مناظرات المستبصرين

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات المستبصرين

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات ذوي القربى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٩

اثنان ، فقال له علي عليه‌السلام : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهد إليَّ أن لا أدعو أحداً حتى يأتوني ، ولا أجرِّد سيفاً حتى يبايعوني ، ومع هذا فلي برسول الله شغل (١).

وفي رواية الجوهري : قال العباس بن عبد المطلب لعليٍّ عليه‌السلام في حوار له معه : فلمَّا قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتانا أبو سفيان بن حرب تلك الساعة ، فدعوناك إلى أن نبايعك ، وقلت لك : ابسط يدك أبايعك ، ويبايعك هذا الشيخ ، فإنّا إن بايعناك لم يختلف عليك أحد من بني عبد مناف ، وإذا بايعك بنو عبد مناف لم يختلف عليك أحد من قريش ، وإذا بايعتك قريش لم يختلف عليك أحد من العرب ، فقلت : لنا بجهاز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شغل ، وهذا الأمر فليس نخشى عليه ، فلم نلبث أن سمعنا التكبير من سقيفة بني ساعدة .. (٢).

وقال المقريزي : وفي رواية : أن العباس قال لعلي عليه‌السلام : هلمَّ يدك أبايعك ، فقال : إن لي برسول الله شغلا ، ومن ذاك الذي ينازعنا هذا الأمر؟ (٣).

وقال ابن قتيبة الدينورى : فلمَّا قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال العباس لعلي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه : ابسط يدك أبايعك ، فيقال : عمُّ رسول الله بايع ابن عمِّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويبايعك أهل بيتك ، فإن هذا الأمر إذا كان لم يقل ، فقال له عليٌّ كرَّم الله وجهه : ومن يطلب هذا الأمر غيرنا؟ (٤).

وعن أبي جعفر محمّد بن عليعليهما‌السلامأن عليّاً حمل فاطمة عليها‌السلام على حمار ، وسار بها ليلا إلى بيوت الأنصار، يسألهم النصرة ، وتسألهم فاطمة الانتصار له ،

__________________

١ ـ الفصول المختارة ، المفيد : ٣٤١.

٢ ـ السقيفة وفدك ، الجوهري : ٤٤ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٢/٤٨.

٣ ـ النزاع والتخاصم ، المقريزي : ٧٨.

٤ ـ الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة الدينوري : ٢١.

١٢١

فكانوا يقولون : يا بنت رسول الله! قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، لو كان ابن عمِّك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به ، فقال علي : أكنت أترك رسول الله ميّتاً في بيته لا أجهِّزه پ (١) ، وأخرج إلى الناس أنازعهم في سلطانه؟ وقالت فاطمة : ما صنع أبو حسن إلاَّ ما كان ينبغي له ، وصنعوا هم ما الله حسبهم عليه (٢).

والأمر واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان ، فحاش أميرالمؤمنين علياً عليه‌السلام أن يترك النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جنازة ، ويخرج في طلب الخلافة ، فهو ليس بحاجة لها ولا للناس ، بل الناس في حاجة إليه ، فجلس إلى جانب أخيه وابن عمِّه باكي العين حزين القلب ، وقد هدَّ ركنه هذا المصاب الجلل ..

وقد جاء هذا المعنى أيضاً في احتجاجات فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، فقد قالت للقوم : لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم ، تركتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جنازة بين أيدينا ، وقطعتم أمركم بينكم ، لم تستأمرونا ، ولم تردُّوا لنا حقّاً (٣).

ثمَّ إن عليّاً عليه‌السلام هو خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما عقد له من الولاية والخلافة والطاعة يوم غدير خمٍّ وغيره ، وهو إمام بايعه الناس أو لم يبايعه ، وليس على الإمام أن يذهب إلى الناس ليبايعوه ، بل على الناس أن يأتوه للبيعة طائعين ، ولا يبايعوا غيره ، فهو عليه‌السلام كالكعبة تؤتى ولا تأتي (٤) وهذا ـ طبعاً ـ لا يعني أن يسكت

__________________

١ ـ في رواية ابن قتيبة : أفكنت أدع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيته لم أدفنه؟

٢ ـ السقيفة وفدك ، الجوهري : ٦٣ ـ ٦٤ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٦/١٣ ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : ١/٢٩ ـ ٣٠.

٣ ـ الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة الدينوري : ١/٣٠.

٤ ـ روي عن أبي الحسن موسى ، عن أبيه عليهما‌السلام أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعلي عليه‌السلام : إنما مثلك في الأمة مثل الكعبة التي نصبها الله علماً ، وإنما تؤتى من كل فجٍّ عميق ونأي سحيق ، ولا تأتي ... الحديث. وسائل

١٢٢

أميرالمؤمنين عليه‌السلام عن حقِّه ، أو يترك الاحتجاج ولا يعلن ظلامته.

هذا والمتتبِّع لكلمات أميرالمؤمنين عليه‌السلام يجد الكثير من هذه الاحتجاجات الصريحة في ذلك (١) ، وهي كفيلة أن توقف كل من قرأها على الحقيقة ، ومن هو صاحب الخلافة والذي تجب له البيعة والطاعة.

كلام فاطمة الزهراء عليها‌السلام في النصِّ على أميرالمؤمنين عليه‌السلام بالخلافة ولماذا قعد عن حقّه

قال محمود بن لبيد : لمَّا قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت فاطمة تأتي قبور الشهداء ، وتأتي قبر حمزة ، وتبكي هناك ، فلمَّا كان في بعض الأيام أتيت قبر حمزة رضي الله عنه ، فوجدتها ـ صلوات الله عليها ـ تبكي هناك ، فأمهلتها حتى سكتت ، فأتيتها وسلَّمت عليها ، وقلت : يا سيِّدة النسوان! قد والله قطَّعتِ أنياط قلبي من بكائك.

