بوارق القهر في تفسير سورة الدّهر

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني

بوارق القهر في تفسير سورة الدّهر

المؤلف:

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-95245-4-1
الصفحات: ٣٥٦

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله خير الورى

واللعنة على أعدائهم شرّ من على الثرى

ترجمة المفسّر :

كان أبوه ملّا على مدد بن رمضان الساوجى (المتوفّى سنة ١٢٧٠ ق) ، والّذى كان تلميذا لملا احمد النراقي (صاحب معراج السعادة ، المتوفّى سنة ١٢٤٥ ق). انّه كان من علماء كاشان وفضلائها والّف عدّة كتب فى الفقه والأصول.

كان مولد مفسّرنا هذا سنة ١٢٦١ او ١٢٦٢ ق كما تدلّ عليه الدلائل الموجودة في ترجمة ملا حبيب الله.

انّه قام بدراساته فى كاشان ففى طهران ثمّ فى كربلاء ، وقضى برهة من حياته بعد العودة من العتبات فى گلپايگان وصرف حياته الى آخرها فى تدريس بكاشان لما أكبّ الى تأليف الكتب وارشاد الناس (١٢٨٢ ـ ١٣٤٠ ق).

انّه تتلمذ فى حلقة كبار مثل : الحاج سيّد حسين ابن مير محمّد على الكاشاني (المتوفّى سنة ١٢٦٩ ق) والحاج مير محمد على بن سيد محمد الكاشاني (المتوفى سنة ١٢٩٤ ق) والحاج ملا محمد اندرماتى الطهراني (المتوفّى سنة ١٢٨٢ ق) وميرزا ابو القاسم كلانتر (المتوفّى سنة ١٢٩٢ ق) والشيخ محمد بن

٥

محمد العلى (ابن اخت صاحب الفصول) والحاج ملا هادى الطهراني (المتوفّى سنة ١٢٩٥ ق) والشيخ حسين بن محمد إسماعيل الأردكاني المعروف بالفاضل الأردكاني (المتوفّى سنة ١٣٠٢ او ١٣٠٥ ق) وملا زين العابدين گلپايگانى (المتوفى سنة ١٢٨٩ ق) والحاج ملا عبد الهادي الطهراني. كان نتاج جهوده فى مجال التعليم والتأليف انّه ربّى تلاميذ عدّة كما ترك اكثر من ٢٠٠ تأليف فى مجالات الفقه والأصول والحديث والأدب والمنطق والعقائد والعرفان والتفسير والتراجم والعلوم الغريبة. (١)

ففى الختام نشكر لحفيده الماجد حجة الإسلام حسين الشريف والذي وضع بين أيدينا المخطوطات الاصلية لهذه الكتب. وآخر دعوانا عن الحمد لله ربّ العالمين.

حسين درگاهى

__________________

(١) ومن يريد التفصيل يمكنه المراجعة الى هذه المصادر :

مجلّة نور علم ، عدد ٥٤ ، صص ٢٣ ـ ٦٧ ، المقالة التحقيقية لحجّة الإسلام والمسلمين رضا الاستادى ؛ لباب الألباب فى القاب الاطياب فى ترجمه علماء كاشان للمؤلف نفسه ؛ ريحانة الأدب ، ج ٥ ، صص ١٨ ـ ١٩ ؛ معجم لغات دهخدا تحت مدخل «حبيب الله بن على مدد» ، او تحت عنوان «الكاشاني» ؛ عقايد الايمان فى شرح دعاء العديلة ، للمؤلف نفسه ، مطبعة بصيرتى بقم ، ١٣٦٩ ، المقدّمة ؛ منتقد المنافع ، للمؤلف نفسه ، ج ٤ ، طبع سنة ١٣٦٤ ش ، فى مقدمة تسمّى بـ «العقول النافع فى ترجمة صاحب منتقد المنافع ؛ ترجمة ملا حبيب الله الشريف الكاشاني ، لعلى الشريف (من أحفاد المؤلف) ؛ ذريعة الاستغناء فى تحقيق مسئلة الغناء ، للمؤلف ، طبع فى مركز احياء آثار الملا حبيب الله الشريف الكاشاني فقيه فرزانه ، عبد الله موحد ، مكتبة التبليغات الاسلامية فى حوزة قم العلميّة ، ١٣٧٦.

