مناظرات المستبصرين

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات المستبصرين

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات ذوي القربى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٩

ثمَّ قال ابن أبي الحديد : وقد وجدت أنا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي ، إمام البغداديين من المعتزلة ، وكان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدّة طويلة.

ووجدت أيضاً كثيراً منها في كتاب أبي جعفر بن قبه ـ أحد متكلِّمي الإماميّة ـ المشهور المعروف بكتاب ( الإنصاف ) وكان أبو جعفر هذا من تلاميذ الشيخ أبي القاسم البلخي رحمهم‌الله ومات في ذلك العصر قبل أن يولد الشريف الرضي(١).

وجدتها أيضاً بخط الوزير ابن فرات ، كان قد كتبها قبل ميلاد الرضي بستين سنة.

وقال كمال الدين ابن ميثم البحراني الحكيم المحقِّق في كتابه شرح نهج البلاغة في الخطبة : إنّي وجدت هذه الخطبة في كتاب الإنصاف لابن قبه ، وهو متوفَّى قبل أن يولد الشريف الرضي.

اللقاء الرابع : في قضايا الخلاف وما يتعلَّق بالصحابة

كان اللقاء الرابع محدَّداً من قبل السيِّد لتكملة الحوار والمناظرة في قضايا الخلاف ، ومعرفة الحقيقة ، حيث كنت ألحُّ على السيِّد بالنقاش.

هشام آل قطيط : سماحة السيِّد! أريد جواباً منكم لقوله تعالى : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ) (٢) ، أليس الخلفاء ممن تحدَّثت الآن عنهم من الذين كانوا أشدّاء على الكفار ، وكانوا مع رسول

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١/٢٠٥ ـ ٢٠٦.

٢ ـ سورة الفتح ، الآية : ٢٩.

٣٢١

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فهذا توجيه الآية الكريمة ومفادها ، فما هو جوابكم؟ وما تقولون في أن الخلفاء : أبا بكر وعمر وعثمان من وجوه أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزعماء من كان معه ، وإذا كان كذلك فهم أحقُّ الناس بما دلَّت عليه الآية من وصف المؤمنين ، والمدح لهم والثناء عليهم ، وذلك يمنع الحكم عليهم بالانحراف والخطأ.

السيِّد البدري : أقول : أولا ـ يا أستاذ ـ إن الآية بعمومها الإطلاقي شاملة لطلحة والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبي هريرة ، وأبي عبيدة عامر ابن الجرّاح ، وأبي الدرداء ، وسعد ، وسعيد ، وأبي موسى الأشعري ، وأبي سفيان ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومعاوية ، ومالك بن نويرة ، وأبي معيط ، ويزيد ، والوليد بن عقبة ، وعبد الله بن سلول ، وغيرهم من الناس ؛ لأن هؤلاء كلهم كانوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا خصوص الخلفاء الثلاثة فقط الذين ذكرتهم يا أستاذ ؛ لأن الآية الكريمة جاءت على صيغة الإطلاق العمومي لكل من كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) لم تحدِّد أو تخصِّص الآية فقط الخلفاء الثلاثة.

وذلك فإن كل ما أوجب دخول الخلفاء : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان في القرآن وثنائه ، فهو يقتضي بوجوب دخول كل من ذكرنا في الآية ؛ لأن هؤلاء كلهم من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانوا جميعاً من الذين معه ، وكان لأكثرهم من الجهاد بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنصرة للإسلام ما لم يكن شيء منه للخلفاء : أبي بكر وعمر وعثمان ، فكيف يتسنَّى لأحد تخصيص الآية بالخلفاء وحدهم؟

وبماذا ياترى اختصَّ الخلفاء الثلاثة بما خرج عنه أولئك ، والجميع بمستوى واحد ، وفي ميزان واحد؟ وهل تجد لذلك ـ يا أخي ـ وجهاً إلاَّ

٣٢٢

التخصيص بلا مخصِّص ، والترجيح بلا مرجِّح ، الباطلين عقلا؟!

فإن قلت لي : إن الآية تريد كل من كان مع النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الزمان أو المكان ، أو بظاهر الإسلام فقد صرت إلى أمر كبير ، وهو مدح الكافرين والمنافقين الذين ( معه ) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المكان ، وكانوا يتظاهرون له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإسلام ، ويبطنون النفاق كما نطق به القرآن.

هشام آل قطيط مقاطعاً السيد : نحن لا نريد أن ننتقص الصحابة ، ولكن أقبل الدليل من القرآن أو من السنة.

السيِّد البدري : فهاك نماذج من مخالفات الصحابة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من القرآن والسنة.

نماذج من مخالفات الصحابة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

منها : أنهم أنكروا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلح الحديبيّة ، وتكلَّموا بكلمات مزعجة على ما حكاه البخاري في صحيحه (١).

منها : أنهم أسرعوا إلى رمي عفاف أمِّ المؤمنين عائشه لمَّا تأخَّرت وصفوان بن المعطل في غزوة بني المصطلق (٢) حتى نزل فيهم قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالاِْفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الاِْثْمِ ) (٣) (٤).

__________________

١ ـ صحيح البخاري : ٢/٩٧٤ ح ٢٥٨١ و٢٥٨٢ ، باب الشروط في الجهاد.

