موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

نعم ، له السلطنة على حصّته التي يملكها من هذا المجموع ، إلّا أنّ النذر لم يتعلّق بها حسب الفرض ، بل تعلّق بالمجموع المؤلّف من ماله ومال غيره ، فما تعلّق به النذر لم يكن ملكاً له ، وما هو ملكه لم يتعلّق به النذر ، فلا مناص من البطلان.

ويندفع أوّلاً : أنّا لو سلّمنا عدم انعقاد النذر في المجموع ولا نسلّمه كما ستعرف فلا مانع من صحّته في حصّته المملوكة ، فإنّها وإن لم تكن متعلّقاً للنذر بحيالها واستقلالها ، إلّا أنّ النذر ينحلّ إليها بالارتكاز العقلائي حسبما هو مطّرد في أمثال هذه المقامات من الالتزامات والمعاملات.

كما لو باع الصفقة التي تخيّل أنّ كلّها له ، أو آجر داراً مشتركة بينه وبين غيره ولم يُجِز الشريك ، أو أصدق الزوجة مالاً ثمّ تبيّن أنّ بعضه لغيره ، أو التزم بنذرٍ أو عهدٍ أو يمينٍ أن يتصدّق أو يهب هذا المجموع فبان أنّ بعضه غير مملوك له ، أو طلّق زوجته والأجنبيّة بطلاقٍ واحد ، أو زوجتيه وإحداهما حائض ، أو نذر عملين أحدهما راجح دون الآخر ، وهكذا.

ففي جميع هذه الموارد تنحلّ تلك المعاملة أو الالتزام بمقتضى الارتكاز الثابت عند العقلاء من غير حاجةٍ إلى ورود دليلٍ بالخصوص فتكون نافذة في حصّته باطلة في غيرها ، فليكن المقام من هذا القبيل.

وثانياً : أنّا نمنع بطلان النذر في المجموع ، بل الظاهر صحّته في خصوص المقام ، وذلك لما سيجي‌ء قريباً إن شاء الله من أنّ الزكاة وإن كانت متعلّقة بالعين الزكويّة إمّا بنحو الإشاعة أو الشركة في الماليّة أو الكلّي في المعيّن حسب اختلاف المسالك والمشارب إلّا أنّه يمتاز المقام بأنّ لصاحب المال الولاية على التبديل ، ولا يلزمه الأداء من نفس العين ، بل يجوز له دفع البدل إمّا من النقود وهو القدرة المتيقّن أو ولو من عين اخرى.

١٠١

وإن كان مؤقّتاً بما قبل الحول (١) ووفى بالنذر فكذلك لا تجب الزكاة إذا لم يبق

______________________________________________________

وعليه ، فلا مزاحمة ولا منافاة بين الحكمين أعني : وجوب الزكاة ووجوب الوفاء بالنذر فيمكنه دفع الزكاة أوّلاً من نقدٍ أو عينٍ اخرى ليتمكّن من التصرّف في العين المنذورة ثمّ يتصدّق بها.

وهذا كما لو نذر التصدّق بمالٍ مأذونٍ في التصرّف فيه أو نذر الولي التصدّق بمال الصبي ، فإنّه حيث له الولاية على التبديل إمّا لكونه وليّاً أو للإذن الخاصّ من المالك صحّ النذر وإن كان متعلّقاً بملك الغير ، فيتصدّق ويفي بنذره ويدفع بدله للمالك.

فما ذكره في المتن من وجوب إخراج الزكاة أوّلاً ثمّ الوفاء بالنذر غير ظاهر ، لعدم التنافي بين الحكمين كما عرفت ، بل يجب الوفاء بالنذر وإخراج الزكاة ولو من القيمة كما نبّه عليه سيّدنا الأُستاذ (دام ظلّه) في تعليقته الشريفة.

فتحصّل : أنّ في حكم النذر في هذا الفرض وجوهاً ثلاثة :

الصحّة مطلقاً.

البطلان مطلقاً.

التفصيل بين مقدار الزكاة وغيره ، فيبطل في الأوّل دون الثاني.

وقد عرفت أنّ الصحيح هو الأوّل ، ومع الغضّ عنه فالأخير ، ولا وجه للثاني.

(١) تقدّم الكلام في القسم الأوّل ، أعني : النذر المطلق.

وأمّا القسم الثاني وهو المؤقّت بوقتٍ خاصّ فقد يكون الوقت قبل الحول كما لو نذر أن يتصدّق به في شهر رجب والحول يتحقّق بحلول رمضان ـ

١٠٢

بعد ذلك مقدار النصاب ، وكذلك إذا لم يف به وقلنا بوجوب القضاء بل مطلقاً لانقطاع الحول بالعصيان (*).

نعم ، إذا مضى عليه الحول من حين العصيان وجبت على القول بعدم وجوب القضاء. وكذا إن كان مؤقّتاً بما بعد الحول ، فإنّ تعلّق النذر به مانعٌ عن التصرّف فيه.

______________________________________________________

وأُخرى يكون بعده ، كما لو كان الوقت شهر شوّال في المثال.

أمّا الأوّل : فإن وفى فيه بالنذر فلا إشكال في سقوط الزكاة ، لانتفاء الموضوع بعد فرض عدم بقاء مقدار النصاب بعد الوفاء كما هو ظاهر.

وأمّا إذا لم يف به : فإن قلنا بوجوب القضاء ، كان حكمه حكم النذر المطلق الحاصل أثناء الحول ، لوحدة المناط ، وحينئذٍ : فإن بنينا كما عليه المشهور أنّه يمنع عن تعلّق الزكاة ، نظراً إلى أنّ الحكم التكليفي بوجوب التصدّق والعجز التشريعي عن سائر التصرّفات بمثابة العجز التكويني ، قلنا به هنا أيضاً ، إذ الاعتبار في هذا المناط بمانعيّة الوجوب الفعلي ، سواء أكان بعنوان الأداء أم القضاء ، وحيث عرفت ثَمّة أنّ الأقوى عدم المانعيّة فكذا فيما نحن فيه.