٦

هذه هي الرسالة المسمّاة بـ «بوارق القهر في تفسير سورة الدهر».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

شهدت نفسي لنفسي ولكلّ شيء بأنّ الله لا اله الّا هو ربّي وربّ كلّ شيء ، لمعت نورانيّة شموس مشيّته في سرّ كينونيّة كلّ شيء ، فدلّت شرائف النفوس في الليل الأليل إلى شعاشع نجوم حقائق العرفان ، حتّى استعدّت لسماع ألحان طيور البقاء ، في سدر شجرة السّيناء ، في روض رياض بساتين البيان ، فبادت نفس لم تحترق بتو قّدات نيران جذبتك ، في أخاديد محبّتك ، وعميت عين ما قرّت بسواطع أنوار هويّتك ، في تطوّرات تجلّياتك ، في دقائق القرآن ، الّذي أنزلته على محمّد عبدك ، الّذي اصطفيته وشرّفته واجتبيته وفضّلته على كلّ شيء ، فجعلت روحه نسخة أحديّتك في أزل الأزمان ، وعلى آله تفاسير أسرار الفرقان ، والتراجمة لمجمع بيان جوامع الإيمان.

أمّا بعد ؛ فيقول العبد المفتقر إلى الله الراجي حبيب الله بن عليّ مدد الساوجيّ : إنّ ممّا وفّقني الله ربّي جلّت جلالته في شهر ربيع الأوّل في سنة ١٢٧٨ في مقامي هذا بين يدي حضرته ما أسطرته في تلك الوريقات

٧

الشريفة ؛ من كشف ما عسى أن يستطيع العارفون دركه بعد بياني إيّاه في تفسيري لسورة الدهر ، تفسيرا يلتذّ من مطالعته الشائقون إلى مشاهدة أنوار الوارد ؛ التذاذ العطشان في الهاجرة من الماء البارد.

وكثيرا ما نورد في مطاويه من التأويلات ما لا يساعده صحاح الروايات ، فيظنّ أنّا ممّن فسّر القرآن بالرأي ، وحرم عن جميل السعي ، حاشاي عن مثله ، وأنا لم أزل مقتفيا آثار أهل بيت العصمة عليهم السلام ، ولكن دعاني إلى ذلك افتخار أهل البدعة بأنّ أمثال هذه العنديّات ، من أسرار الواردات ، لكلّ أحد وليست من الأسرار الخبيّات ، وقد سمّيته بـ «بوارق القهر في تفسير سورة الدهر» فأقول :

قال الله بهرت آياته :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً).

أقول ؛ وما توفيقي إلّا بالله ما استطعت : قد كشفنا قناع السرّ عن محيّا ما يتعلّق بـ «البسملة» في بعض فوائدنا القديمة كـ «تفسير الحمد» و «شرح الصباح» وغير هما ممّا يهدي مطالعه إلى شريعة النجاح ، فلا حاجة إلى إعادة الإيضاح ؛ سيّما بعد ما جرت عادتنا على بيان ما هو الأهمّ من حقائق الأمور ، وطوي الكشح عمّا يستغني عن سماعه المجذوبون إلى ساحة النور ، بجذبات نار الطور ، الموقدة في أفئدة أهل السرور.

فنقول لمن استمع بسمع الفطرة عن ذاته : لقد أخبر الله تعالى عن رتبة الإنسان بأحسن البيان ، حيث نفى مسبوقيّته لكلّ ما عداه ، حتّى الزمان الّذي

٨

هو الميزان لمعاني بعض الأمور ، الّتي منها الأوّليّة والآخريّة المصطلحتين ، وأثبت سابقيّته وعلّيّته على كلّ شيء ، ولكلّ شيء ، بألطف إشارة لا يدركها إلّا الصافّون ، حيث ابتدأ بالاستفهام على وجه الاستعظام ، ونوع من الإنكار يشتمل على التلطّف والإنعام.

