نظريّة النقد العربي رؤية قرآنيّة معاصرة

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المؤرّخ العربي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧

١

٢

٣

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

مهمة النقد الادبي تعنى بتمييز جيد القول من رديئه شعراً كان أو نثراً ، والنص الادبي هو المضمار الذي يرتاده فن النقد. والناقد الموضوعي هو الذي يخضع هذا النص في التمييز لمقاييس فنية تحكم على جودته أو رداءته ، فلا يكون حكمه اعتباطياً ، ولا تقويمه كيفياً ، وإنما يخلص إليه بموازين ومعايير تتكفل بالأصالة والإنصاف.

النص الأدبي عبارة عن لفظ ومعنى ، وهناك من النقاد من تعصب للفظ وهناك من فضل المعنى ، وهناك من ترك هذا وذاك ، وقال بالعلاقة القائمة بين الفظ والمعنى وهي الصورة ، وهناك من بحث دلالة الألفاظ في ضوء المعاني. كل ذلك من أجل تقويم النص الأدبي ، ومقايسة الفن القولي.

هذه الاعتبارات المختلفة كانت مجالاً خصباً لآراء علماء العروبة والإسلام في النقد فنشأت عنها جملة من المدارس النقدية الملتزمة حيناً ، والمتطرفة حيناً آخر ، والسائرة بين بعض الأحيان.

لقد أدى هذا التنوع في الآراء ، والتعدد في وجهات النظر ، إلى تنوع وتعدد المذاهب النقدية القديمة والمعاصرة ، وحينما ألقينا نظرة فاحصة على الموضوع ، وجدنا النص الأدبي إما خاضعاً لصورته الفنية ، فبحثناها في فصل قائم بذاته ، وإما أن يكون مقترناً بجودة اللفظ ودقة المعنى ، فخصصنا لذلك فصلاً متميزاً ، وإما أن يكون معتمداً على دلالة اللفظ وما توحي من معنى فكان فصل دلالة الألفاظ.

هذا البحث إذن في فصول ثلاثة تمثل المظاهر الأولى للنقد العربي :

١ ـ مصطلح الصورة الفنية.

٥

٢ ـ قضية اللفظ والمعنى.

٣ ـ دلالة الألفاظ.

ولقد عرضت في الفصل الأول للصورة في اصطلاح النقاد العرب القدامى والمحدثين وقارنتها بآراء الغربيين من أوروبيين ومستشرقين فانتهيت إلى أنها جزء لا يتجزأ من حضارة الأمة العربية في الوقت الذي كان فيه أبناء الغرب والشرق يدرسون ويتلقون العلم في حواضرنا العربية في كل من القاهرة والقيروان وأشبيلية وغرناطة وبغداد والبصرة والكوفة والموصل ودمشق ، وكان ذلك في حدود القرن الخامس الهجري.

وعرضت لقضية اللفظ والمعنى بأبعادهما المختلفة عند النقاد العرب القدامى والمحدثين وعند الأوروبيين وانتهيت فيها إلى ما تجده من نتائج في الموضوع تنتهي بوحدة اللفظ والمعنى بإطار متميز لا ينفصل.

وعرضت لدلالة الألفاظ بأقسامها وأخصصت نماذجها وأمثلتها عند التطبيق لآيات القرآن الكريم ونماذج أمثال القرآن بخاصة اعتماداً على ما استنبطته من رسالتي « الصورة الفنية في المثل القرآني : دراسة نقدية وبلاغية » مع الإضافة للطروح المعاصرة بعيدة عن الفهم الدلالي اللغوي عند الأوروبيين ، فهي شيء والنظر الأوروبي شيء آخر. إذ يتعلق بالقضية اللغوية دون النظرية النقدية التي تتحدث عنها.

