أضواء على ثورة الحسين عليه السلام

السيد محمّد الصدر

أضواء على ثورة الحسين عليه السلام

المؤلف:

السيد محمّد الصدر


المحقق: الشيخ كاظم العبادي الناصري
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٣

الاعتذار عن الإحاطة التامَّة

نحن عندما ننظر إلى أيِّ أمر مُعقَّد ، أو مربوط بالحكمة الإلهيَّة ، أو بتصرُّف أحد المعصومين مِن قول أو فعل ، أو أحد الراسخين في العلم ، فسوف نواجه وعورة في السير وصعوبة في الرؤية ، إلى حَدٍّ قد يكون أحياناً أنَّنا نجد الباب مُغلقاً أمامنا تماماً ، للصعود الذي نطمع به ونطمح إليه ، في هذا السبيل ، وذلك بعد ملاحظة الأُمور التالية :

الأمر الأوَّل : إنَّه تمَّ البرهان في مباحث العقيدة الإسلاميَّة ، على أنَّ العلم الإلهي والحكمة الإلهيَّة لا مُتناهيان ومُطلقان ولا حَدَّ لهما ، وأنَّ اطِّلاعه جلَّ جلاله على الواقعيَّات على مُختلف المُستويات أكيد ، وثابت على أوسع نطاق. بلْ كلُّ صفاته الذاتيَّة هكذا جلَّ جلاله وكثير مِن أسمائه ، فهو لا مُتناهي العلم والقدرة والحِكمة ، والعدل والرحمة ، والحياة والوجود ، والجود والنعمة ، إلى غير ذلك. كما ثبت أنَّ العقل الإنساني مهما تسامى ، فهو محدود بحدود لا يُمكنه أنْ يتعدَّاها ، كما سنُشير إليه ، ومِن البديهي أنَّ المحدود يستحيل أنْ يُدرِك اللاَّ محدود. إذن ؛ فليس للإنسان أنْ يُدرِك العلم الإلهي والحكمة الإلهيَّة كما هي ، وإنَّما ينال منهما بقدر استحقاقه وقابليَّته ، وبمقدار عطاء الله له ، و (العلم نور يقذفه الله في قلب مَن يشاء) (١).

الأمر الثاني : إنَّنا نشعر وجداناً بعدم إحاطتنا بالواقعيَّات على واقعها ، لا مِن ناحية العقل (النظري) ولا مِن ناحية العقل (العملي) (٢) ؛ فإنَّ العقل

__________________

(١) الوافي للفيض الكاشاني. ج ١ ص ٧. المُقدِّمة الأُولى.

(٢) العقل النظري : هو إدراك ما ينبغي أنْ يُعلَم.

والعقل العملي : هو إدراك ما ينبغي أنْ يُعمَل.

٢١

لا شكَّ يُدرك عدداً مِن القضايا كبيراًَ جِدَّاً ، بوضوح تامٍّ ووجدان كامل.

ولكنَّه حين يأتي إلى قضايا أُخرى بعدد كبير أيضاً فإنَّه يشكُّ فيها ، ولا يستطيع أنْ يُعطي حولها قناعة أو جزماً مُعيَّناً ؛ إمَّا لأنَّها غير واضحة لذاتها ، أو للشكِّ في تحقُّق موضوعها وموردها ، أو لوقوعها موقع التعارض والتزاحم مع قضايا أُخرى ، ولعلَّ العقل يجهل المُحصَّل أو النتيجة التي ينبغي البتُّ بها بعد التزاحم. ولاشكَّ أنَّنا لو كان عندنا إدراك للواقعيَّات لما تورَّطنا في مثل هذه الشكوك والجَهالات.

الأمر الثالث : إنَّنا حين نتحدَّث عن أمر تاريخيٍّ كواقعة الحسين عليه‌السلام ، فإنَّنا يُمكن أنْ نُتمثِّل بهذا المثال ، وهو قولهم : يرى الحاضر ما لا يرى الغائب (١) ، ومِن الواضح أنَّهم كانوا حاضرين ، ونحن غائبون ، وهم مشاهدون ونحن غير مشاهدين. إذن فليس من حقنا أن نعترض على أية واقعة تاريخية لم نشاهدها ولم نُحِطْ بها خُبْراً ؛ إذ لعلَّ أهلها والقائمين بحوادثها ، قد علموا ما لم يُعلم مِن القرائن والحوادث والعَلاقات ، وشخَّصوا التكليف لهم بأنْ يفعلوا كذا أو يتركوه ، وليس لنا أنْ نفتح أفواهنا ضِدَّهم بشيء ، ونحن غير مُلمِّين بالموضوع مِن جميع جهاته ، مع أنَّهم لا شكَّ كمُعاصرين للأحداث ومُلاحظين لها حال وقوعها ، أنَّهم مُلمُّون بها مِن جميع جهاتها.

الأمر الرابع : إنَّ عدداً مِن الأُمور النظريَّة والعلميَّة ، مِمَّا يتعذَّر على عقولنا إدراك واقعيَّاتها ، يُمكن مِن الناحية المنطقيَّة طرح أفكار محدودة ، تحمل مُحتملات معقولة على شكل (أُطروحات) ، نُحاول أنْ نجمع القرائن على صحَّتها مِن ناحية ، ونَدفع بها الاَستدلال المُضادَّ مِن ناحية أُخرى. إنَّ المُشكِّك حين

__________________

(وهذا التعريف ذكره نصّاً سماحة المؤلِّف في أحدى مُحاضرات التفسير).

(١) مجمع الأمثال ج ٢ ص ٥٠٩ ، بتصرُّف.

٢٢

يطعن في أيِّ أمر ، إنَّما يطعن في حكمة فاعله وصوابه ، ويُحاول أنْ يستدلَّ بهذا على ذلك ؛ ومِن هنا تأتي الأُطروحة أو تلك لأجل حمل الفاعل على الصحَّة والصواب ، وأنَّ فعله قابل للقبول. ومعناه أنَّ الاستدلال الذي أراده الخصم قد فشل ؛ إذ بدخول الاحتمال يبطل الاستدلال ؛ لأنَّ الاستدلال مِن الناحية المنطقيَّة يحتاج إلى الجزم بنتيجته ، وهذه الأُطروحات تُخلخل هذا الجانب وتُطيح به ، ومعه يسري الفساد إلى نتيجة الاستدلال نفسها.