٢ ـ صحيح البخاري : ٤/١٥١٧ ح ٣٩١٠ ، باب حديث الإفك.

٣ ـ سوره النور ، الآية : ١١.

٤ ـ جاء في تفسير القمي عليه الرحمة : ٢/٩٩ في تفسير هذه الآية الشريفة : فإن العامة رووا أنها نزلت في

٣٢٣

منها : أنهم تجرَّؤوا على النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنكروا عليه صلاته على ابن أبي ( المنافق ) حتى جذبوه من ردائه وهو واقف للصلاة عليه (١).

منها : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يخطب على المنبر يوم الجمعة إذ جاءت عير لقريش قد أقبلت من الشام ، ومعها من يضرب الدفّ ، ويستعمل ما حرمه الإسلام ، فتركوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائماً على المنبر ، وانفضُّوا عنه إلى اللهو واللعب رغبة فيه ، وزهداً في استماع مواعظه ، وما يتلو عليهم من آيات القرآن الكريم ، حتى أنزل الله تعالى فيهم : ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) (٢).

ومنها : أنهم قد تشاتموا مرَّة على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتضاربوا بالنعال بحضرته ، على ما أخرجه البخاري في صحيحه (٣).

وتقاتل الأوس والخزرج على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأخذوا السلاح واصطفّوا للقتال ـ كما ذكره الحلبي الشافعي في سيرته الحلبية (٤) ، مع علمهم بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر ) على ما حكاه البخاري في صحيحه (٥) ، وعلمهم بما أوجبه الله تعالى عليهم من التأدُّب بحضرته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأن لا يرفعوا أصواتهم فوق صوته ، فقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ

__________________

عائشة وما رميت به في غزوة بني المصطلق من خزاعة ، وأما الخاصة فإنهم رووا أنها نزلت في مارية القبطية وما رمتها به عائشة.

١ ـ صحيح البخاري : ٥/٢١٨٤ ح ٥٤٦٠ ، باب لبس القميص.

٢ ـ سورة الحجر ، الآية : ١١.

٣ ـ صحيح البخاري : ٢/٩٥٨ ح ٤٨ ، باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر.

٤ ـ راجع : صحيح البخاري : ٢/١٠٧.

٥ ـ صحيح البخاري : ٢/٩٥٨ ح ٤٨ ، باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر.

٣٢٤

فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ) (١).

وهناك مخالفات كثيرة وقعوا فيها مما يضيق المجال لذكرها الآن.

هشام آل قطيط : سماحة السيِّد! لماذا لم تذكر فضيلة الخليفة أبي بكر عندما كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الغار لتحقيق معنى الآية؟ ولماذا تنكرون ذلك أنتم الشيعة؟ ألم يكن له شرف الهجرة مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه من أكبر الفضائل للخليفة الأول؟ ألم تنزل عليه السكينة في الآية؟ لماذا تغفل هذه الأمور ولم تناقشها؟ ألم يكن تعصُّباً ودفاعاً عن الشيعة؟

السيِّد البدري : إن ما ذكره الطبري في تأريخه : إن أبا بكر ما كان يعلم بهجرة النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجاء عند علي بن أبي طالب عليه‌السلام وسأله عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأخبره بأنه هاجر نحو المدينة ، فأسرع أبو بكر ليلتقي بالنبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فرآه في الطريق ، فأخذه النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معه ، فالنبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما أخذ معه أبا بكر على غير ميعاد ، لا كما تقول.

وقال بعض المحقِّقين : إن أبا بكر بعدما التقى بالنبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الطريق اقتضت الحكمة النبويَّة أن يأخذه معه ولا يفارقه ؛ لأنه كان من الممكن أن يفشي أمر الهجرة ، وكان المفروض أن يكون سرّاً ، كما نوَّه به الشيخ أبو القاسم ابن الصبَّاغ ، وهو من كبار علمائكم ، قال في كتابه ( النور والبرهان ) : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر عليّاً فنام على فراشه ، وخشي من أبي بكر أن يدلَّهم عليه فأخذه معه ومضى إلى الغار.

__________________

١ ـ سوره الحجرات ، الآية : ٢.

٣٢٥

السيِّد البدري : أسألك ـ يا أستاذ ـ أن تبيِّن لي محلَّ الشاهد من الآية الكريمة ، وتوضح الفضيلة التي سجَّلتها الآية لأبي بكر!

هشام آل قطيط : الآية تبدأ من قوله تعالى : ( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُود لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (١) ، محلُّ الشاهد ظاهر ، والفضيلة أظهر ، وهي :

أوّلا : صحبة النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فإن الله تعالى يعبِّر عن الصدّيق بصاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثانياً : جمله : ( إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ).