وأمّا إذا لم نقل بوجوب القضاء ، فهل يكون النذر بنفسه حينئذٍ موجباً لانقطاع الحول كما ذكره في المتن فلا تجب الزكاة إلّا بعد مضيّ الحول من حين العصيان؟

الظاهر عدم القطع ، حتى بناءً على أنّ العجز التشريعي مانعٌ عن تعلّق الزكاة ،

__________________

(*) العصيان لا يوجب انقطاع الحول ، فلو كان هنا قاطعٌ فلا محالة يكون هو النذر نفسه ، إلّا أنّك عرفت أنّه ليس بقاطع ولا سيّما في الفرض المزبور.

١٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

لعدم الدليل عليه بوجه ، ضرورة أنّ الحكم التكليفي لو كان ثابتاً فعلاً أمكن أن يقال : إنّ العجز التشريعي ملحقٌ بالعجز التكويني عن التصرّف في المنع عن الزكاة ، وأمّا الحكم التكليفي العارض أثناء الحول الزائد بانعدام الموضوع لكونه مؤقّتاً بوقتٍ قد مضى وسقط التكلف فقاطعيّته للحول ومانعيّته عن تعلّق الزكاة لدى استجماع الشرائط مشكلة جدّاً ، لعرائها عن أيّ دليل ، فلو كان له مالٌ وجب صرفه أثناء الحول ساعة أو ساعتين في أداء الدين للمطالبة أو لنفقة واجبة ، فعصى ولم يصرف ، فالحكم بالقاطعيّة بمجرّد ذلك في غاية الإشكال كما لا يخفى.

هذا ، وأمّا ما في المتن من قوله (قدس سره) : بل مطلقاً لانقطاع الحول بالعصيان فلا تخلو العبارة عن قصورٍ ومسامحة كما أُشير إليه في التعليقة (١) ، ضرورة أنّ العصيان لا يوجب انقطاع الحول جزماً ، فلو كان هناك قاطع فإنّما هو نفس الوجوب التكليفي الناشئ من قبل النذر ، وقد عرفت أنّ قطعه لا يخلو عن الإشكال في الفرض المزبور ، لانتفاء الوجوب فعلاً وزواله حسبما بيّناه.

وأمّا الثاني أعني : ما إذا كان الوقت بعد الحول ـ : فحكمه حكم النذر المطلق في المنع عن تعلّق الزكاة على القول به ، فإنّ زمان الواجب وإن كان متأخّراً إلّا أنّ العبرة في هذا المنع بنفس الوجوب الحاصل من حين تعلّق النذر الذي كان قبل حلول الحول ، لوجوب حفظه مقدّمةً لصرفه في ظرفه ، فتعلّق النذر مانعٌ عن التصرّف فيه ، فبناءً على أنّ هذا المنع التشريعي بمثابة العجز التكويني في المانعيّة عن تعلّق الزكاة كما تقدّم في النذر المطلق ، لم تجب الزكاة في المقام أيضاً ، لوحدة المناط ، لكن المبنى غير تامّ كما مرّ غير مرّة.

__________________

(١) راجع ص ١٠١.

١٠٤

وأمّا إن كان معلّقاً على شرط (١) : فإن حصل المعلّق عليه قبل تمام الحول لم تجب ، وإن حصل بعده وجبت (*) ، وإن حصل مقارناً لتمام الحول ففيه إشكال ووجوه ، ثالثها : التخيير بين تقديم أيّهما شاء ، ورابعها : القرعة.

______________________________________________________

(١) قد عرفت الحال في النذر المطلق والمؤقّت.

وأمّا المعلّق على شرط كما لو نذر التصدّق بهذا المال على تقدير شفاء المريض أو قدوم المسافر ونحو ذلك فقد يفرض حصول المعلّق عليه قبل تمام الحول ، وأُخرى بعده.

فإن حصل قبل الحول كان حكمه حكم النذر المطلق ، لما هو المعروف من أنّ الواجب المشروط بعد حصول الشرط ينقلب إلى الواجب المطلق ، فإنّ التعبير بالانقلاب وإن لم يكن خالياً عن المسامحة لوضوح أنّ المشروط لا ينقلب عمّا هو عليه أبداً ولكن المراد : أنّ حكمه بعد حصول الشرط حكم الواجب المطلق ، وهو كذلك ، إذ لا حالة منتظرة لفعليّة الحكم بعد فرض حصول المعلّق عليه. وعليه ، فإن قلنا بأنّ النذر المطلق مانعٌ عن التصرّف قلنا به في المقام ، لوحدة المناط ، وإلّا فلا.

وإن حصل بعد الحول ، فقد حكم في المتن بوجوب الزكاة ، نظراً إلى استجماع شرائط التكليف حين حلول الحول من غير أيّ مانع آن ذاك ، إذ المانع عن التصرّف إنّما هو الوفاء بالنذر ، ولم يتحقّق ، لعدم تحقّق المعلّق عليه في ظرف تعلّق الزكاة.

__________________

(*) بناءً على أنّ التكليف مانع عن وجوب الزكاة لا فرق بين حصول المعلّق عليه قبل تمام الحول أو بعده ، حيث إنّ التكليف على كلا التقديرين سابق أي يكون من حين النذر فإذن لا وجه للفرق بين الصورتين.

١٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

أقول : الظاهر عدم الفرق بين حصول المعلّق عليه قبل الحول أو بعده في المانعيّة عن تعلّق الزكاة ، فلو بنينا على أنّ الحكم التكليفي أعني : وجوب الصرف في الصدقة يمنع عن تعلّق الزكاة لم يفرق فيه بين الصورتين.