وهذا التكوين النظري (١) ، يُمكن تطبيقه على كثير مِن حوادث التاريخ ، بالنسبة إلى كثير مِن المعروفين السابقين ، وخاصَّة ما إذا كانوا معصومين. بلْ المعصومون أولى بالصحَّة في هذا الصدد ، وأؤكِّد مِن حيث قبول أفعالهم وأقوالهم ، بعد ثبوت عصمتهم ببرهان ليس الآن محلُّ ذكره ؛ فإنْ لم نكن نعرف وجه الحكمة الحقيقية مِن بعض أُمورهم فلا أقلَّ مِن وجود أُطروحة أو أكثر لحملها على الصحَّة. مِمَّا يُبطل الاستدلال والتشكيك ضدَّهم جزماً.

الأمر الخامس : إنَّ الهدف أو الحكمة مِن كلِّ قول أو فعل وارد عن معصوم أو غيره ، لا ينحصر أنْ يكون هدفاً واحداً ، بلْ يُمكن أنْ يكون مُتعدِّداً ، سواء ما نعلمه مِن الأهداف أم ما نحتمله منها ، أم الأهداف التي تكون بالحكمة الإلهيَّة. والمُهمُّ الآن إمكان تعدُّد الأهداف لأيِّ تصرُّف ؛ ومِن هنا يُمكن أنْ تتعدَّد الأُطروحات المُحتملة ، المُصحِّحة لتلك التصرُّفات.

الأمر السادس : إنَّه ثبت في الفلسفة أنَّ أيَّ شيء في الخليقة فإنَّ لوجوده نحواً مِن الحكمة والهدف ، أو قُلْ : العلَّة الغائيَّة (٢) ، كما يُعبِّرون هناك

__________________

(١) التكوين النظري : أيْ وجود صورة ذهنيَّة بدون الالتفات إلى أنَّها موجودة في الخارج أم لا.

(٢) العلة الغائيَّة : وهي السبب الذي لأجله يحصل الفعل. فيقول العلاَّمة الحَلِّي في كشف المُراد : (إنَّ كلَّ =

٢٣

وكلُّ موجود مشمول لذلك ، سواء كان أنساناً أم حيواناً أم جماداً أم ملائكة أم غيرها مِن الأُمور. لا يشذُّ عن ذلك حتَّى الأفعال الاختياريَّة للفاعلين المُختارين مِن الناس أو غيرهم ؛ فإنَّها بالرغم مِن أنَّها اختياريَّة منسوبة لأصحابها ، ويستحقُّون عليها المدح أو القدح ، إلاَّ أنَّها بصفتها خلقاً مِن خلق الله سبحانه ، فهي منسوبة إليه جلَّ جلاله ، ومِن ثمَّ يكون إيجادها ـ طبقاً لتلك القاعدة ـ ذا حكمة وعلَّة غائيَّة.

ومِن هنا يُمكن القول ـ أو يثبت الأمر ـ : إنَّ أيَّ فعل مِن أفعالنا فهو له نحوان مِن المقاصد : نحو يعود إلى الفاعل نفسه ، ونحو يعود إلى الخالق جلَّ جلاله. لا يختلف في ذلك فعل الإنسان البسيط عن العظيم ، والعالم عن الجاهل ، ولا معصوم عن غير المعصوم ، وهكذا.

فمثلاً ، يُمكن القول : إنَّ الحسين عليه‌السلام إنَّما قام بحركته العظيمة ، مِن أجل غرضه الشخصي ـ بينه وبين نفسه ـ وذلك لأجل قيامه بواجب مِن الواجبات الموكولة إليه والمُكلَّف بها تماماً ، كما لو صلَّينا صلاة الظهر امتثالاً لأمر الله سبحانه علينا وجوباً مِن ناحية ، وطمعاً بالثواب الناتج منها مِن ناحية أُخرى. وقد أمر الله الحسين عليه‌السلام ـ كما سيأتي شرحه ـ بهذه الحركة ، فهو يمتثل هذا الأمر ، مُتوخِّياً الثواب العظيم ، والمقامات العُليا التي ذخرها الله سبحانه له ، والتي لن ينالها إلاَّ بالشهادة.

ومحلُّ الشاهد ـ الآن ـ هو أنَّ التساؤلات عن حركة الحسين عليه‌السلام ، إنَّما هو مِن قبيل التساؤلات عن الحكمة الإلهيَّة فيها ، وليس عن الأغراض الخاصَّة بالحسين عليه‌السلام منها ـ كما شرحناه ـ ؛ ومِن هنا يكون الاعتراض عليها ـ أعني هذه الحركة ـ والطعن في أهدافها ، إنَّما هو طعن بالحكمة الإلهيَّة مُباشرة ،

__________________

فاعل بالقصد والإرادة ؛ فإنَّه إنَّما يفعل لغرض وغاية ما ، وإلاَّ لكان عابثاً ؛ فإنَّ الفاعل للبيت يتصوَّر الاستكنان أوَّلاً فيتحرَّك ، أو إلى إيجاد البيت ثمَّ يوجد الاستكنان بحصول البيت). ص ٩٥ ط قُمْ.

٢٤

وليس في أغراض الحسين عليه‌السلام منها ؛ لأنَّ أغراضه الشخصيَّة لم تكن ـ بكلِّ بساطة ـ إلاَّ الامتثال وتحصيل الثواب شأنه في ذلك شأن أيِّ مؤمن آخر ، يمتثل عملاً واجباً أو مُستحبَّاً.

الأمر السابع : إنَّنا لا ينبغي ـ ونحن ننظر إلى فهم التاريخ الإسلامي ـ أنْ ننظر إلى القادة المعصومين (سلام الله عليهم) كقادة دنيويِّين ، كما عليه تفكير طبقة مِن الناس ، يدَّعون التمسُّك بالفكر الديني ، ولكنَّهم مُتأثِّرون بالاتِّجاه المادِّي الدنيوي ، فهم يعتبرون المعصومين قادة دنيويِّين كُبراء ، بل هُمْ بهذه الصفة خير مِن خير القادة الموجودين خلال العصور كلِّها ، في اتِّصافهم بعُمق التفكير وحصافة الرأي وشجاعة التنفيذ ونحو ذلك ؛ ومعه يكونون همْ المسؤولون عن أهداف حركاتهم وأقوالهم وأفعالهم ، ولا تكون تلك الأُمور منسوبة إلى الحكمة الإلهيَّة بأيِّ حال.