لقد اتسمت هذه المحاضرات الثلاث على وجزاتها بالدقة والشمول والتجديد الذي سيعين على البحث الجامعي في مستقبل حياته العلمية ، وسيقربه شوطاً من الدراسات الأكاديمية المتطورة ، ولا سيما وأن هذه المباحث هي خلاصة ما توصل إليه الفكر النقدي عند العرب وفي أوروبا قديماً وحديثاً. فهي محاور ثلاثة متأصلة يبدو لي سبق العرب في التوصل إليها ، وإرساء قواعدها في ضوء القرآن الكريم.

وما توفيقي إلا بالله العلي العظيم توكلت وإليه أنيب ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

الجامعة المستنصرية

كلية الفقه / النجف الاشرف

الدكتور

محمدحسين علي الصغير

٦

الفصل الأول

« مصطلح الصورة الفنية »

١ ـ أهمية الصورة الفنية.

٢ ـ الصورة في اصطلاح النقاد القدامى.

٣ ـ الصورة عند النقاد المحدثين.

٤ ـ مقارنة وتحديد.

٧
٨

١ ـ أهمية الصورة الفنية

تنشأ أهمية الصورة الفنية من خلال معركة النقاد والبلاغيين في الفصل بين اللفظ والمعنى ، فاللفظ هو الصياغة الشكلية والهيكل التركيبي في العمل الادبي ، والمعنى هو الفكرة المجردة التي تفي بالغرض.

وقد أوجد هذا الفصل تقسيماً ظاهراً في النص الأدبي وجعله ذا دلالتين : خارجية تتصل بالشكل ، وداخلية تقترن بالمضمون.

ولعل المطور لهذا الفصل هو المذهب المعتزلي في فهمه للنص القرآني ، فهو ذو بعدين : البعد الأول ، يتمثل بالفن القولي في دلالته المحسوسة من اللفظ التي تتشكل بكل صنوف التعابير المجازية والمحسنات البديعية. والبعد الثاني ، ويتمثل بالمعنى الذهني المجرد الذي يترصده المتلقى في النفس من خلال معنى ذلك اللفظ ، فهما ـ إذن ـ شيئان مستقلان ، ليخلصوا من وراء هذا إلى القول بأن هذه الاشكال عارضة متغيرة فهي محدثة. وأن القرآن إنما هو المعنى لاتصاله بذات الخالق ، وذات الخالق قديمة ، فالقرآن ليس بقديم ، لأنه خلاف ذاته تعالى (١). بل هو من خلقه وصنعته ، فهو محدث. إذن : اللفظ والمعنى في القرآن محدثان ، ولا علاقة لهما بالقدم ، وكان هذا بداية للبحث عن الألفاظ مرة ، وعن المعاني مرة أخرى. ثم تبلورت الفكرة أكثر فأكثر فعاد المحفز لها هو القول بإعجاز القرآن ، وأين يكمن هذا الإعجاز ، أفي لفظه ، أم في معناه ، أم في العلاقة القائمة بين اللفظ والمعنى ، فذهب عبد القاهر الجرجاني ـ

__________________

(١) ظ : تفصيل ذلك في : محمد عبد الهادي أبو ريدة ، نصوص فلسفية عربية : ٢١ ـ ٢٣ ، علي سامي النشار ، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام : ١٤٢ ، جابر عصفور ، الصورة الفنية : ٣٨٢.

٩

وهو من أئمة الأشاعرة ـ إلى القول بالعلاقة بينهما ، ومن ثم جرد اللفظ قالباً ، والمعنى ذهناً ، وصهرهما سوية بأحداث عملية الإعجاز من خلال النظم وحسن التأليف ، وكأنه يلمح بل يصرح بأسبقية المعاني في النفس على الألفاظ (١).

ومهما يكن من أمر فإن هذه المعركة قد انتهت بفصل العلاقات بين الفكر واللغة فعادت اللغة رموزاً تحتاج إلى الحل بما اشار إليه عبد القاهر : إن اللغة تجري مجرى العلامات والسمات ، ولا معنى للعلامة أو السمة حتى يحتمل الشيء ما جعلت العلامة دليلاً عليه (٢) ، وعاد الفكر بهذا التقسيم مستقلاً في تصوره المعاني.