وذلك لأنّ المانع على هذا المبنى إنّما هو نفس الوجوب المتحقّق عند انعقاد النذر وإن كان ظرف الامتثال وزمان الواجب متأخّراً ، لكون الالتزام النذري مرتبطاً ومعلّقاً على قيدٍ يحصل فيما بعد ، فإنّ الواجب المعلّق هو الواجب المشروط بالشرط المتأخّر ، ولا فرق بينهما إلّا في مجرّد العبارة كما هو موضح في محلّه ، فكما أنّ الوجوب فعليٌّ فيما لو كان القيد هو نفس الزمان المتأخّر مثل ما لو نذر في رجب أن يتصدّق في شهر رمضان ، غايته أنّ زمان الواجب وظرف الوفاء استقبالي فكذا فيما لو كان القيد أمراً زمانيّاً ، كشفاء المريض أو قدوم المسافر ونحو ذلك.

فلا وجوب لو لم يتحقّق ذلك الزماني في المستقبل أبداً ، لفرض ارتباط الالتزام النذري به ، ومتى تحقّق كشف ذلك عن تحقّق الوجوب من الأوّل بمقتضى الشرط المتأخّر كما هو الشأن في جميع الواجبات التعليقيّة لا عن حدوثه من الآن ، إذ لم يكن نفس النذر معلّقاً عليه؟ كيف؟! وقد تحقّق هو في ظرف الإنشاء وانعقد صحيحاً حسب الفرض ، وإنّما المعلّق هو المنذور والوفاء بما التزم به ، فزمان حصول القيد هو زمان الوفاء وظرف امتثال المنذور وأداء الواجب ، أمّا الوجوب نفسه فهو حاصلٌ من ذي قبل ولدي انعقاد النذر لو كان القيد حاصلاً في ظرفه.

وعليه ، فلا فرق بين حصول المعلّق عليه قبل الحول أو بعده ، إذ لا عبرة به في المنع ، وإنّما الاعتبار بنفس الوجوب المتحقّق حين النذر وقبل حلول الحول على التقديرين.

١٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا ينافي ما ذكرناه جواز التصرّف في منذور التصدّق قبل حصول المعلّق عليه المشكوك تحقّقه من شفاء المريض ونحوه لأنّ ذلك هو مقتضى الحكم الظاهري المستند إلى أصالة عدم تحقّقه لدى الشكّ فيه ، كما هو الشأن في كلّ قيدٍ زماني.

وبذلك يفترق عن الزمان ، كقدوم رمضان ، فإنّه محقّق الوقوع ، فلا مجال لإجراء الأصل فيه ، فلا يسوغ في مثله التصرّف في المنذور.

بخلاف الزماني ، فإنّه قابل للتشكيك ، ومعه يجري الأصل ويسوغ التصرّف ظاهراً ، ما لم ينكشف الخلاف ، ومعه ينتقل إلى البدل أو يحكم بحكمٍ آخر.

وممّا قدّمناه يظهر حكم صورة المقارنة وأنّه لا تجب فيها الزكاة بطريقٍ أولى ، لأنّها إذا لم تجب لا في فرض تقدّم المعلّق عليه على الحول ولا في فرض تأخّره لعدم الفرق بين الصورتين في ذلك حسبما عرفت فلا جرم لا تجب في فرض التقارن أيضاً بطبيعة الحال.

ولكن هذا كلّه على تقدير القول بمانعيّة الحكم التكليفي أعني : وجوب التصرّف في التصدّق المنذور عن تعلّق الزكاة كما عليه المشهور. وأمّا على المختار من عدم المانعيّة ، فلا موجب لسقوط الوجوب عن الزكاة إلّا فيما إذا حصل المعلّق عليه قبل تماميّة الحول وصرف المال في الوفاء بالنذر ، كما علم ذلك ممّا مرّ ، فلاحظ.

ثمّ إنّا لو بنينا على التفرقة بين الصورتين كما اختاره في المتن فما هو حكم صورة المقارنة؟.

ذكر الماتن (قدس سره) أنّ فيه وجوهاً أربعة :

وجوب الزكاة.

عدم الوجوب.

١٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

التخيير بين تقديم أيّهما شاء من الزكاة أو الصدقة.

القرعة.

أمّا الأخير : فلا مجال لها في المقام بتاتاً ، لا لاحتياج العمل بدليل القرعة إلى الجابر وهو عمل الأصحاب إذ لا قصور في حجّيّته ليحتاج إلى الجبر ، ولا يلزم من الأخذ بعمومه تخصيص الأكثر.

لأنّ الشبهات الحكميّة بأسرها غير داخلة من الأوّل ليحتاج خروجها إلى التخصيص ، نظراً إلى أنّ موردها خصوص الشبهات الموضوعيّة ، فهي في حدّ ذاتها قاصرة الشمول للشبهات الحكميّة كما لا يخفى.

وأمّا الشبهات الموضوعيّة المعلوم حكمها ولو ظاهراً بأصلٍ أو أمارة من استصحابٍ أو بيّنةٍ أو يدٍ ونحو ذلك فهي أيضاً غير داخلة ، لعدم كونها من المشكل ولا المشتبه ، فلم يبق تحتها إلّا الشبهات الموضوعيّة غير المعلوم حكمها رأساً ، وهي قليلة جدّاً ، فلا يلزم من الأخذ بعموم دليل القرعة تخصيص الأكثر بوجه.

بل لأجل أنّ الشبهة في المقام شبهة حكميّة ، إذ لم يعلم حكم صورة المقارنة في الشريعة المقدّسة ، وقد عرفت آنفاً أنّ مثل ذلك غير مشمول لدليل القرعة في نفسه.