ثالثاً : نزول السكينة من عند الله سبحانه وتعالى على سيِّدنا أبي بكر. ومجموعها تثبت أفضليّة سيِّدنا الصدّيق وأحقّيّته بالخلافة ، وأنت صرَّحت ـ أيُّها السيِّد ـ لا أحد ينكر أن أبا بكر كان من كبار الصحابة ، ومن شيوخ المسلمين ، وأنه زوَّج ابنته من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

السيِّد البدري : ولكن كل هذه الأمور لا تدلّ على أحقّيتّه بالخلافة ، وكذلك كل ما ذكرت من شواهد ودلائل من الآية الكريمة لا تكون فضائل خاصة بأبي بكر ، بل لقائل أن يقول : إن صحبة الأخيار والأبرار لا تكون دليلا على البرّ والخير ، فكم من كفار كانوا في صحبة بعض المؤمنين والأنبياء وخاصة في الأسفار.

الصحبة ليست فضيلة ، فإنّا نقرأ في سورة يوسف الصدّيقعليه‌السلامأنه قال : ( يَا

__________________

١ ـ سورة التوبة ، الآية : ٤٠.

٣٢٦

صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) (١).

لقد اتّفق المفسِّرون أن صاحبي يوسف الصدَّيق عليه‌السلام هما ساقي الملك وطبَّاخه ، وكانا كافرين ، ودخلا معه السجن ، ولبثا خمس سنين في صحبة النبيِّ يوسف الصديق عليه‌السلام ، ولم يؤمنا بالله ، حتى أنهما خرجا من السجن كافرين ، فهل صحبة هذين الكافرين لنبيِّ الله يوسف عليه‌السلام تعدُّ منقبة وفضيلة لهما؟!

ثانياً : ونقرأ في سورة الكهف : ( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَاب ثُمَّ مِن نُّطْفَة ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ) (٢).

ذكر المفسِّرون أن المؤمن ـ كان اسمه : يهودا ـ قال لصاحبه ـ واسمه براطوس ـ وكان كافراً ، وقد نقل المفسِّرون منهم الفخر الرازي ـ محاورات هذين الصاحبين ، ولا مجال لنفيها.

سؤال : فهل تعدُّ صحبة براطوس ليهودا فضيلة أو شرفاً يقدِّمه على أقرانه؟! أو هل تكون دليلا على إيمان براطوس ، مع تصريح الآية : ( أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَاب )؟! فالمصاحبة وحدها لا تدلُّ على فضيلة وشرف يميِّز صاحبها ويقدِّمه على الآخرين.

وأمَّا استدلالك على أفضليّة أبي بكر بالجملة المحكية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ) فلا أجد فيها فضيلة وميزة لأحد ؛ لأن الله تعالى لا يكون مع المؤمنين فحسب ، بل يكون مع غير المؤمنين أيضاً ؛ لقوله تعالى : ( مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَة إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ

__________________

١ ـ سورة يوسف ، الآية : ٣٩.

٢ ـ سورة الكهف ، الآية : ٢.

٣٢٧

مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ... ) (١) ، فبحكم هذه الآية الكريمة فإن الله عزَّوجلَّ يكون مع المؤمن والكافر والمنافق.

هشام آل قطيط : عفواً سماحة السيِّد! المقصود ( إن الله شاء ) أي أن الله مع الذين يعملون لطاعته وعبادته ، والألطاف والعناية ، أي تشملنا ، هذا هو المراد ، وإلاَّ في الحقيقة والواقع الله سبحانه وتعالى مع الجميع ، ويعلم ما في قلوب الجميع ، وإلاَّ هذا الاستدلال الذي أتيت به غير مقنع.

حقائق لا بد من توضيحها وكشفها

السيِّد البدري : أقول لك : لا مناقشة في الأمثال ؛ لأن الأمثال تضرب ولا تقاس ، أعطيك أمثلة على ذلك.

١ ـ إبليس ، فإنه عبد الله تعالى عبادة قلَّ نظيرها من الملائكة ، وقد شملته الألطاف الإلهيّة والعناية الربّانيّة ، ولكن لما تمرَّد عن أمر خالقه واتّبع هواه واغتر خاطبه الله تعالى قائلا : ( قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ) (٢).

٢ ـ وبرصيصا في بني إسرائيل ، كان مجدّاً في عبادة الله سبحانه وتعالى حتى أصبح مع المقرَّبين ، وكانت دعوته مستجابة ، ولكن عند الامتحان أصيب بسوء العاقبة ، فترك عبادة ربِّ العالمين ، وسجد لإبليس اللعين ، وأمسى من الخاسرين ، فقال الله تعالى فيه : ( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلاِْنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي

__________________

١ ـ سورة المجادلة ، الآية : ٧.

٢ ـ سورة الحجر ، الآية : ٢٤ ـ ٢٥.

٣٢٨

بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ) (١).

فإذا صدر عمل حسن من إنسان فلا يدلُّ على أن ذلك الإنسان يكون حسناً إلى آخر عمره ، وأن عاقبة أمره تكون خيراً ، ولذا ورد في أدعية أهل البيت عليهم‌السلام : اللهم اجعل عواقب أمورنا خيراً.