ومن هنا نشأت الحاجة إلى الصورة الفنية باعتبارها أداة لها طريقتها الخاصة في عرض المعاني مقترنة بألفاظ ليتفاعل المتلقي للنص الأدبي وهو مرتبط بجزئيه في وقت واحد ، فلا فصل بينهما ولا يتميز أحدهما عن الآخر ، فيكتسب ـ حينذاك ـ العمل الأدبي مناخاً يشعرك بالتئام اللغة والفكر بإطار موحد ينهض بسبب النص وتحديده ، ويلفت الانتباه إلى طبيعة المعنى في عرضه وأسلوبه منسجماً مع سلسلة الألفاظ المشيرة إلى المعاني ، غير منفصل عنها في حال من الأحوال ، وهنا يندفع المتلقي نحو السير وراء الصورة في استكناه العلاقات القائمة بين اللغة والفكرة ، أو اللفظ والمعنى. أو الشكل والمضمون ، ويكون طريق كشف هذه العلاقات هو التنقل في استنباط المعاني من سبل صياغتها في التشبيه والاستعارة والتمثيل والمجاز ، لتقيم الدليل على الذهني بالحسي وتلخص إلى القيمة من خلال الظاهر إلى الواقع ، ومن مجاز القول إلى الحقيقة ، ومن التعبير الاستعاري إلى الأصل الاستعمالي ، ومن النظر في المشبه به لإدراك شأن المشبه ، ومن التمثيل إلى كنه الشيء ، وهذه هي مجموعة العلاقات في التناسب واللحمة التي تبنى عليها أصول الصورة الفنية.

__________________

(١) ظ. في تفصيل ذلك المؤلف : الصورة الأدبية في الشعر الأموي : المعركة بين اللفظ والمعنى : ٢٠ ـ ٣٥.

(٢) الجرجاني ، عبد القاهر ـ أسرار البلاغة : ٣٤٧.

١٠

أما تأثير هذا الكشف في المتلقى ، فيتوقف على المجهود العقلي والفكري الذي يبذله في استخراج الصورة من خلال نظره إلى هذه الخصائص والمميزات.

١١

٢ ـ الصورة في اصطلاح النقاد القدامى (١)

ورد ذكر الصورة وبعض مشتقاتها على ألسنة بعض النقاد القدامى ، وأقدم من وقفنا على قول له في هذا الشأن هو أبو عثمان الجاحظ ( ت ٢٥٥ هـ ) الذي استعمل مادة الصورة في مجال الأدب بهيئة أخرى فقال ـ ( هو يتحدث عن الشعر ) ـ بأنه : ضرب من النسج ، وجنس من التصوير (٢). وكأنه أراد بالتصوير هنا العملية الذهنية التي تصنع الشعر.

إلا أن قدامة بن جعفر ( ت ٣٣٧ هـ ) قد استعملها نصاً ، واعتبرها الهيكل والشكل في مقابل المادة والمضمون ، فقال ـ متحدثاً عن الشعر ـ « معاني بمنزلة المادة الموضوعة ، والشعر فيها كالصورة ، كما يوجد في كل صناعة من أنه لا بدّ فيها من شيء موضوع يقبل تأثير الصور » (٣). فهو ينأى بها عن فهم الجاحظ لها ، فالجاحظ يذهب ـ في حدود فهمنا لكلامه ـ إلى أنها العملية الذهنية التي تهيئ النص الشعري ، بينما يرى قدامة فيها الإطار الخارجي العام لشكل هذا الشعر.