وأمّا التخيير : فإن أُريد به التخيير الثابت في باب التعارض ، فيرد عليه :

أوّلاً : إنّ المقام ليس من باب التعارض في شي‌ء ، لعدم انطباق ضابطه عليه ، فإنّ مناط المعارضة على ما تقرّر في محلّه (١) التنافي بين الدليلين وتكاذبهما في مقام الجعل ، بحيث لا يمكن اجتماعهما في الشريعة المقدّسة في أنفسهما ، مع قطع

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٥٠١ ٥٠٢.

١٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

النظر عن مرحلة الفعليّة وتحقّق الموضوع خارجاً ، فكان كلٌّ منهما يكذب الآخر بمدلوله الالتزامي ، كما لو دلّ أحدهما على وجوب شي‌ء والآخر على حرمته أو عدم وجوبه ، أو أحدهما على نجاسة شي‌ء كعرق الجنب من الحرام والآخر على طهارته ، فكان بين الدليلين تناقضٌ أو تضادّ الراجع بالآخرة إلى التناقض إمّا ذاتاً أو عَرَضاً.

وهذا الضابط كما ترى غير منطبق على المقام ، إذ لا تنافي بوجهٍ بين ما دلّ على وجوب الزكاة لمن كان مالكاً للنصاب في تمام الحول وبين دليل وجوب الوفاء بالنذر ، غايته أنّ في صورة المقارنة بين تماميّة الحول وبين حصول المعلّق عليه النذر لا يتمكّن المكلّف من الجمع بين صرف المال في الزكاة وفي الصدقة ، نظراً إلى أنّ تقديم كلٍّ منهما يعدم موضوع الآخر ، لأنّه لو صرفه في الزكاة ينعدم موضوع النذر ، إذ لا يمكن التصدّق بمال الغير ، ولو صرفه في الصدقة لا موضوع للزكاة ، لزوال النصاب ، فهو غير متمكّن من صرف هذا المال خارجاً في كلا الموردين ، لا أنّ بينهما تكاذباً في مرحلة الجعل ليكونا من المتعارضين.

فالمقام يكاد يلحق بباب التزاحم ، الذي ضابطه تنافي الدليلين في مرحلة الفعليّة دون الجعل الناشئ من عجز المكلّف عن الجمع بينهما في مقام الامتثال ، مثل ما لو لم يتمكّن من الجمع بين الصلاة وبين إزالة النجاسة عن المسجد لضيق الوقت ، أو كان له ماء ولم يتمكّن من صرفه إلّا في حفظ النفس عن الهلاك أو الوضوء بحيث لو اختار كلّاً منهما عجز عن امتثال الآخر.

وعلى الجملة : فلا مساس للمقام بباب التعارض أبداً ليرجع فيه إلى التخيير.

وثانياً : سلّمنا ذلك ، ولكن التخيير غير ثابت في هذا الباب من أصله ، لضعف مستنده حسبما بيّناه في محلّه (١) ، بل حكم المتعارضين : الترجيح إن كان ، وإلّا

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٥٠٣.

١٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

فالتساقط والرجوع إلى دليلٍ آخر من عمومٍ أو إطلاق إن كان ، وإلّا فإلى الأصل العملي.

وثالثاً : إنّ التخيير على تقدير تسليمه خاصٌّ بالمتعارضين بالتباين ، دون ما كان بالعموم من وجه كما في المقام ، لكون التعارض حينئذٍ بين إطلاق الدليلين لا بين السندين ، ولذا يجري حتى في مقطوعي الصدور ، فلو فرضنا أنّا سمعنا من الباقر (عليه السلام) أنّه : أكرم كلّ عالم. وسمعنا عن الصادق (عليه السلام) أنّه : لا تكرم كلّ فاسق. فلا محالة يتعارضان في العالم الفاسق ، فلا مناص من التساقط والرجوع إلى دليلٍ آخر إن كان ، وإلّا فإلى ما تقتضيه الأُصول العمليّة.

هذا كلّه لو أُريد به التخيير في باب التعارض.

وإن أُريد به التخيير الثابت في باب التزاحم كما ظهر تقريره ممّا مرّ فله وجهٌ في بادئ الأمر ، إلّا أنّ التحقيق خلافه ، نظراً إلى التمكّن من الجمع بين التكليفين وامتثال كلا الأمرين من غير أيّ مزاحمة في البين ، وذلك لما أشرنا إليه سابقاً ويأتي تفصيله إن شاء الله تعالى لاحقاً (١) من أنّ الزكاة وإن كانت متعلّقة بالعين إلّا أنّها بنحو الشركة في الماليّة لا في العين نفسها ، ولذا كانت له الولاية على التبديل ويجوز له الأداء من مالٍ آخر نقداً أو ولو عيناً على الخلاف.

وعليه ، فالجمع بين دليلي الزكاة والوفاء بمكانٍ من الإمكان ، فيدفع الزكاة أوّلاً من مالٍ آخر ، لتخلص العين من الحقّ ، ثمّ يصرفها في الوفاء عن النذر ، كما تقدّم نظيره فيما لو انعقد النذر بعد حلول الحول ، حيث عرفت لزوم الجمع حينئذٍ بين الزكاة من مالٍ آخر وبين الصدقة (٢).

وممّا ذكرنا تعرف أنّ مقتضى القاعدة : الجمع بين الأمرين بدفع الزكاة من

__________________

(١) في ص ١٠٢ وسيأتي تفصيله في ص ١٨٧ ١٨٨.

(٢) في ص ١٠٢.