فقالت : يا أبا عمر! يحقُّ لي البكاء ، ولقد أصبت بخير الآباء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واشوقاه إلى رسول الله ، ثمَّ أنشأت عليها‌السلام تقول :

__________________

الشيعة ، الحرّ العاملي : ٤/٣٠٢.

وفي تفسير الثعلبي بسنده ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مثل عليٍّ فيكم ـ أو قال : في هذه الأمّة ـ مثل الكعبة المستورة أو المشهورة ، النظر إليها عبادة ، والحجُّ إليها فريضة. المناقب ، ابن المغازلي : ١٠٧ ، رقم : ١٤٩.

١ ـ راجع الجزء الثالث من كتابنا المناظرات : ص ٣٧ ـ ٥١ في احتجاجات أميرالمؤمنين 7 ، ومن احتجاجاته قوله عليه‌السلام : يا معشر المهاجرين! الله الله ، لا تخرجوا سلطان محمّد عن داره وبيته إلى بيوتكم ودوركم ، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقّه ، فوالله ـ يا معشر المهاجرين ـ لنحن أهل البيت أحقُّ بهذا الأمر منكم .. إلخ. السقيفة وفدك ، الجوهري : ٦٣.

١٢٣

إذا مات يوماً ميِّت قلَّ ذكره

وذكر أبي مذ مات والله أكثر

قلت : يا سيِّدتي! إني سائلك عن مسألة تلجلج في صدري.

قالت : سل.

قلت : هل نصَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل وفاته على عليٍّ بالإمامة؟

قالت : واعجباه! أنسيتم يوم غدير خمّ؟!

قلت : قد كان ذلك ، ولكن أخبريني بما أسرَّ إليك.

قالت : أشهد الله تعالى لقد سمعته يقول : عليٌّ خير من أخلِّفه فيكم ، وهو الإمام والخليفة بعدي ، وسبطاي وتسعة من صلب الحسين أئمة أبرار ، لئن اتبعتموهم وجدتموهم هادين مهديين ، ولئن خالفتموهم ليكون الاختلاف فيكم إلى يوم القيامة.

قلت : يا سيِّدتي! فما باله قعد عن حقه؟

قالت : يا أبا عمر! لقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مثل الإمام مثل الكعبة ؛ إذ تؤتى ولا تأتي ، أو قالت : مثل عليٍّ عليه‌السلام ـ ثمَّ قالت : أما والله لو تركوا الحقَّ على أهله ، واتبعوا عترة نبيِّه لما اختلف في الله تعالى اثنان ، ولورثها سلف عن سلف ، وخلف بعد خلف حتى يقوم قائمنا ، التاسع من ولد الحسين ، ولكن قدَّموا من أخَّره الله ، وأخَّروا من قدَّمه الله ، حتى إذا ألحد المبعوث ، وأودعوه الجدث المجدوث ، واختاروا بشهوتهم ، وعملوا بآرائهم ، تبّاً لهم أو لم يسمعوا الله يقول : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) (١) ، بل سمعوا ، ولكنّهم كما قال الله سبحانه : ( فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاَْبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) (٢) ،

__________________

١ ـ سورة القصص ، الآية : ٦٨.

٢ ـ سورة الحج ، الآية : ٤٦.

١٢٤

هيهات ، بسطوا في الدنيا آمالهم ، ونسوا آجالهم ، فتعساً لهم وأضلَّ أعمالهم ، أعوذ بك ـ يا ربِّ ـ من الحور بعد الكور (١).

قال كليب بن معاوية الصيداوي : قال أبو عبد الله جعفر بن محمّد عليه‌السلام : ما يمنعكم إذا كلَّمكم الناس أن تقولوا : ذهبنا من حيث ذهب الله ، واخترنا من حيث اختار الله ، إن الله سبحانه اختار محمّداً ، واختار لنا آل محمّد ، فنحن متمسِّكون بالخيرة من الله عزّوجل (٢).

كلام الشيخ المفيد عليه الرحمة في حديث العباس لأمير المؤمنين عليه‌السلام

قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : وما رأيت أوهن ولا أضعف من تعلُّق المعتزلة ومتكلِّمي المجبِّرة بقول العباس بن عبد المطلب رحمهم‌الله لأميرالمؤمنين عليه‌السلام بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : امدد يدك ـ يا بن أخ ـ أبايعك ، فيقول الناس : عمُّ رسول الله بايع ابن أخيه ، فلا يختلف عليك اثنان ، وقد ادّعوا أن في هذا دليلا على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينصَّ على أميرالمؤمنين عليه‌السلام ، وقولهم : إنَّه لو كان نصَّ عليه لم يدعه العباس إلى البيعة ؛ لأن المنصوص عليه لا يفتقر في إمامته وكمالها إلى البيعة ، فلمَّا دعاه العباس إلى عقد إمامته من حيث تنعقد الإمامة التي تكون بالاختيار دلَّ على بطلان النصِّ.

وهذا الكلام مع وهنه فقدحار قوم من الشيعة عن فهم الغرض فيه، وعدلوا عن نقضه من وجهه ، وقد كنت قلت لمناظر اعتمد عليه في حجاجه في الإمامة ، ورام به مناقضتي في مجلس من مجالس النظر أقوالا، أنا أورد مختصراً منها ،

__________________

١ ـ كفاية الأثر ، الخزاز القمي : ١٩٨ ـ ٢٠٠.

٢ ـ الأمالي ، الطوسي : ٢٢٧ ح ٤٧ ، بحار الأنوار ، المجلسي : ٢٧/٣٢٦ ح ٥.