٣ ـ ومثله في البشر : بلعم بن باعورا ، فإنه كما ذكر المفسِّرون في تفسير قوله تعالى : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ) (٢) ، قالوا : إنه تقرَّب إلى الله تعالى بعبادته له إلى أن أعطاه الاسم الأعظم ، وأصبح ببركة اسم الله سبحانه دعاؤه مستجاباً ، وعلى أثر دعائه تاه موسى وبني إسرائيل وأممٌ كثيرة في الوادي ، ولكن على أثر طلبه للرئاسة والدنيا سقط في الامتحان ، واتّبع الشيطان ، وخالف الرحمن ، وسلك سبيل البغي والطغيان ، وصار في المخلَّدين في النيران ، ومن أحبَّ تفصيل قصّته فليراجع تفسير الفخر الرازي : ٤/٤٦٢ ، فإنه يروي ( قصته ) عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد بالتفصيل.

هشام آل قطيط : استأذنت بالخروج من الجلسة ، وما عدت أتحمَّل الحوار ، ولا الإصغاء إلى هذا الكلام القاسي بحقّ تشبيهه الخلفاء وأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإبليس وبرصيصا وبلعم بن باعورا ، ووقفت ووصلت إلى الباب ، فركض سماحة السيِّد خلفي ، وقال : ألم أقل لك : اصبر ، اصبر يا أخي.

فقلت له : من فضلك تغيِّر محور النقاش سماحة السيِّد الجليل.

__________________

١ ـ سوره الحشر ، الآية : ١٦.

٢ ـ سورة الأعراف ، الآية : ١٧٥.

٣٢٩

السيِّد البدري : أنا انتهيت من هذه القصص ، ألم أقل لك في بداية الجلسة على أن الأمثال تضرب ولا تقاس ، ولا مناقشة في الأمثال؟ ولكن يا أخي! إن الأمثلة تضرب لتقريب موضوع الحوار إلى الأذهان ، وليس المقصود من المثل تشابه المتماثلين من جميع الجهات ، بل يكفي تشابههما من جهة واحدة ، وهي التي يرتكز عليها موضوع الحوار ، وإني أشهد الله ـ يا أخي! ـ بأني ما قصدت بالأمثال التي ذكرتها إهانة أحد ، بل البحث والحوار يقتضي في بعض المواقع أن أذكر شاهداً لكلامي ، وأبيِّن المطلب والمراد والمقصود.

هشام آل قطيط : إذا كنت ـ سماحة السيد! ـ قد بيَّنت لي في قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ) وشرحت أن المقصود من أن الله سبحانه تعالى مع الكافر والمؤمن والمنافق فأين تذهب بهذا الدليل القاطع الذي يعدُّ منقبة وفضيلة عظيمة لسيِّدنا أبي بكر ، ألا وهو قوله تعالى : ( فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ) فإن الضمير في ( عليه ) يرجع لأبي بكر الصدّيق ، وهذا شرف من الله ، ومقام عظيم قد كرَّمه به ، فلماذا تحاول طمس هذه الحقيقة؟

السيّد البدري : الضمير التي ذكرته في هذه الكلمة يرجع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليس لأبي بكر ، وبقرينة الجملة التالية في الآية : ( وَأَيَّدَهُ بِجُنُود لَّمْ تَرَوْهَا ) وقد صرَّح جميع المفسرين : أن المؤيَّد بجنود الله سبحانه هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

هشام آل قطيط : ونحن نقول : إن المؤيَّد بالجنود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا شك بذلك ، ولكن أبا بكر كان مؤيَّداً مع النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمصاحبته في الغار.

السيِّد البدري : إذا كان الأمر كما تقول يا أستاذ ، وقلت لي في أول الجلسة بأنك تدرس اللغة العربيّة ، لجاءت الضمائر في الآية الكريمة بالتثنية ، بينما الضمائر كلُّها جاءت مفردة ، فحينئذ لا يجوز لأحد أن يقول : إن الألطاف

٣٣٠

والعنايات الإلهيّة ـ كالنصرة والسكينة ـ شملت أبا بكر دون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فينحصر القول بأنها شملت رسول الله دون صاحبه.

هشام آل قطيط : سماحة السيِّد! إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس بحاجة إلى السكينة ؛ لأن السكينة موجودة معه ولا تفارقه ، ولكنَّ سيِّدنا أبا بكر كان بحاجة ماسّة إلى السكينة فأنزلها الله عليه.

السيِّد البدري : يا أخي! لماذا تضيع الوقت بتكرار الكلام؟ وبأيِّ دليل تقول : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يحتاج إلى السكينة الإلهيّة؟! بينما الله سبحانه وتعالى يقول : ( ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا ) (١) وذلك في غزوة حنين ، ويقول الله تعالى في آية أخرى : ( فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ) (٢) وذلك في فتح مكة المكرمة.

لاحظ ـ أيُّها الأستاذ الكريم ـ أن الله تعالى في الآيتين الكريمتين يذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويذكر بعده المؤمنين ، فلو كان أبو بكر في آية الغار من المؤمنين الذين تشملهم السكينة الإلهيّة لكان الله عزَّوجلَّ قد ذكره بعد ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو قال تعالى : فأنزل الله سكينته عليهما.

هذا وقد صرَّح كثير من كبار علمائكم بأن ضمير ( عليه ) في الآية الكريمة يرجع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا إلى أبي بكر ، راجع كتاب : ( نقض العثمانيّة ) للعلامة الشيخ أبي جعفر الإسكافي ، وهو أستاذ ابن أبي الحديد ، وقد كتب ذلك الكتاب القيِّم في ردِّ وجواب أباطيل أبي عثمان الجاحظ.