١١٠

[٢٦٢٥] مسألة ١٣ : لو استطاع الحجّ بالنصاب (١) : فإن تمّ الحول قبل سير القافلة والتمكّن من الذهاب وجبت الزكاة أوّلاً (*) ، فإن بقيت الاستطاعة بعد إخراجها وجب ، وإلّا فلا. وإن كان مضيّ الحول متأخّراً عن سير القافلة وجب الحجّ (**) وسقط وجوب الزكاة.

______________________________________________________

القيمة وصرف العين في الصدقة ، لعدم التنافي بين الدليلين لا بنحو المعارضة ولا المزاحمة لتصل النوبة إلى التخيير.

نعم ، بناءً على المشهور الذي بنى عليه الماتن من أنّ الوجوب التكليفي ولزوم الصرف في الصدقة مانعٌ عن تعلّق الزكاة لم تجب الزكاة في المقام ، لأنّ تماميّة الحول وحصول المعلّق عليه وإن كانا متقارنين ، إلّا أنّ وجوب الوفاء بالنذر حاصلٌ بمجرّد انعقاده ، الذي كان ثابتاً قبل تماميّة الحول حسب الفرض ، ومعه لا مجال لوجوب الزكاة بوجه ، بل يتعيّن الصرف في الصدقة.

(١) قسّم (قدس سره) من حصلت له الاستطاعة بملكيّة النصاب على ثلاثة أقسام :

فتارةً : يكون سير القافلة والتمكّن من الذهاب قبل تماميّة الحول.

__________________

(*) وجوب الحجّ إنّما هو من أوّل زمن الاستطاعة ، فإن بقيت استطاعته بعد تأدية الزكاة فهو ، وإلّا وجب عليه حفظ الاستطاعة ولو بتبديل النصاب بغيره لئلّا يفوت عنه الحجّ ، ولا عبرة في وجوبه بزمان سير القافلة والتمكّن من الذهاب فيه ، وعليه فلا فرق بين صور المسألة. نعم ، فيما لا يعتبر فيه الحول في وجوب الزكاة كالغلّات الأربع إذا فرض حصول الاستطاعة في آن تعلّق الزكاة قدّمت الزكاة على الحجّ ، حيث إنّها رافعة لموضوع وجوب الحجّ.

(**) فيجب عليه حفظ الاستطاعة ولو ببيع الجنس الزكوي وتبديله بغيره ، وأمّا إذا بقيت العين حتى مضى عليها الحول فالظاهر عدم سقوط الزكاة.

١١١

نعم ، لو عصى ولم يحجّ وجبت بعد تمام الحول. ولو تقارن خروج القافلة مع تمام الحول وجبت الزكاة أوّلاً ، لتعلّقها بالعين ، بخلاف الحجّ.

______________________________________________________

وأُخرى : عكس ذلك.

وثالثةً : يتقارنان ، فيكون زمان سير القافلة وخروج الرفقة متّحداً مع زمان حلول الحول.

أمّا القسم الأوّل : فيجب فيه الحجّ ، لتحقّق شرطه ، وهو الاستطاعة والتمكّن من الذهاب مع القافلة ، فقد استقرّ عليه الحجّ بذلك ، ولأجله يجب عليه حفظ الاستطاعة ، فإن تمكّن من الحجّ ولو متسكّعاً أو بالاستدانة من مال آخر فهو ، وإلّا فلو توقّف على صرف هذا المال بخصوصه بحيث لو أبقاه حال عليه الحول وتعلّقت به الزكاة الموجب لزوال الاستطاعة وجب عليه الصرف ولو ببيع الجنس الزكوي وتبديله بغيره ، حذراً عن تعلّق الزكاة ، فيجب عليه حفظاً للاستطاعة إعدام موضوع الزكاة ، لأنّها إنّما تتعلّق إذا حال الحول على شخص هذا المال لا ولو على بدله كما لا يخفى.

وعليه ، فلو لم يعدم الموضوع ، فعصى ولم يحجّ ، وأبقى العين حتى مضى عليها الحول ، وجبت عليه الزكاة كما ذكره في المتن ، لفعليّة موضوعها وإن كان الحجّ مستقرّاً عليه أيضاً.

فإن قلت : ما الفرق بين المقام وبين ما تقدّم من النذر المؤقّت بما قبل الحول إذا لم يف به ولم نقل بوجوب القضاء ، حيث حكم الماتن هناك بانقطاع الحول وعدم وجوب الزكاة (١) ، ولم يحكم به في المقام ، فإذا لم يكن وجوب الحجّ مانعاً عن تعلّق الزكاة فكيف صار وجوب الوفاء بالنذر حتى بعد زواله مانعاً عنها؟

__________________

(١) في ص ١٠٢.

١١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

قلت : الفرق واضح ، فإنّ منذور التصدّق كان ممنوعاً عن التصرّف فيه مطلقاً ، ولأجله تسقط الزكاة عنه ، بناءً على أنّ ممنوعيّة التصرّف شرعاً مانعةٌ عن تعلّق الزكاة وإن كان ذلك على خلاف التحقيق كما مرّ.

وأمّا في المقام ، فلا منع عن التصرّف في العين بوجه ، ما عدا التصرّف المزيل للاستطاعة من هبةٍ ونحوها ، وإلّا فلا مانع من البيع أو الإجارة أو المصالحة ونحوها من أنواع التصرّفات والتقلّبات المتعلّقة بالعين ، ممّا يتضمّن المحافظة على أصل الماليّة وإن تبدّلت الشخصيّة ، رعايةً لبقاء الاستطاعة وعدم زوالها.

وممّا لا يعتريه الشكّ أنّ من يرى مانعيّة المنع من التصرّف عن تعلّق الزكاة يريد به المنع منه بقولٍ مطلق لا عن خصوص تصرّفٍ واحدٍ كما في المقام ، كيف؟! وكثيرٌ من الأعيان الزكويّة قد لا يخلو عن مثل هذا المنع الناشئ من نذرٍ أو شرطٍ في ضمن عقد ، ونحو ذلك من سائر التعهّدات أو العوارض الطارئة المانعة عن التصرّف في جهة خاصّة ، ولا يكاد يكون مثله مانعاً عن تعلّق الزكاة عند أحد.