١٢٥

وأعتمد على بعضها ، إذ كان شرح ذلك يطول.

وهو أن يقال لهم : إن كان دعاء العباس أميرالمؤمنين عليه‌السلام إلى البيعة يدلُّ على ما زعمتم من بطلان النصِّ وثبوت الإمامة من جهة الاختيار فيجب أن يكون دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأنصار إلى بيعته في ليلة العقبة ، ودعاؤه المسلمين من المهاجرين والأنصار تحت شجرة الرضوان ، دليلا على أن نبوَّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما ثبتت له من جهة الاختيار ، فإنّه لو كان ثابت الطاعة من قبل الله عزَّ وجلَّ وإرساله له ، وكان المعجز دليل نبوَّته ، لا ستغنى عن البيعة له تارة بعد أخرى ، فإن قلتم ذلك خرجتم عن الملّة ، وإن أثبتموه نقضتم العلّة عليكم.

فإن قالوا : إنّ بيعة الناس لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تك لإثبات نبوَّته ، وإنما كانت للعهد في نصرته ، بعد معرفة حقِّه وصدقه فيما أتى به عن الله عزَّ وجلَّ من رسالته.

قيل لهم : أحسنتم في هذا القول ، وكذلك كان دعاء العباس أميرالمؤمنين عليه‌السلام إلى بسط اليد إلى البيعة ، فإنما كان بعد ثبوت إمامته بتجديد العهد في نصرته ، والحرب لمخالفيه وأهل مضادّته ، ولم يحتج عليه‌السلام إليها في إثبات إمامته.

ويدلُّ على ما ذكرناه قول العباس : يقول الناس : عمُّ رسول الله بايع ابن أخيه ، فلا يختلف عليك إثنان ، فعلَّق الاتفاق بوقوع البيعة ، ولم يكن لتعلُّقه بها إلاَّ وهي بيعة الحرب التي يرهب عندها الأعداء ، ويحذرون من الخلاف ، ولو كانت بيعة الاختيار من جهة الشورى والاجتهاد لما منع ذلك من الاختلاف ، بل كانت نفسها الطريق إلى تشتُّت الرأي ، وتعلُّق كل قبيل باجتهاده واختياره.

أو لا ترى إلى جواب أميرالمؤمنين عليه‌السلام بقوله : يا عمّ! إن لي برسول

١٢٦

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعظم شغل عن ذلك ، ولو كانت بيعته عقد الإمامة لما شغله عنها شاغل ، ولما كانت قاطعة له عن مراده في القيام برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أو لا ترى أنه لما ألحَّ عليه العباس في هذا الباب قال : يا عمّ! إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصى إليَّ ، وأوصاني أن لا أجرِّد سيفاً بعده حتى يأتيني الناس طوعاً ، وأمرني بجمع القرآن والصمت حتى يجعل الله عزَّ وجلَّ لي مخرجاً ، فدلَّ ذلك أيضاً على أن البيعة إنّما دعا إليها للنصرة والحرب ، وأنّه لا تعلُّق لثبوت الإمامة بها ، وأن الاختيار ليس منها في قبيل ولا دبير على ما وصفناه.

ووجه آخر وهو : أنَّ القوم لمَّا أنكروا النصَّ ، وأظهروا أن الإمامة تثبت لهم من طريق الاختيار ، أراد العباس أن يكيدهم من حيث ذهبوا إليه ، ويبطل أمرهم بنفس ما جعلوه طريقاً لهم إلى الظلم ، وجحد النصِّ ، فقال لأميرالمؤمنين عليه‌السلام : ابسط يدك أبايعك ، فإن سلَّموا الحقَّ لأهله لم تضرَّك البيعة ، وإن ادّعوا الشورى والاختيار ، وأنكروا حقَّك كان لك من البيعة والاختيار والعقد مثل ما لهم ، فلم يمكنهم الاستبداد بالأمر دونك ، فأبى أميرالمؤمنين عليه‌السلام ذلك ، وكره أن يتوصَّل إلى حقِّه بباطل لا يوصل إليه ، وبرهان أمره يقهر القلوب بظهور النصِّ عليه ، ولأنّه كره أن يبسط يده للبيعة فيلزمه بعد ذلك تجريد السيف على دافعيه الأمر ، فلا يستقيم له ـ مع الاختيار وعقد القوم له ـ أن يلزم التقيّة ، وقد تقدَّمت الوصيَّة له من النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالكفِّ عن الحرب مخافة بطلان الدين ودرس الإسلام.

وقد بيَّن ذلك في مقاله عليه‌السلام ، حيث يقول : أما والله ، لو لا قرب عهد الناس بالكفر لجاهدتهم ، فعدل عن قبول البيعة لما ذكرناه.

فإن قال بعضهم في هذا الجواب : قد وصل إلى حقِّه كما زعمتم بعد عثمان بالاختيار ، ودخل في الشورى ، فكيف استجاز التوصُّل إلى الحقِّ بالباطل على ما فهمناه عنكم من الجواب؟

١٢٧

قيل له : يقول القوم : إنّما ساغ له ذلك في الشورى وبعد عثمان لخفاء النصِّ عليه في تلك الأحوال ، واندراس أمره بمرور الزمان على دفعه عن حقِّه ، فلم يجد إذ ذاك من ظهور فرض طاعته ما كان عند وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاضطرَّ إلى التوصُّل إلى حقِّه من حيث جعلوه طريقاً إلى التأمير على الناس ، على أن القوم جمعوا بين علّتين : إحداهما ما ذكرناه ، والأخرى ما أردفناه المذكور من وجوب الجهاد عليه بعد قبول البيعة ، ولم يكن في الأول يجوز له ذلك ؛ للوصيَّة المتقدِّمة من النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الكفِّ عن السيف ، ولما رآه في ذلك من الاستصلاح ، وكانت الحال بعد عمر وبعد عثمان على خلاف ما ذكرناه ، وهذا يبطل ما تعلَّقتم به.