فظاهر الكلام على صورة الاستفهام ، والمراد النفي تجوّزا في ذلك المقام ، وذلك مطّرد في فصيح الكلام ؛ كما في قوله : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) (١).

وتلك الكلمة بإجمالها وافية لما أردنا استنباطه من الآية الشريفة ، ولكن فلا بأس بتفصيل ما أجملناه فيما سطرناه ، ليفوز الكلّ بما بذلناه.

فنقول : اعرف أيّها الطالب لفهم الأسرار من أولي الأبصار أنّ الله عزّت هويّته لمّا كان في الأزل موصوفا بمراتب الكمال بنوع من الموصوفيّة لا يلزم معه شيء من النقص كالتعدّد والحاجة ، فإنّ عينيّة الصفات للذات ترفع الاستبعاد عن جميع الجهات ، إلّا أنّنا ـ نحن أهل الحقيقة ـ مع تلك الغاية لا ندرك لتلك العينيّة كيفيّة ، ولا لحقيقتها حيثيّة ؛ فضلا عن الّذين لم يشمّوا روائح فيض الله أصلا ، بل درك ذلك المقام خاصّ بذاته تعالى ، فلا يعرفه أحد سواه ، وكان محتجبا في سرادقات سواذج العزّ ، ومتقنّعا بسرابيل العظمة الأزليّة ، ومتجلّلا بالوحدة الحقيقيّة الذاتيّة ؛ بحيث كان بكون مغاير لكون كلّ كائن كوّن في عالم الظهور ، وإلّا لزم الاشتراك.

وبرهان بطلانه واضح عند أهل التوحيد ، ولم يكن معه شيء ، ولم

__________________

(١) آل عمران : ١٣٥.

٩

يشارك أزليّته شيء ، وإلّا لزم تعدّد الآلهة المتأزّلات ، وإبطاله غير مفتقر إلى النفي والإثبات ، و «احبّ أن يعرف» بمعنى أن يطّلع غيره من مراتب الخلق على أنّه تعالى بكيفوفيّة لا يدركها إلّا هو ، وبحيثوثيّة لا يعرفها إلّا هو.

فمعنى قوله : «فخلقت الخلق لكي أعرف» (١) أنّي بدعتهم لكي يعرفوا أنّي أنا الله الّذي تقدّست هويّتي عن أن يعرفها شيء سواي ، وتجلّلت كينونيّتي عن أن يطّلع عليها شيء غيري ، فيشهدوا لي بالألوهيّة ، ويخلصوا لي العبادة ؛ مخلصين لي الدين ، لا يشركون بي شيئا.

لا بمعنى أن يطّلع غيره على هويّته المطلقة البحتة المبرّاة عن جميع القيود والاعتبارات ، والمعرّاة عن كلّ الإشارات والعبارات ، فإنّه تعالى لو كان بحيث عرفه شيء لكان محاطا لذلك الشيء ، وذلك الشيء محيطا ، والمحاط عليه لا يصلح لأن يكون إلها لما هو المحيط عليه.

ولا ريب أنّ المحاطيّة نقص بيّن ، لأنّها نوع من الانفعال ، فلا يمكن إدراك ذات الحقّ وصفاته الذاتيّة الّتي هي عينه ، ولذا نهينا عن التفكّر فيه ، وحذّرنا عن التعمّق فيه ؛ كما قال تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٢).

وقال صلّى الله عليه وآله : لا تفكّروا في ذات الله فإنّكم لن تقدّروا قدره (٣).

__________________

(١) انظر : بحار الأنوار ٨٤ : ١٩٨ ، ٣٤٤.

(٢) آل عمران : ٣٠.

(٣) جاء في مجموعة ورّام ١ : ٢٥٠ هكذا : فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله : تفكّروا في خلق الله ، ولا تفكّروا في الله ، فإنّكم لن تقدّروا قدره.

١٠

وقال صلّى الله عليه وآله : إنّ الله احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار ، وإنّ الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم (١).