وأزيدك أدلّة أخرى أيُّها الأستاذ المحاور ، إنا نجد في الآية الكريمة جملة

__________________

١ ـ سورة التوبة ، الآية : ٢٦.

٢ ـ سوره الفتح ، الآية : ٢٦.

٣٣١

تناقض قولك!

سؤال : قال تعالى في محكم كتابه : ( إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ ) (١) فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هنا ينهى صاحبه عن الحزن ، فالسؤال الذي أوجِّهه إليك أيُّها المحاور : هل أن حزن أبي بكر كان طاعة لله ولرسوله أم معصية؟!

هشام آل قطيط : طبعاً حزن سيِّدنا أبي بكر كان طاعة لله فكيف يكون معصية؟ معاذ الله!

السيِّد البدري : ما دام حزن الخليفة أبي بكر طاعة لله كما ذكرت فلماذا نهاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذه الطاعة وقال له : لا تحزن؟ و ( لا ) هنا للنهي ، والنهي يأتي عن المعصية وليس عن الطاعة ، فالآية لم تكن في فضل أبي بكر ومدحه ، بل تكون في ذمِّه وقدحه! وصاحب السوء لا تشمله العناية والسكينة الإلهيَّة ؛ لأنهما تختصَّان بالنبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ، وهم أولياء الله الذين لا يخشون أحداً إلاَّ الله سبحانه ، ومن أهم علامات الأولياء كما في قوله تعالى : ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) (٢).

ولمَّا وصلنا إلى هذه النقطة كان الوقت ما يقرب من أذان صلاة المغرب ، وأجِّلت الجلسة بسبب تعب الطرفين ؛ لأن هناك تكملة لبحوث أخرى.

اللقاء الخامس : مناقشة الأدلّة التي يستدلّ بها على خلافة أبي بكر

هشام آل قطيط : بعد أن ذكرت وبيَّنت ـ سماحة السيِّد! ـ موضوع آية :

__________________

١ ـ سورة التوبة ، الآية : ٤٠.

٢ ـ سورة يونس ، الآية : ٦٢.

٣٣٢

( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) وآية الغار ، لديَّ أدلّة جديدة ، ونصوص صريحة ، أثبت من خلالها أحقّيّة سيِّدنا أبي بكر بالخلافة من بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهي :

أولا : مروا أبا بكر فليصلِّ بالمسلمين ( حديث رواه البخاري ) (١).

ثانياً : لو كنت متّخذاً من أهل الأرض خليلا غير ربّي لا تخذت أبا بكر خليلا ، لا يبقين في المسجد خوخة إلاَّ سدَّت إلاَّ خوخة أبي بكر ( حديث رواه البخاري ) (٢).

ثالثاً : عن عائشة قالت : دخل عليَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في اليوم الذي بدأ فيه فقال : ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتاباً ، ثمَّ قال : يأبى الله والمسلمون إلاَّ أبا بكر (٣).

حوار في النصوص المدعاة على أحقّيّة الخليفة أبي بكر بالخلافة

السيِّد البدري : أقول : لو سلَّمت لك جدلا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر أبا بكر أن يصلّي بالناس في مرضه الذي توفِّي فيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، ولكن ماذا تقول لوقال قائل ممن لايقول بقولك: ألم يقل جمهور الصحابة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمفي مرضه : هجر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمعلى ما أخرجه البخاري في صحيحه(٤) عن ابن عباس أنه قال : يوم الخميس وما يوم الخميس ، ثمَّ بكى حتى خضب دمعه الحصباء ، قال : اشتدّ

__________________

١ ـ سوف يأتي قريباً مع مصادره.

٢ ـ سوف يأتي قريباً أيضاً مع مصادره.

٣ ـ راجع مسند أحمد بن حنبل : ٦/١٤٤ ، السنن الكبرى ، البيهقي : ٨/١٥٣.

٤ ـ صحيح البخاري : ٧/٩ ، ٥/١٣٧ ، ٢/١٣٢ ، ٤/٦٥ ـ ٦٦ ، صحيح مسلم : ٢/١٦ ، ٥/٧٥ ، ١١/٩٤ ـ ٩٥ ، بشرح النووي ، مسند أحمد بن حنبل : ١/٩٥٥.

٣٣٣

برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعه يوم الخميس ، فقال : ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً ، فتنازعوا ، ولا ينبغي عند نبيٍّ تنازع ، فقالوا : هجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! قال : دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه.

هشام آل قطيط : عفواً سماحة السيِّد! أراك خرجت عن موضوع الدليل والنصّ الذي طرحته.

السيّد البدري : يا أستاذ! تعلَّم الصبر والنفس الطويل في الحوار ، ولا تكن سريعاً ، مهلا! سأورد لك بعض المخالفات لأنتقل إلى تحليل هذا النصّ الذي أنت تحتجُّ به وتعتبره دليلا مقنعاً.

سؤال موجَّه لك : ألم يقل الخليفة عمر بن الخطاب للصحابة في مرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن النبي قد غلبه الوجع ، وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله؟ والرواية الأولى قال عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنه هجر ؛ أي بمعنى يهذي (١).