إلاَّ أنَّني أعتبر ذلك خطأ لا يُغتفر ، بلْ لا بُدَّ في النظر إليهم كقادة ، مِن أخذ كلِّ الأُصول الدينيَّة والعقائد الصحيحة بنظر الاعتبار. وقد ثبت أنَّهم معصومون مُسدَّدون مِن قِبَل الله سبحانه ، فالسؤال عن الحكمة لا بُدَّ وأنْ يكون راجعاً إلى الحكمة الإلهيَّة ، لا إلى آرائهم الشخصيَّة مَهما كانت مُهمَّة.

وأوضح دليل على ذلك : هو أنَّنا إذا اعتبرناهم قادة دنيويِّين ؛ فإنَّنا ينبغي أنْ نعترف بفشهلم في كثير مِن المُهمَّات التي قاموا بها فعلاً ؛ وتكون كثير مِن أفعالهم خالية مِن الحكمة والمصلحة ، بلْ تكون واضحة الفشل مِن الناحية الدنيويَّة. فمثلاً أنَّ الأمام الحسين عليه‌السلام قد خرج إلى الكوفة وبالتالي إلى كربلاء ، وهو يعلم أنَّه سوف يموت ، وأنَّ عائلته سوف تُسبى ، وليس الأمر مُنحصراً به ، بلْ يعلم بذلك عدد مُهمٌّ مِن الناس ؛ ومِن هنا نصحه المُتعدِّدون أنْ

٢٥

يُعيد النظر في عمله ويستدرك مُهمَّته (١) ، ولكنَّه مع ذلك كان مُهتمَّاً بها مُقبلاً عليها ، مهما كانت النتائج. فلو نظرنا إليها نظراً دنيويَّاً لكانت في نظرنا حركة فاشلة تماماً. أو إذا جرَّدنا مِن الأمام الحسين عليه‌السلام قائداً دنيويَّاً كان رأيه خالياً مِن الرُّشد والحكمة ، وحاشاه.

إذنْ ؛ فالأمر لا بُدَّ عائد إلى الأمر الإلهي والحكمة الإلهيَّة ، والله سبحانه يُريد بإيجاد هذه الحركة أهدافاً تعدل هذه التضحيات الجِسام ، التي قدَّمها هذا

__________________

(١) ونذكر لك بعضاً مِن الذين كانوا مُشفقين على الحسين عليه‌السلام ونصحوه بعدم الخروج ، وهم :

أوَّلاً : المسور بن مخرمة بن نوفل القرشي الزهري ـ تاريخ أبن عساكر ج ١٣ ص ٦٩

ثانياً : عبد الله بن عباس ـ وسيلة المال في عَدِّ مناقب الآل ص ٦٨٧ مقاتل الطالبيِّين الكامل لابن الأثير ج ٣ ص ٢٧٦

ثالثاً : عبد الله بن جعفر ـ تاريخ الطبري ج ٦ ص ٢١٩ ـ البداية والنهاية ج ٨ ص ١٦٣ ـ البحار ج ٤٤ ص ٣٦٦.

رابعاً : أبو بكر المخزومي بن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي القرشي وهو أحد الفقهاء السبعة ولد في خلافة عمر وكان يقال له راهب قريش لكثرة صلاته ، وكان مكفوفاً وهو مِن سادات قريش توفِّي سنة ٩٥ هـ ـ مروج الذهب ج ٣ ص ٦ ـ الطبري ج ٦ ص ٢١٦.

خامساً : عبد الله بن جعدة ـ أنساب الأشراف ج ١ ق ١.

سادساً : جابر بن عبد الله ـ تاريخ الإسلام للذهبي ج ١ ص ٣٤٢.

سابعاً : عبد الله بن مطيع ـ العِقد الفريد ج ٣ ص ١٣٣ ـ البحار للمجلسي ج ٤٤ ص ٣٧١.

ثامناً : عمرو بن سعيد ـ تاريخ ابن عساكر ج ١٣ ص ٧٠.

تاسعاً : محمد بن الحنفية ـ تاريخ الإسلام للذهبي ج ١ ص ٣٤٢ ج ٣ ص ٢٧٦ ـ البحار ج ٤٤ ص ٣٣١

عاشراً : السيِّدة أمُّ سلمة ـ أسرار الشهادة للدربندي ص ١٩٢ البحار ج ٤٤ ص ٣٣١.

الحادي عشر : عبد الله بن الزبير ـ تاريخ أبن عساكر ج ١٣ ص ٦٧ ـ البحار ج ٤٤ ص ٣٦٤.

الثاني عشر : عبد الله بن سيمان والمنذر بن المشمعل الأسديَّان ـ البحار للمجلسي ج ٤٤ ص ٣٧٣ ـ الكامل لابن الأثير ج ٤ ص ١٧ ـ إسرار الشهادة ص ٢٣٠.

الثالث عشر : الطرماح بن الحكم ـ البحار للمجلسي ج ٤٤ ص ٣٦٩ ـ أسرار الشهادة ص ٢٢٦. الرابع عشر : عبد الله بن عمر ـ أسرار الشهادة ص ٢٢٠ ، مثير الأحزان لابن نما الحلِّي ـ اللهوف لابن طاووس ـ البحار ج ٤٤ ص ٣٦٥.

٢٦

الإمام العظيم (سلام الله عليه) ، والإمام نفسه مؤيَّد ومُسَدَّد مِن قِبَل الله سبحانه ؛ ومِن هنا استطاع أنْ يعلم بنحو أو آخر بالأمر الإلهي المُتوجِّه إليه بإيجاد هذه الحركة. أمَّا بالأمر الموروث إليه مِن قِبَل جَدِّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. أو بالعلم اللدُّني (١) ، أو التسديد الإلهي الموجود لديه كواحد مِن المعصومين عليهم‌السلام.