وأمثال ذلك أكثر من الرمل والحصى ؛ كما لا يخفى على المتتبّع في كلمات آل الله ، وذلك هو السرّ في إعراض الكليم عليه السلام عن بيان الحقيقة لمّا قال فرعون : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) (٢) سائلا عن الحقيقة ، فإنّ «ما» إنّما هي للسؤال عن هويّة الشيء ؛ كما بيّن في محلّه.

من گدا وتمنّاى وصل او هيهات

مگر به خواب ببينم خيال منظر دوست

وأمّا ما روي عن عليّ عليه السلام من أنّه قال : فعرفته وعبدته ولم أعبد ربّا لم أره (٣). فمؤوّل بما عرفت ؛ أي لمّا تحقّق لي أنّه بحيث لا يمكن لشيء أن يحيط به ، عرفت أن ليس سواه الّذي هو المحيط به مستحقّا لأن أتذلّل له بالعبوديّة.

أو بأنّ المراد : المشيّة الأزليّة ؛ كما ستأتي إليه الإشارة.

ولا بمعنى أنّه يظهر في المجالي الممكنة ، والمرائي المحدثة بصفاته الكماليّة ، فالأشياء كلّها متجلّى الحقّ ، وفيها ظلال صفاته الحسنى ، وأمثال أسمائه العليا ، فللحقّ في كلّ الخلق ظهور خاصّ يعرفه العارف به ، ويطّلع عليه كما يعرف الشيء بالظلّ. وذلك مذهب بعض الصوفيّة.

__________________

(١) بحار الأنوار ٦٩ : ٢٩٢.

(٢) الشعراء : ٢٣.

(٣) الكافي ١ : ٩٧ ، ١٣٨ وفيه : ما كنت أعبد ربّا لم أره.

١١

ويردّه ما عرفت من أنّ الحقّ كان محتجبا في الأزل بجميع الوجوه ، والآن كذلك محتجب عن كلّ شيء كما كان في الأزل بلا تفاوت وتغيير.

ولا بمعنى أنّه يصير عين الأشياء وحقيقتها ، فالعارف بحقائق الأشياء عارف بذات الحقّ وهويّته بما هو عليه ؛ كما هو مذهب بعض آخر من تلك الطائفة.

وفساده أوضح من أن يبيّن ، ولقد فصّلنا الكلام في ذلك في بعض فوائدنا الشريفة.

أبدع المشيّة بنفسها (١) من نفسها لنفسها في نفسها ، بمعنى أنّه تعالى ما أبدعها بواسطة علّة هي غيرها من الخلق ، بل كان العلّة لوجودها : الحقّ تعالى بلا واسطة ، بمعنى أنّها كانت أوّل صادر منه تعالى ، لم يتخلّل بينهما شيء ، ولم يسبق عليهما شيء سوى الحقّ.

فما تصوّره أوّلا لا بتلك الصفة فهو غير المشيّة ، فإنّها أوّل كلّ أوّل يتصوّره المتصوّر ، فليس لها علّة سوى الباري تعالى من مراتب الخلق حتّى تكون هي الواسط بين الحقّ وبينها ، بل ما تجعله واسطا بين الحقّ والخلق بحيث لا ترى بعد عالم الحقّ إلّا عالمه هو عالم المشيّة خاصّة ، وما كان ذلك السبق إلّا بقضيّة كانت في نفس المشيّة في الأزل ، أي في عالم الثوابت الأزليّة لكمال قربها من الحقّ بحيث لم يكن شيء أقرب إليه ذاتا منها ، فكانت نفسها مقتضية لوجود نفسها ، فهي منها مخلوقة ، وبها مبدعة لا من غيرها وبغيرها ، وإلّا لكان ذلك الغير سابقا عليه بإحدى الحيثيّات.

__________________

(١) قولنا : أبدع المشيّة ، جواب لقولنا : لمّا كان في الأزل. منه رحمه الله.

١٢

وبطلانه من البديهيّات. وذلك معنى قوله : خلق المشيّة بنفسها ... (١) إلى آخره قطعا.

