مناظرات المستبصرين

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات المستبصرين

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات ذوي القربى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٩

فردَّ عليه قائلا : لا أذكر.

فقال الشيخ : أتخاف أن تكشف عقيدتك.

وفي هذه اللحظة طلبت من الوهابي أن أجيب أنا على هذا السؤال ، ولكنه رفض ، وقال : لماذا لا يجيب هو؟

فقال الطالب : الأسود العنسي.

فقال الشيخ : فيك الخير سمِّ واحداً غيره.

فقلت لصديقنا : قل : لا أعلم ، وبعد إصرار منّي سمح الوهابي لي بالإجابة على هذا السؤال.

فقلت : إن القضية لا تثبت موضوعها ، ونقاشنا الآن في مجمل القضيّة ، وهي : هل كان هناك ارتداد بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

وقد أثبتت ذلك الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة ، فقد أثبت القرآن وجود المنافقين ، ولم يذكر أسماءهم ، وذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك ولم يحدّد أسماءهم ، فكيف تطالبني بشيء سكت عنه الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونحن نلتزم بقولهم ، فعندما يقول تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ) (١) فنقول نحن كما قال الله سبحانه وتعالى : إنّ بعض الصحابة انقلبوا ، وهم الأكثريّة ، ولا نزيد على ذلك ، وكذلك نقول عندما يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما جاء في البخاري ومسلم.

روى البخاري في تفسير سورة المائدة ، باب ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ) وتفسير سورة الأنبياء ، كما رواه الترمذي في أبواب صفة القيامة ، باب ما

__________________

١ ـ سورة آل عمران ، الآية : ١٤٤.

٤٢١

جاء في شأن الحشر ، وتفسير سورة طه : ( وإنه يجاء برجال من أمتي ، فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول : يا ربّ! أصحابي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول كما قال العبد الصالح : ( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) (١) ، فيقال : إنّ هؤلاء لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم ، مذ فارقتهم ) (٢).

وروى البخاري في كتاب الدعوات ، باب الحوض ، وابن ماجة في كتاب المناسك ، باب الخطبة يوم النحر ، كما أورده أحمد بن حنبل بطرق متعدّدة : ( ليردنّ عليَّ ناس من أصحابي الحوض ، حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني ، فأقول : أصحابي ، فيقال : لا تدري ما أحدثوا بعدك ) كما رواه مسلم أيضاً في كتاب الفضائل ، باب إثبات حوض نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الحديث أربعين (٣).

وهنا قاطعني الوهابي قائلا : إنّ سؤالي محدّد ، فما رأيك مثلا في السيِّدة عائشة؟

قلت: أنا وأنت لم نزامن السيِّدة عائشة ، وكل ما نعرفه عنها هو عبر مصادر التاريخ ، وأنا مستعدٌّ أن نجمع كل المصادر ونبحث في شخصيتها ، ومانخرج منه من البحث النزيه يكون ملزماً لنا ، فالسؤال في هذه الأمور لا يجاب عنه ارتجالا.

فقال الوهابي : هكذا دائماً يراوغ الشيعة ، ويستخدمون التقيّة في إخفاء

__________________

١ ـ سورة المائدة ، الآية : ١١٧.

٢ ـ صحيح البخاري : ٤/١١٠ و٥/١٩١ ـ ١٩٢ ، صحيح مسلم : ٨/١٥٧ ، مسند أحمد ابن حنبل : ١/٢٣٥.

٣ ـ صحيح البخاري : ٧/٢٠٧ ، سنن ابن ماجة : ٢/١٠١٦ ، مسند أحمد بن حنبل : ١/٤٣٩ ، صحيح مسلم : ٧/٧٠ ـ ٧١.

٤٢٢

عقائدهم ، فإنهم يكفّرون الصحابة ومن بينهم أبو بكر وعمر ، ويكفّرون أمّهات المؤمنين ، وهنا تعالت الأصوات بالصراخ من قبل الوهابيَّة الجلوس ، تندّد بالشيّعة وتصرّح بكفرهم.

وبعد أن توتَّر الجوُّ فضَّلنا الانسحاب ؛ لأنه لا يسمح بالحوار والبرهان.

أحداث يوم الجمعة والحوار في التوحيد والتوسل

وهو يوم اللقاء الثاني مع الوهابيّة ، وكان برنامجهم المعدّ في هذا اليوم ركن النقاش بعنوان ( هذا أو الطوفان ).

بعد انتشار أنباء يوم الخميس ، والهزيمة النكراء التي أثبتت ضحالتهم الفكريّة ، اكتظَّ المكان بالروّاد ، حتى من بعض المدن المجاورة ، لأنّ موضوع الشيعة أصبح الحدث الفريد الذي كسب اهتمامات الناس ، ومن الطريف في هذا المقام أنّ كثيراً من النّاس في بادئ الأمر كانوا يتوقَّعون أن الشيعة سوف يهربون من المناقشة والمواجهة ، ولكن بعد يوم الخميس انعكست الصورة ، فكان الكثير يراهن على أنّ الوهابيَّة سوف ينسحبون من يوم الجمعة.