هشام آل قطيط : سيِّدنا عمر بن الخطاب الفاروق يقول لسيِّدنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّه هجر؟ من أين لك هذا الحديث؟ ومن أين أتيت به أيها السيِّد؟ كلام غريب ( معاذ الله من ذلك ).

السيِّد البدري : لا تغضب يا أخي ، هدِّئ من روعك واصبر.

هشام آل قطيط : كيف أهدأ وأنت تتهجَّم على سيِّدنا عمر وتتّهمه هذا الاتّهام؟

السيِّد البدري : ما رأيك في صحيح البخاري يا أستاذ؟

هشام آل قطيط : صحيح البخاري أصدق صحيح عندنا بعد القرآن.

__________________

١ ـ سرّ العالمين وكشف ما في الدارين ، أبو حامد الغزالي : ٢١.

٣٣٤

السيِّد البدري : راجع صحيح البخاري في أواخر ص ١١٨ الجزء الثاني في باب ( هل يستشفع إلى أهل الذمّة ومعاملتهم ) وحتى أربط كل هذا الاستدلال لك يقول : عن ابن عباس قال : لمَّا حضر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هلمّ أكتب لكم كتاباً لا تضلُّوا بعده ، فقال عمر : إن النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله ، فاختلف أهل البيت فاختصموا ، ، منهم من يقول : قرِّبوا يكتب لكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتاباً لنا تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلمَّا أكثروا اللغو واللغط والاختلاف عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمقال رسول الله: قوموا. قال عبيدالله : فكان ابن عباس يقول : الرزيّة كل الرزيَّة ما حال بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم (١) ، وهذا مشهور برزيَّة يوم الخميس.

الوجه الصحيح في حديث صلاة الخليفة أبي بكر

السيِّد البدري : أقول : إن الصحيح المتواتر بين الفريقين : السنّي والشيعيّ معاً أن النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخَّر الخليفة أبا بكر من تلك الصلاة ، وصرفه عن إمامة المسلمين ؛ لأنه خرج بعد سماعه بتقدُّم أبي بكر يتهادى بين علي والعبّاس ، مع ما فيه من ضعف الجسم بالمرض ، الأمر الذي لا يتحرَّك معه العاقل إلاَّ في حال الاضطرار ، لتدارك ما يخاف بفوته حدوث أعظم فتنة ، فعزل النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر عمّا كان تولاَّه من تلك الصلاة كما نطقت به صحاحكم ، ويدلُّك على أن تقدُّمه للصلاة لم يكن بأمر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شيء ، وإنما كان الأمر صادراً من ابنته

__________________

١ ـ صحيح البخاري ، الجزء الثاني ، باب ( يستشفع إلى أهل الذمّة ومعاملتهم ) ص ١١٨.

٣٣٥

السيّدة عائشة ، ولم تكن تلك الصلاة إلاَّ صلاة الصبح لا غيرها.

ويرشدك ويدلُّك على ذلك ـ يا أخي ـ ما أخرجه الحافظ الكبير الإمام مسلم في صحيحه (١).

وأنقل لك هذه الرواية عن عائشة : قالت : لمَّا ثقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء بلال يؤذنه بالصلاة ، فقال : مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس ، قالت : فقلت : يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف ، وإنه متى يقم مقامك لم يسمع الناس فلو أمرت عمر ، فقال : مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس ، قالت : فقلت لحفصة : قولي له : إن أبا بكر رجل أسيف ، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس فلو أمرت عمر ، فقالت له ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنكن لأنتن صويحبات يوسف ، مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس! قالت : فأمروا أبا بكر يصلّي بالناس.

ثمَّ ـ أخي الكريم ـ لماذا تحاول ربط مسألة الصلاة بمسألة الخلافة؟ لو فرضنا جدلا صحّة حديث عائشة أم المؤمنين ، وغضضنا النظر عن تلك الوجوه التي ناقشتها الآن ، ومع كل ذلك فإن الأمر بالصلاة خلفه لا يوجب للخليفة أبي بكر الإمامة العامة على المسلمين ؛ لعدة أسباب ، منها :

أولا : لقد اتّفق أئمّة السنة والحفّاظ عندكم على أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمصلَّى خلف عبد الرحمن بن عوف ، على ما نقله لنا ابن كثير في تأريخه(٢) وهذا شيء لايختلف فيه أحد ، فلم يوجب فضلا لعبدالرحمن بن عوف على النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، ولايقتضي ذلك أن يكون إماماً واجب الطاعة عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلموعلى غيره من أصحابه ،

__________________

١ ـ صحيح مسلم ، ٢/٢٢ ـ ٢٣ باب ( استخلاف الإمام إذا عرض له عذر ) كتاب الصلاة ، صحيح البخاري : ١/١٦٥ ، مسند أحمد بن حنبل : ٦/٩٦ ، سنن الترمذي : ٥/٢٧٥ ح ٣٧٥٤.

٢ ـ البداية والنهاية ، ابن كثير : ٥/٢٢.

٣٣٦

فكما أن صلاة النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلف عبد الرحمن بن عوف لم توجب له الإمامة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا على غيره من الناس ، فكذلك لم توجب صلاة أبي بكر بالمسلمين إمامته عليهم.

