مناظرات المستبصرين

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات المستبصرين

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات ذوي القربى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٩

بوجوب التمسُّك بالثقلين متواترة ، وطرقها عن بضع وعشرين صحابيّاً متظافرة ، وقد صدع بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مواقف له شتّى : تارة يوم غدير خمّ ، وتارة يوم عرفة في حجّة الوداع ، وتارة بعد انصرافه من الطائف ، ومرَّة على منبره في المدينة ، وأخرى في حجرته المباركة في مرضه ، والحجرة غاصَّة بأصحابه ، إذ قال : أيُّها الناس! يوشك أن أقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي ، وقد قدَّمت إليكم القول معذرة إليكم ، ألا إنّي مخلِّف فيكم كتاب الله عزَّوجلَّ وعترتي أهل بيتي ، ثمَّ أخذ بيد علي عليه‌السلام فرفعها ، فقال : هذا علي مع القرآن ، والقرآن مع علي ، لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض .. الحديث (١).

ثمَّ قال : أخرجه الطبراني كما في أربعين الأربعين ، وكتاب ( إحياء الميت في فضائل أهل البيت عليهم‌السلام ) للشيخ جلال الدين السيوطي.

وانتهى الحوار في مشفى المجتهد بدمشق.

اللقاء الثامن : تأجيل المناظرة

ذهبت إلى منزل السيِّد البدري صباحاً ، وهنَّأته بالسلامة بعد خروجه من المشفى ، وقال لي : الآن عندي موعد مع جماعة من لبنان ، وبعد صلاة المغرب تفضَّل ـ يا أخي ـ لنكمل البحث والحوار.

اللقاء التاسع : مسألة كبر السنّ في الخليفة ، وظلامة علي وفاطمة ٨

وبعد صلاة المغرب حضرت لإكمال البحث والحوار.

__________________

١ ـ مناقب أهل البيت عليهم‌السلام ، الشيرواني : ١٧٤ ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : ١/١٢٤ ح ٥٦ و٢/٤٠٣ ح ٥٤ ، الصواعق المحرقة ، ابن حجر : ١٢٤ ط المحمدية بمصر و٧٥ ط الميمنية.

٣٦١

مناقشة الأدلّة وتفنيدها

السيِّد البدري : أمَّا دليلك كبر سنّ الخليفة أبي بكر ، فقدَّموه لأنه أكبر سنّاً من علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، صحيح أن أصحاب السقيفة استدلُّوا بهذا الدليل لإقناع الإمام علي عليه‌السلام ليبايع أبا بكر (١) ، ولكنه دليل ضعيف ، وكلام سخيف ، فلو كان كبر السنّ ملحوظاً في المنصوب للخلافة فقد كان في المسلمين والصحابة من هو أكبر سنّاً من أبي بكر ، حتى إن والده أبا قحافة كان حيّاً في ذلك اليوم ، فلم أخَّروه وقدَّموا ابنه؟!!

هشام آل قطيط : عفواً سماحة السيّد! إن الملاحظ عندنا والمعروف هو كبر السنّ والسابقة في الإسلام ، وقد كان سيِّدنا أبو بكر محنَّكاً في الأمور ، ومحبوباً عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بينما سيِّدنا علي ( كرَّم الله وجهه ) كان حدث السنّ ، وغير محنَّك في مجرَّبات الأمور.

السيِّد البدري : إذا كان كذلك ـ يا أستاذ ـ فلماذا قدَّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً عليه‌السلام في كثير من الأمور والقضايا؟!

أولا : أروي لك هذه النكتة التي وردت في شرح ابن أبي الحديد ، قال : قيل لأبي قحافة والد الخليفة أبي بكر يوم ولي الأمر ابنه : قد ولي ابنك الخلافة ، فقرأ : ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء ) (٢) ، ثمَّ قال :

__________________

١ ـ قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ١/٢٩ : قال أبو عبيدة بن الجرَّاح لعليٍّ كرَّم الله وجهه : يا بن عمّ! إنك حديث السنّ ، وهؤلاء مشيخة قومك ، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور ، ولا أرى أبا بكر إلاَّ أقوى على هذا الأمر منك ، وأشدّ احتمالا واستطلاعاً ، فسلِّم لأبي بكر هذا الأمر ، فإنك إن تعش ويطل بك بقاء فأنت بهذا الأمر خليق ، وبه حقيق ، في فضلك ودينك ، وعلمك وفهمك ، وسابقتك ، ونسبك وصهرك.

٢ ـ سورة آل عمران ، الآية : ٢٦.

٣٦٢

لم ولَّوه؟ قالوا : لسنِّه! قال : أنا أسنُّ منه!! (١).

ثانياً : في غزوة تبوك ، حينما عزم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخرج مع المسلمين إلى تبوك ، وكان يخشى تحرُّك المنافقين في المدينة وتخريبهم خلَّف عليّاً عليه‌السلام ليدير أمور المدينة المنوَّرة ، دينيّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً ، وقال له : أنت خليفتي في أهل بيتي ، ودار هجرتي ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلاَّ أنه لا نبيَّ بعدي (٢).