وهنا يُمكن أنْ يُستدلَّ ببعض الأدلَّة الدينيَّة على إمكان النظر إلى المعصومين عليهم‌السلام كقادة دنيويِّين ، نذكر منها أهمَّها ، كما يلي :

الدليل الأوَّل : قوله تعالى : (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (٢) ، الدالَّة على أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مأمور بمُشاورة أصحابه في أُموره ، وهو إنَّما يحتاج إلى هذه المُشاورة بصفته قائداً دنيويَّاً ؛ إذ لو كان مؤيَّداً ومُسدَّداً لما احتاج إلى هذه المُشاورة. ثمَّ إنَّه إذا ثبت ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بنصِّ الآية الكريمة ، ثبت في غيره مِن المعصومين بطريق أولى ، بصفته خيرهم وأعظمهم. ويُمكن الجواب على ذلك من وجوه نذكر بعضها :

الجواب الأوَّل : إنَّنا إذا أمكننا أنْ نُجرِّد مِن أيِّ قائد معصوم قائداً دنيويَّاً ، فلا يُمكن أنْ يكون ذلك مُحتملاً في حقِّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنَّ ذلك الاتِّجاه الفكري ، إذا حصل تشكيكه في كون سائر المعصومين ذوي تأييد وتسديد إلهيَّين ، فإنَّه لا

__________________

(١) العلم اللَّدُني : وهو علم ربَّاني إلهامي ، والعلم اللَّدُني هو الذي لا واسطة في حصوله بين النفس وبين الباري عَزَّ وجلَّ. وها هو كالضوء مِن سراج الغيب ، يقع على قلبٍ صافٍ فارغٍ لطيف (تفسير القاسمي ج ١١ ص ٤٠٩٧ نقلاً عن الغزالي) ، ونجد مصداق هذا العلم في قوله تعالى : (فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً) الكهف آية ٦٥ ، أيْ علم لا صنعة فيه للأسباب العاديَّة كالحِسِّ والفكر ، حتَّى يحصل مِن طريق الاكتساب ، والدليل على ذلك قوله : (... مِن لَّدُنَّا ...) فهو علم وَهبيٌّ غير اكتسابيٍّ ، يختصُّ به أولياءه. وآخر الآيات تدلُّ على أنَّه كان علماً بتأويل الحوادث (الميزان ج ١٣ ص ٣٤٢).

(٢) آل عمران آية ١٥٩.

٢٧

يُمكن ذلك في نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنَّ ذلك الاتِّجاه الفكري يعترف بالإسلام ، واعترافه هذا معناه الاعتراف بنزول الوحي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في القرآن وغير القرآن ، ولا نعني مِن التسديد الإلهي إلاَّ ذلك. وإذا نفينا ذلك ، فمعناه نفي نزول الوحي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بصفته قائداً دنيويَّاً كما يعتبرون ؛ إذاً ، فسوف يكون ذلك كفراً بالإسلام وخروجاً عنه ؛ وبالتالي فلا يُمكن أنْ يجتمع الإيمان بالإسلام مع افتراض أنْ يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قائداً دنيويَّاً غير مُسدَّد. ومِن الواضح أنَّ هذه الآية الكريمة ذكرها المُستدلُّ نازلة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. ومعه فلابد من فهمها فهماً صحيحاً منسجماً مع سائر القواعد الاسلامية.

ومعه فاذا لم يثبت الوجه الذي ذكره المُستدلُّ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنَّه لا يكون غيره أولى بذلك منه ، كما ذكره في الاستدلال.

الجواب الثاني : إنَّنا يُمكن أنْ نُناقش دلالة الآية على ذلك مِن عِدَّة وجوه :

الوجه الأوَّل : إنَّ الآية الكريمة بنفسها دالَّة على أنَّ هؤلاء الذين يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مأموراً بمُشاورتهم ، هُمْ أُناس واطئون مِن الناحية الثقافيَّة والإيمانيَّة ، ومِن الواضح أنَّ مُشاورة مثل هذه الطبقة لا تكون مُنتجة للنتائج العظيمة التي يتوخَّاها المُستدلُّ. ودلالتها على ذلك في عدد مِن فقراتها ـ كما سنرى ـ فإنَّه تعالى يقول : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (١).

فأوَّلاً : قوله : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ) ، يعني لولا هذه الرحمة المُتزايدة ، كما استحقاقهم هو الغضب عليهم وانتقاد تصرُّفاتهم والجزع مِن

__________________

(١) آل عمران أية ١٥٩.

٢٨

مُعاشرتهم.

ثانياً : قوله : (لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) ، بعنوان أنَّ النبي إذا كان غليظ القلب ؛ فسوف يقسو عليهم بالنصيحة والتوجيه ؛ إذن فسوف يضيقون به ذرعاً ويتركونه. وهذا الدليل على إيمان مُتدنٍّ ؛ إذ لو كان الإيمان عالياً لكان اللازم لهم اتِّباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على كلِّ حال ، حتَّى لو ضرب ظهورهم أو أعناقهم.

ثالثاً : قوله : (فَاعْفُ عَنْهُمْ) ، الدالُّ على أنَّهم مُذنبون في حقِّه ، يحتاجون إلى العفو عنهم.

رابعاً : قوله : (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) ، الدالُّ أنَّهم مُذنبون أمام الله سبحانه ، يحتاجون إلى استغفار. وهذا هو فرقه عن الوجه السابق.

وبالعفو عنهم والاستغفار لهم سوف تزداد رحمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعطفه عليهم. وبالتالي ؛ فإنَّ الأحجى والأرجح به صلى‌الله‌عليه‌وآله أنْ لا يُعامهلم حسب استحقاقهم بالعدل ، بلْ حسب مُقتضيات الرحمة الإلهيَّة ، فإنَّ ذلك أفضل للمُصلحة العامَّة.

وعلى أيِّ حال ، فمُشاورتهم وهم بهذا المُستوى المُتدنِّي ، لا يُنتج نتائج القيادة النبويَّة ، ولا يكون مُطابقاً للحكمة الحقيقيَّة على أيِّ حال.

ومِن هنا لا يكون قوله : (فَإِذَا عَزَمْتَ) ، يعني نتيجة للمُشاورة معهم ، بلْ نتيجة للأسباب الحقيقيَّة لذلك العزم بما فيها الوحي الإلهي.