ثانياً : لا خلاف بين الفريقين : السنّي والشيعيّ في أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد استعمل عمرو بن العاص على الخليفتين أبي بكر وعمر وجماعة المهاجرين والأنصار ، وكان يؤمُّهم في الصلاة مدّة إمارته عليهم في واقعة ذات السلاسل ، على ما نقله لنا ابن كثير في تاريخه(١)، فلم توجب صلاته فيهم(٢)إمامته عليهم ، ولا فضلا عليهم ، لافي الظاهر ، ولا عند الله تعالى على حال من الأحوال ، فكذلك الحال في صلاة أبي بكر فيهم ، لاتوجب إمامته عليهم ، ولا فضلا عليهم.

ثالثاً : وهذا البخاري أصدق صحيح عندكم يحدِّثنا في صحيحه (٣) عن ابن عمر قال : لمَّا قدم المهاجرون الأوّلون العصبة ( موضع بقبا ) قبل مقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يؤمُّهم سالم مولى أبي حذيفة ، وكان أكثرهم قرآناً.

فكما أن إمامة سالم مولى أبي حذيفة للمهاجرين الأوّلين لم توجب له فضلا ، ولا الإمامة العامّة عليهم ، ولم تقض له بخلافة الرسالة المحمديَّة ، فكذلك إمامة أبي بكر للصلاة بالمسلمين لم توجب له فضلا ، ولا الإمامة العامّة عليهم ، ولم تقض له بخلافة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

١ ـ البداية والنهاية ، ابن كثير : ٤/٢٧٣.

٢ ـ راجع في إمامة عمرو بن العاص في الخليفتين أبي بكر وعمر هذه المصادر : السيرة الحلبيّة ، الشافعي : ٣/١٩ ، تاريخ الخميس : ٢/٨٢ ، والدحلاني في ص ١١ من سيرته بهامش الجزء الثاني من السيرة الحلبية.

٣ ـ صحيح البخاري : ١/٨٩ ، باب ( إمامة العبد من أبواب صلاة الجماعة من كتاب الأذان ).

٣٣٧

رابعاً : عتاب بن أسيد أحقُّ بالخلافة من الخليفة أبي بكر ، لماذا؟ لأنه الذي قدَّمه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي بالناس حين فتح رسول الله مكة ، والرسول مقيم في مكة ، وأبو بكر معه يصلّي خلف عتاب بن أسيد ، فقدَّمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلميصلّي بالناس في المسجد الحرام من غير علّة ، ولا ضرورة دعته إلى ذلك.

وهذا بإجماع الأمّة ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي بالناس الظهر والعصر ، وعتاب بن أسيد يصلّي بالناس الثلاث صلوات بإجماع الأمّة ، وبإجماع الأمّة أن المسجد الحرام أفضل من مسجد المدينة ، ومكة أفضل من المدينة ، ويلزم في النظر أن من قدَّمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المواطن الأفضل من غير علّة أفضل ممن قدَّمه في مسجد هو دونه في الفضل مع ضرورة العلة ، فتأمَّل يا أخي.

تجويزكم للصلاة خلف البرّ والفاجر

السيِّد البدري : ثمَّ إنكم متّفقون على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرشدكم إلى الصلاة خلف كل برٍّ وفاجر (١) ، فإذا كانت الصلاة تجوز عندكم خلف كل فاسق وفاجر ، والاقتداء بكل ظالم وعاص ، بإجماع علماء السنة نصّاً وفتوى وعملا ، وكانت صلاة الخليفة أبي بكر بالمسلمين دليلا على خلافة النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإمامة الأمّة ، كان ذلك دليلا أيضاً على إمامة هؤلاء جميعاً ، ولكان كلُّهم خلفاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بعده ، وكأن قوله تعالى : ( وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) (٢) باطلا لا معنى له (٣).

__________________

١ ـ سنن البيهقي : ٤/١٩ ، الفتح الكبير : ٢/١٩٠.

٢ ـ سورة هود ، الآية : ١١٣.

٣ ـ قال الشيخ المظفر عليه الرحمة في دعوى تقديم أبي بكر في الصلاة : فليس فيها أيَّة إشارة إلى تعيينه

٣٣٨

حوار في حديث خوخة أبي بكر

هشام آل قطيط : بعدما ذكرت الأدلّة الكثيرة حول صلاة الخليفة أبي بكر وإبطالها ، فما رأي سماحتكم بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو كنت متّخذاً من أهل الأرض خليلا غير ربّي لاتخّذت أبا بكر خليلا ، لا يبقين في المسجد خوخة إلاَّ سدَّت إلاَّ خوخة أبي بكر (١)؟ أليس هذا الحديث دليلا قاطعاً على خلافة سيدنا أبي بكر (٢).

السيِّد البدري : إن هذا الحديث رواية آحاد ، هذا أوَّلا.