ثالثاً : تبليغ آيات من سورة براءة لأهل مكة حين كانوا مشركين ، فقد عيَّن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أبا بكر لهذه المهمّة وأرسله إلى مكة ، وقطع مسافة نحوها ، ولكنَّ الله عزَّوجلَّ أمر النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعزل أبا بكر ويعيِّن عليّاً عليه‌السلام لتبليغ الرسالة ، ففعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأرسل عليّاً عليه‌السلام ، فأخذ الرسالة من أبي بكر ، فرجع إلى المدينة ، وذهب عليعليه‌السلامإلى مكة ، فوقف في الملأ العام من قريش ، ورفع صوته بتلاوة الآيات من سورة براءة ، وأدَّى تبليغ الرسالة ، ونفَّذ الأمر ، ورجع إلى المدينة (٣).

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١/٢٢٢.

٢ ـ الإرشاد ، المفيد : ١/١٥٦ ، بحار الأنوار ، المجلسي : ٢١/٢٠٨ ، مسند أحمد بن حنبل : ١/٣٣١ ، كتاب السنة ، ابن أبي عاصم : ٥٥١ ح ١١٨٨ ، المعجم الكبير ، الطبراني : ١٢/٧٨ ، المناقب ، الموفق الخوارزمي : ١٢٦ ـ ١٢٧ ح ١٤٠ ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : ٤٢/١٠٢ ، الإصابة ، ابن حجر : ٤/٤٦٧ ، البداية والنهاية ، ابن كثير : ٧/٣٧٤ ، كنز العمال ، المتقي الهندي : ١١/٦٠٦ ح ٣٢٩٣١.

٣ ـ قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : ٦/٤٥ و١٢/٤٦ : روى الزبير بن بكار في كتاب ( الموفقيات ) عن عبدالله بن عباس ، قال : إني لأماشي عمر بن الخطاب في سكَّة من سكك المدينة ، إذ قال لي : يا ابن عباس! ما أرى صاحبك إلاَّ مظلوماً! فقلت في نفسي : والله لا يسبقني بها ، فقلت : يا أميرالمؤمنين! فاردد إليه ظلامته ، فانتزع يده من يدي ، ومضى يهمهم ساعة ، ثمَّ وقف فلحقته ، فقال : يا ابن عباس! ما أظنُّ منعهم عنه إلاَّ أنه استصغره قومه! فقلت في نفسي : هذه شرٌّ من الأولى! فقلت :

٣٦٣

رابعاً : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمبعثه إلى اليمن ليهدي أهلها إلى الإسلام ، ويبلغهم الدين ، ويقضي بين المتخاصمين ، وقد أدَّى هذا الأمر على أحسن وجه.

هشام آل قطيط : وما جوابكم ـ سماحة السيِّد ـ عن قول سيِّدنا عمر بأن النبوَّة والحكم لا تجتمعان في أهل بيت واحد؟

السيِّد البدري : أيُّها الأستاذ! قول عمر باطل ، وزيفه واضح ، بدليل قوله تعالى : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً ) (١).

فهذا الكلام إن كان ينسب إلى عمر فهو دليل على عدم إحاطته بالآيات القرآنيّة ومفاهيمها ، وإن كان عمر يرويه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو حديث مجعول ؛ لأنه مخالف لكتاب الله العظيم.

ثمَّ ـ أيُّها الأخ المحاور ـ إن خلافة النبوَّة عندنا كخلافة هارون لأخيه موسى بن عمران ، حيث قال سبحانه وتعالى في كتابه : ( وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ ) (٢) ، فإن يكن عندكم أنه يحقُّ للمسلم أن ينفي خلافة هارون لموسى ، فإنه يحقُّ له أيضاً عزل علي عليه‌السلام من خلافة خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكما أن النبوَّة والخلافة اجتمعتا في أهل بيت عمران والد موسى وهارون كما ينصُّ القرآن فيه ، كذلك اجتمعتا للنبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلموعليعليه‌السلامفي بيت عبد

__________________

والله ما استصغره الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين أمراه أن يأخذ براءة من صاحبك! فأعرض عني وأسرع ، فرجعت عنه.

وروي أيضاً : في السقيفة وفدك ، الجوهري : ٧٢ ، والرياض النضرة ، الطبري : ٢/١٧٣.

١ ـ سورة النساء ، الآية : ٥٤.

٢ ـ سورة الأعراف ، الآية : ١٤٢.

٣٦٤

المطلب بالنصوص الكثيرة.

هشام آل قطيط : سماحة السيِّد! إن الكلام والنقاش حول هذه المواضيع لا يزيد المسلمين إلاَّ تنافراً وحقداً وابتعاداً ، كيفما كان الأمر فنحن ما كنّا في ذلك اليوم ، ولم نحضر السقيفة حتى نلمس الأمر ، ونتحسَّس الأحداث ، فأقول لك : ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ) (١) ، فنحن لا نحاسب عنهم إن أخطأوا.

السيِّد البدري : هذا جواب من لا يملك الحجّة والدليل الشرعيّ ، فيقول : ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ) يجب على كل مسلم أن يتبع الحق ، لا أنه يستسلم للأمر الواقع فكم من ضلال وباطل قائم في الدنيا ، فهل يجوز للمسلم أن يتبعه ويتقبَّله ثمَّ يقول : إنه أمر واقع ، وليس لنا إلاَّ أن نستسلم للأمر الواقع؟! فالإسلام دين تحقيق لا دين تقليد ، قال سبحانه وتعالى : ( فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) (٢) ، فهل قول عمر أحسن أم قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! فهل يجوز للمسلم أن يترك هذه النصوص الجليَّة والأحاديث النبويَّة المرويَّة عن صحاحكم وتواريخكم؟

هل بايع علي 7 وبنو هاشم أبا بكر؟

هشام آل قطيط : لقد كرَّرت الكلام بأن عليّاً كرَّم الله وجهه وبني هاشم وكثير من الصحابة لم يرضوا بخلافة أبي بكر ولم يبايعوه ، ونحن نرى التواريخ كلها اتّفقت على أن سيِّدنا عليّاً وبني هاشم وجميع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

١ ـ سورة البقرة ، الآية : ١٣٤.