بدأ ركن النقاش بآيات من الذكر الحكيم ، ثمَّ بدأ الوهابي حديثه ، وهو أيضاً مستعار من مدينة ( مدني ) ومتخصّص في إدارة أركان النقاش ، كما يقول هو عن نفسه أنه عشر سنوات خلف لاقطة الصوت من ركن إلى ركن ، وهذا إن دلّ إنما يدلّ على عظيم الفجيعة التي ألمَّت بالوهابيَّة مما جعلهم يرسلون استغاثاتهم إلى جنوب الخرطوم.

حديث المُحاضر في التوسل وزيارة القبور

ثمَّ بدأ حديثه بالتأصيل للخطِّ الوهابي السلفي ، الذي كاد أن ينحسر

٤٢٣

وجوده في المدينة ، فتلخّص حديثه في موضوع التوحيد والشرك ، وصفات الله ، وعدالة الصحابة ، والبدعة ، ولم يذكر حرف الشين من الشيعة ، مع أن المعلوم هو مواصلة الحديث عن التشيُّع ، فهذا التصرُّف دلَّ عند الجميع على انسحاب الوهابيّة من حلبة النقاش ، فصمَّمت بيني وبين نفسي أن أستغلّ هذه الفرصة ، وأوجّه الضربة الفاصلة بفضح هذه العقائد ، وتوضيح فسادها بالتفصيل.

وبعد أن أتمّ حديثه في التوحيد ، مركِّزاً فيه على أنّ التوسّل وزيارة القبور والأضرحة من أنواع الشرك الجلي ، تحدَّث عن الصفات قائلا : إنّ منهج السلف هو إمرار كل الصفات التي جاء بها القرآن كما هي من غير تأويل وتشبيه ، وإنّ كل منهج غير هذا هو بدعة ، مخالف لما نقل عن الصحابة الأبرار.

الرد على المُحاضر وبيان حقيقة التوحيد ومفهوم البدعة

وبعد أن أتيحت الفرصة للمشاركة والنقاش سمح لي بالحديث ، فقلت : أرجو منك أن تمنحني الفرصة الكافية لأتناول بالتفصيل التوحيد والشرك وصفات الله ومفهوم البدعة.

أولا: إنّ توحيد الله سبحانه وتعالى من أشرف ما يتّصف به الإنسان ، ومعارفه من أشرف المعارف ، ولذلك نجد كل الرسالات السماويَّة كان جلُّ اهتمامها هو نشر التوحيد ، بل كان هو الحدّ الفاصل بين أتباع الرسالة وغيرهم ، ومن هنا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقاتل الكفار حتى يقولوا : ( لا إله إلاَّ الله ، محمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) فإذا قالوا عصموا بها دماءهم وأعراضهم وأموالهم ، وهذا ممَّا لا يختلف فيه مسلمان على وجه هذه الأرض منذ البعثة إلى أن جاء محمّد بن عبدالوهاب ، فقتل المؤمنين الموحِّدين تحت راية التوحيد، وهذا مما أكَّده أخوه

٤٢٤

سليمان بن عبدالوهاب في كتابه : ( الصواعق الإلهيَّة في الردّ على الوهابيَّة ) ثمَّ قرأت له مقطعاً من كلامه :

( من قبل زمان الإمام أحمد في زمن أئمّة الإسلام حتى مليت بلاد الإسلام كلّها ، ولم يرو عن أحد من أئمة المسلمين أنهم كفروا بذلك ، ولا قالوا : هؤلاء مرتدّون ، ولا أمروا بجهادهم ، ولا سمَّوا بلاد المسلمين بلاد شرك وحرب كما قلتم أنتم ، بل كفَّرتم من لم يكفر بهذه الأفاعيل وإن لم يفعلها ، وتمضي القرون على الأئمة بعد زمان أحمد علماؤها وأمراؤها وعامتها كلهم كفَّار مرتدُّون.

فإنّا لله وإنّا إليه راجعون : واغوثاه إلى الله! ثمَّ واغوثاه أن تقولوا كما يقول بعض عامتكم : إن الحجّة ما قامت إلاَّ بكم ).

ويقول أيضاً : ( فإنّ اليوم ابتلي الناس بمن ينتسب إلى الكتاب والسنّة ، ويستنبط من علومها ، ولا يبالي من خالفه وإذا طلبت منه أن يعرض كلامه على أهل العلم لم يفعل ، بل يوجب على الناس الأخذ بقوله وبمفهومه ، ومن خالفه فهو عنده كافر ، هذا وهو لم تكن فيه خصلة واحدة من فعال أهل الاجتهاد ، لا والله ، ولا عشر واحد ، مع هذا فراح كلامه ينطلي على كثير من الجهَّال ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، الأمَّة كلها تصيح بلسان واحد ـ ومع هذا لا يردّ لهم في كلمة ، بل كلّهم كفّار وجهَّال ـ : اللّهمّ اهد هذا الضال وردّه إلى الحق ).

هذا ما يدعو إليه الوهابيّة من التوحيد ، وهو في الواقع تكفير كل المسلمين ، ووصفهم بالشرك ، كما يقول محمّد بن عبدالوهاب : ( إنّ مشركي زماننا ـ أي المسلمين ـ أغلظ شركاً من الأوَّلين ، لأنّ أولئك يشركون في الرخاء ويوحِّدون في الشدّة ، وهؤلاء شركهم في الحالتين ، لقوله تعالى: ( فَإِذَا رَكِبُوا فِي

٤٢٥

الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ) (١).