__________________

للخلافة ، فضلا عن النصّ ؛ لأن الإمامة في الصلاة ليست بالأمر الخطير الشأن الذي لا يكون إلاَّ لمن له الإمامة ، ولا سيّما على مذهب أهل السنّة ، وكان ائتمام المسلمين بعضهم ببعض مما اعتادوا عليه ، وشاع يومئذ بينهم بترغيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه .. ولا أعتقد بصحّة ما يروى أن النبي 6 هو الذي قدَّمه للصلاة ، وأنه صلَّى أياماً ؛ لأن أبا بكر كان من جيش أسامة من غير شك ، وقد نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن التخلُّف عنه ، وشدَّد في الإسراع بإنفاذه ، فكيف يجتمع هذا مع تقديم النبيِّ له للصلاة مدّة مرضه؟

نعم ، الثابت أنه صلَّى صلاة واحدة .. يوم الإثنين ، يوم وفاة النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقبل أن يتمَّها خرج صاحب الرسالة يتهادى بين رجلين ، ورجلاه تخطّان الأرض من الوجع ، فصلَّى بالناس صلاتهم ، وتأخَّر أبو بكر ، فإن عائشة هي التي روت أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتقديمه لا غيرها ، وأنها راجعته في ذلك حتى قال لها غاضباً : إنكن لأنتن صواحب يوسف ، وهي نفسها تروي خروجه في نفس تلك الصلاة ، وكان خروجه بهذه الحال إلى الصلاة يوم وفاته وهو يوم الإثنين ، ولو أن النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قدَّمه للصلاة إشارة إلى خلافته ، فلماذا خرج بهذه الحال المؤلمة ، وصلَّى بالناس صلاة المضطرين جالساً؟ ولا معنى لما يقال : إنّه صلَّى أبو بكر بصلاة النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وصلَّى الناس بصلاة أبي بكر ، فمن هو الإمام إذن؟ إن كان أبا بكر فلم يكن قد صلَّى بصلاة النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن كان النبي فلم تكن الناس قد صلَّت بصلاة أبي بكر .. السقيفة ، الشيخ محمّد رضا المظفر : ٥٤.

١ ـ صحيح البخاري : ٤/٢٥٤ ، فضائل الصحابة ، أحمد بن حنبل : ٣ ، مسند أحمد بن حنبل : ١/٤٣٤ ، سنن الترمذي : ٥/٢٧٠ ح ٣٧٤٠ ، صحيح مسلم : ٧/١٠٩ ، السنن الكبرى ، البيهقي : ٦/٢٤٦.

٢ ـ قال ابن أبي الحديد في شرح النهج : ١١/٤٩ : إن البكرية وضعت لأبي بكر أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث نحو ( لو كنت متخذاً خليلا ... ) فإنهم وضعوه في مقابلة حديث الإخاء ، ونحو سد الأبواب ، فإنه كان لعلي عليه‌السلام فقلبته البكرية إلى أبي بكر.

٣٣٩

وثانياً : إن هذا الحديث معارض بحديث أقوى منه سنداً ، وتنقله أحاديثكم ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تقل : لو أني فعلت كذا كان كذا ، ولكن قل : قدَّر الله وما شاء فعل ، فإن كلمة ( لو ) تفتح عمل الشيطان ( حديث شريف ) (١) ، فكيف برسول الأمّة وإمامها ينهانا عن القول بكلمة ( لو ) ويقول لنا إنها تفتح عمل الشيطان ، وهو يبدأ بها؟! هل يعقل هذا الأمر بأن هذا الحديث يصدر من النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فتأمَّل.

ثالثاً : إن هذا الحديث موضوع لدينا ، ووضع مقابل حديث المؤاخاة المشهور والمتواتر ، وهو قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنه لا نبيَّ بعدي (٢).

رابعاً : الشطر الثاني من الحديث ( لا يبقين في المسجد خوخة إلاَّ سدَّت إلاَّ خوخة أبي بكر ) وضع مقابل الحديث المشهور والمتواتر ( سدُّوا هذه الأبواب إلاَّ باب علي ) (٣) فوضع أصحاب الأقلام المأجورة كلمة ( خوخة ) بدل ( باب ) للتغيير والتحريف.

هشام آل قطيط : عفواً سماحة السيِّد! الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك خوخة مفتوحة

__________________

١ ـ سنن ابن ماجة : ٥/٣١ ح ٧٩ ، صحيح مسلم : ٨/٥٦ ، السنن الكبرى ، البيهقي : ١٠/٨٩ ، السنن الكبرى ، النسائي : ٦/١٥٩ ح ١٠٤٧٥.

٢ ـ تقدَّمت تخريجاته.

٣ ـ فضائل الصحابة ، أحمد بن حنبل : ١٣ ـ ١٤ ، صحيح مسلم : ٧/١٢٠ ـ ١٢١ ، سنن الترمذي : ٥/٣٠٢ ح ٣٨٠٨ و٣٠٤ ح ٣٨١٣ ، المستدرك ، الحاكم : ٢/٣٣٧ ـ ٣٣٨ ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، و٣/١٠٨ ـ ١٠٩ ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة ، وص ١٣٣ أيضاً ، السنن الكبرى ، البيهقي : ٩/٤٠ ، المصنّف ، عبد الرزاق : ٥/٤٠٥ ـ ٤٠٦ ح ٩٧٤٥ ، وغير ذلك من المصادر الكثيرة ، كما أن هذا الحديث يعدُّ من المتواترات.

٣٤٠