٢ ـ سورة الزمر ، الآية : ١٧ ـ ١٨.

٣٦٥

بايعوا أبا بكر.

السيِّد البدري : نعم بايعوا ، ولكن أسألك كيف تمَّت هذه البيعة؟ أما قرأت في كتب التأريخ والحديث أن عليّاً عليه‌السلام وبني هاشم وكثيراً من كبار الصحابة ما بايعوا إلاَّ بعد ستة أشهر بالتهديد والجبر ، إذ جردوا السيف على رأس الإمام علي عليه‌السلام ، وهدَّدوه بالقتل إن لم يبايع!

هشام آل قطيط : إني أعجب من سماحتك أيُّها السيِّد ، كيف تتفوَّه بهذا الكلام؟! ما هو إلاَّ من أساطير عوام الشيعة وجهلتهم ، وقد أكَّد المؤرِّخون أن سيِّدنا عليّاً ( كرَّم الله وجهه ) بايع أبا بكر في لحظة استلامه للخلافة طوعاً ورغبة ، وأعلن موافقته لخلافة سيِّدنا أبي بكر.

السيِّد البدري : ألم تقرأ كتب الصحاح والتاريخ أيُّها المحاور ، إرجع إلى صحيح البخاري : ٣ ـ ٣٧ باب غزوة خيبر لترى ما ترى .. راجع صحيح مسلم : ٥ ـ ١٥٤ باب قول النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا نورث ، وراجع كتاب الإمامة والسياسة : ص ١٤ ، وراجع مروج الذهب للمسعودي : ١ ـ ٤١٤ ، وابن أعثم الكوفي في الفتوح ، والحميدي في الجمع بين الصحيحين ، كل هؤلاء أخرجوا أن عليّاً عليه‌السلام وبني هاشم لم يبايعوا إلاَّ بعد ستة أشهر.

وروى ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة عن الصحيحين ، عن الزهري ، عن عائشة : فهجرته ـ يعني أبا بكر ـ فاطمة ولم تكلِّمه في ذلك حتى ماتت ، فدفنها عليٌّ ليلا ، ولم يؤذن بها أبا بكر ، وفي الخبر : فمكثت فاطمة عليها‌السلام ستة أشهر ثمَّ توفِّيت ، فقال رجل للزهري : فلم يبايعه عليٌّ ستة أشهر؟! قال : ولا أحد من بني هاشم ، حتى بايعه علي (١).

__________________

١ ـ راجع أيضاً : السنن الكبرى ، البيهقي : ٦/٣٠٠ ، المصنّف ، عبد الرزاق الصنعاني : ٥/٤٧٢ ح ٩٧٧٤ ،

٣٦٦

وذكر ابن قتيبة في الإمامة والسياسة : ص ١٣ (١) ، تحت عنوان : ( كيف كانت بيعة علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه ) قال : وإن أبا بكر تفقَّد قوماً تخلَّفوا عن بيعته عند علي ( كرَّم الله وجهه ) فبعث إليهم عمر فجاء فناداهم وهم في دار عليٍّ ، فأبوا أن يخرجوا ، فدعا بالحطب وقال : والذي نفس عمر بيده! لتخرجن أو لأحرقها على من فيها! فقيل له : يا أبا حفص! إن فيها فاطمة! فقال : وإن ... وبعد عدّة أسطر في نفس المصدر السابق له ، يقول : فدقُّوا الباب ، فلمَّا سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها : يا أبت يا رسول الله! ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة؟ فلمَّا سمع القوم صوتها وبكاءها انصرفوا باكين.

وبقي عمر ومعه قوم فأخرجوا عليّاً ، فمضوا به إلى أبي بكر ، فقالوا له : بايع ، فقال : إن أنا لم أبايع فمه؟! قالوا : إذن والله الذي لا إله إلاَّ هو! نضرب عنقك! قال : إذن تقتلون عبد الله وأخا رسوله ، قال عمر : أمَّا عبد الله فنعم ، وأمَّا أخو رسوله فلا ، وأبو بكر ساكت لا يتكلَّم ، فقال له عمر : ألا تأمر فيه بأمرك؟! فقال : لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه.

فلحق عليٌّ بقبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يصيح ويبكي وينادي : ( ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي ) (٢) (٣).

__________________

تاريخ الطبري : ٢/٤٤٨ ، فتح الباري ، ابن حجر : ٧/٣٧٩ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٦/٤٦.

١ ـ وفي الطبعة الأولى : ص ٣٠ وفي طبعة مؤسَّسة الحلبي : ص ١٩.

٢ ـ سورة الأعراف ، الآية : ١٥٠.