ونحن عادةً نناقش الوهابيَّة في أمور فرعيَّة تتفرَّع من مفهومهم العام للتوحيد والشرك ، وأنا هنا أريد أن أحوِّل مسار النقاش من الفروع إلى الأصول ، والمفاهيم العامة في تحديد مناط العبادة.

حول الخضوع والتذلّل لغير الله تعالى

إن مفهوم العبادة عند الوهابيَّة هو مطلق الخضوع والتذلّل وتكريم وتعظيم غير الله.

إذا سلّمنا مع الوهابية ... بصحّة هذا المفهوم فإننا لا يمكن أن نعاتبهم على النتائج التي يمكن الوصول إليها ، فعندما نرى مسلماً يتمسّح ويتبرّك بضريح فإن مفهوم العبادة الذي سلَّمنا به سوف ينطبق عليه ؛ لأنه بتذلّل لغير الله فيكون بذلك عابداً للضريح ، وبالتالي يكون مشركاً ، وهذا استنتاج منطقيٌّ صحيح وفقاً للقاعدة التي تقول: ( كل متذلّل لغير الله مشرك ، وهذا متذلّل ، إذن هذا مشرك ).

ولكن الحقيقة والواقع أن الكبرى غير مسلَّم بها (٢) ، فكل متذلّل لغير الله مشرك، كاذب ، وهذه بديهة عقليّة وعقلائيّة ، ويمكن معرفة ذلك من الواقع الذي يعيشه أيُّ إنسان ، فإن من طبيعة البشر الاحترام ، بل من الأخلاق في بعض الأحيان التذلّل لبعضنا البعض ، كتذلّل التلميذ للمؤمن ( أَذِلَّة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة

__________________

١ ـ سورة العنكبوت ، الآية : ٦٥.

٢ ـ أي كبرى القياس ، فالقياس ينقسم إلى كبرى ، وصغرى ، ونتيجة ، فالكبرى هنا : كل متذلل .. والصغرى : هذا متذلل ، والنتيجة : هذا مشرك.

٤٢٦

عَلَى الْكَافِرِينَ ) (١) ، كما أمرنا الله سبحانه وتعالى بتعظيم الوالدين والتذُّلل لهم : ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) (٢) ، وأكثر من ذلك أنّ الله أمر الملائكة بالسجود لآدم ، والسجود ـ كما تعلمون ـ أكمل مرتبة في الخضوع والتذلّل.

فإذا كان كما تدّعي الوهابيَّة فتكون كل الملائكة مشركة ، وإبليس هو الموحِّد الوحيد لأنه رفض السجود ..

إلى أن يقول : فإذن لا يمكن أن يكون أيُّ خضوع أو تذلّل عبادة ، ولابد أن يكون هناك ملاكٌ آخر أكثر دقّة ، وهو مسألة الاعتقاد ، فإنّ الخضوع إذا كان مقترناً بالاعتقاد بألوهيَّة المخضوع له ، فيكون هذا الخضوع عبادة ، بل إن أيَّ تصرُّف يكون بدافع الاعتقاد لغير الله فهو مصداقٌ للشرك ، فالخضوع والتذلّل بمعزله ليس شركاً ، والاعتقاد في غير الله شرك ، وإن كان من غير خضوع أو تذلّل.

فيتّضح من ذلك أنّ العبادة هي خضوع مقترن بالاعتقاد في غير الله تعالى ، أمَّا الخضوع والتذلّل من غير اعتقاد يمكن أن يناقش من جهة الحسن والقبح ، وهذا دائر مدار العناوين التي تطرأ على التذلُّل ، فمثلا يكون تذلُّل المؤمن لغير المؤمن قبيحاً ، ونفس هذا التذلُّل عندما يكون من المؤمن للمؤمنين يكون حسناً ، بل هو مستحب ، فإذن هو خارج تخصّصاً عن مبحث التوحيد والشرك ، وسحبه على هذا البحث يكون مقدِّمة فاسدة تؤدِّي إلى نتائج حتماً فاسدة.

__________________

١ ـ سورة المائدة ، الآية : ٥٤.

٢ ـ سورة الإسراء ، الآية : ٢٤.

٤٢٧

مفهوم التوسل وحقيقته ومفهوم الشرك

أمَّا قولك : إن هؤلاء الجهَّال يطلبون من الميِّت ويتوسّلون به ، وهو لا ينفع ولا يضرُّ ، أو يطلبون حتى من الحيِّ طلباً لا يقدر على فعله فهو شرك.

هذا الكلام لا يقبله جاهل فضلا عن عالم ، لأن هذا بعيدٌ كلَّ البعد عن مورد الشرك ، فإن معنى : الميِّت لا ينفع ولا يضرّ غير تام ؛ لأنّ الحيّ بهذا المعنى لا ينفع ولا يضرّ أيضاً ، وبما أنّ الحيّ يضرُّ بإذن الله كذلك الميِّت ، فليس هناك استقلاليَّة بالفعل سواء من الحيِّ أو الميِّت ، وبذلك لا يكون هنالك غرابة في الطلب من الميِّت ؛ لأنه كالطلب من الحيِّ ، وإنما يكون البحث كل البحث عن جدوى الطلب أو عدم جدواه ، وهذا خارج جملةً وتفصيلا عن مسار البحث ، ولتوضيح الصورة أضرب لكم مثالا : إذا طلبت من شخص أن يحضر لي كأساً من الماء هل في هذا شرك؟

قال الجميع : لا.

