الوجوب مطلقاً كالخاصة ، لقوله (صلّى الله عليه وآله) : «رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم» كما يظهر ذلك من الشيخ في الخلاف (١) ومن بعض كتب العامّة أيضاً على ما راجعنا ، فهم بين قولين مطلقين ولا قائل بالتفصيل ، ولعلّه يوجد به قول شاذّ ، بل قد نسبه بعضهم إلى أبي حنيفة ، إلّا أنّا لم نجده (٢).

وكيفما كان ، فإن أمكن الحمل على التقيّة فهو ، وإلّا فتسقط الروايتان من هذه الجهة بالمعارضة ، فلم يبق لنا أيّ دليلٍ على الاستحباب ، فالقول به مشكل جدّاً ، بل ممنوع ، للزوم الرجوع بعد التعارض والتساقط إلى عموم قوله (عليه السلام) في بقيّة الروايات أنّه : «ليس في مال اليتيم زكاة» (٣) ، فإنّ التصرّف في مال اليتيم وتزكيته ولو استحباباً يحتاج إلى الدليل ، ولا دليل ، ومقتضى الأصل : العدم.

(١) على المشهور ، بل ادُّعي عليه الإجماع ، لجملةٍ وافرةٍ من النصوص المعتبرة السليمة عن المعارض ، التي منها صحيحة محمّد بن مسلم قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : هل على مال اليتيم زكاة؟ «قال : لا ، إلّا أن يتّجر به أو تعمل به» (٤) ، ونحوها غيرها.

__________________

(١) الخلاف ٢ : ٤١.

(٢) في المغني لابن قدامة [٢ : ٤٨٩] : قال أبو حنيفة : يجب العشر في زروعهما وثمرتهما أي المجنون والصبي وقال ابن حزم في المحلّى [٥ : ٢٠٥] : قال أبو حنيفة : لا زكاة في أموالهما من الناض والماشية خاصّة ، والزكاة واجبة في ثمارهما وزروعهما.

(٣) الوسائل ٩ : ٨٣ / أبواب من تجب عليه الزكاة ب ١.

(٤) الوسائل ٩ : ٨٧ / أبواب من تجب عليه الزكاة ب ٢ ح ١.

٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

بل إنّ ظاهر هذه النصوص الوجوب ، ومن هنا نُسِبَ القول به إلى المفيد (١) وإن لم تثبت النسبة ، إذ قد حمل الشيخ كلامه على الاستحباب ، وهو أعرف بمراده من غيره.

وكيفما كان ، فلا ينبغي الإشكال في عدم الوجوب وإن تعاطاه ظواهر هذه الأخبار ، وذلك لجملةٍ أُخرى من الروايات دلّت على عدم وجوب الزكاة في مال التجارة ، وهي وإن كان موردها إلّا ما شذّ غير اليتيم إلّا أنّا لا نحتمل أن يكون اليتيم أشدّ حالاً من البالغ ، فإذا لم يثبت فيه بمقتضى هذه النصوص لم يثبت في اليتيم بطريقٍ أولى.

على أنّ الزكاة من مباني الإسلام ، فهو ممّا لو كان لبان وكان من الواضحات ، فكيف لم يُنسَب القول بالوجوب إلى أحدٍ ما عدا المفيد الذي عرفت حال هذه النسبة أيضاً؟! فلا ينبغي التأمّل في حمل تلك الأخبار على الاستحباب ، ولا ضير في الالتزام به وإن أنكرنا الاستحباب فيما لا يتّجر به من غلّات الصبي ، للفرق الواضح بين المالين حتى ثبوتاً فضلاً عن الفارق الإثباتي ، بلحاظ قيام الدليل وعدمه كما عرفت ، فإنّ ما يتّجر به مالٌ تعلّق باليتيم وحصل له من غير أن يعمل فيه كما لو ملكه بسبب الإرث مثلاً فلا تستحبّ فيه الزكاة ، وهذا بخلاف ما اتّجر فيه ، فإنّ الربح العائد إنّما حصل بفعل الولي ، وهو الذي تسبّب إلى تحصيله تبرّعاً ومن غير أن يكون واجباً عليه ، فلا مانع حينئذٍ من الأمر بالزكاة استحباباً وإبقاء الباقي للصبي.

وعلى الجملة : فأصل الاستحباب ممّا لا إشكال فيه من غير فرقٍ بين اليتيم والبالغ.

__________________

(١) لاحظ الحدائق الناضرة ١٢ : ٢٢.

٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وإنّما الإشكال فيما إذا كان الاتّجار بمال اليتيم على وجهٍ غير سائغ ، كما لو كان صادراً عن غير الولي ولكنّه اتّجر لنفسه لا لليتيم من غير مجوّزٍ شرعي ، كما إذا لم يكن مليّاً أو كان المال في معرض التلف ، فهل يثبت الاستحباب هنا أيضاً؟ أو أنّه يختصّ بما إذا كان المتّجر وليّاً وكان الاتّجار سائغاً ولليتيم نفسه؟

قد يفرض أنّ الولي استقرض المال من اليتيم وكان ذلك جائزاً في حقّه كما لو كان مليّاً لو قلنا باعتبار هذا القيد في جواز الاقتراض للولي فكان القرض صحيحاً ، وأخذ المال واتّجر به لنفسه ، ولا إشكال حينئذٍ في أنّ الربح له كالاتّجار ، فهو المأمور استحباباً بإخراج الزكاة عن ماله ، إذ الاتّجار ليس بمال اليتيم ، بل بمالٍ كان لليتيم سابقاً ، وأمّا فعلاً فهو ملك للولي المقترض ، فيشمله عموم دليل استحباب الزكاة في مال التجارة كسائر البالغين ، وهذا واضحٌ جدّاً ، بل هو خارجٌ عن محلّ الكلام.