هذا ، مضافاً إلى الفرق من ناحيةٍ أُخرى ، وهي أنّ منذور التصدّق ربّما يقال بأنّه متعلّق للحقّ إمّا لحقّ الفقراء أو لحقّ الله سبحانه ، فيوجب ذلك قصوراً في الملك ، كما في حقّ الرهانة المانع عن تعلّق الزكاة ، وهذا بخلاف الحجّ ، فإنّه تكليفٌ محض ولا يستتبع الحقّ بوجه ، فلا مقتضي لمانعيّته عن تعلّق الزكاة بتاتاً.

وأمّا القسم الثاني أعني ما لو تمّ الحول قبل مسير القافلة وخروج الرفقة : فقد ذكر الماتن (قدس سره) أنّه تجب عليه الزكاة أوّلاً ، ثمّ إن بقيت الاستطاعة بعد إخراجها وجب الحجّ أيضاً ، وإلّا فلا.

والوجه فيه : عدم وجوب حفظ المال قبل التمكّن من السفر إلى الحجّ ، ولازمه

١١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

جواز التصرّف فيه وإن زالت به الاستطاعة ، فالمقتضي لوجوب الصرف في الزكاة موجودٌ من غير مانع ، فلا جرم تتعلّق به الزكاة ، ومعه ينتفي موضوع الحجّ أعني : الاستطاعة إذ ليس المال بعدئذٍ خالصاً له ، بل مشتركٌ بينه وبين الفقير ، فلم يكن مالكاً لما يحجّ به كي يجب عليه الحجّ.

وعلى هذا رتّب (قدس سره) تقديم الزكاة في القسم الثالث وهو صورة المقارنة لفعلية شرط الزكاة أعني : ملك النصاب في تمام الحول ، فتجب ، بخلاف الحجّ ، لتعلّقه بالمستطيع أي من يكون مالكاً لما يحجّ به وهذا ليس كذلك ، لأنّه في آن تعلّق الحجّ لم يملك إلّا المال المشترك بينه وبين الفقير من غير أن تكفي حصّته للحجّ حسب الفرض.

أقول : لو كان وجوب الحجّ منوطاً بخروج الرفقة وسير القافلة لكان ما ذكره (قدس سره) جيّداً ، ولكن الأمر ليس كذلك وإن ذكره جماعةٌ من الأصحاب ، لعدم نهوض أيّ دليل عليه ، ولم ترد به رواية أبداً ، كما أنّ ما ذكره جماعة أُخرى من إناطة الوجوب بدخول أشهر الحجّ أي عند ما هلّ هلال شوّال عارٍ أيضاً عن كلّ شاهد.

والذي نطقت به الآية المباركة (١) المعتضدة بالنصوص المتظافرة تعليق الوجوب على مجرّد الاستطاعة ، من غير دخالةٍ لخروج الرفقة ولا حلول تلك الأشهر ، فمن حصلت له الاستطاعة المفسّرة في غير واحدٍ من النصوص بالزاد والراحلة وتخلية السرب في أيّ زمان كان ولو كان شهر محرّم وجب عليه الحجّ على سبيل الواجب التعليقي ، فيجب عليه حفظ المال ، ولا يجوز صرفه فيما تزول به الاستطاعة ، كما أنّه لو لم يتمكّن من المسير إلّا في هذا الزمان بحيث لو أخّر الخروج إلى قدوم أشهر الحجّ لم يتهيّأ له السير بعدئذٍ لمانعٍ من الموانع

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٩٧.

١١٤

[٢٦٢٦] مسألة ١٤ : لو مضت سنتان أو أزيد على ما لم يتمكّن من التصرّف فيه بأن كان مدفوناً ولم يعرف مكانه ، أو غائباً ، أو نحو ذلك ثمّ تمكّن منه ، استحبّ زكاته لسنة ، بل يقوى استحبابها بمضيّ سنة واحدة أيضاً (١).

______________________________________________________

ولو من أجل أن حكومة الوقت لا تسمح بالخروج عن المنطقة في تلك الآونة وجب عليه الخروج في هذا الوقت فيما إذا كانت الاستطاعة باقية في تمام المدّة ولم يلزم العسر والحرج المسقطين للتكليف.

وعلى الجملة : فالاعتبار في تعلّق الحجّ بمجرّد الاستطاعة المفسّرة بما عرفت.

وعليه ، فلا يعقل فرض المقارنة بين حلول الحول الموجب لتعلّق الزكاة وبين حدوث ما يوجب الحجّ أعني : الاستطاعة بل الثاني مقدّمٌ دائماً ، لسبق الملكيّة على حلول الحول على ما يملك بالضرورة.

ومنه تعرف عدم إمكان فرض تقديم حلول الحول ، فوجوب الحجّ مقدّمٌ على وجوب الزكاة في جميع تلك الأقسام.

نعم ، يمكن فرض المقارنة فيما لا يعتبر فيه الحول ، كالغلّات ، فلو حصلت الاستطاعة بنفس انعقاد الحبّة أو الاصفرار أو الاحمرار الذي هو بنفسه زمان تعلّق الزكاة فقد تقارن الوجوبان وحدثا في زمانٍ واحد ، والواجب حينئذٍ تقديم الزكاة كما ذكره في المتن ، لأنّ الاستطاعة لا تحصل إلّا بملكه لا بما هو شريكٌ فيه مع غيره ، فتعلّق الزكاة بالعين وشركة الفقراء فيها تمنع عن حدوث الاستطاعة ، فلا موضوع لها ، بخلاف الزكاة ، فإنّها تتعلّق بالعين من غير إناطة بشي‌ء كما لا يخفى. فالمقارنة إنّما تتصوّر في هذا النوع من الجنس الزكوي ، دون غيره ممّا يعتبر فيه الحول ، كالنقدين والأنعام.