وقوله تعالى : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) (٢) ظاهر ؛ وما قلت :

از اقتضاى ذات خود نور خدا پيداستى

اين شعشعان ساذجى در منظر اعلاستى

نور مشيّت در ازل از خود نمودار آمده

در ساذج بازار حق خود را خريدار آمده

لا تتوهمنّ ممّا سطرناه غناء المشيّة عن العلّة مطلقا كغناء الحقّ تعالى ، وإلّا يلزم كونها مستقلّة بذاتها من جميع الجهات ، غير مفتقرة إلى الغير أصلا.

وذلك خاصّ بالهويّة المطلقة الغنيّة عن كلّ شيء ، فلو كانت المشيّة بهذه المثابة لزم التعدّد المنفيّ عقلا وشرعا.

فالمراد بكونها غنيّة عن العلّة غناؤها عمّا تحتها من مراتب الخلق الإمكانيّ ، لا عمّا فوقها من عالم الوجوب الذاتيّ ، فإنّها في مقامها الّذي هي فيه محتاجة إلى إفاضات الحقّ غاية الاحتياج في جميع الأحوال والأطوار ؛ كما قال تعالى : (أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) ... (٣) إلى آخره. ولكن نحن لا ندرك كيفيّة إفاضة الحقّ إلى المشيّة التّي هي عبارة عن الحقيقة القدسيّة المحمّديّة

__________________

(١) الكافي : ١ : ١١٠.

(٢) النور : ٣٥.

(٣) فاطر : ١٥.

١٣

المخلوقة قبل كلّ شيء.

فمن كان معتقده أنّ المشيّة غير مفتقرة إلى علّة الوجود ، بل خلقت نفسها نفسها من غير أن يكون لها خالق سوى نفسها ، فقد كفر وأشرك ، بل لا معنى للخلق مع ذلك ، لأنّه الإحداث بعد العدم ، والمستقلّ الكذائيّ لا بدّ من كونه أزليّا بحتا ؛ كما ثبت في محلّه.

ثمّ لا ينبغي أن يبقى الريب بعد ذلك التقرير من أنّ المشيّة هي أوّل كلّ شيء ، في أنّ المراد بالأوّليّة هي الأوّليّة الذاتيّة القائمة بنفسها ؛ كأوليّة الكاتب بالنسبة إلى الكتابة ، والأبيض بالنسبة إلى البياض ، فإنّ الكتابة قائمة بالكاتب ، ولا عكس ، والبياض بالأبيض كذلك ، لا الأوّليّة الزمانيّة بحيث لو لم يكن الزمان لم يكن أوليّة ، لأنّ الزمان أيضا من جملة الأشياء فيجب سبق المشيّة عليه كسبقها على غيره ، لما مرّ من أنّه لم يكن بين الهويّة المطلقة وبين المشيّة التي هي الملكوت النفسانيّة واسطة ، بل كانت هي الواسطة بين الحقّ وبين الحوادث التي منها الزمان ، فهو أيضا ممّا خلق بالمشيّة ، ويرادفه «الحين» وهو من أجزاء سلسلة الدهر الممتدّة المتّصلة.

فإنّ الدهر عبارة عن مدّة بقاء المشيّة بنفسها ، ويسمّى ابتداء تلك المدّة بـ «الأزل اللاحق» لتأخّره عن «أزل الحقّ» تعالى.

فمجموع عالم الإمكان مطلقا هو «الدهر» ومدّة التغيير لشيء في ذلك العالم هو «الزمان» و «الحين» وأوّل حدوث الدهر بحيث لا سابق عليه سوى عالم الحقّ هو عالم المشيّة ، والمراد به مبدأ الدهر واحد.

فمعنى الآية : إنّه ما أتى على المشيّة حين من أجزاء الدهر لم تكن

١٤

المشيّة فيه مذكورة ، بل كانت مذكورة في جميع الأحيان ، قبل كلّ شيء ، وبعد كلّ شيء ، ومع كلّ شيء ، وفي كلّ شيء بذكر مناسب لمقامها في تطوّراتها وتظهّراتها وترقّياتها ، وسمّاها بـ «الإنسان» لأنسها بالحقّ ، وكمال قربها منه ، بجهتها العليا التي هي جهة التوحيد ، ألا ترى كيف فسّر «الإنسان» في «سورة الرحمن» بمحمّد صلّى الله عليه وآله الّذي حقيقته حقيقة المشيّة الأزليّة وهويّته هويتها.