وفي نفس الوقت إذا طلبت هذا الطلب من نفس هذا الإنسان ، ولكنه كان نائماً ، فهو في الواقع لا يقدر على فعل هذا الأمر ، ولكن هل يمكن أن تقول إنك مشرك لأنه لا يقدر؟

قالوا بكلمة واحدة : لا.

بل أكثر ما يمكن أن يقال في حقي أن طلبك طلب عبثيُّ لا جدوى منه ، أو سميني حتى مجنوناً ، ولكن لا تصفني بالشرك.

وبهذا عرفنا أن عدم القدرة على الفعل ليست ملاكاً في التوحيد والشرك.

أمَّا كلامك : إن طلب الأمور الماديّة لا إشكال فيها ، وإنّما الشرك هو طلب

٤٢٨

الأمور الغيبيّة التي لا يقدر عليها إلاَّ الله.

فإنَّ في هذا الكلام مغالطة ؛ لأنّ السنن الماديّة أو الغيبيّة ليس لها دخل في ملاك التوحيد والشرك ، وأنا بدوري أسأل : هل هذه السنن هي مستقلّة عن الله ، بمعنى أنها تعمل بقدرة ذاتيّة منفصلة عن الله ، أم أنها بإذن الله وإرادته؟

وهنا المحور ، فإذا تعامل معها الإنسان باعتبار أنها مستقلة فهو مشرك ، سواءً كانت ماديّة أو غيبيّة ، أمَّا إذا كان باعتبار أنها قائمة بالله تعالى وبإذنه فهذا هو عين التوحيد ، وأقرِّب لكم هذه الصورة بمثال : إذا مرض إنسان فمن الطبيعي أنه سيذهب إلى الطبيب ، فإذا كان ينظر له بأنه قادر على شفائه بقدرة ذاتيّة منفصلة عن الله كان مشركاً ، ولا يشك في ذلك اثنان ، أمَّا أنه يشفي المريض بقدرة الله وإرادته فلا إشكال في ذلك ، بل هو عين التوحيد.

فمن هنا نعرف أن السنة والسبب ليس لها اعتبار بعنوان أنه ماديّ أو غيبيّ ، وأن مدار الكلام هو الاعتقاد باستقلاليّة هذه الأسباب أو عدم استقلاليّتها ، وتحت هذه القاعدة يمكن أن نقيس كل موضوع ، سواء كان طلب إحضار كأس من الماء ، أو طلب الذرِّيَّة والولد من وليٍّ من أولياء الله ، وكلاهما محكومٌ بالقاعدة.

أمَّا قولك : لا يقدر عليها إلاَّ الله ، بهذا المعنى الذي أطلقته لا يوجد شيء في صفحة الوجود يقدر على فعل شيء ، وإنّما القادر الحقيقيُّ هو الله ، ولكنَّ المسألة لا تؤخذ بهذا الإطلاق ، كما أنّ الله أعطى الإنسان القدرة على فعل بعض الأشياء بإذنه ومشيئته ، أعطى عباداً من عباده أسراراً وقدرات لم يعطها لغيرهم ، مثلما كان عند الأنبياء من إحياء الموتى ، وشفاء المرضى ، بل حتى ما كان عند أتباع الأنبياء مثل إحضار عرش بلقيس ، والأمثلة كثيرة في القرآن الكريم.

٤٢٩

عدم مواصلة الحديث بسبب أخذ لاقطة الصوت

وقبل أن أبدأ بالكلام في مسألة الصفات الإلهيّة وبعد الوهابيَّة عن معرفتها ، جاء المتحدِّث الوهابي وأخذ منّي لاقطة الصوت بقوَّة ، فلم أستجب لاستفزازه ، وسلَّمتها له بكل هدوء حتى أضمن لنفسي فرصة جديدة ، وأنا أعلم يقيناً أنه لا يستطيع أن يردَّ على كلمة واحدة ممَّا ذكرت.

الإفتراء على الشيعة ونكوص القوم عن الرد العلمي

فبدأ حديثه قائلا : شيعة أم شيوعيّة! آه تذكَّرت ، قد كان لي صديق في الجامعة في نفس الغرفة التي أسكن فيها ، وكان شيعيّاً متعصّباً ، يؤمن بأنّ القرآن محرّف ، وكان عنده مصحف اسمه مصحف فاطمة عليها‌السلام ، وكانت طبعته أجمل من طبعة الملك فهد ، والذي يعجبني فيه أنه يعلن كل عقائده بصراحة ، فهو يعتقد بكفر كل الصحابة ، وأنّ مؤسّسهم هو عبدالله بن سبأ ، وإنّه يعبد الحجر.

هؤلاء سذَّج لا يعرفون التشيُّع ، قد خدعهم الشيعة ، ولم يعرّفوهم على العقائد الحقيقيّة ، والشيعة لا يعرفون إلاَّ السفسطة والفلسفة ، وبدأ بالسبِّ والشتم.