(١) يقع الكلام :

تارةً : في اختصاص الحكم بالمدفون والغائب ، فلا زكاة في غيرهما ممّا لم

١١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

يكن متمكّناً من التصرّف فيه لسرقةٍ أو غصبٍ أو جحدٍ ثمّ تجدّدت القدرة لا وجوباً ولا استحباباً ، أو أنّ الحكم عامٌّ يشمل جميع ذلك.

وأُخرى : في أنّ الاستحباب هل يختصّ بما إذا كان زمان العجز عن التصرّف سنتين أو أزيد ، أو أنّه يعمّ ولو كان سنة واحدة؟

وقد اختار الماتن (قدس سره) الإطلاق في كلٍّ من الجهتين ، وهو الصحيح ، لعموم المستند.

فإنّ بعض الروايات وإن كانت قاصرة سنداً وهي ما رواه عبد الله بن بكير عن زرارة ، أو عمّن رواه ، حسب اختلاف النسخ (١) لمكان احتمال الإرسال المسقط لها عن صلاحيّة الاستدلال كما تقدّم (٢).

والبعض الآخر قاصرة الدلالة على العموم ، لاختصاصها بخمس سنين ، وهي صحيحة رفاعة بن موسى : عن الرجل يغيب عنه ماله خمس سنين ثمّ يأتيه فلا يرد رأس المال ، كم يزكّيه؟ «قال : سنة واحدة» (٣).

ولكن العمدة صحيحة سدير الصيرفي وهي وافية بالمقصود ـ : في رجل كان له مال فانطلق به فدفنه في موضع ، فلمّا حال عليه الحول ذهب ليخرجه من موضعه فاحتفر الموضع الذي ظنّ أنّ المال فيه مدفونٌ فلم يصبه ، فمكث بعد ذلك ثلاث سنين ، ثمّ إنّه احتفر الموضع الذي من جوانبه كلّه فوقع على المال بعينه ، كيف يزكّيه؟ «قال : يزكّيه لسنة واحدة ، لأنّه كان غائباً عنه وإن كان احتبسه» (٤).

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٩٥ / أبواب من تجب عليه الزكاة ب ٥ ح ٧.

(٢) في ص ٨٣.

(٣) الوسائل ٩ : ٩٤ / أبواب من تجب عليه الزكاة ب ٥ ح ٤.

(٤) الوسائل ٩ : ٩٣ / أبواب من تجب عليه الزكاة ب ٥ ح ١.

١١٦

[٢٦٢٧] مسألة ١٥ : إذا عرض عدم التمكّن من التصرّف بعد تعلّق الزكاة أو بعد مضيّ الحول متمكّناً ، فقد استقرّ الوجوب (١) ، فيجب الأداء إذا تمكّن بعد ذلك ، وإلّا فإن كان مقصّراً يكون ضامناً ، وإلّا فلا.

______________________________________________________

فإنّ التعليل يعطينا التعميم من كلتا الناحيتين ، وأنّ المناط في التزكية مجرّد الغيبوبة ، التي لا ريب في صدقها على كلّ مالٍ لم يكن تحت تصرّف صاحبه واستيلائه ، وإن كان لسرقةٍ أو غصبٍ أو جحد ، ولا يختصّ بالغائب في مقابل الحاضر أي البعيد عنه كما لا يخفى.

كما أنّ هذا التعليل نفسه يستوجب التعدّي من حيث الزمان أيضاً ، فيشمل حتى ما إذا كان زمان الغيبة لسنة واحدة ، ولا يختصّ بمورد الصحيحة أعني : ثلاث سنين لأنّ الاعتبار إنّما هو مجرّد الغياب كما عرفت.

نعم ، ظاهرها وجوب الزكاة ، إلّا أنّه محمولٌ على الاستحباب ، لا لمجرّد الإجماع على عدم الوجوب ، بل لأجل النصوص المتقدّمة في محلّها (١) ، الناطقة باشتراط الوجوب بالتمكّن من التصرّف وأن يحول الحول والمال عنده ، الموجبة لحمل هذه الصحيحة على الاستحباب جمعاً ، كما تقدّمت الإشارة إليه سابقاً ، فلاحظ.

(١) لحصول شرطه ، وهو التمكّن من التصرّف في الحول ، الموجب لفعليّة الوجوب واستقراره ، فلا أثر بعدئذٍ للعجز الطارئ ، لعدم دخله في تعلّق الوجوب كما هو ظاهر.

وعليه ، فيجب الأداء لو تمكّن بعد ذلك ، فلو سرق أو غصب بعد مضيّ الحول ثمّ ظفر عليه أدّى زكاته.

وأمّا لو استمرّ العجز ، فيبتني الضمان لمقدار الزكاة وعدمه على التفريط في

__________________

(١) في ص ٣٤ ٣٦.

١١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الحفظ وعدمه ، فيضمن لو فرّط ، وإلّا كما لو انتهى الحول آخر النهار فتحفّظ عليه إلى أن يجد صباحاً من يؤدّي الزكاة إليه فسرق جوف الليل فلا شي‌ء عليه ، كما هو الشأن في كافّة الأمانات الشرعيّة من التفصيل في الضمان بين التفريط وعدمه ، وهذا ممّا لا إشكال فيه.