هذا إذا فسّرنا «هل» بما عرفت ، وأمّا لو جعلناها بمعنى «قد» التقريريّة ؛ كما هو المصرّح به في كلام جماعة من المفسّرين مدّعين عليه الاتّفاق ؛ كما في «سورة الغاشية» فليس المراد نفي شيئيّة المشيّة في حين من الدهر ، لما عرفت.

بل المراد نفي مذكوريّتها بالذكر العنصريّ الجسمانيّ ؛ كما في عصر محمّد صلّى الله عليه وآله الّذي برزت المشيّة فيه في هيكله صلّى الله عليه وآله بما هي عليه من الترقّيات والتعرّجات ؛ كما قال تعالى : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) ... (١) إلى آخره ، لا بالذكر الروحانيّ الأزليّ ، فإنّها كانت مذكورة في الأزل بما عرفت لا محالة ذكرا كثيرا بحيث سمّيت لأجل تلك الكثرة بـ «الذكر» كما لا يخفى.

هذا ما خطر على قلبي من تفسير الآية بإمداد حضرة الحقّ جلّ شأنه ؛ فاغتنمه وكن من الشاكرين.

وللناس في الآية تفاسير أخرى مع اتّفاقهم على أنّ «هل» بمعنى «قد».

__________________

(١) الشرح : ٤.

١٥

منها : أنّ المراد بـ «الإنسان» هو آدم الظاهر أبو البشر ، فإنّه لقد أتى عليه حين لم يكن مذكورا فيه بالوجود أصلا ، ثمّ وجد ، فلم يكن قبل ذلك شيئا مذكورا ، وإطلاق «الإنسان» بالنظر إلى الفعل ، أي الإنسان الّذي هو إنسان الآن ونحو ذلك الإطلاق كثير.

ومنها : أنّ المراد به هو أيضا ، فإنّه مكث أربعين سنة طينا لم يكن شيئا مذكورا لا في السماء ولا في الأرض ، بذكر الحياة والنبوّة ، بل كان جسدا ملقى من الطين قبل أن ينفخ فيه الروح ، وللوصف على ذلك المفهوم ؛ كما قال أبو جعفر عليه السلام : كان شيئا ولم يكن مذكورا (١).

وإطلاق لفظ «الإنسان» عليه قبل النفخ مجاز باعتبار ما يؤول إليه من قبيل إطلاق الخمر على العصير بذلك الاعتبار.

ومنها : أنّ المراد الجنس ، فالحين الّذي لم يكن فيه شيئا مذكورا هو قبل الولادة ، فإنّه كان حينئذ بحيث لا يعرف ولا يذكر ولا يدري من هو ، وما يراد به ، وكان معدوما فوجد في صلب أبيه ، ثمّ في رحم أمّه إلى وقت الولادة.

هذا إذا لم يعتبر الوصف ، وإلّا فالمراد بذلك الحين هو حين كونه في الصلب أو الرحم خاصّة ، فإنّه كان شيئا ولكن غير مذكور بالحياة.

ومنها : أنّ المراد بـ «الإنسان» العلماء ؛ نظرا إلى كونهم من أفراده الشائعة ، وذلك لأنّهم كانوا لا يذكرون بين الناس ، فصيّرهم الله بالعلم مذكورين بين الخاصّ والعامّ في حياتهم وبعد مماتهم.

ومنها : أنّ المراد به جميع الأنبياء والأولياء ، فإنّه لقد أتى على كلّ واحد

__________________

(١) بحار الأنوار ٥ : ١٢٠.

١٦

حين لم يكونوا فيه مذكورين بالنبوّة والولاية ، قضيّة للحكمة والمصلحة.