__________________

(١) تحدثنا عن « الصورة الأدبية وأبعادها النقدية » في مدخل رسالتنا للماجستير « الصورة الأدبية في الشعر الأموي » بكثير من التفصيل وكشفنا موقعها من مسألة اللفظ والمعنى ، بما لا مسوغ لإعادته بتفصيلاته المكثفة. وهنا أرى لزاماً عليّ أنألخص بعض ما توصلت إليه هناك : مضيفاً له ما استجد لدي في المصطلح لما تقتضيه الضرورة من الإحاطة بمصطلح الصورة الفنية بين يدي البحث. ( ظ : تفصيل ذلك في : الصورة الأدبية في الشعر الأموي : ١٠/٣٥٠ ـ الصورة الفنية الأدبية في الشعر الأموي : ١٠/٣٥٠ ، الصورة الفنية في المثل القرآني : ٢٥ ـ ٣٨ ).

(٢) الجاحظ : الحيوان : ٣/١٣٢.

(٣) قدامة بن جعفر ، نقد الشعر ، تحد : أ. بونييكر ، ٤.

١٢

وذكر أبو هلال العسكري ( ت ٣٩٥ هـ تقريباً ) الصورة في أقسام التشبيه فجعل من أقسامه : تشبيه الشيء صورة ، وتشبيهه به لوناً وصورة اراد بهما المثال والهيكل.

وجاء عبد القاهر الجرجاني ( ت ٤٧١ هـ ) فأعطى للصورة في المجالات النقدية حلولاً خاصة شرحها بقوله :

واعلم أن قولنا : الصورة إنما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا فما رأينا البينونة بين أحاد الأجناس تكون من جهة الصورة ، فكان بين إنسان من إنسان ، وفرس من فرس ، بخصوصية تكون في صورة هذا لا تكون في صورة ذاك ، وكذلك الأمر في المصنوعات فكان بين خاتم من خاتم ، سواراً من سوار بذلك ، ثم وجدنا بين المعنى في أحد البيتين وبينه في الآخر بينونة في عقولنا وفرقاً ، عبرنا عن ذلك الفرق وتلك البينونة بأن قلنا :

المعنى في هذا صورة غير صورته في ذلك. وليس العبارة عن ذلك بالصورة شيئاً نحن ابتدأناه فينكره منكر ، بل هو مستعمل مشهور في كلام العلماء ، ويكفيك قول الجاحظ :

وإنما الشعر صناعة وضرب من التصوير (١).

واطلق ابن الأثير ( ت ٦٣٧ هـ ) كلمة الصورة على خصوص الأمر المحسوس ، وقابل بينهما وبين المعنى ، فقال ـ وهو يعدد أقسام التشبيه الأربعة : « أما تشبيه معنى بمعنى.. وأما تشبيه صورة بصورة كقوله تعالى : ( وعندهم قاصرات الطرف عين (٤٨) كأنهن بيض مكنون (٤٩) ) (٢) ، وأما تشبيه معنى بصورة كقوله تعالى : ( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة ) (٣) وهذا القسم أبلغ الأقسام الاربعة ، لتمثيله المعاني الموهومة بالصور المشاهدة ، وأما تشبيه صورة بمعنى كقول أبي تمام :

وفتكت بالمال الجزيل وبالعدا

فتك الصبابة بالمحب المغرم

__________________

(١) الجرجاني ، دلائل الإعجاز : ٣٦٥.

(٢) الصافات : ٤٨ ـ ٤٩.

(٣) النور : ٣٩.

١٣

فشبه فتكة المال بالعدا وذلك صورة مرئية ، بفتك الصبابة وهو فتك معنوي ، وهذا القسم الطف الأقسام الأربعة ، لأنه نقل صورة إلى غير صورة (١).

وكان ابن الأثير يعتبر التشبيه التمثيلي في تجسيده المعنويات بالحسيات وتصوير الماديات بالذهنيات ـ طرداً وعكساً ـ هو الصورة المتكونة في العمل الأدبي.

وقد اعتبر التهانوي ( من علماء القرن الثاني عشر الهجري ) الصورة ذات طبيعتين خارجية وذهنية فعد الصورة « ما يتميز به الشيء مطلقاً ، سواء كان في الخارج ويسمى صورة خارجية أو في الذهن ويسمى صورة ذهنية » (٢).