ووجه آخر ـ وهو المعتمد عندي في هذا الجواب عن هذا السؤال ، والمعوَّل عليه دون ما سواه ـ وهو : أن أميرالمؤمنين عليه‌السلام لم يتوصَّل إلى حقِّه في حال من الأحوال بما يوصل إليه من اختيار الناس له على ما ظنَّه الخصوم.

وذلك أنّه عليه‌السلام احتجَّ في يوم الشورى بنصوص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الموجبة له فرض الطاعة ، كقوله : أفيكم أحد قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، غيري؟ أفيكم أحد قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنه لا نبيَّ بعدي ، غيري؟

وأشباه هذا من الكلام الموجب لإمامة صاحبه ، بدليله المغني له عن اختيار العباد ، ولمَّا قتل عثمان لم يدع أحداً إلى اختياره ، لكنَّه دعاهم إلى بيعته على النصرة له ، والإقرار بالطاعة ، وليس في هذا من معنى الاختيار الذي يذهب إليه المخالفون شيء على كل حال ، والجواب الأول لي خاصة ، والثاني لأصحابنا ، وقد نصرته بموجز من الكلام ... (١).

__________________

١ ـ الفصول المختارة ، المفيد : ٢٤٩ ـ ٢٥٢.

١٢٨

المناظرة السابعة عشر

مناظرة

الدكتور التيجاني مع الشيخ علي في كينيا

في أمر الصحابة واجتهاداتهم ومسألة رضاعة الكبير

في الموطأ والبخاري

يقول الدكتور التيجاني السماوي في حديثه عن رحلته إلى كينيا ، وتعرُّفه على الشيخ علي في كينيا ، وكان هو إمام الجماعة هناك ، وله شعبيَّة واسعة ، ويحفُّ به طلاب العلم وعامة الناس ، وكان على مذهب السنة :

وفي الصباح جاء الأصدقاء مهنئين ومباركين ليتناولوا فطور الصباح عندي ، وكان من بينهم الشيخ علي ، وقد حمل كل منهم إليَّ هديَّة بسيطة ، واغتنمتها فرصة ، فأهديت لكل واحد منهم نسخة من كتاب : ثم اهتديت ، وطلبت من الشيخ علي أن يقرأه ويعطيني رأيه ، وأشعرته بأن مكانته العلميَّة ، وكثرة اطلاعاته تبوِّئه رئاسة الجميع ، وإنّي شخصيّاً مهتمٌّ بأفكاره وكل ما يصدر عنه.

وبعد أسبوع دعاني وزوجتي للعشاء عنده في بيته ، وجلست معه وبعض الأصدقاء على الطعام ، بينما دخلت الزوجة مع النساء حسب الأصول والعادات العربيّة.

١٢٩

سألت خلال السهرة الشيخ علي وبعدما أراني مكتبته القيِّمة ، سألته عن رأيه في كتابي : ثم اهتديت.

قال : من حيث الأسلوب فهو رائع ، يشدُّ القارئ شدّاً عجيباً ، ولكن من حيث الموضوع فهو جدّاً خطير.

قلت : أين يكمن الخطر ، فرأيك يهمُّني؟

قال : في نقد الصحابة وقدحهم ، فنحن ما عرفنا الإسلام الذي جاء به محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاَّ من خلالهم.

قلت : هذا صحيح لو كان الأمر يتعلَّق بجميعهم ، ولكن الحمد لله لم يمسَّ القدح والنقد إلاَّ البعض منهم ، الذين شهد التأريخ بانحرافهم ، والبعد عن سنَّة نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنت بحمد الله ممن عرف التأريخ وأحداثه ، وعرف اختلافهم ، وما سبَّبوه لنا من مشاكل وانقسامات داخل الأمَّة الواحدة.

قال باعتزاز : أنا أعلم كل ذلك ، ولكن الذين قسموا الأمَّة هم بنو أميَّة ، وعلى رأسهم معاوية ، وقد نصَّ على ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته عندما قال : الخلافة من بعدي ثلاثون سنة ثمَّ ملك عضوض (١) ، واسترسل يسبُّ بني أميَّة ويشتمهم ، ويمدح الخلفاء الراشدين ، وهو يحاول بذلك إقناع الحاضرين بأفكاره ، فتركته يتكلَّم حتى سكت.

قلت : اتق الله يا شيخ علي ، فالله سبحانه وتعالى لا يحبُّ العلماء الذين يعرفون الحقَّ ويكتمونه ، فقد قال جلَّ من قائل : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ

__________________

١ ـ راجع : المعجم الكبير ، الطبراني : ٧/٨٣ ـ ٨٤ ، أسد الغابة ، ابن الأثير : ٢/٣٢٤.

١٣٠

اللاَّعِنُونَ ) (١).

فهل اغتصب بنو أميَّة خلافة علي بن أبي طالب عليه‌السلام التي نصَّ عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غدير خم (٢)؟

هل اغتصب بنو أميَّة حقَّ الزهراء سلام الله عليها في النحلة والخمس والميراث ، حتى ماتت غاضبة تدعو الله عليهم في كل صلاة؟

هل أحرق بنو أميَّة ما جمع من سنَّة النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنعوا الناس من

التحدُّث بها (٣)؟

__________________

١ ـ سورة البقرة ، الآية : ١٥٩.