أمَّا كلامي فردَّ عليه بكلمة واحدة وكأنه أبطل كل حججي : أمَّا المتحدِّث الشيعي فننصحه بأن يتصفَّح أيَّ كتاب في أصول الفقه ، حتى يجد أن شرع من كان قبلنا ليس واجباً علينا ، فلا يستدلُّ بسجود إخوة يوسف عليه‌السلام.

رفعت يدي مصرّاً لتتاح لي الفرصة ، حتى أتحدَّث عن أساليب الحوار ، والتعاطي مع الطرف الآخر ، وعن أهمّيّة البرهان ، على ضوء المنهج القرآني ،

٤٣٠

الذي فتح الباب على مصراعيه للحرّيّة الفكريَّة التي عبَّر عنها بقوله : ( قل هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (١).

وأردت أبيّن أنّ كلامه خارج ـ تخصصّاً ـ عن محل البحث ، فما دخل هذا الكلام فيما طرحته من أدلّة على بطلان نظرة الوهابيَّة للتوحيد؟!! فهو كالذي يقول : أحلى العسل أم أطول الشجر؟

وكان كل خوفي أن ننزل نحن إلى مستواهم من سبّ وشتم وتشتيت المواضيع ، ولكن للأسف لم تتح لي فرصة إلى آخر ركن النقاش ، بل لم تتح الفرصة لأيِّ شيعي ، وفي المقابل كان الباب مفتوحاً للوهابيّة الذين لم يزيدوا غير السباب.

وعندما أتيحت الفرصة لأحد الطلبة ـ وهو من جماعة الإخوان المسلمين ـ استبشرنا بذلك ، فلعلّه يكون منصفاً ، ولكنه لم يختلف عنهم كثيراً.

فبدأ حديثه قائلا : إنّنا لا نستطيع أن نكفّر أحداً بعينه ، ولكن يمكننا أن نكفّر منهجاً ، ورفع صوته صارخاً : فالتشيُّع كفر في منهجه وتوجّهه وكل تعليماته ، فأشعل بذلك حماس الوهابيّة ، فتعالت صرخاتهم بالتكبير وبشعارات البراءة من الشيعة ، فقرّروا وجوب مقاطعتهم في الجامعة ، فلا يجوز لأيِّ مسلم سنّي أن يتعامل معهم أياً كان نوع التعامل ، فلا يجوز السلام عليهم ، كما لا يجب ردّ سلامهم ، فتوتَّر الجوُّ إلى أبعد الحدود.

ولكن ـ وبحمد الله ـ لم ينجحوا في ذلك ، فإنّ طلبة الجامعة كانوا أكثر تحرُّراً وعقلانية ، فلم يستجيبوا لمحظوراتهم التي شرعوها ، وكأنهم مراجع الأمَّة

__________________

١ ـ سورة البقرة ، الآية : ١١١.

٤٣١

الإسلاميَّة ، وإن كان هنالك نجاح ، فإنني منعت من الدخول إلى الجامعة بعد تلك الأحداث بداعي أمن الجامعة.

الجلسة الثانية مع الدكتور عمر مسعود ورد للإتهامات الباطلة

يقول الشيخ معتصم السوداني : وبعد هذه الأحداث الساخنة زرت الدكتور في مكتبه في كلّيّة التجارة ، وسألني ما دار بيننا وبين الوهابيَّة ، وقد كانت الأخبار عنده بالتفصيل.

قال : إنّ المشكلة التي تعيشها الوهابيّة هي الجهل المركَّب من مصادرة للآراء والاتهام بالباطل ، فنحن كنّا نسمع أنّ الشيعة يقولون : إنّ الرسالة كانت يفترض أن تأتي لعليِّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، ولكن عندما بحثنا لم نجد لذلك أثراً ، وكنا نسمع أنّ للشيعة مصحفاً اسمه ( مصحف فاطمة عليها‌السلام ) ولكن لا واقع له ، وكنّا نسمع أنّ عبدالله بن سبأ هو مؤسّس الشيعة ، فبحثنا فوجدنا أنه شخصيّة خرافيّة ، فما بال الوهابيَّة يردّدون هذه الاتّهامات الباطلة؟ وبأيِّ حق يتحدَّثون عن الشيعة؟!

فقد طلب منّي قبل أيام أنا والدكتور علوان والدكتور أبشر وأحد مشايخ الوهابيّة ، إقامة ندوة عن الشيعة في الجامعة ، ولكنّي اعتذرت ، وعلى ما يبدو اعتذر الدكتور علوان ، والدكتور أبشر ، وقلت لهم : بأيِّ حق أتحدَّث عن الشيعة فأكون الحاكم والقاضي والجلاَّد ، فأقول : الشيعة يقولون كذا ، وحكمهم كذا؟ فهذه مصادرة ، فكل صاحب مذهب يجب أن يسأل عن مذهبه ، هذه هي المنهجيّة العلميّة ، فلا يمكن بداعي خلافي مع الوهابيَّة ألصق بهم ما ليس فيهم.

فمثلا : كنّا نسمع أن محمّد بن عبدالوهاب ، كان يقول : إنّ عصاي أفضل

٤٣٢

من محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن عند البحث العلمي تبيَّن أن هذه المقولة ليست ثابتة ، فلا يجوز أن أنسبها له ، وكثير من الكتب التي ألَّفت ضدَّهم ، فليس كل ما فيها حقاً وصواباً.