٣ ـ قال قطب الدين اليونيني : وحكى لي نجم الدين موسى الشقراوي ما معناه : أن العزّ الضرير ـ وكان العز يصرِّح بتفضيل علي عليه‌السلام على الثلاثة الخلفاء ـ حدَّثه أنه كان في مجلس سيف الدين الآمدي ، وهناك

٣٦٧

واعلم ـ أيُّها الأخ المحاور ـ أن مسؤوليتك خطيرة تجاه الجهلة والعوام ؛ لأنهم يأخذون منكم أنتم المثقَّفون ـ وأيضاً العلماء ـ ولقد قيل : إذا فسد العالِم فسد العالَم ، أنتم الشباب الواعي المثقَّف يجب عليكم أن تقرؤوا صحاحكم وتاريخكم ، ولا تتّبعون أسلافكم المتعصِّبين وأتباعهم ، فلِم تصدِّقون كل ما تسمعونه عن الشيعة المظلومين عبر التاريخ؟ بينما كل الأخبار التي تتحدَّث بها الشيعة هي من كتبكم ، فراجع واقرأ بعين الإنصاف ؛ لأنك مسؤول غداً أمام الله عن هذه الأدلّة ، ولا تقل إن أبي وجدّي كانوا كذا ... الدين ليس بالوراثة ، والدين ليس عادات وتقاليد ورثناها عن آبائنا وأجدادنا ، فالدين علم ، وفكر ، ومنطق ، واحتجاج ، وبيِّنة.

حتى لو اصطدمت مع والدك ، حتى لو اصطدمت مع أستاذك ، أو مع شيخك الذي تصلّي خلفه ، أو اختلفت فعليك اتّباع البيِّنة والحجَّة والبرهان ، والله الموفِّق إلى سبيل الرشاد.

وثائق تاريخيَّة في ضلامة فاطمة الزهراء عليها‌السلام

لقد نقل لنا المحدِّثون والمؤرِّخون هذه الحوادث الأليمة في التاريخ ، وإليك ـ أيُّها المحاور ـ بعض الوثائق التاريخية التي تكون عندكم محلَّ الوثوق

__________________

جماعة من العلماء منهم الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام ، فجرى البحث في الإمامة ، ومن الخليفة بعد رسول الله 6؟ فقال بعض الحاضرين : قد روي أن علي بن أبي طالب عليه‌السلام بايع لأبي بكر مكرهاً ، وأن أبا عبيدة بن الجراح قال له : بايع وإلاَّ قتلت ، فالتفت علي 7 إلى قبر رسول الله 6 وقال : ( ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي ). ( ذيل مرآة الزمان ، قطب الدين اليونيني ، المجلّد الأول : ج٢ ص ١٦٩ ).

٣٦٨

والاعتبار.

١ ـ غضب السيِّدة فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، ويذكره البخاري في صحيحه قائلا : ( فوجدت فاطمة عليها‌السلام على أبي بكر في ذلك ، فهجرته فلم تكلَّمه حتى توفِّيت ) (١)، وأخذنا بحديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، ( فاطمة سيِّدة نساء العالمين ) (٢).

فنستنتج بأن إمام زمان فاطمة عليها‌السلام هو علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، الواجب الطاعة ، وهو الخليفة بعد رسول الأمَّة ، ألم يبادر إلى ذهنك ـ أيُّها المحاور ـ أين قبر فاطمة؟ فخذ الجواب من شاعر أهل البيت عليهم‌السلام الأزري :

فَلأَيِّ الأُمُورِ تُدْفَنُ لَيْلا

بَضْعَةُ الْمُصْطَفَى وَيُعْفَى ثَرَاهَا

فَمَضَتْ وَهيَ أَعْظَمُ الناسِ وَجْداً

في فَمِ الدهرِ غُصَّةٌ مِنْ جَوَاهَا

وَثَوَتْ لاَ يَرَى لَهَا النّاسُ مثوىً

أيُّ قُدّس يَضُمُّهُ مَثْوَاها (٣)

ثمَّ أُضيف لك ـ أيُّها الأخ ـ أنهم اغتصبوا حقَّ فاطمة عليها‌السلام ، واحتجُّوا عليها بحديث : النبيُّ لا يورِّث.

المحاور : عفواً سماحة السيِّد! : النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : نحن معاشر الأنبياء لا نوِّرث ، فالوراثة هي العلم والحكمة.

__________________

١ ـ صحيح البخاري : ٥/٨٢ و٨/٣ ، صحيح مسلم : ٥/١٥٤ ، السنن الكبرى ، البيهقي : ٦/٣٠٠ ، المصنّف ، عبد الرزاق الصنعاني : ٥/٤٧٢ ح ٩٧٧٤ ، صحيح ابن حبان : ١١/١٥٣ ، تأريخ المدينة ، ابن شبة : ١/١٩٦.

٢ ـ السنن الكبرى ، النسائي : ٤/٢٥٢ ، ح ٧٠٧٨ ، المصنّف ، ابن أبي شيبة : ٧/٥٢٧ ح ٥ ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : ٤٢/١٣٤ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١٠/٢٦٥ ، أسد الغابة ، ابن الأثير : ٤/١٦ ، كنز العمال ، المتقي الهندي : ١٢/١١٠ ح ٣٤٢٣٣ ، فيض القدير ، المناوي : ٣/١٣٩ ، الدرّ المنثور ، السيوطي : ٢/٢٣ ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبدالله الطبري : ٤٣.

٣ ـ الأزريّة ، الشيخ الأزري : ١٤٣.