٢ ـ لا شكَّ أن بني أميَّة من الغاصبين لخلافة أميرالمؤمنين عليه‌السلام وأولاده الطاهرين : ، ولكنَّ مقصود الدكتور التيجاني اغتصاب الخلافة بعد الرسول 6 مباشرة ، والإقصاء الذي تمَّ على أيدي القوم لعترة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٣ ـ إحراق أبي بكر خمس مائة حديث.

روى الذهبي في تذكرة الحفاظ : ١/٥ عن القاسم بن محمّد قال : قالت عائشة : جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانت خمسمائة حديث ، فبات ليلته يتقلَّب كثيراً ، قالت : فغمَّني ، فقلت : أتتقلَّب لشكوى أو لشيء بلغك؟ فلمَّا أصبح قال : أي بنيَّة! هلمّي الأحاديث التي عندك ، فجئته بها ، فدعا بنار فحرقها ، فقلت : لم أحرقتها؟ قال : خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت ولم يكن كما حدَّثني فأكون قد نقلت ذاك.

أقول : كان على الخليفة حينما خشي هذا الأمر أن يُرجع الأحاديث إلى أصحابها ، لا أن يحرقها ويتلفها ، ولو كان هذا الخوف أمراً عقلائيّاً لما وصلنا شيء من كتب السنن والحديث ، لأن كل كتاب يحوي جملة من الأحاديث الشريفة يحتمل فيها هذا الاحتمال ، وأنت ترى أنَّ سيرة المسلمين قامت على اقتناء كتب الحديث والسنن ، ويرون إتلافها أمراً قبيحاً مستهجناً ، فلو أن أحداً جمع كتب السنن والحديث وأحرقها بذريعة هذا العذر لما كان مقبولا منه ، وحتى الراوي نفسه الذي سمع آلاف الأحاديث النبويّة وجمعها ثمَّ أحرقها بهذه الحجّة ليس معذوراً.

وجاء أيضاً في تذكرة الحفاظ : ١/٢ ـ ٣ قال : عن ابن أبي مليكة أن الصدّيق جمع الناس بعد وفاة نبيِّهم

١٣١

هل غيَّر بنو أميَّة أحكام القرآن ، وأحكام السنّة النبويّة ، وأبدلوها باجتهادات غيَّرت مسار الإسلام والمسلمين (١)؟

أنت تعلم أنّه لم يفعل كل ذلك غير الخلفاء الذين تسميهم الراشدين ، عندما لم يكن لبني أميَّة دولة ولا نفوذ ، ولم يكن لمعاوية ولا لأبيه وزن عند المسلمين ، والذي كبَّر معاوية ، وجعله إمبراطور الإسلام هم : أبو بكر وعمر وعثمان ، الذين تحاول أنت بكل جهودك أن تسدل عليهم ستار الهالة والتقديس ، وتجعلهم من طراز الأنبياء والمرسلين.

قال مبتسماً أمام الحاضرين وهو يحاول المراوغة : نحن ما قلنا إن الخلفاء من طراز الأنبياء ، وما قلنا بأنهم معصومون عن الخطأ ، فهم كسائر البشر ،

__________________

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : إنكم تحدِّثون عن رسول الله 6 أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشدُّ اختلافاً ، فلا تحدِّثوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئاً ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلُّوا حلاله وحرَّموا حرامه.

حرق عمر للأحاديث الشريفة

وجاء في الطبقات الكبرى ، لابن سعد : ٥/١٨٨ عن عبد الله بن العلاء قال : سألت القاسم يملي عليَّ أحاديث ، فقال : إن الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب ، فأنشد الناس أن يأتوه بها ، فلمَّا أتوه بها أمر بتحريقها ، ثمَّ قال : مثناة كمثناة أهل الكتاب.

وجاء في كتاب حجّيّة السنة : ٣٩٥ : عن القاسم بن محمّد بن أبي بكر : أن عمر بن الخطاب بلغه أنه قد ظهرت في أيدي الناس كتب ، فاستنكرها وكرهها ، وقال : أيُّها الناس! إنّه قد بلغني أنه قد ظهرت في أيديكم كتب ، فأحبُّها إلى الله أعدلها وأقومها ، فلا يبقين أحد عنده كتاباً إلاَّ أتاني به ، فأرى فيه رأيي ، قال : فظنُّوا أنه يريد أن ينظر فيها ، ويقوِّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف ، فأتوه بكتبهم ، فأحرقها بالنار ، ثمَّ قال : أمنية كأمنية أهل الكتاب.

١ ـ وبنو أميَّة أيضاً لم يذخروا وسعاً في تغيير أحكام الله ، وتحريف حديث رسوله 6 ، وقلب الحقائق ، وتضليل الناس ، وآثار ذلك إلى يومنا هذا.

١٣٢

يخطئون ويصيبون ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كل ابن آدم خطَّاء ، وخير الخطَّائين التوَّابون (١) ، فنحن مسلمون بأن أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً كلهم أخطأ ، وكلهم مأجورون ، لقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من اجتهد وأصاب فله أجران ، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد (٢).

قلت : يا شيخ علي! أقول لك مرَّة ثانية : اتق الله ، ولا تلذ بالأوهام الواهية كبيت العنكبوت ، وتترك الحقائق الدامغة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء ، وأنا أتحدَّاك أمام الحاضرين أن تأتيني بخطأ واحد للإمام عليٍّ عليه‌السلام ، فسوف لن تجد إلاَّ ما يردِّده أسلاف النواصب الذين أعيتهم الحيلة ليجدوا خطأ واحداً لعليٍّ عليه‌السلام ، فقالوا بأنه بعد تولّيه الخلافة أخطأ في عزل معاوية ، ولو أنّه صبر حتى استتبَّ له الأمر ثمَّ عزله بعد ذلك لكان أحسن(٣) ، أو أنّه أخطأ في واقعة التحكيم

__________________

١ ـ مسند أحمد بن حنبل : ٣/١٩٨ ، سنن ابن ماجة : ٢/١٤٢٠ ح ٤٢٥١ ، سنن الترمذي : ٤/٧٠ ح ٢٦١٦.