وأذكر أنّي كنت في سفرة إلى الخرطوم ، فجاءني أحد الإخوان الأعزّاء بكتاب ، وقال : إن هذا الكتاب يردُّ كيد الوهابيَّة ، وإذا هو كتاب ( مذكِّرات مستر همفر ) وبعد قراءته قلت له : إنّ هذا الكتاب لا يمكن أن أستفيد منه شيئاً ، فهو خارج عن المنهج العلميِّ ، وهو أقرب للافتراء من الحقِّ.

وأيضاً ليس ما يقوله الوهابيّة في جماعتنا التيجانيّة بحق ، وأذكر أنّ أحد مشايخنا وعلماءنا الكبار ـ وهو الحافظ المصري ـ التقى بأحد الوهابيّة ، فسأله الوهابي عند مذهبه ، فقال : تيجاني.

فقال الوهابي : أعوذ بالله.

فقال له : إنّ الذي استعذت منه ليس نحن.

قال : كيف؟ ألستم تقولون : إنّ صلاة الفاتح أفضل من القرآن.

قال : لا.

قال : ألستم تقولون كذا؟

قال : لا.

قال : ألستم تقولون كذا وكذا وكذا؟

قال : لا.

فتعجَّب ، فقال له : إنكم تحملون صورة في أذهانكم لا تمتُّ إلى الواقع بصلة.

كما أنّه ذكر لي قصّة مفصَّلة من لقاءاته مع المسيحيّة ، وقال : إنه استدعي

٤٣٣

إلى الخرطوم لمناقشة مجموعة من علماء المسيحيّة ، الذين حضروا من الغرب ، وأنه كيف عجز الآخرون عن ردِّهم ، لأنهم لم يسألوهم عن اعتقاداتهم ، بل كانوا يهاجمونهم وهم ينفون الاتهام ، ولم يفحموا إلاَّ بعد ما طلبت منهم أن يتحدَّثوا عن أنفسهم.

وقد فصَّل كثيراً في منهجيَّة التعامل مع الأطراف المخالفة ، ولم يطرح في هذه الجلسة موضوع للنقاش بيننا رغم أنها طالت أربع ساعات ، وقد سررت بكلامه ؛ لأننا بهذا الحديث أمنّا هجومه علينا ، وخاصة أنه شخصيّة مرموقة اجتماعياً ، وله أتباع ومريدون ، وكلمته مسموعة ، فحرصت أن لا أثيره بأيِّ موضوع.

حوار في عصمة الأئمة : في مدينة عطبرة

وبعد هذه الجلسة ، ذهبت معه في سيارته إلى مدينة عطبره ، حيث يوجد مجموعة من إخواننا الشيعة ، حتى أنقل لهم هذه الأخبار السارّة.

ولكن سرعان ما صدمت عندما أخبروني أن هنالك مناظرة بينهم وبين الدكتور عمر مسعود ، موضوع المناظرة : عصمة الأئمة عليهم‌السلام.

قلت : نحن مستعدُّون أن نناظر في أيِّ مبحث من عقائدنا ، ونفحم أيَّ طرف بالدليل ، ولكن الذي يحيِّرني أنه مضت ساعات من لقائي مع الدكتور ولم يذكر لي هذا الأمر ، فلعله لا يدري!

قالوا : لا ، بل هو الذي دعا ، وقد وزِّعت الإعلانات في كل مكان ، ومكتوب عليها ( حوار ساخن بين الشيعة والدكتور عمر مسعود ).

فصمَّمنا أن نستوفي كل الأدلة عن عصمة الأئمة عليهم‌السلام ، ونردُّ على كل

٤٣٤

الإشكاليّات ، ورشَّحني الإخوة على أن أدير النقاش معه.

وبعدما حان وقت الموعد انطلقنا إلى دار التيجانيّة ، وقد اكتظَّت بالحضور ، وما إن رآني الدكتور حتى بدت علامات التردُّد عليه ، فقال لي : هل جاء الإخوة الذين سوف يحاوروني ، وكأنه لا يريدني أن أتدخَّل ، بل هو كذلك.

والدليل عليه أننا أول ما جلسنا كنّا بمحاذاته من الجهة اليمنى ، فقال : لا يمكن أن ألتفت على يميني دائماً ، فالذي يريد مناقشتي فليجلس أمامي ، فقمنا ، ولكنه أمسك بيدي ، وقال : اجلس أنت بالقرب منّي ، وكأنني لم أكن مقصوداً بالنقاش.

وبعد تلاوة من آيات الذكر الحكيم ، قدَّموا ممثِّل الشيعة للحديث عن عصمة الأئمة عليهم‌السلام.

فحمدت الله ، وصلّيت على خاتم الأنبياء ، وأهل بيته الطاهرين عليهم‌السلام ، فأظهر الدكتور عدم ارتياحه من تدخُّلي.