٣٦٩

السيِّد البدري : أولا : هذا الحديث هو رواية آحاد ، وتفرَّد به الخليفة أبو بكر ثمَّ قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( ستكثر من بعدي الكذَّابة ) (١) ( فاعرضوا كلامنا على القرآن ، فإن وافق القرآن فخذوا به ، وإن خالف القرآن فاضربوا به عرض الحائط ) (٢) فليكن رجوعنا إلى الميزان وهو القرآن ، لنرى هل هذا الحديث الذي استشهدت به يخالف القرآن أم يوافقه.

الزهراء عليها‌السلام تخاطب الخليفة أبابكر

فاسمع قوله تعالى: ( وَوَرِثَ سُلَيَْمانُ دَاوُودَ )(٣)، فإن قلت لي : إن الميراث المطلوب في هذه الآية هو العلم والحكمة فاسمع قول الزهراءعليها‌السلام في خطبتها

__________________

١ ـ روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيُّها الناس! قد كثرت عليَّ الكذَّابة.

راجع : الكافي ، الكليني : ١/٦٢ ح ١ ، تحف العقول ، ابن شعبة الحراني : ١٩٣. صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٢ ـ روى الشيخ الطبرسي عليه الرحمة في كتاب الاحتجاج : ٢/٢٤٦ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجّة الوداع : قد كثرت عليَّ الكذّابة وستكثر بعدي ، فمن كذب عليَّ متعمِّداً فليتبوَّأ مقعده من النار ، فإذا أتاكم الحديث عنّي فاعرضوه على كتاب الله وسنّتي ، فما وافق كتاب الله وسنّتي فخذوا به ، وما خالف كتاب الله وسنّتي فلا تأخذوا به.

وروى الشيخ الطبرسي عليه الرحمة في تفسير مجمع البيان ١/٣٩ قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا جاءكم عنّي حديث فاعرضوه على كتاب الله ، فما وافقه فاقبلوه ، وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط.

وروى الشيخ الطوسي عليه الرحمة في الاستبصار : ١/١٩٠ ح ٩٦٦٨ : وقد روي عنهم عليهم‌السلام أنهم قالوا : إذا جاءكم عنّا حديثان فاعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالفه فاطرحوه.

وروى العامّة أيضاً عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أتاكم عنّي فاعرضوه على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فهو منّي ، وما خالفه فليس منّي.

راجع : أحكام القرآن ، الجصاص : ١/٦٢٩ ، المحصول ، الرازي : ٤/٤٣٨.

٣ ـ سورة النمل ، الآية : ١٦.

٣٧٠

المشهورة للخليفة أبي بكر : يا ابن أبي قحافة! أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فريّاً!! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ، ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول : ( وَوَرِثَ سُلَيَْمانُ دَاوُودَ ) وقال فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريا إذ قال : ( فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) (١) ، وقال : ( وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِي كِتَابِ اللّهِ ) (٢) ، وقال : ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ) (٣) ، وقال : ( إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ ) (٤) ، وزعمتم أن لا حظوة لي ، ولا إرث من أبي ، ولا رحم بيننا ، أفخصَّكم الله بآية أخرج أبي منها؟ أم تقولون : أهل ملّتين لا يتوارثان؟ أو لست أنا وأبي من ملّة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي؟! فدونكها مخطومة مرحولة ، تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، والزعيم محمّد ، والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون ، ولا ينفعكم إذ تندمون و ( لِّكُلِّ نَبَإ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) (٥) ( مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ) (٦). الخطبة (٧).

ألم يكفِك جواباً قول الزهراء عليها‌السلام؟

__________________

١ ـ سورة مريم ، الآية : ٥ ـ ٦.

٢ ـ سورة الأنفال ، الآية : ٧٥.

٣ ـ سورة النساء ، الآية : ١١.

٤ ـ سورة البقرة ، الآية : ١٨٠.

٥ ـ سورة الأنعام ، الآية : ٦٧.

٦ ـ سورة هود ، الآية : ٣٩.

٧ ـ بلاغات النساء ، ابن طيفور : ١٤ ، السقيفة وفدك ، الجوهري : ١٠١ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١٦/٢١٢ ، جواهر المطالب ، ابن الدمشقي : ١٦٠ ـ ١٦١.

٣٧١

المحاور : سماحة السيِّد! الكلام قويٌّ وبليغ ، ولكن أين دليل وسند هذه الخطبة؟

السيِّد البدري : راجع نهج البلاغة ، شرح ابن أبي الحديد المعتزلي : الجزء الرابع ، ص ١٩٣ ، وبلاغات النساء لابن أبي طيفور.

الإمام علي عليه‌السلام يذكر فدك في خطبته.

السيِّد البدري يتابع الحديث .. ينقل لنا كلاماً للإمام علي عليه‌السلام في نهج البلاغة بمناسبة أرض فدك : ( .. فو الله ما كنزت من دنياكم تبراً ، ولا ادّخرت من غنائمها وفراً ، ولا حزت من أرضها شبراً ، بلى كانت في أيدينا فدك من كلِّ ما أظلَّته السماء ، فشحَّت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس قوم آخرين ، ونعم الحكم الله .. ) (١).

فهذا كلام الإمام علي عليه‌السلام ، يقول : ( ونعم الحكم الله ) ومعناه : أني سوف أطالبهم حقّي يوم الحساب .. يوم لا تظلم نفس شيئاً .. والحكم يومئذ لله.