٢ ـ مسند أحمد بن حنبل : ٤/١٩٨ ، سنن ابن ماجة : ٢/٧٧٦ ح ٢٣١٤ ، سنن الترمذي : ٢/٣٩٣ ح ١٣٤١ ، ولفظه : إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر.

٣ ـ روي عن جبلة بن سحيم ، عن أبيه ، قال : لمَّا بويع أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام بلغه أن معاوية قد توقَّف عن إظهار البيعة له ، وقال : إن أقرَّني على الشام وأعمالي التي ولاَّنيها عثمان بايعته ، فجاء المغيرة إلى أميرالمؤمنين عليه‌السلام فقال له : يا أميرالمؤمنين! إن معاوية من قد عرفت ، وقد ولاَّه الشام من قد كان قبلك ، فولِّه أنت كيما تتَّسق عرى الأمور ، ثمَّ اعزله إن بدا لك ، فقال أميرالمؤمنين عليه‌السلام : أتضمن لي عمري ـ يا مغيرة ـ فيما بين توليته إلى خلعه؟ قال : لا ، قال : لا يسألني الله عزَّوجلَّ عن توليته على رجلين من المسلمين ليلة سوداء أبداً ( وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) لكن أبعث إليه ، وأدعوه إلى ما في يدي من الحقِّ ، فإن أجاب فرجل من المسلمين ، له ما لهم ، وعليه ما عليهم ، وإن أبى حاكمته إلى الله ، فولَّى المغيرة وهو يقول : فحاكمه إذن ..

الأمالي ، الطوسي : ٨٧ ح ٤٢ ، مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : ٢/٣٧٥.

١٣٣

في حرب صفين ، وهو قول الخوارج.

فهل تجدون لعليٍّعليه‌السلام أكثر من هذين الخطأين المزعومين ، وكلُّها لا تعدو الآراء السياسيّة التي يختلف فيها الناس ، فتظهر للبعض بأنها خطأ ، وتظهر للبعض الآخر بأنها عين الصواب ، وهي من باب قول الله سبحانه وتعالى : ( عَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) (١).

هذا على افتراض أن علياً عليه‌السلام شخص عاديٌّ ، ليست له ميزة ولا علم ..

إلى أن قال : وإذا كان الأمر كما تقول ـ يا شيخ علي ـ فلماذا لا تلتمس عذراً لإبليس لعنه الله الذي اجتهد في قوله : ( أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّار وَخَلَقْتَهُ مِن طِين ) (٢) ؟ فاجتهاده أو صله إلى نتيجة أن النار هي خير من الطين ، أو كما قال بعض المتصوِّفة : إن إبليس هو أكبر الموحِّدين ؛ لأن اجتهاده منعه أن يسجد لغير الله تعالى.

ألا ترى معي أن الموازين كذلك المقاييس العقليّة يجب أن تتوقَّف عن الاجتهادعند صدور الحكم الإلهيّ ، انظر إلى قوله تعالى: ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ )(٣)، فكل الملائكة قالوا: سمعاً وطاعة ، ولم يجتهدوا بآرائهم في هذا الحكم الصادر من الخالق إلى المخلوق، إلاَّ إبليس أبى أن يكون من الساجدين ، لماذا؟ لأنه اجتهد برأيه مقابل هذا الحكم الإلهيِّ، فرأى أنّه أفضل من آدم ، فعصى وتمرَّد.

__________________

١ ـ سورة البقرة ، الآية : ٢١٦.

٢ ـ سورة الأعراف ، الآية : ١٢.

٣ ـ سورة الحجر : ٢٩ ـ ٣١.

١٣٤

وإذا كان الأمر كذلك فكلُّ المجرمين والفاسقين مأجورون على اجتهادهم ، فهذا فرعون اجتهد في تكذيب موسى عليه‌السلام ؛ لأنه كان يظنُّ أن كل الآيات التي جاء بها موسى عليه‌السلام هي من قبيل السحر ، ولذلك جمع له السحرة ، واعتقد بأنّه كبيرهم الذي علَّمهم السحر ، وهذا السامريُّ الذي اجتهد فأخذ قبضة من أثر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتسبَّب في ضلالة بني إسرائيل ، وهذا أبو لهب عمُّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اجتهد أيضاً ؛ لأنه ظنَّ أن ابن أخيه يريد الدعوة لنفسه مقابل الآلهة التي يعبدونها.

وهذه عائشة اجتهدت في قتل الآلاف من المسلمين الأبرياء ؛ لأنها كانت لا ترى مصلحة في خلافة عليٍّ عليه‌السلام ، وهذا يزيد اللعين اجتهد هو الآخر في قتل سيِّد شباب أهل الجنة الحسين عليه‌السلام ؛ لأنه كان يرى جميع الناس على طاعة الخليفة وعدم الخروج عليه.

وهذا هتلر الذي اجتهد ورأى بأن الألمان ـ وهم الجنس السامي ـ هم أسياد العالم ، وكل الناس هم عبيد ، لهم ويجب محقهم ، وهذا صدّام اجتهد الآخر في قتل الملايين .. وهو بطل القادسيَّة ، وقد اجتهد في احتلال الكويت ؛ لأنه يرى بأنها جزء من العراق ...

وما أظنُّك ـ يا شيخ علي ـ توافق على أن كل هذا هو الاجتهاد الذي يستوجب الأجر من عند الله.