ثم فرق بينهما فأعطى الأهمية للصورة الذهنية ، واعتبر الصورة الخارجية من الأعيان ، فقال : الصورة : ما به يتميز الشيء في الذهن ، فإن الأشياء في الخارج أعيان ، وفي الذهن صور (٣).

ثم حذا حذو عبد القاهر ، واستنار برايه باحثاً عن الفروق والمميزات في حصول صورة الشيء في الذهن لا في تواجدها في الخارج فقال : صورة الشيء ما يؤخذ منه عند جذب الشخصيات ، أي الخارجية ، وأما الذهنية فلا بد منها ، لأن كل ما هو حاصل في العقل فلا بدّ له من تشخيص عقلي ضرورة أنه متمايز عن سائر المعلومات (٤).

هذه أهم النصوص التي لا حظناها عند النقاد والبلاغين القدامى في حديثهم عن الصورة ، ولا بد لنا من الوقوف قليلاً عند استعمالهم هذا ، لرصد مفهوم الصورة ، وبث دلالتها لديهم.

أما قدامة ، فله فضل السبق ـ وتبعه أبو هلال ـ باستعمال الكلمة نصاً

__________________

(١) ابن الأثير : المثل السائر ١/٢٩٧ وما بعدها.

(٢) التهانوي ، كشاف اصطلاحات الفنون : ١/٩١١.

(٣) المصدر نفسه : ١/٩١٢.

(٤) المصدر نفسه : ١/٩١٢.

١٤

دون الجاحظ الذي استعمل المادة في هيئة أخرى ، وهي التصوير فقد اعتبراها أداة للتعبير عن الإطار الخارجي لمثال الشيء وهيئته وصفته ، وقد امتد هذا الاستعمال إلى عصر عبد القادر الذي يقول : تشبيه الشيء بالشيء من جهة الصورة والشكل. أو جمع الصورة واللون (١). يريد بذلك الهيئة والصفة مقابل المادة والجوهر.

وأما ابن الأثير فقد تأثر نسبياً بقدامة ، وجعل الصورة قسيماً للمعنى ، أو في مقابلة أي اعتبرها الشكل ، واعتبر المعنى مادة لهذا الشكل ، وقوم الصورة فرأى تشبيه المعنى بالصورة ابلغ أقسام التشبيه الأربعة ، لتصويره المعنى الوهمي المجرد بالصور المشاهدة عياناً ورأى تشبيه الصورة بالمعنى ألطف الأقسام لأنه تصرف حي ينقل الصورة المحسوسة إلى الصورة المعنوية المتخيلة.

ويبدو أن الصورة في حدود ما عرضوه لا تتعدى ما ذكر لها في مداليل لغوية ، وإن توسع فيه إلى ما يشمل الصورة المتخيلة في أقسام التشبيه ، وإنما ارادوا بذلك الشكل كما أراد ذلك اللغويون ، فهذا ابن سيده ( ت ٤٥٨ هـ ) يقول : « الصورة في الشكل » (٢) وهو يريد بالشكل الهيئة الخارجية التي يتمثل فيها الشيء. وقد تطلق عند اللغويين على الحقيقة والهيئة معاً ، قال ابن الأثير : الصورة ترد في كلام العرب على ظاهرها ، وعلى معنى حقيقة الشيء وهيئته ، وعلى معنى صفته ، يقال صورة الفعل كذا وكذا أي هيئته ، وصورة الأمر كذا وكذا أي صفته (٣).

ولعل عبد القادر الجرجاني هو أول من أعطى للصورة دلالة اصطلاحية وهي تعني لديه الفروق المميزة بين معنى ومعنى ، وشبهها بالفروق التي تميز هيكل إنسان ما عن إنسان ، وخاتم عن خاتم ، وسوار عن سوار ، ولكن هذه الفروق بوقت انطباعها على هيئة الشيء فإنها يستدل بها على حقيقته.

__________________

(١) الجرجاني ، اسرار البلاغة : ٨١.