قلت : قبل أن أبدأ حديثي عن مسألة العصمة وأدلّتها من القرآن والسنّة والعقل ، أحبُّ أن أبدي هذه الملاحظة ، وهي : من الذي دعا إلى هذا الحوار؟ إذا كان إخواننا الشيعة فعلى الدكتور أن يحدِّد محاور النقاش ، ولا غضاضة في ذلك ، أمَّا إذا كان هو الداعي فعلينا تحديد محاور النقاش ؛ لأنّ مسألة العصمة ليست عقيدة مجرَّدة ، وإنما ترتبط بواقع عقائديٍّ متكامل ، فالمسألة التي يجب أن تناقش هي الإمامة ، وضرورتها ، وشروطها ، على ضوء المنهج القرآني والعقلي ، فتأتي تبعاً لذلك مسألة العصمة ، فأنا أسأل أستاذي الدكتور ، هل كان هو الذي دعا الشيعة للحوار؟

٤٣٥

الدكتور عمر مسعود ينكص عن المناظرة ويرفع الجلسة

بدأ حديثه بعد الحمد والصلاة قائلا : أنا من طبيعتي الذاتيّة وتكوين شخصيتي ، إنسان يمكن أن تسمِّيني منعزل ومنطوي ، فليس أنا من دعاة المناظرات ، ولا الحوارات والمحاضرات (١) ، والدليل على ذلك أن الأستاذ معتصم جلس معي هذا اليوم أربع ساعات ، ثمَّ ذكر ما دار بيننا ، وقال : إني لم أتخيَّل أنّ الأستاذ معتصم سيتدخَّل في هذا الحوار ؛ لأنه لا توجد بيننا حواجز ، ومكتبي مفتوحٌ له طول اليوم ، وهذا هو أمامكم ، اسألوه عن العلاقة التي بيننا ، فالمفروض منه أن يختبر في مثل هذه الجلسة جماعته من الشيعة ، وهل هم استوعبوا الدروس التي تلقَّوها منه ، ثمَّ قال : أدعو لرفع هذه الجلسة.

فشكرته ، وقلت : نحن أيضاً ليس من عادتنا أن نطرق الأبواب ، وندعو أهلها للمناظرات ، وما دمت دعوت لرفع الجلسة فنحن لا نصرّ عليها.

وفي هذا الحين تدخَّل أحد الحضور ، ووجه لي سؤالا قائلا : أسألك سؤال مستفهم مستفسر ، وليس مناظر عن رأي الشيعة في مسألة العصمة وأدلّتهم على ذلك.

قلت له : إنّ الأدلة متعدِّدة ، ولكن ليس المكان مكاني ، ولا المجلس مجلسي ، فإذا أذن لي الدكتور .. فقاطعني الدكتور قائلا : لقد دعوتكم لرفع هذه الجلسة.

وبهذا انتهت المناظرة ورفعت الجلسة (٢).

__________________

١ ـ جاء في الهامش : مع العلم أنه في نفس تلك الأيام دارت بينه وبين الوهابيّة مجموعة من المناظرات بعنوان ( ابن تيمية صوفي ).

٢ ـ حوارات ، الشيخ معتصم السوداني : ٣٣ ـ ٨٠.

٤٣٦

المناظرة السادسة والأربعون

مناظرة

الشيخ معتصم السوداني مع شيخ السلفيّة في صفات الله

تعالى والطريق الذي يجب أن تسلكه الأمّة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

يقول الشيخ معتصم السوداني : وبعد تلك الأحداث مباشرةً ، سافرت إلى شمال السودان ، مدينة ( مروي ) وأول ما لاحظته في تلك المنطقة النشاط الوهابي المتزايد ، وبعد ما استطلعت الأمر وجدت أنّ المؤثِّر الأول في ذلك النشاط هو شيخ يسمّى ( مصطفى دنقلا ) ، وهو يسكن في منطقة بالقرب من مروي تسمّى ( الدبيبة ) فسعيت للوصول إليه ، وذات مرَّة ذهبت إلى سوق شعبيٍّ في منطقة تسمّى ( تنقاسي ) فأشار لي أحد الإخوان ـ وكان مرافقاً لي ـ أن ذلك الرجل هو ( مصطفى دنقلا ) الذي تسأل عنه ، فأسرعت إليه ، وبعد السلام قلت له : أنا شخص غريب عن هذه المنطقة ، وهدفي الوحيد في هذه الحياة هو البحث عن الحقيقة ، وسمعت أنك من أكبر المشايخ في المنطقة ، فأحببت أن أستفيد من علمك.

فاستبشر بذلك ، وأمسك يدي وقال : تعال ولا داعي للمواعيد ، وجلسنا في منطقة هادئة من السوق.

فقلت له قبل الدخول في البحث : في أيِّ موضوع يجب أن نتفق على

٤٣٧

أساليب الحوار ، والأخذ والعطاء ، فإن أسلوب التلقين ليس مجدياً في حقي ، فإنّ العقيدة التي تقوم على الحوار والنقاش ، والدليل والبرهان ، عقيدة صلبة لا تزلزلها العواصب.

قاطعني قائلا : وهذا ما ندعو إليه.