الوجه الثاني : للجواب على الاستدلال بالآية الكريمة :

إنَّ قوله تعالى : (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر) ليس بمعنى المُشاورة الحقيقيَّة ، التي يُريد أنْ يفهمها المُستدلُّ ، بلْ هي شكل مِن أشكال التخطيط السلوكي ، يجعله الله سبحانه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله تعالى : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي

٢٩

الأَمْرِ) ؛ لكي ينال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مصالح عامَّة عديدة ، يُمكن أنْ نفهم منها ما يلي :

أوَّلاً : أنْ يهديهم بسلوك الرحمة والشفقة معهم.

ثانياً : أنْ يكفي شرَّ ذي الشرِّ منهم.

ثالثاً : أنَّ مُشاورتهم نحو مِن الاختبار والامتحان لهم ؛ ليرى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عمليَّاً أنَّهم ناصحون له في الآراء التي سيُبدونها والاقتراحات التي يقولونها أم لا.

رابعاً : أنَّ مُشاورتهم نحو مِن التدريب لهم على هذا الأُسلوب ، حين يكونون هُمْ مُحتاجون إلى مُشاورة غيرهم ، فلا ينبغي أنْ يتكبَّروا عن ذلك بعد أنْ كان نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله يتَّخذ هذا الأُسلوب بنفسه.

وهُمْ لا شكَّ أنَّهم مُحتاجون إلى المُشاورة في تاريخ حياتهم الطويل ؛ لأنَّهم ليسوا معصومين ، وقد يُصبحون موجودين في زمان ومكان خالٍ مِن معصوم ، يُمكنهم الاهتداء برأيه والاستعانة بتسديده ، كما كانوا يعتمدون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

الوجه الثالث : إنَّ هذا الأمر في هذه الآية الكريمة ، يُمكن أنْ يكون وارداً بعنوان : إيَّاك أعني فاسمعي يا جاره (١) ، يعني أنْ يكون المُخاطب بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمُراد غيره ، وعندنا عدد مِن الموارد القرآنيَّة ، على هذا النحو كقوله تعالى : (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ

__________________

(١) يُضرب هذا المثل لمَن يتكلَّم بكم ويُريد به شئياً غيره. وأوَّل مَن قال ذلك سهل بن مالك الفزاري ؛ ذلك أنَّه مَرَّ ببعض أحياء طيٍّ ، فسأل عن سيِّد الحيِّ ، فقيل له : حارث بن سلام. فأمَّ رحله فلم يُصبه شاهداً ، فقالت له : أُخته انزل في الرحب والسعة ، فوقع في نفسه منها شيء ، فجلس بفِناء الخباء يوماً وهي تسمع كلامه ، فجعل ينشد ويقول :

يا أخت خير البدو والحضارة

كيف ترين في فتى فزارة

أصبح يهوى حرةً معطارة

إياك أعني فاسمعي يا جارة

مجمع الأمثال ج ١ ص ٨٣ ـ بتصرُّف ـ الفاخر لأبي طالب المُفضَّل ص ١٥٨ ـ بتصرَّف ـ.

٣٠

الذِّكْرَى) (١). إلى آخر المورد. وكقوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) (٢). إلى غير ذلك مِن الموارد.

الوجه الرابع : إنَّنا لو تنزَّلنا عن قبول الوجوه السابقة ، فمعنى ذلك : أنَّ ظاهر القرآن الكريم دالٌّ على حاجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مُشاورة غيره مِن البشر ، وليس مؤيَّداً ولا مُسدَّدا بالوحي الإلهي والحكمة الإلهيَّة ؛ فيكون هذا الظهور غير مُحتمل دينيَّاً على الإطلاق ، وكلُّ ظهور قرآني أو غيره يُنافي القواعد العامَّة العقليَّة أو النقليَّة ، فإنَّه يسقط عن الحُجيَّة ، ولا بُدَّ مِن تأويله بحيث يوافق تلك القواعد ، فإنَّنا إذا تنزَّلنا وقَبِلنا في حقِّ أيِّ معصوم أنَّه قائد دنيويٌّ ، فلا يُمكن ذلك بالنسبة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قائد الإسلام ، والقول بذلك خروج عن دينه الحنيف.

وبهذا ينتهي الحديث عن الاستدلال بالآية الكريمة.

الدليل الثاني : لا بُدَّ أنْ نحمل القائد المعصوم على أنَّه قائد دنيوي ، وأنَّنا مُكلَّفون بعرض محاسن الدين الإسلامي للكفَّار والفسَّاق والدنيويِّين عموماً ـ لو صحَّ التعبير ـ ومِن الواضح أنَّ هذه الطبقات لا تؤمن بالمعصوم معصوماً ، بلْ غاية ما يُستطاع إقناعهم به هو كونه قائداً دنيويَّاً فَذَّاً حكمياً رشيداً ناجحاً في قيادته ، فإذا توقَّف عرض محاسن الإسلام عليهم على هذا النحو مِن التفكير ، أصبح صحيحاً ومُتعيِّناً.

__________________

(١) سورة عبس آية (١ ـ ٤).

(٢) سورة الحاقة آية (٤٤ ـ ٤٦).

٣١

وجواب هذا الدليل : إنَّ الصحيح ـ رغم كلِّ ذلك ـ ليس هو ذلك. فإنَّ هؤلاء غير المُتديِّنين بالإسلام ، والمُشار إليهم في الدليل يُمكن تقسيمهم إلى عِدَّة أقسام في حدود ما ينفعنا في المقام.

القسم الأول : أنْ يكون الفرد دنيويَّاً ، ولكنَّه موافق لنا في المذهب ، فلا يحتاج إلاَّ إلى تفهيمه بحقيقة عقيدته وصفات قادته في صدر الإسلام.

القسم الثاني : أنْ يكون الفرد دنيويَّاً ، ولكنَّه يتَّخذ أيَّ مذهب آخر مِن مذاهب الإسلام الرئيسيَّة ، فيتمُّ تفهيمه بالحقيقة عن طريق عرض التواريخ الواردة إلينا مِن جميع علماء وقادة الإسلام الأوائل ؛ مِن حيث إنَّ كلَّ المذاهب تعتقد بالضرورة لقادتها كرامات ومُعجزات وتأييدات إلهيَّة ونحو ذلك ، مِمَّا يكاد أنْ يكون بالغاً حَدَّ التواتر ، فالأمر ليس خاصَّاً بمذهب دون مذهب ، بلْ هو أمر مُتَّفق عليه بين سائر المذاهب ؛ فحيث إنَّ كلَّ المذاهب تعتقد به ، فلا ضير على أيِّ مذهب أنْ يعتقد به.