الزهراء عليها‌السلام تشكو اهتضامها لأبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وأمَّآ سيِّدتنا فاطمة عليها‌السلام فقد قالت لأبي بكر وعمر : فإني أشهد الله وملائكته أنّكما أسخطتماني فما أرضيتماني ، ولئن لقيت النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأشكونَّكما إليه. الإمامة والسياسة لابن قتيبة (٢) عليك مراجعته.

وكما نقل بعض المؤرِّخين كانت في أواخرأيَّام حياتها تخرج إلى قبر أبيها

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، خطب الإمام علي عليه‌السلام : ٣/٧٠ ـ ٧١ ، كتاب رقم : ٤٥ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١٦/٢٠٨.

٢ ـ الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : ١/٣١.

٣٧٢

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، وهناك تشكو اهتضامها وتقول : أبتاه! أمسينا بعدك من المستضعفين ، وأصبحت الناس عنّا معرضين!! ثمَّ تأخذ تراب القبر فتشمُّه وتنشد :

مَاذَا علَى مَنْ شَمَّ تُرْبَةَ أَحْمَد

أَنْ لاَ يَشَمَّ مَدَى الزَّمَان غَوَالِيَا

صُبَّتْ عَلَيَّ مَصَائِبٌ لَوْ أَنَّها

صبَّتْ عَلَى الأيَّامِ صِرْنَ لَيَالِيَا (١)

فماتت مقهورة مظلومة ، في ربيع العمر وعنفوان الشباب ، وأوصت إلى علي عليه‌السلام أن يغسِّلها ويجهِّزها ليلا ، ويدفنها ليلا إذا هدأت الأصوات ونامت العيون ، وأوصت أن لا يشهد جنازتها أحد ممن ظلمها وآذاها (٢).

ولمَّا وضعها في لحدها وأهال عليها التراب هاج به الحزن فتوجَّه إلى قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : السلام عليك يا رسول الله عنّي وعن ابنتك النازلة في جوارك ، والسريعة اللحاق بك ، إلى أن يقول عليه‌السلام : فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فلقد استرجعت الوديعة ، وأخذت الرهينة! أمَّا حزني فسرمد ، وأمَّا ليلي فمسهَّد ، إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم ، وستنبئك ابنتك بتضافر أمَّتك على هضمها ، فأحفها السؤال ، واستخبرها الحال ، هذا ولم يطل العهد ، ولم يخل منك الذكر ، والسلام عليكما سلام مودِّع ، لا قال ولا سئم .. (٣).

__________________

١ ـ مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : ١/٢٠٨ ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : ٢/١٣٤ ، نظم درر السمطين ، الزرندي الحنفي : ١٨١ ، سبل الهدى والرشاد ، الصالحي الشامي : ١٢/٣٣٧ ، المغني ، عبدالله بن قدامة : ٢/٤١١.

٢ ـ مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : ٣/١٣٧ ، بحار الأنوار ، المجلسي : ٣١/٦١٩ ح ٩٧ و٤٣/١٨٢ ح ١٦.

٣ ـ نهج البلاغة ، خطب الإمام علي عليه‌السلام : ٢/١٨٢ ، رقم : ٢٠٢ ، الكافي ، الكليني : ١/٤٥٨ ـ ٤٥٩ ح ٣ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١٠/٢٦٥.

٣٧٣

المحاور : كفى .. كفى .. رحم الله والديك ، لقد مزَّقتني من الداخل ، حيث كانت دموعي تجري على تلك المظلوميَّة ، لا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العليِّ العظيم ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فلذة كبد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وريحانته ، وسيِّدة نساء العالمين ، وسيِّدة نساء أهل الجنة ، وأمّ الحسن والحسين ، وزوجة الإمام علي ( كرَّم الله وجهه ) بطل الإسلام ، تموت مظلومة ، لم تعش بعد والدها سوى بضعة أشهر ... تدفن ليلا ، يهضم حقّها ، وممَّن؟ من الخلفاء أبي بكر وعمر!!

يا للهول ويا للعجب! فكانت أكبر نقاط الحوار تأثيراً في نفسي وفي كياني ، فتركت الجلسة ولم أستطع أن أكمل الحوار ، فاعتذرت من سماحة السيِّد وخرجت.

في المنزل

خرجت من منزل السيِّد البدري والوقت ما يقارب الساعة العاشرة ليلا ، ووصلت إلى البيت حيث كنت منهكاً ، فقالت لي زوجتي : يبدو عليك الأرق والتعب!

فقلت لها : وأيُّ تعب؟

فقالت لي : وجهك مقلوب ومتغيِّر .. عندما ذهبت وجهك كان أفضل.

فقلت لها : نعم صحيح .. إن مظلوميّة السيِّدة فاطمة الزهراء عليها‌السلام قد هدَّت كياني ، ولم أكن أعلم كل هذا العمر الذي قضيته في المطالعة وقراءة الكتب والجامعة بهذه المصيبة والفاجعة والمظلوميّة.

مراجعة صحيح البخاري للوصول إلى الحقيقة

تناولت من مكتبتي المتواضعة صحيح البخاري لأرى صدق كلام السيِّد

٣٧٤

البدري بأن فاطمة عليها‌السلام ماتت وهي غاضبة عليهم ، وفي رواية أخرى قال لي : ( ماتت وهي واجدة عليهم ) كما ذكر لي في صحيح البخاري كتاب المغازي ، باب غزوة خيبر ، ج٥ ، ص ٧٧ ، مطابع دار الشعب ، وصحيح البخاري ، كتاب الجهاد والسير ، باب فرض الخمس ، ج٤ ، ص ٤٢ ، دار الفكر.