(٢) ابن منظور ، لسان العرب : ٦/١٤٣.

(٣) المصدر نفسه : ٦/١٤٤.

١٥

وقد وجد عبد القادر في استعماله لهذا الاصطلاح غرابة نظراً نظراً لجدته في مجاله الخاص به ، وخشي أن ينكر عليه النقاد ذلك فتستر بالجاحظ كلمة التصوير لم تكن واضحة تماماً ، إذ التصوير عند الجاحظ ـ كما يبدو من سياق تعبيره ـ لا يتعدى حدود الجهد العقلي أو العملي الذهني في صياغة الشعر ، وهو أجنبي عن مصطلح عبد القاهر الذي استعمله مبتكراً له ومبتدعاً لمدلوله. فالجرجاني بهذا قد أعطى للصورة رؤية جديدة ، وما ذكره دقيق جداً ، فالصورة عنده ليست هي نفس الشيء ، وإنما هي مميزاته المفرقة له عن غيره ، وهذه المميزات قد تكون في الشكل وقد تكون في المضمون ، لأن الصورة مستوعبة لهما ، والنظرة لأحدهما لا بد أن تنعكس على الآخر.

لهذا فإن ما أبداه عبد القاهر ، يصلح أن يكون نواة لما استقر عليه المصطلح النقدي الأصيل للصورة لدى المحدثين. وليس هنا مجال للتفصيل في الاستدلال على صحة هذا الرأي ، لأننا سبق وأن بحثناه في خطوطه العريضة (١) ، إلا أننا سنلمح له في المقارنة كما سيأتي.

وأما ما أبداه التهانوي ، وهو من المتأخرين عن عصر عبد القاهر كثيراً ، فقد ترجم رأي عبد القاهر في استجلاء الفروق والمميزات فيما يحصل في الذهن من معلومات ، هذا لو أراد الصورة في مصطلحها الفني ، أو لو حملنا كلامه على الصورة في اصطلاح الفلاسفة ـ وهي تعني الهيولي في مقابل المادة عند القوم ـ فحديثه لا يعنينا حينئذ ، ويحمل كلامه على ما حمل عليه كلام من سبقه.

__________________

(١) ظ المؤلف : الصورة الأدبية في الشعر الأموي : ٢٠ ـ ٣٥.

١٦

٣ ـ الصورة عند النقاد المحدثين

على الرغم من الاتجاه السائد عند النقاد المعاصرين من العرب والغربيين والمستشرقين في محاولة دراسة الصورة الفنية لأي عمل أدبي ، فإن حقيقة الصورة ما زالت موضع اختلاف لديهم في مجالات التحديد ، ويذهبون بذلك مذاهب هي أقرب إلى الغموض منها إلى الوضوح.

لقد عرف ( فان van ) الصورة بقوله : « الصورة كلام مشحون شحناً قوياً ، يتألف عادة من عناصر محسوسة ، خطوط ، ألوان ، حركة ، ظلال ، تحمل في تضاعيفها فكرة أو عاطفة أي إنها توحي بأكثر من المعنى الظاهر ، وأكثر من انعكاس الواقع الخارجي ، وتؤلف في مجموعها كلاً منسجماً » (١).

وهذا يعني أنها مجموعة العناصر المحسوسة التي ينطوي عليها الكلام ، وتوحي بأكثر مما تحمله من تضاعيف المعنى الظاهر ، وإنها تنحصر في جانبين :

١ ـ الجانب الحسي المرتكز على الفكرة والعاطفة والمشاهدة.

٢ ـ الجانب الإيحائي الذي يضفي على الشكل أكثر من تفسيره الظاهري.

وعرف « بوند » الصورة بأنها « ما ينقل عقدة فكرية أو عاطفية في لحظة زمنية » (٢). فهي عنده الوسيلة التي تعبر في طريقة عرضها من مركب فكري ، أو إحساس عاطفي مرتبطين بلحظة زمنية معينة.