فقلت : إذن ، ما هي نظرة الإنسان الباحث للإسلام؟

هل يعتبر أنّ الإسلام هو ذلك الذي يكون في بيئته ومجتمعه ، أم أنه أوسع من ذلك فيشمل الإسلام بشتّى مدارسه ومذاهبه الحاضرة أو التي كانت في التاريخ؟

وهذه النظرة الشاملة ، هي التي تكسب الإنسان نوعاً من الحرّيّة ، تمكِّنه من معرفة الطائفة المحقّة ؛ لأنها المقدِّمة للتحرّر من كل قيود البيئة والمجتمع ، كما أن هذه النظرة تكسب الإنسان نوعاً من الإنصاف ، في التعاطي مع الأطراف المتعدِّدة ، ومن هنا أطلب منك أن لا تحاكمني بمسلَّماتك باعتبار أنها حقيقة ؛ لأنّها لابد أن تثبت بالدليل أوَّلا ، ثمَّ تكون صالحة للمحاكمة ، كما يقولون ( ثبِّت العرش ، ثم انقش عليه ) كما أنني لا أقبل منك أن تجعل الموروث الديني والحالة الدينيّة في المجتمع هي الحاكم بيننا ؛ لأن المجتمع السوداني وإن كان مجتمعاً متدِّيناً ، إلاَّ أنه لا يكون ممثِّلا لكل المذاهب الإسلاميّة ، فما هو إلاَّ حالة واحدة من تلك الحالات المتعدِّدة ، وهي نفسها لا تدّعي أن مجتمعنا قد استوعبها بشكل كامل.

إذن لابد أن نحدِّد مقاييس ثابتة تكون هي مدار حجّتنا ، وملزمة للطرفين ، وعلى ما يبدو أنّنا يمكن أن نتفق على القرآن والسنّة والعقل ، رغم أنّ السنّة حجّيّتها ليست مكتملة ؛ لأننا سوف نعتمد على مرويَّات مدرسة واحدة ، وهم

٤٣٨

أهل السنّة ، مع العلم أنّ هناك مدارس أخرى لها مرويَّاتها الخاصة ، ولكن من أجل الوصول إلى الفائدة يمكن أن نعتمد على مصادرهم.

استغرب الوهابي كثيراً من هذا الكلام ، وهو لا يدري إلى أيِّ طريق أسلك به ، ولكنه وافق على ما قلت ، مع علمي الكامل أنه لا يلتزم به.

فقلت له : إذن نبدأ البحث ، وسوف ينحصر في التوحيد وصفات الله ، ثمَّ في الطريق الذي يجب أن تسلكه الأمَّة من بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإذا تكرّمت شيخنا ، وبدأت بالكلام.

فابتدأ الشيخ قائلا : إنّ الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستهديه ، ونستغفره ، وإنّ شرّ الأمور محدثاتها ، وكلّ محدثة بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة في النار ، وأصلّي وأسلّم على سيِّدنا محمّد ، وعلى أهله ، وأصحابه أجمعين ، وبعد ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلاَّ واحدة ، فقيل : ما هي يا رسول الله؟ قال : ما كنت عليه أنا وأصحابي (١).

وقد بيّن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الحديث أنّ الفرقة الناجية هي واحدة ، وباقي الفرق كلُّها في ضلال ، وإلى النار، وكمابيّن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمأنّ الفرقة الناجية هي ما كان عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلموأصحابه ، وهذا بيان صريح من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن الفرقة الناجية هم السلف الصالح ومن تبع نهجهم ، وهذا كاف لناكمكلَّفين أن نتبع منهج السلف ، ولا نهتمُّ بمذاهب الضلال ، فالطائفة المحقّة هم أهل السنّة

__________________

١ ـ تقدمت تخريجاته في المناظرة الخامسة والأربعين.

٤٣٩

والجماعة ، وهم أكثر الطوائف اعتدالا ؛ لأنها سلّمت بما جاء به الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصحابته الكرام ، ولا نريد أن نخوض في الطوائف الأخرى ، ونوضح مدى ضلالها ، فمجرَّد معرفة الطائفة المحقّة كاف للحكم على البقيَّة بالضلالة.

الصفات الإلهية عند السنة والشيعة

أمَّا صفات الله سبحانه وتعالى ، فعلى حسب قول الطائفة المحقّة ، إنّ هذه الصفّات التي أخبر بها القرآن ، نجريها كما جاءت من غير تأويل ، فمثلا قوله تعالى : ( يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (١) فلا يمكن أن نؤوِّل معنى اليد ، وفي الوقت نفسه لا نثبت لها معنى خاصاً ، فلا نقول إنّ يد الله تعني قدرته ؛ لأنه لا دليل على ذلك ، وإنما نثبت لله يداً من غير كف ، وهذا ما قال به السلف الصالح ، فلم يرو منهم على الإطلاق رأي مخالف لما قلناه ، وهذا دليل على صواب هذا الرأي ؛ لأن السلف أقرب الناس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأعلم الناس بالقرآن ، وعدم اختلافهم دليل على صدق قولهم ، أمَّا الطوائف الأخرى فقد ذهبت بعيداً في آيات الصفات ، فكل طائفة تؤوِّلها على حسب هواها ، فالقائلون بالتأويل لم يتفقوا على معنى معيَّن ، وهذا وحده دليل على البطلان ، فيتحتَّم أن يكون الطريق أمامنا هو إجراء هذه الصفات كما جاءت من غير تأويل ، وكما قال السلف في مثل هذا المقام : ( الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والسؤال عنه بدعة ) ولا أعتقد أن إنساناً يخاف الله ويطلب الحق يجادل في هذه المسألة.

استفزّتني هذه الكلمة ، فقاطعته قائلا :

__________________

١ ـ سوره الفتح ، الآية : ١٠.

٤٤٠