القسم الثالث : أنْ يكون الفرد دنيويَّاً ، ولكنَّه يعتنق ديناً آخر غير الإسلام ، وأهمُّه النصرانيَّة واليهوديَّة ، فمثل ذلك يتمُّ تفهيمه بالحقيقة عن طريق عرض التواريخ الواردة في دينه نفسه عن قادته الأوائل ؛ مِن حيث إنَّ دينه قائم على ذلك ، بلْ كلُّ الأديان قائمة عليه ، وهو أمر مُتسالم بينها ، على أنَّ جميع الأنبياء والأولياء وأضرابهم أصحاب مُعجزات وكرامات وإلهامات وتسديدات ، فلا ضير على أيِّ شخصٍ إذا اعتقد ذلك في قادة دينه.

وهذه التوراة وهذا الإنجيل الموجودان طافحان بذلك في عشرات ـ بلْ مئات ـ المواضع منها. كما هو واضح لمَن يراجعها. والنسخ منها مُتوفِّرة في كلِّ العالم بلُغات عديدة والرجوع إليها سهل. مِمَّا يوفِّر علينا مُهمَّة الاستشهاد السريع على ذلك ، بلْ الأمر يتعدَّى النصرانيَّة واليهوديَّة إلى غيرها مِن الأديان ،

٣٢

كالبوذيَّة والهندوسيَّة والسيك وغيرهم ، فإنَّهم جميعاً يؤمنون لقادتهم ـ بشكل وآخر ـ حياة مليئة بالكرامات والتسديدات ، ومِن ثمَّ فهم ليسوا مِن قبيل البشر الاعتياديِّين على أيِّ حال.

القسم الرابع : أنْ يكون الفرد دنيويَّاً ، ولكنَّه مُلحد لا يعتقد أيَّ دين.

فمثل هذا الفرد أو هذا المُستوى لا يُمكن البدء معه بالتفاصيل ، بلْ لا بُدَّ مِن البدء معه بالبُرهان على أصل العقيدة ؛ لنصل معه بالتدريج إلى التفاصيل.

وإذا تمَّ كلُّ ذلك ؛ لم يبقَ دليل على إمكان التنزُّل عن الاعتقاد بالعصمة لقادتنا المعصومين عليهم‌السلام ، وكذلك ثبوت التأييد والتسديد الإلهي لهم. كما ثبت وجوده بالدليل ، وليس هنا محلُّ تفصيله. إذاً ؛ مُقتضى الأدب الإسلامي الواجب أمامهم ، هو التسليم لأقوالهم وأفعالهم بالحكمة. وأنَّها مُطابقة للصواب والحكمة الإلهيَّة. والتوقيع لهم على ورقة بيضاء ـ كما يُعبِّرون ـ ليكتبوا فيها ما يشاءون. وهذا مِن مداليل وجوب التسليم المأمور به في الآية الكريمة. وهو قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (١).

وإذا ثبت لنا بنصِّ القرآن الكريم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنَّه (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) (٢) وأنَّ (الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) (٣) مع أنَّه خير الخلق وأفضلهم وأولاهم بالولاية.

وقد نصَّ القرآن الكريم على الإطراء عليه ووصفه بأوصاف عالية

__________________

(١) سورة الأحزاب آية ٥٦.

(٢) سورة آل عمران أية ١٢٨.

(٣) سورة آل عمران أية ١٥٤.

٣٣

جدَّاً ، فهي في العديد مِن آياته ، كقوله : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (١). وقوله : (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) (٢). وقوله : (سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ) (٣). وقوله : (مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) (٤). وقوله : (أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ) (٥). وقوله : (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ) (٦). إلى غير ذلك. فمَن تكون له هذه المزايا العظيمة وغيرها ، مِمَّا نعرف أو لا نعرف ؛ يستحقُّ ـ حسب فهمنا ـ أنْ يكون الأمر بيده.

ومع ذلك ، فإنَّ الله سبحانه ينصُّ على نفي ذلك : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) (٧) ، وإذا كان خير الخلق كذلك فغيره أولى بذلك.

إذاً ، فليس شيء مِن تصرُّفات المعصومين عليهم‌السلام مِمَّا يرتبط بالمصالح العامَّة ، مؤكل إليهم ولا ناتجاً عن رأيهم ، وإنَّما هو وارد إليهم مِن الحكمة الإلهيَّة ، إمَّا عن طريق جَدِّهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو عن طريق التسديد الإلهي الخاص بأي واحد منهم.

__________________

(١) سورة القلم أية ٤.

(٢) سورة النجم آية ٣ ـ ٤.

(٣) سورة التوبة آية ٥٩.

(٤) سورة التكوير آية ٢١.

(٥) سورة النساء آية ٥٩.

(٦) سورة الفتح آية ٢٩.

(٧) سورة آل عمران آية ١٢٨.

٣٤

تعارض الروايات

هناك إشكال موجود في عدد مِن الأذهان ، يُفيد الجواب عليه بصدد المعنى الذي تحدَّثنا عنه ، يحسن عرضه ومُحاولة الجواب عليه. فإنَّه قد يخطر في الذهن : إنَّ الروايات مُتعارضة في نسبة التأييد والتسديد إلى المعصومين (سلام الله عليهم) ، فبينما عدد مِن الروايات تنصُّ على وجوده ، كالمضامين التالية : قولهم : «إنَّ الإمام إذا أراد أنْ يعلم شيئاً أعلمه الله تعالى به» (١). وقولهم : «إنَّنا نزداد في كلِّ جمعة ، ولولا ذلك لنَفِذَ ما عندنا» (٢). وقولهم : «إنَّ الأعمال تُعرض على الإمام عليه‌السلام في كلِّ عام في ليلة القدر» (٣). وقولهم : «إنَّ العلم على أقسام : خطور في البال ، وقرع في السمع ، ونكت في القلب» (٤). وإنَّما يتحدَّثون عمَّن هو دون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للتسالم على نزول الوحي عليه ، فلا حاجة له إلى كل ذلك. وإذا تمَّ ذلك إجمالاً لغيره كان المعصومون أولى به مِن غيرهم ، ويندرج في ذلك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليٍّ عليه‌السلام :

__________________

(١) أصول الكافي للكليني ج ١ باب ١٠١ ص ٢٥٨ الحديث الثالث. بتصرُّف بصائر الدرجات ج ٧ ص ٣١٥.