غير أنّ الزكاة ويلحقها الوصيّة يمتازان عن سائر الأمانات الشرعيّة باستقرار الضمان لو تلفت العين الزكويّة أو الموصى بها بمجرّد عدم الصرف في موردهما مع التمكّن وإن لم يكن التأخير مستلزماً للتفريط ، كما لو أخّر الدفع إلى المستحقّ لكي يجد الأفضل الذي هو أمر مستحبّ فعرض التلف من غير تقصير ، فإنّه يضمن ، للنصوص الخاصّة الدالّة على ذلك ، التي يظهر منها إلحاق مثل هذا بالتفريط في خصوص هذين الموردين وأنّ معناه فيهما أوسع من غيرهما ، وسيجي‌ء التعرّض لذلك في مطاوي المسائل الآتية إن شاء الله تعالى.

فمنها : صحيحة محمّد بن مسلم ، قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : رجلٌ بعث بزكاة ماله لتقسّم فضاعت ، هل عليه ضمانها حتى تقسّم؟ «فقال : إذا وجد لها موضعاً فلم يدفعها إليه فهو لها ضامن حتى يدفعها ، وإن لم يجد لها من يدفعها إليه فبعث بها إلى أهلها فليس عليه ضمان ، لأنّها قد خرجت من يده ، وكذلك الوصي» (١).

وصحيحة زرارة : عن رجلٍ بعث إليه أخٌ له زكاته ليقسّمها فضاعت «فقال : ليس على الرسول ولا على المؤدّي ضمان» قلت : فإنّه لم يجد لها أهلاً ففسدت وتغيّرت ، أيضمنها؟ «قال : لا ، ولكن إن (إذا) عرف لها أهلاً فعطبت أو فسدت فهو لها ضامن حتى يخرجها» (٢).

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٢٨٥ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٣٩ ح ١.

(٢) الوسائل ٩ : ٢٨٦ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٣٩ ح ٢.

١١٨

[٢٦٢٨] مسألة ١٦ : الكافر تجب (*) عليه الزكاة (١) ، لكن لا تصحّ منه إذا أدّاها.

______________________________________________________

(١) تبتني هذه المسألة على الكبرى الكلّيّة ، وهي أنّ الكفّار هل هم مكلّفون بالفروع كما أنّهم مكلّفون بالأُصول ، أو لا؟

والمعروف والمشهور بين الفقهاء هو الأوّل ، بل حكي عليه الإجماع ، ويستدلّ له بعموم أدلّة التكاليف ، وخصوص جملة من الآيات ، مثل قوله تعالى (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) (١) ، وقوله تعالى (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) (٢) ، حيث علّل عذاب المشرك بتركه الصلاة وعدم الإطعام المفسّر بترك الزكاة ، وكذا الويل في الآية الثانية.

ويندفع بمنع العموم في تلك الأدلّة ، كيف؟! والخطاب في كثيرٍ من الآيات خاصٌّ بالمؤمنين ، كقوله تعالى (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ*) (٣) وقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) (٤) وقوله تعالى (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) (٥) فلو كان عمومٌ في بعضها مثل قوله تعالى :

__________________

(*) فيه إشكال بل الأظهر عدمه ، وعلى تقدير الوجوب فعدم سقوطها مع بقاء العين بإسلامه إنّه لم يكن أظهر فلا ريب في أنّه أحوط ، وبذلك يظهر الحال في المسألتين الآتيتين.

(١) المدثر ٧٤ : ٤٣ ، ٤٤.

(٢) فصّلت ٤١ : ٦ ، ٧.

(٣) البقرة ٢ : ٤٣ ، ٨٣ ، ١١٠ ، النور ٢٤ : ٥٦ ، المزمل ٧٣ : ٢٠.

(٤) البقرة ٢ : ١٨٣.

(٥) النساء ٤ : ١٠٣.

١١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

(وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ) (١) فبإزائها هذه الآيات الخاصّة.

ولا دلالة في الآيتين المتقدّمتين على تكليف الكفّار بالفروع ، لجواز كون المراد من عدم الكون من المصلّين ومطعمي المسكين : الإشارة إلى عدم اختيار الإسلام والتكذيب بيوم الدين كما في ذيل الآية الأُولى ، وكذا يراد من عدم إيتاء الزكاة : تركها بترك الإسلام والكفر بالآخرة كما في ذيل الآية المباركة ، فلا تدلّ على تعلّق العقاب بترك هذه الفروع بأنفسها كما لا يخفى.

وممّا يدلّ على الاختصاص قوله تعالى (الزّانِي لا يَنْكِحُ إِلّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (٢).

فإنّ المراد بالنكاح ليس هو العقد قطعاً لعدم جوازه بين المسلمة والمشرك أو المسلم والمشركة باتّفاق المسلمين قاطبةً بل المراد نفس الوطء الخارجي ، فتشير الآية المباركة إلى ما هو المتعارف خارجاً بمقتضى قانون السنخيّة من أنّ الزاني لا يجد من يزني بها إلّا زانية مثله أو مشركة ، فإنّ الطيور على أمثالها تقع ، والجنس إلى الجنس يميل ، وإلّا فالمؤمنة لا تطاوعه على ذلك أبداً ، وكذا الحال في الزانية ، ثمّ قال تعالى (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) ، فخصّ سبحانه حرمة الزنا بالمؤمن دون الكافر.

هذا ، مضافاً إلى ورود رواية (٣) معتبرة عن الكافي تضمّنت : أنّ الكافر يؤمَر أوّلاً بالإسلام ثمّ بعده بالولاية ، فإذا لم يكن مكلّفاً حال كفره بالولاية التي هي أعظم الفروع وأهمّها وإنّما يؤمَر بها بعد اختيار الإسلام ، فما ظنّك بسائر

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٩٧.

(٢) النور ٢٤ : ٣.

(٣) الكافي ١ : ١٨٠ / ٣.

١٢٠