قال وهو يتنهَّد : لا طبعاً ، أنا أعرف الفرق بين الاجتهاد والعصيان وهو كما قدَّمت ، إلاَّ أنه عندي تعليق على ذكرك أمَّ المؤمنين السيِّدة عائشة ، فهي التي قال فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء(١)، ويقصد بذلك

__________________

١ ـ والمروي عندهم : خذوا شطر دينكم عن الحميراء ، راجع : النهاية في غريب الحديث ، ابن الأثير :

١٣٥

عائشة.

وحاولت إقناعه بأن هذه الأحاديث وأمثالها موضوعة في عهد بني أميَّة ، فقد أكثروا من إطراء الخلفاء الثلاثة : أبي بكر وعمر وعثمان من الرجال ، وعائشة من النساء ؛ للدور الذي قامت به بعد وفاة النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فكان يوافقني تارة ، ويتردَّد ويشكِّك أحياناً في بعض الأحداث التأريخيّة ، وهو يريد رغم محاولاتي أن يضفي على عائشة هالة من التقديس ، حتى جعلها أعلم الصحابة ؛ لأن نصف الدين عندها وحدها ، وكل الباقين عندهم النصف الثاني.

وضحكت لهذا الاعتقاد ، وقلت له : ما رأيك لو أوقفتك على دليل ملموس

__________________

١/٤٢١ ، إرواء الغليل ، الألباني : ١/١٠ ، وقال في الهامش عن الحديث : حديث موضوع ، انظر : المنار المنيف لابن القيِّم.

وهذا الحديث عندهم ضعيف لا يؤخذ به ، وإن كان مشهوراً بينهم ، فليس له إسناد ولا أصل ، قال ابن كثير في البداية والنهاية : ٨/١٠٠ : فأمَّا ما يلهج به كثير من الفقهاء وعلماء الأصول من إيراد حديث : خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء ، فإنه ليس له أصل ، ولا هو مثبت في شيء من أصول الإسلام ، وسألت عنه شيخنا أبا الحجاج المزي فقال : لا أصل له.

وقال العجلوني في كشف الخفاء : ١/٣٧٤ ـ ٣٧٥ ح ١١٩٨ : ( خذوا شطر دينكم عن الحميراء ) قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث ابن الحاجب من إملائه : لا أعرف له إسناداً ، ولا رأيته في شيء من كتب الحديث إلاَّ في النهاية لابن الأثير ، ذكره في مادة ح م ر ، ولم يذكر من خرَّجه ، ورأيته في الفردوس بغير لفظه ، وذكره عن أنس بغير إسناد بلفظ : خذوا ثلث دينكم من بيت الحميراء ، وذكر ابن كثير أنّه سأل الحافظين : المزي والذهبي عنه فلم يعرفاه ، وقال السيوطي في الدرر : لم أقف عليه ، لكن في الفردوس عن أنس : خذوا ثلث دينكم من بيت عائشة ، انتهى ، وقال الحافظ عماد الدين في تخريج أحاديث مختصر ابن الحاجب : هو حديث غريب جدا ، بل هو منكر ، سألت عنه شيخنا المزي فلم يعرفه ، وقال : لم أقف له على سند إلى الآن ، وقال شيخنا الذهبي : هو من الأحاديث الواهية التي لا يعرف لها سند. انتهى.

١٣٦

بأن ما تقوله لا يصحُّ؟

قال : هات نسمع منك.

رضاعة الكبير في الموطأ والبخاري

قلت : هل تعرف رضاعة الكبير؟

قال : وما هي رضاعة الكبير؟

قلت : باختصار أنّه يمكن لزوجتك أن ترضعني أنا فأصبح بعد تلك الرضاعة ربيبك ، ويمكن لي أن أستحلَّ منها ما يستحلُّ الولد من والدته.

فضحك عند سماعه هذه الأطروحة ، وقال مستغرباً : كيف؟ أنت ترضع من زوجتي أنا؟ لا يحقُّ لك ذلك.

قلت : هذا من نصف دينك الذي تقول به أمُّ المؤمنين عائشة.

قال : لا ، لا ، ما سمعت بهذا أبداً ، لعلّك تمزح.

قلت : أنا لا أمزح في مثل هذه الأبحاث العلميّة ، وكيف أمزح باتهام أم المؤمنين عائشة؟ ولكن أنا قدمت من باريس ، وليس معي إلاَّ كتاب : ثم اهتديت ، وأنت ـ ما شاء الله ـ عندك هنا مكتبة ضخمة ، وبالتأكيد إن فيها صحيح مسلم ، وموطأ الإمام مالك.

قال : نعم ، عندي هذه الكتب ، وهل فيها هذا الحديث؟

قلت : نعم ، سأترك لك المجال لتقرأ بنفسك على راحة البال ، وتعطيني بعد ذلك رأيك.

قال : دلَّني على الحديث في أيِّ موضع من الكتاب؟

١٣٧

قلت : اقرأ باب رضاعة الكبير في الكتابين (١) ، وغداً أعطني النتيجة ، وقمت أعتدر للخروج فقد مضى نصف الليل أو أكثر.