ومنها : أنّ المراد به الحقائق الثابتة ، وهي الأعيان الأزليّة القديمة المحفوظة في لوح علم الحقّ القديم ، فإنّ للأشياء صورا علميّة ، أي ثابتة في العلم ثبوت المعلوم في العالم ؛ كما هو مذهب بعض الحكماء ، أي لقد أتى على الإنسان حين لم يكن فيه شيئا يذكر بالوجود الحسّيّ الإمكانيّ ، وذلك الحين هو مدّة ثبوته في علم الحقّ من غير أن يكون له وجود زائد ، وليس فيه نفي شيئيّته ، بل نفي وجوده ، لاعتبار مفهوم الوصف في المقام بما يدلّ عليه من الأخبار ؛ كما روي عن الصادق عليه السلام أنّه قال في تفسير الآية :

كان شيئا مقدورا ولم يكن مكوّنا (١).

وعنهما عليهما السلام : كان مذكورا في العلم ، ولم يكن مذكورا في الخلق (٢). انتهى.

ومن ذلك التقرير يظهر أنّ الأشياء الممكنة الوجود ليست قبل ذلك الوجود معدومة صرفة محضة ، بل لها نوع ثبوت.

ولذا قال بعض الصوفيّة : إنّ تلك الأشياء لو لم تكن ثابتة في الأزل لما كانت موجودة في عالم الخلق ، فثبوتها قد أعدّها لذلك الوجود ، فإنّ المعدوم الصرف لا يصلح لأن يصبغ بصبغ الوجود ، كما أنّ الموجود الصرف لا يطرأ عليه العدم. وتفصيل تلك المقالة مسطور في كتب الحكمة.

ويظهر أيضا : أنّ المعدوم يصلح لتعلّق العلم به وكونه معلوما. وخالف في ذلك بعض الحكماء.

__________________

(١) في البحار ٦٠ : ٣٢٨ كان شيئا مقدّرا ... إلى آخره.

(٢) بحار الأنوار ٦٠ : ٣٢٨.

١٧

وبرهانه غير واضح ، والتفصيل في مقامه لائح.

ويظهر أيضا : صحّة إطلاق الشيء على ما لا يطلق عليه الموجود ، فما في كلام الحكماء من أنّ الشيئيّة مساوقة للوجود ، أي مرادفة له بحيث لا يكون بشيء إلّا وهو موجود وبالعكس ، فموهون بما عرفت.

مضافا إلى أنّ الاستعمال ، شاهد على ذلك المقال.

ألا تراهم يقولون «واجب الوجود» ولا يقولون «واجب الشيئيّة» وهكذا.

ويقولون «وجود الماهيّة من الفاعل» ولا يقولون «شيئيّتها منه».

وألا تراهم يقولون «وجود الشيء» بالإضافة ، فلو كانا مرادفين لما صحّ الإضافة ؛ كما بيّن في النحو ، وصحّ التوصيف ، وهو غير مستعمل. فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّهم قد يقولون : إنّ المعدوم الممكن شيء ، فلا ينبغي أن يتوهّم أنّ مرادهم ما قلناه من صحّة إطلاق اللفظ وجواز التسمية بتفصيل قد عرفته ، فإنّه لا نزاع فيه ظاهرا ؛ كما ادّعاه جماعة.

ولذا فسّر كلمة الحكماء المتقدّمة بغير ما ذكر جماعة من المحقّقين ، وهو كذلك ، بل مرادهم أنّ المعدوم الممكن ثابت متقرّر في الخارج ، منفكّا عن صفة الوجود ، فالثبوت على ذلك أعمّ من الوجود كالشيئيّة.

وأمّا المعدوم الممتنع فليسوا قائلين بثبوته ، بل يقولون إنّه منفيّ ، فالعدم عندهم أعمّ من النفي ، والآية الشريفة دالّة على دعواهم إن اعتبرنا الوصف ؛ كما هو الظاهر بضميمة الرواية.

وإلّا فلا دلالة فيها عليها أصلا ، بل على خلافها ، وهو عدم ثبوت المعدوم ، لصرف النفي حينئذ إلى المقيّد لا إلى القيد خاصّة. وهو مذهب المعظم من الحكماء.