والحديث في هذا مسند إلى عائشة ، وقد صرَّحت فيه أن الزهراء عليها‌السلام هجرت أبا بكر ، فلم تكلِّمه بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى ماتت فعندما وجدت الحديث ووقفت عليه متأمِّلا ، فصرت أحدِّث نفسي : لماذا علماؤنا علماء السنة لايصرِّحون لنا بالحقيقة؟!! هل الدين جاء لكتمان الحقائق أم للتصريح بها؟! فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

اللقاء الأخير : ودخل النور إلى قلبي بمظلوميَّة فاطمة عليها‌السلام

بعد وقوفي على حادثة ومظلوميَّة الزهراء عليها‌السلام ، وتأمَّلتها في صحيح البخاري ، رجعت إلى منزل السيِّد البدري بعد ثلاث أيام لأشكره على ما قدَّم لي من كتب ، وأعطاني من وقته للبحث ، وقال لي : يا بنيَّ! اللّهمَّ اشهد أني قد بلَّغتك على مذهب الحقّ مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، وأقام عليَّ الحجّة بعد هذه اللقاءات ، وأصبحت هذه الحوارات أمانة في عنقك وحجَّة عليك ، فالويل ثمَّ الويل لمن بان له الحقُّ وكتمه ، فالويل ثمَّ الويل لمن تجلَّت له الحقيقة وسكت عنها ، ولم يدافع عنها ولم يدعُ لها.

وقال لي : يا بنيَّ! أنا كبرت وتعبت ، وأتعبني قلبي ، وغداً سأسافر إلى بيروت ، إلى الجامعة الأمريكيّة لأعمل عمليّة للقلب ، وفقرات الظهر.

وفعلا سافر السيِّد البدري ، وتمَّ الرفض من قبل الجامعة الأمريكيّة لإجراء

٣٧٥

أيِّ عمل جراحيٍّ له ، بسبب عدم تحمُّل القلب ، وصمَّم أن يعمل فقط عمل جراحي لظهره في مشفى صيدا ، وسافر بعدها إلى إيران.

وكان يقول لي : مسؤوليتك كبيرة أمام الله ، ومعرفتك الحق أمانة ، وأنت تسأل غداً عن هذه الأمانة.

فعاهدت السيِّد البدري على حفظ الأمانة ، ومتابعة البحث والطريق إن شاء الله تعالى ، وأسألك الدعاء سيِّدي ، فودَّعته وقبَّلت جبينه وخرجت.

وبعد ذلك وصلني نبأ وفاته في مدينة قم المقدسة بعد شهر ، فبكيت عليه بكاء شديداً ، وسافرت إلى مدينة قم حيث لم أحضر جنازته ، فزرته وقرأت الفاتحة على ضريحه المقدَّس ، وعاهدته بمواصلة البحث ، والسير في الدعوة إلى طريق أهل البيتعليهم‌السلامحتى ألقى ربّي وأنا في هذا الطريق إن شاء الله تعالى(١).

__________________

١ ـ ومن الحوار اكتشفت الحقيقة ، هشام آل قطيط : ٦٥ ـ ١٣٨.

٣٧٦

المناظرة الثانية والأربعون

مناظرة

الشيخ معتصم سيد أحمد السوداني مع الشيخ عبدالقادر

الأرنؤوطي في حديث الثقلين

حدث لي أثناء إقامتي في الشام لقاء مع الشيخ عبدالقادر الأرنؤوطي ، وهو من علماء الشام ، وله إجازة في علم الحديث.

وقد تم هذا اللقاء من غير إعداد مني ، وإنما كان من طريق الصدفة ..

كان لي أحد الأصدقا السودانيين أسمه عادل ، تعرفت عليه في منطقة السيدة زينب عليها‌السلام وقد أنار الله قلبه بنور أهل البيت عليهم‌السلام وتشيع لهم ، وامتاز هذا الأخ بصفات حميدة قل ما تجدها في غيره ، فكان خلوقاً متديناً ورعاً ، وقد أجبرته الظروف على العمل في إحدى المزارع في منطقة تُسمى العادلية ـ ٩ كم تقريباً جنوب السيدة زينب عليها‌السلام ، وكان بجوار المزرعة التي يعمل بها مزرعة اُخرى لرجل كبير السن متديّن يكنى بأبي سليمان.

فعندما عرف هذا الجار أن السوداني الذي يعمل بجواره شيعي ، جاء إليه وتحدّث معه ، قال : يا أخي ، السودانيون سنّة طيبون ... من أيين لك بالتشيع؟! هل في اُسرتك أحد شيعي؟

قال عادل : لا ، ولكن الدين والقناعة لا تبتني على تقليد المجتمع

٣٧٧

والاُسرة.

قال : إن الشيعة يكذّبون ويخدعون العامة.

قال عادل : أنا لم أر منهم ذلك.

قال : بلى نحن نعرفهم جيداً.

قال عادل : يا حاج ، هل تؤمن بالبخاري ومسلم وصحاح السنة؟

قال : نعم.

قال عادل : إن الشيعة يستدلون على أي عقيدة يؤمنون بها من هذه المصادر ، فضلاً عن مصادرهم.