قال : وفي صباح اليوم التالي جاء الجامعة كالعادة لفطور الصباح ، وتأخَّر الشيخ علي أكثر من ساعة ، وكدنا نكمل الإفطار وإذا به يدخل علينا ، ويبدِّد

__________________

١ ـ جاء في كتاب الموطأ لمالك : ٢/٦٠٥ ح ١٢ عن ابن شهاب ، أنه سئل عن رضاعة الكبير فقال : أخبرني عروة بن الزبير ، أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة ... كان تبنَّى سالماً الذي يقال له : سالم مولى أبي حذيفة ، كما تبنَّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زيد بن حارثة ، وأنكح أبو حذيفة سالماً ، وهو يرى أنه ابنه ، فلمَّا أنزل الله تعالى في كتابه في زيد بن حارثة ما أنزل ... ردَّ كل واحد من أولئك إلى أبيه .. فجاءت سهلة بنت سهيل ، وهي امرأة أبي حذيفة ـ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : يا رسول الله! كنّا نرى سالماً ولداً ، وكان يدخل عليَّ وأنا فضل ، وليس لنا إلاَّ بيت واحد ، فماذاترى في شأنه؟ فقال لها رسول الله 6 : ( أرضعيه خمس رضعات فيحرم بلبنها ) وكانت تراه ابناً من الرضاعة ، فأخذت بذلك عائشة أم المؤمنين فيمن كانت تحبُّ أن يدخل عليها من الرجال ، فكانت تأمر أختها أمَّ كلثوم بنت أبي بكر الصديق ، وبنات أخيها أن يرضعن من أحبَّت أن يدخل عليها من الرجال.

وأبى سائر أزواج النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحد من الناس ، وقلن : والله ، ما نرى الذي أمر به رسول الله 6 سهلة بنت سهيل إلاَّ رخصة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رضاعة سالم وحده ، لا والله ، لا يدخل علينا بهذه الرضاعة أحد ، فعلى هذا كان أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رضاعة الكبير.

وجاء في صحيح مسلم : ٤/١٦٩ : عن زينب بنت أم سلمة ، قالت : قالت أم سلمة لعائشة : إنّه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحبُّ أن يدخل عليَّ ، قال : فقالت عائشة : أما لك في رسول الله 6 أسوة .. إلخ.

وعن زينب بنت أبي سلمة تقول : سمعت أم سلمة زوج النبي 6 تقول لعائشة : والله ما تطيب نفسي أن يراني الغلام قد استغنى عن الرضاعة ، فقالت : لم؟ قد جاءت سهلة بنت سهيل إلى رسول الله 6 فقالت : يا رسول الله! والله إني لأرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم ، قالت : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أرضعيه ، فقالت : إنه ذو لحية ، فقال : أرضعيه يذهب ما في وجه أبي حذيفة ، فقالت : والله ما عرفته في وجه أبي حذيفة.

وروي عن أم سلمة رضي الله عنها أنها كانت تقول : أبى سائر أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يدخلن عليهن أحداً بتلك الرضاعة .. إلخ.

١٣٨

حيرتنا ، وعندما وصل إليَّ مسلِّماً ضحك ، وقال : أرضعيه ولو كان ذا لحية.

وفهمت أنه اطّلع على الموضوع من شتّى جوانبه ، وفرحت لذلك ، ودعوناه للجلوس وتناول الإفطار متسائلين : ما الذي أبطأه عن الموعد المعتاد؟

قال : لم أنم إلاَّ قليلا ، فقد سهرت بعدكم ، واطّلعت على قصة رضاعة الكبير في كل من صحيح مسلم وموطأ مالك ، فحيَّرتني وطار النوم من عيني ، فلم أنم إلاَّ بعد صلاة الفجر.

الشيخ علي يعلن تشيعه واستبصاره

قلت : فهل ما زلت على رأيك في أخذك نصف الدين عن الحميراء؟

قال: أعوذ بالله ، هذا لايجوز أبداً ، أنا من اليوم شيعيٌّ ، لاأتّبع إلاَّعليّاً عليه‌السلام.

قال أخوه الشيخ محمّد : أتدري ـ يا دكتور ـ أننا من سلالة عليٍّ كرَّم الله وجهه؟

قلت : إذن فأنتم أحقُّ بجدِّكم من غيركم ، قال الله تعالى : ( وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِي كِتَابِ اللّهِ ) (١).

وفرح الإخوة الكويتيون بهذا الاستبصار المفاجئ ، وكذلك الدكتور الخطيب ، وأخرج الشيخ علي الكتب إلى الطلبة ، وبدأ الدكتور الخطيب وأخوه عثمان ينشطان بحرّيّة ، ويعملان بكل جهودهم ، ولم يمض أسبوع واحد حتى استبصر أكثر من مائتين من الطلبة.

وجاء يوم الفراق للرجوع إلى باريس ، وخرج أكثرهم يودِّعونني ، وفي

__________________

١ ـ سورة الأنفال ، الآية : ٧٥.

١٣٩

مقدِّمتهم الشيخ علي وأخوه الشيخ محمّد ، وقبل دخولي الطائرة عانقت الشيخ ، وقلت له أمام الجميع : سامحني إن كنت أسأت لك ، أو صدر مني شيءٌ تكرهه ، فأنا أرجوك العفو.

قال : العفو العفو ، أنت سيِّدنا ، وقد هديتنا إلى صراط الله المستقيم ، فجزاك الله عنّا خيراً ، ونتمنَّى أن لا تنسانا من زيارتك.

قلت : أتشهد أمام الحاضرين أنّك استبصرت للحقِّ وغيَّرت عقيدتك؟

قال بصوت عال : أشهد أنني تشيَّعت ، وإمامي هو عليُّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، والله على ما أقول شهيد.

عانقته مرَّة أخرى بحرارة أكثر ، وقبَّلت رأسه ، وفاضت أعيننا وأعين الحاضرين من الدمع ، وهم يكبِّرون صائحين : اللهمَّ صلِّ على محمّد وآل محمّد(١).

__________________

١ ـ كتاب فسيروا في الأرض ، الدكتور التيجاني السماوي : ٢٥٣ ـ ٢٦١.

١٤٠