__________________

(١) روز غريب ، تمهيد في النقد الحديث : ١٩٢ وما بعدها.

(٢) إحسان عباس ، فن الشعر : ٩٠.

١٧

ويعرف البعض الصورة بأنها « مشهد أو رسم قوامه الكلمات » (١). فهي عنده لوحة فنية تتضافر على إخراجها الألفاظ ، سواء بمدلولها الحسي ، أم بمدلولها الإيحائي متناسياً أن كثيراً من المشاهد والرسوم تبدو مفتقرة إلى الصورة الفنية وإن تقومت بالكلمات.

ويعبر عنها البعض الآخر بأنها « حركة متصلة في قلب العمل الأدبي تتبصر بها في دوائره ومحاوره ومنعطفاته ، وننتقل بها داخل العمل الأدبي في مستوى تعبيري إلى مستوى تعبيري آخر ، حتى يتكامل لدينا البناء الأدبي كائناً عضوياً حياً (٢).

ولا يخلو هذا التعريف من غرابة وطرافة وإيهام ، لأنه مجموعة من الألفاظ المتشابهة والمعاني المترادفة التي لا نصل معها إلى تحديد ، ولا تكشف لنا عن جديد ، إلا في إرادة التنقل من تعبير حقيقي ـ فيما يبدو ـ الى تعبير استعاري.

ويعتبر الأستاذ أحمد الشايب « الوسائل التي يحاول بها الأديب نقل فكرته وعاطفته معاً إلى قرائه وسامعيه (٣) هي الصورة الفنية » ثم يذكر أن لها معنيين :

الأول : ما يقابل المادة الأدبية ، ويظهر في الخيال والعبارة.

الثاني : ما يقابل الأسلوب ، ويتحقق بالوحدة ، وهي تقوم على الكمال والتأليف والتناسب (٤).

ومقياس الصورة عنده « هو قدرتها على نقل الفكرة والعاطفة بأمانة ودقة ـ فالصورة هي العبارة الخارجية للحالة الداخلية ـ وهذا هو مقياسها الاصيل ، وكذا ما نصفها به من روعة وقوة إنما مرجعه هذا التناسب بينها وبين ما تصور من عقل الكاتب ومزاجه تصويراً دقيقاً خالياً من الجفوة والتعقيد ، فيه

__________________

(١) أحمد نصيف الجابي ، في الرؤية الشعرية المعاصرة : ١١٩.

(٢) محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس ، في الثقافة المصرية : ٥٨.

(٣) أحمد الشايب ، أصول النقد الأدبي : ٢٤٢.

(٤) المصدر نفسه : ٢٥٩.

١٨

روح الأديب وقلبه ، بحيث نقرؤه ، كأنا نحادثه ، ونسمعه كأنا نعامله ».

وهذا القياس ذو أهمية جديرة بالتأمل ، فالصورة من جانب قوة خلاقة قادرة على نقل الفكرة ، وإبراز العاطفة ، وهي الشكل الخارجي المعبر عن الحالة النفسية للمنشئ وعن تفاعله الداخلي ، وهي الضوء الكاشف عن كفاءة المبدع الفنية ، وروحه الشفافة الرقيقة ـ نتيجة لإيجاده الملاءمة بين نقل الفكرة وتعبيرها النفسي أسلوبياً ـ وبها يتميز عقل المتكلم ويحكم عليها بالدقة والإبداع والتطوير دون وساطة أخرى ، وإنما نقرؤه تجسيداً ، ونسمعه تشخيصاً وإدراكاً من خلال هذا التناسب والارتباط الذي حققه في هذا العمل الأدبي أو ذاك ، وهو الصورة. فالصورة عنده إيجاد للملاءمة والتناسب بين الفكر والأسلوب ، أو اللغة والأحاسيس.

ولعل هذا التحديد للصورة في تعريفها ومعناها ورؤية هويتها ومقياسها من أفضل التعاريف الفنية نظراً لما يحمله في تضاعيفه من الوضوح والمرونة والدقة العلمية ، ولأنه جامع مانع كما يقول المناطقة.