قال : إنهم يكذبون ، ولهم بخاري ومسلم محرَّف.

قال عادل : إنهم لم يلزموني بكتاب مخصص ، بل طلبوا مني أن أبحث في أي مكتبة في العالم العربي.

قال : هذا كذبٌ ، وأنا من واجبي أن أردك مرة اُخرى إلى السنّة ، « وإن يهدي بك الله رجل واحد خير لك مما طلعت عليه الشمس » (١).

قال عادل : نحن طالبي حق وهدى ، نميل مع الدليل حيثما مال.

قال : إني سأحضر لك أكبر عالم في دمشق ، وهو العلامة عبدالقادر الأرونؤوطي ، عالم جليل ، ومحدّث حافظ ، وقد حاول الشيعة إغراءه بالملايين حتى يصبح معهم ، لكنه رفض ...

وافق ـ الأخ ـ عادل على هذا الطرح ، وقال له أبو سليمان : موعدنا يوم الأثنين أنت وكل السودانيين الذين تأثروا بالفكر الشيعي.

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١ ص ٢١٥ ح ٢٦ ، وج ٢ ص ١٤٦ ح ١٥.

٣٧٨

جاء إليَّ عادل ، وأخبرني بماحدث ، وطلب مني أن أذهب معه ... وبفرحة شديدة قبلت هذا العرض ، وتواعدت معه يوم الإثنين بتاريخ ٨ صفر ١٤١٧ من الهجرة على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم ، في تمام الساعة ١٢ ظهراً.

وكان يوماً شديد الحر ، تقابلنا في الموعد ، وانطلقنا إلى المزرعة مع ثلاثة من السودانيين ، وبعد وصولنا كان الأخ عادل في استقبالنا في مزرعة خضراء تحفّها الأشجار المثمرة من الخوخ والتفاح والتوت وغيرها من الفواكه التي لا توجد عندنا في السودان.

وبعدها أخذنا نحث الخطى إلى مزرعة جاره السني ، فاستقبلنا بحفاوة بالغة ، وبعد قليل من الاستجمام في ذلك المكان الذي تحيط به الخضرة من كل حدب ، قمت إلى صلاة الظهر ، وفي أثناء الصلاة ، جاءت قافلة في مقدمتها سيارة تحمل الشيخ الأرنؤوطي ، وقد امتلأ المكان بالناس وخارج المبنى بالسيارات ، وعلت الدهشة وجوه أصحابي السودانيين من هيبة هذا المقام ، لأنهم لم يتصوروا أن الأمر بهذا الحجم ، وبعدما استقر كل واحد في مكانه ، اخترتُ مكاناً بجوار الشيخ.

وبعد إجراء التعريف بين الجميع ، تحدّث صاحب المزرعة مع الشيخ قائلاً : إن هؤلاء إخواننا من السودان ، وقد تأثروا بالتشيع في السيدة زينب عليها‌السلام ، وبينهم واحد شيعي يعمل في المزرعة التي بجوارنا.

قال الشيخ : أين هذا الشيعي؟

قالوا له : ذهب إلى مزرعته وسيرجع بعد قليل.

قال : إذن نؤخر الحديث إلى رجوعه ..

... ذهب إليه أحد السودانيين وأحضره إلى المجلس ، وقد استغل الشيخ

٣٧٩

هذه الفرصة ، بقراءة أحاديث كثيرة يحفظها عن ظهر قلب ، وكان موضوعها أفضلية بعض البلدان على بعض ، وخاصة الشام ودمشق ، وقد أخذ هذا الموضوع حوالي نصف ساعة ـ وهو موضوع لا جدوى فيه ـ ، وقد تعجبت منه كثيراً كيف لا يستغل هذا الظرف ، وقد أعاره الجميع عقولهم بحديث يستفيدون منه في دينهم ودنياهم ، ثم قال : إن دين الله لا يؤخذ بالحسب والنسب ، وقد جعل الله شرعه لكل الناس ، فبأي حق نأخذ ديننا من أهل البيت عليهم‌السلام؟! وقد أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتمسك بكتاب الله وسنته ، وهو حديث صحيح لا يستطيع أحد تضعيفه ، ولا يوجد عندنا طريق آخر غير هذا الطريق وضرب بيده على ظهر عادل وقال له : يا إبني ، لا يغرنَّك كلام الشيعة.

استوقفته قائلاً : سماحة الشيخ ، نحن باحثون عن الحق ، وقد اختلط علينا الأمر ، وجئنا كي نستفيد منك عندما عرفنا أنك عالم جليل ومحدّث وحافظ.

قال : نعم.

قلت : من البديهيات ، التي لا يتغافل عنها إلا أعمى أن المسلمين قد تقسموا إلى طوائف ومذاهب متعددة ، وكل فرقة تدعي أنها الحق وغيرها باطل ، فكيف يتسنى لي ، وأنا مكلف بشرع الله أن أعرف الحق من بين هذه الخطوط المتناقضة؟! هل أراد الله لنا أن نكون متفرقين ، أم اراد أن نكون على ملة واحدة ، نُدين الله بتشريع واحد؟! وإذا كان نعم ، ما هي الضمانة التي تركها الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لنا لكي تحصن الاُمة من الضلالة؟

مع العلم أن أول ما وقع الخلاف بين المسلمين كان بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرة ، فليس جائز في حق الرسول أن يترك أمته من غير هدى يسترشدون به.

٣٨٠