١٨

وجعل جماعة منهم هذه الدعوى بديهيّة ، وأعرض عن ذكر الدليل لها.

والقائلون بنظريّتها استدلّوا بأنّ المعدوم لو كان ثابتا لا متنع تأثير القدرة في شيء من الممكنات ، لأنّ التأثير :

إمّا في نفس الذات ، وهي أزليّة ، والقدرة غير مؤثّرة في الأزليّ.

وإمّا في الوجود ، وهو ليس بموجود ولا معدوم حتّى يتصوّر تعلّق القدرة به.

وإمّا في اتّصاف المهيّة بالوجود وهو منتف في الخارج ؛ كما هو المفروض.

وفيه نظر ، لأنّا نحن قائلون بأنّ الذات الأزليّ تعالى لا يؤثّر في الذوات الثابتة ، بل يصبغها بصبغ الوجود ، وإلّا لزم الجبر المنفيّ شرعا وعقلا.

ولقد برهنّا على ذلك في مقامه ، وفصّلنا الكلام في شرحنا على «دعاء كميل بن زياد رحمه الله» فمن يرجو الاطّلاع فليرجع إليه.

وقد يستدلّ أيضا بأنّها لو كانت ثابتة لزم تناهيها ، لأنّ ما دلّ على امتناع التسلسل جار هنا ، واللازم باطل ، لاتّفاقهم على أنّ الثابتات في علم الحقّ غير متناهية ، وإلّا لزم تناهي العلم ، وهو باطل.

وفيه نظر ، لتحقّق الفرق بين الثابتات الكذائيّة والموجودات الخارجيّة الصرفة ، والبرهان جار في الأخيرة خاصّة.

سلّمنا بطلان القول بعدم التناهي ، ولكنّه لا ينافي القول بالثبوت ، ولذلك قيل : إنّ الغرض من هذا الوجه هو بيان مناقضة بعض أحكامهم لبعض. فليتأمّل.

١٩

واستدلّ أيضا بأنّ المعدوم هو المعروض للعدم الّذي هو النفي ، فالمعدوم موصوف بصفة النفي وهو مقابل للثبوت.

فإذا قلت : المعدوم ثابت ، فكأنّما قلت : المنفيّ ثابت ، فيلزم التناقض.

وفيه ما لا يخفى ، لأنّ القائلين بالثبوت يجعلون النفي أخصّ من العدم ؛ كما عرفت.

واستدلّ أيضا بأنّها لو كانت ثابتة لزم كونها قديمة واجبة ؛ إذ المفروض أنّ ثبوتها ليس من غيرها ، واللازم

باطل ، لاستلزامه تعدّد الواجب القديم.

وفيه نظر ، لأنّ من خواصّ الواجب استغناءه عن الغير في الوجود ، ولا ريب أنّ الممكنات محتاجة إلى إفاضة الوجود من الحقّ وإن لم تكن محتاجة إلى الحقّ في التذويت والتشيئة كما بيّن في محلّه ، وبرهن عليه في مقامه.

وبطلان تعدّد القديم الّذي ليس بواجب لا دليل عليه أصلا ، فإنّ أدلّة بطلان تعدّد القدماء جارية في الواجب خاصّة.

وقد يستدلّ عليه أيضا بوجوه أخرى ، والإعراض عن ذكرها لوهنها أحرى.

وكذا المعتزلة القائلون بالثبوت لقد استدلّوا على دعواهم بما هو المشهور ، وتفصيله في كتب الكلام مسطور.

ومنها : أنّ المراد به النفس الناطقة الإنسانيّة ، فالآية دالّة على قدمها الحكميّ الّذي قد يعبّرون عنه بالقدم الزمانيّ ؛ إن جعلنا «هل» بمعنى «ما» النافية ، أو صرفنا النفي إلى القيد وفسّرناه بالذكر العنصريّ الجسمانيّ.

وقد يستدلّ على ذلك أيضا بما روي من أنّ الأرواح خلقت قبل

٢٠