ويقول الدكتور داود سلوم « إن امتزاج المعنى والألفاظ والخيال كلها هو الذي يسمى بالصورة الأدبية ، ومن ترابطها وتلاؤمها والنظر إليها مرة واحدة عند نقد النص يقوم التقدير الأدبي السليم » (١).

فمقياس الصورة عند الدكتور داود سلوم يقوم على أساس تجسيد الفكرة العامة للعلاقات الجزئية في النص الأدبي لتشكل كلاً فنياً واحداً.

وتقول روز غريب « الصورة في أبسط وصف لها تعبير عن حالة أو حدث بأجزائهما أو مظاهرهما المحسوسة. هي لوحة مؤلفة من كلمات ، أو مقطوعة وصفية في الظاهر لكنها في التعبير الشعري توحي بأكثر من المظاهر ، وقيمتها ترتكز على طاقتها الإيحائية ، فهي ذات جمال تستمده من اجتماع الخطوط والألوان والحركة ونحو ذلك من عناصر حسية ، وهي ذات قوة إيحائية تفوق قوة الإيقاع لأنها توحي بالفكرة كما توحي بالجو والعاطفة » (٢).

__________________

(١) داود سلوم ، النقد الأدبي : ١/٨١.

(٢) روز غريب ، تمهيد في النقد الحديث : ١٩٠.

١٩

وهذا التعريف ـ في كثير من ابعاده ـ تعريب تقليدي لتعريف « وليم فان » السابق ، وشرح له ، وكشف لدوافعه ، وإن أعوزته جودة التركيب وقوة الصياغة ، ولكنه يشير من طرف خفي إلى البعد الرمزي في الصورة بكونها تعبيراً يوحي بأكثر من الظاهر ، والكاتبة هنا تلاحظ في الجانب الإيحائي قوة تفوق الإيقاع والنغم وصنوف المحسنات البيانية ، ولكنها قد تعارض هذا الرأي الذي نقلته في خطوطه العامة دون إدراك لهذه المعارضة ، فهي تعتبر الصورة تتخطى حدود الاستعارة والمجاز والتشبيه ، وتتعدى الخيال والعاطفة فقد تنشأ عن أصل واقعي بعيد عن الخيال من جهة ، وضروب البيان من جهة أخرى ، وهما الجانب الإيحائي في الصورة والذي أكدته في الرأي نفسه ، ثم تعود للتعبير عنه بقولها :

« الصورة الشعرية لا تنحصر في التشابيه والاستعارات وسواها من ضروب المجاز ، ولكنها كل صورة توحي بأكثر من معناها الظاهر ، ولو جاءت منقولة عن الواقع » (١) متناسية أن الإيحاء بأكثر من المعنى الظاهر لا يتم إلا باللحن ، أو الرمز ، أو التعريض ، أو الكناية ، أو التشبيه أو الاستعارة ، وكلها من ضروب المجاز بمعناه العام.

ويرى الدكتور مصطفى ناصف أن الصورة تستعمل عادة : « للدلالة على كل ما له صلة بالتعبير الحسي ، وتطلق أحياناً ، مرادفة للاستعمال الاستعاري » (٢).

فالصورة عنده ما استدل بها على التعبير الشاخص الذي يوصلنا إلى إدراك حقيقة الشيء من جهة ، وعلى دلالة الكلمة الاستعارية من جهة أخرى ، فالشق الأول من كلامه يعني بإيحاء الصورة ، والثاني يعني بشكلها الخارجي في الدلالات المجازية.

ثم يأتي بعد هذا فيحدد الصورة بأنها :

« منهج ـ فوق المنطق ـ لبيان حقيقة الأشياء » (٣) وهذا التحديد لمفهوم

__________________

(١) المصدر نفسه : ٢٠٣.

(٢) مصطفى ناصف ، الصورة الأدبية : ٣.

(٣) المصدر نفسه : ٨.

٢٠