(٢) أصول الكافي على هامش ، مرآة العقول ج ١ ص ١٨٥ ، بصائر الدرجات ج ٢ ص ٢١٣. بتصرُّف.

(٣) أصول الكافي للكليني ج ١ ص ٢٥١ الحديث الثامن بتصرُّف واقتضاب.

(٤) بصائر الدرجات للصفار ج ٩ ص ١٤٨. بتصرُّف. مُلحق بنفس الرحمان النوري قدس‌سره.

(٥) أصول الكافي ج ١ ص ٢٦٤ الحديث الثالث. أصول الكافي على هامش مرآة العقول ج ١ ص ١٩١. بتصرُّف.

٣٥

«إنَّك ترى ما أرى وتسمع ما أسمع» (١). وقوله ـ أيضاً ـ : «يا علي ، ما عرف الله إلاَّ أنا وأنت» (٢) إلى غير ذلك مِن ألسنة الروايات.

في حين يوجد في بعض الروايات ما يدلُّ على ضدِّه ، إمَّا بمضمون قول الإمام عليه‌السلام : «إنَّني رُبَّما بحثت عن الجارية فلم أجدها ، مع أنَّها في الغرفة المُجاورة» (٣) ، وأمَّا بمضمون قوله : «لم أدَّع ولم يدَّع أحد مِن آبائي أنَّنا نعلم الغيب» (٤).

وفي مثل ذلك : قد يقول المُستشكل : إنَّ الروايات هنا مُتعارضة ، والروايات المُتعارضة تسقط عن الحُجِّيَّة. وإذا سقطت عن الحُجِّيَّة لم يبقَ دليل على وجود الإلهام والتسديد للمعصومين عليهم‌السلام غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنَّ الطائفة الدالَّة على ذلك تكون قد سقطت بالمُعارضة.

ويُمكن الجواب على ذلك بعِدَّة وجوه نذكر أهمَّها :

الجواب الأوَّل : إنَّ مضمون الطائفة الثانية الدالَّة على حِيرة الأمام عليه‌السلام في البحث عن الجارية ونحو ذلك ، إنَّما يكون في الحكمة الإلهيَّة لدفع احتمال الربوبيَّة عنهم عليهم‌السلام ؛ لأنَّ مَن تكون له مُميِّزات عُليا ومُهمَّة ، لا شكَّ أنَّ الناس بالتدريج قد تعتقد به الربوبيَّة.

وهذا ما حصل فعلاً في التاريخ لعدد مِن الناس كعليٍّ عليه‌السلام ، وبوذا والمسيح وغيرهم ، وهذا ما لا يُريد الله حدوثه وسريانه في المُجتمع رحمة بالناس عن الضلال والجهل.

فمِن هنا تحصل هذه الحوادث البسيطة أمام الناس ؛ لكي يندفع احتمال

__________________

(١) نهج البلاغة. تحقيق د. صُبحي الصالح. خُطبة ١٩٢ ص ٣٠١. بتصرُّف.

(٢) المُحتضر للحسن بن سليمان الحلِّي ص ٣٨. وص ١٦٥ ـ مُختصر البصائر ص ١٢٥. بتصرُّف.

(٣) بصائر الدرجات ص ٥٧. أُصول الكافي على هامش مرآة العقول ج ١ ص ١٨٦. بتصرُّف.

(٤) مرآة العقول للمجلسي ج ٣ ص ١١٢. (ط). بتصرُّف.

٣٦

الربويَّة بوضوح وبالحسِّ وبالعَيان. وهذا لا يعني أنَّهم أُناس عاديُّون ، بلْ يبقى مضمون الطائفة الأُولى مِن الأخبار ـ الدالَّة على التسديد لهم ـ قائماً.

الجواب الثاني : إنَّ مضمون الطائفة الثانية الدالَّ على حيرة الأمام عليه‌السلام في البحث عن الجارية ونحوها ، يكون في الحكمة الإلهيَّة ، لإثبات السيطرة الإلهيَّة والقهر الإلهي على المعصومين ؛ لكي يفهم الناس أجمعون أنَّ هذه المُميِّزات ، التي دلَّت عليها الطائفة الأُولى وغيرها ، إنَّما هي هبات مِن الله سبحانه وليس قائمة بهم ذاتاً ، فالله هو الذي شرَّفهم وطهَّرهم ، وعلَّمهم واجتباهم وهداهم ، وعظَّهم وسدَّدهم وعصمهم ، إلى غير ذلك مِن الصفات.

ولو انقطعوا عن العطاء الإلهي طَرفة عين ، أو أُوكلوا إلى أنفسهم طَرفة عين ؛ لكان بالإمكان انقطاع كلِّ هذا العطاء الإلهي ؛ ولذا ورد عن الإمام : «اللَّهمَّ لا تكلني إلى نفسي طَرفة عين أبداً ولا أقلَّ مِن ذلك ولا أكثر يا ربَّ العالمين» (١).

فلأجل إثبات السيطرة الإلهيَّة والتحسُّس بالعطاء الإلهي باستمرار ، يكون مضمون الطائفة الثانية مِن الأخبار. حتَّى يكون محسوساً أنَّ الإمام مَهما كان عظيماً ، فإنَّه إذا أوكِل إلى نفسه فسوف يحتار في مكان الجارية ولم يستطع أنْ يجدها. والأمر في كلِّ شيء هكذا أيضاً.

الجواب الثالث : إنَّ المعصومين عليهم‌السلام ـ عموماً ـ بما فيهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وغيره لهم عالمان : عالم الظاهر الذي يُعايشون به الناس ، وعالم الباطن الذي يتَّصلون عن طريقه بالله سبحانه ، ويأخذون منه التسديد والتأييد. ومِن المُمكن القول : إنَّ لكلٍّ مِن هذين العالمين قوانينه وقواعده الخاصَّة به ، وإنَّ كلَّاً مِن هذين العالمين يؤثِّر ويشتغل بالاستقلال عن العالم الثاني ؛ ومِن هنا كانت

__________________

(١) مفاتيح الجنان ص ٥٩٦.