وأمّا إذا كان بمال اليتيم مع فرض عدم كون الاتّجار سائغاً ، إمّا لعدم كونه وليّاً ، أو لأنّ الولي تصرّف على غير الوجه الشرعي ، فقد يكون الاتّجار لليتيم ، وأُخرى للمباشر نفسه.

فإن كان لليتيم ، فلا يبعد ثبوت الاستحباب ، بل هو الظاهر ، فإنّ المعاملة وإن لم تكن صحيحة من الأوّل لعدم صدورها ممّن له أهليّة التصرّف على النهج الشرعي حسب الفرض ، فهي لا تخرج عن كونها معاملة فضوليّة إلّا أنّه بعد ظهور الربح ولو من باب الاتّفاق يحكم بالصحّة من غير حاجة إلى إجازة الولي ، لصدورها من الولي الأصلي وهو الشارع بمقتضى الروايات الواردة في المقام المتضمّنة : أنّ الربح لليتيم والخسران على المتّجر ، التي تدلّ بالالتزام على صحّة المعاملة ، المساوقة لحصول الإجازة كما لا يخفى ، فتشمله حينئذٍ إطلاقات استحباب الزكاة في مال اليتيم مع الاتّجار.

فمن تلك الروايات : معتبرة سعيد السمّان التي ليس في سندها من يغمز ،

٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

عدا إسماعيل بن مرار ، الذي هو من رجال تفسير علي بن إبراهيم قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) «يقول : ليس في مال اليتيم زكاة إلّا أن يتّجر به ، فإن اتّجر به فالربح لليتيم ، وإن وضع فعلى الذي يتّجر به» (١).

فإنّ موردها التجارة غير النافذة شرعاً في نفسها ، بقرينة الحكم بضمان المتّجر لدى الوضع أي الخسران وإلّا فلا ضمان على الولي في تجارة صحيحة كما هو ظاهر ، فتدلّ على ثبوت الزكاة في الربح الحاصل في تلك التجارة بمقتضى الاستثناء.

ونحوها صحيحة زرارة وبكير عن أبي جعفر (عليه السلام) : «قال : ليس على مال اليتيم زكاة إلّا أن يتّجر به ، فإن اتّجر به ففيه زكاة ، والربح لليتيم ، وعلى التاجر ضمان المال» (٢).

فإنّ مضمونها متّحد مع ما سبق.

وإن كان للمتّجر نفسه ، فبما أنّ العين لليتيم فالبيع والربح يقعان له بطبيعة الحال وإن قصد التاجر الفضولي خلافه ، لما ذكرناه في بحث الفضولي من عدم مدخليّةٍ لهذا القصد (٣) ، فإنّ البيع : مبادلة بين المالين ، فالركن فيه هو العوضان ، فلا جرم يقع البيع لمالكهما الواقعي مع الإجازة ، ولا أثر لقصد البائع الفضولي خلاف ذلك ، ولذا قلنا : إنّ بيع الغاصب أو شرائه يقع للمالك وإن قصد الغاصب الشراء لنفسه ، لعدم مدخليّةٍ لهذا القصد في تحقّق البيع الذي هو مبادلة مال بمال ، فإذا كان البيع لليتيم إمّا بإجازة الولي أو بدونه كان الربح له أيضاً ، لأنّ المال ماله حسب الفرض وإن كان الضمان على المتّجر كما تقدّم.

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٨٧ / أبواب من تجب عليه الزكاة ب ٢ ح ٢.

(٢) الوسائل ٩ : ٨٩ / أبواب من تجب عليه الزكاة ب ٢ ح ٨.

(٣) مصباح الفقاهة ٤ : ١١٤ ١١٦.

٥٩

ولا يدخل الحمل في غير البالغ (١) ، فلا يستحبّ إخراج زكاة غلّاته ومال تجارته.

______________________________________________________

وعليه فهل تستحبّ الزكاة هنا أيضاً؟

أمّا التاجر ، فلا تجب ولا تستحبّ له جزماً ، لأنّ الربح ليس له ، مضافاً إلى ما في موثّقة سماعة من قوله (عليه السلام) : «... لا ، لعمري لا أجمع عليه خصلتين : الضمان والزكاة» (١).

وأمّا اليتيم ، فقد صرّح المحقّق وغيره بنفي الاستحباب (٢) ، نظراً إلى أنّ المتيقّن أو الظاهر من الأدلّة أن تكون التجارة بمال اليتيم لليتيم نفسه. وأمّا إذا لم تكن له وإن رجعت النتيجة إليه وكان الربح له ، فأدلّة الاستحباب منصرفة عنه.

فإذن إخراج الزكاة يحتاج إلى الدليل ، ولا دليل ، فلا استحباب ، وما ذكروه جيّد كما لا يخفى.

(١) لأنّ المذكور في لسان الأدلّة هو عنوان اليتيم ، وقد تعدّينا إلى غيره نظراً إلى أنّ مناسبة الحكم والموضوع تستدعي إلغاء خصوصيّة اليتم ، وأنّ النكتة في تخصيصه بالذكر لأنّه الغالب فيمن له المال من الصبيان ، وإلّا فالمال في غيره لوالده غالباً.

إلّا أنّ هذا العنوان لا يصدق على الحمل بوجه ، إذ لم يولد بعدُ ليصدق عليه لفظ الصبي فضلاً عن اليتيم الذي هو قسم منه ، فالعنوان المزبور منصرفٌ إلى

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٨٨ / أبواب من تجب عليه الزكاة ب ٢ ح ٥.

(٢) المحقق في الشرائع ١ : ١٦٥.

٦٠