٣٧

الطائفة الأُولى مِن الروايات ، وهي الدالَّة على الإلهام والتسديد ، تعبيراً عن العالم الباطن لهم عليهم‌السلام ، والطائفة الثانية الدالَّة على حيرة الإمام في البحث عن الجارية ، تعبيراً عن العالم الظاهر لهم عليهم‌السلام ؛ فتكون كلتا الطائفتين صادقة في حَقِّهم عليهم‌السلام.

إلاَّ أنَّ هذا الجواب بالذات لا ينبغي المُبالغة في نتائجه ؛ لأنَّنا لو أخذناه على سعته للزم منه : أنَّهم عليهم‌السلام لا يستعملون الإلهام الباطني في علاقاتهم الظاهريَّة على الإطلاق ، وهذا غير صحيح بكلِّ تأكيد. ومِن موارد النقض على ذلك تصريح الأمام الحسين عليه‌السلام بمقتله قبل خروجه إلى العراق (١) ، إلى غير ذلك الكثير منهم (سلام الله عليهم).

نعم ، يُمكن أنْ يكون ذلك مُبرِّراً لبعض الأُمور فقط ، كالذي ورد في الطائفة الثانية مِن المضمون ، وكذلك يصلح أنْ يكون أحد التفاسير لإقبالهم (سلام الله عليهم) على الموت عن اختيار وطواعية ، فقد يكون بعنوان غفلتهم عن نتائج ذلك المُخطَّط ؛ أخذاً بجانب الظاهر مِن الحياة الدنيا. على أنَّ لذلك عِدَّة مُبرِّرات أُخرى ، قد نتعرَّض لها في مُستقبل هذا البحث.

هذا ، وأمَّا نفيهم (سلام الله عليهم) عن أنفسهم تلقِّي الوحي (٢). المُراد به أحد أُمور :

الأمر الأوَّل : التقيَّة في مُقابل الإرجاف بذلك مِن قبل المُغرضين.

الأمر الثاني : إنَّ المنفي في الرواية هو عدم ادِّعاء ذلك. وهو لا ينفي وجوده الواقعي لهم.

__________________

(١) اللهوف لابن طاووس ص ١٢ ـ مثير الأحزان لابن نما الحلِّي ص ٣٣ ـ أسرار الشهادة ص ٢٢٣

(٢) المُختصر للشيخ حسن بن سليمان الحلِّي. ص ٢٠. وهذا المعنى موجود أيضاً في نفس الرواية التي تقول : (إنِّي أبحث عن الجارية فلا أجدها).

٣٨

الأمر الثالث : إنَّ المنفيَّ عن الرواية هو الوحي الخاصُّ بالنبوَّة (١) ؛ إذ لا إشكال بنزول الوحي على شكل آخر على عدد مِن الخَلف منهم إنسان وحيوان ، كأمِّ موسى ومريم بنت عمران والنحل (٢) وغيرهم ، بنصِّ القرآن الكريم ؛ فليس غريباً أنْ ينزل الوحي ، بسبب رحمة الله ونعمته ، على أعاظم الخَلق عند الله سبحانه ، بما فيهم المعصومون (سلام الله عليهم).

__________________

(١) وهو نوع مِن أنواع الإيحاء يكون بالخطاب ، أيْ يسمع فيه النبيُّ كلاماً موجَّهاً إليه مِن قِبَل جبرائيل عليه‌السلام أو الله سبحانه وتعالى مُباشرة.

(٢) لأُمِّ موسى : (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى) سورة طه آية ٣٨ ، (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ) سورة القصص آية ٧.

مريم بنت عمران : (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا) سورة مريم آية ١٧ ، (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى ...) آل عمران أية ٤٢.

النحل ـ (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) سورة النحل آية ٦٨.

٣٩

أصحاب المعصومين

قد يخطر في الذهن السؤال ، عمَّا إذا كان أصحاب المعصومين (رضوان الله عليهم) ، وبعض الخاصَّة مِن أقاربهم ، كالعباس بن علي ، ومسلم بن عقيل ، وحبيب بن مظاهر الأسدي (١) وأضرابهم ، أيضاً يُمكن حمل أقوالهم وأفعالهم على الصحَّة والحكمة ، كالمعصومين (سلام الله عليهم) ، مع أنَّه لا مُلازمة في ذلك ؛ للاحتمال الراجح ـ بلْ المُتعيِّن ـ أنَّ للعصمة دخلاً في الإلهام والتوجيه لهم عليهم‌السلام ، وهي غير مُتوفِّرة في أصحابهم (عليهم الرضوان) ؛ فلا يكون الدليل السابق شاملاً لهم. فإنْ كانت النتيجة صحيحة ـ أعني : مُطابقة أعمالهم للحكمة ـ فلا بُدَّ أنْ يكون ذلك بدليل آخر ، لا بنفس الدليل السابق.

وجواب ذلك : إنَّ الدليل على ذلك مُتوفِّر في عدد مِن خاصَّة أصحاب الأئمَّة (سلام الله عليهم) ؛ وذلك لعِدَّة وجوه :

الوجه الأوَّل : إنَّ مثل هؤلاء الخاصَّة معصومون بالعصمة غير الواجبة ،

__________________

(١) حبيب بن مظاهر بن رئاب بن الأشتر الأسدي الفقعسي ، أجمع أرباب المصادر أنَّه كان شخياً صحابيَّاً مِمَّا رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وسمع وروى حديثه ، ونزل الكوفة وصحب أمير المؤمنين عليه‌السلام وحضر معه جميع حروبه ، وكان مِن شرطة الخميس ، وهو مِمَّن كاتب الحسين للقدوم إلى الكوفة ، وكانت له مواقف مُسجلَّة في صفحات التاريخ مع مسلم بن عقيل ، وأخذ البيعة للحسين على يده. وبعد قتل مسلم وهاني اختفى في بيته وعشائره فراراً مِن السلطة آنذاك. وبعد أنْ ورد إليه رسول الحسين يخبره بنزول الحسين كربلاء خرج ومعه غلامه مُتخفِّياً ، حتَّى وصل كربلاء قبل اليوم العاشر مِن المُحرَّم ، فكانت له يوم الطفِّ أيادي بطوليَّة ومواقف مُركَّزة في جانب المُعسكر الحسيني ، بحيث يقول التاريخ عنه : إنَّه لمَّا قُتل حبيب هدَّ مقتله الحسين عليه‌السلام. مقتل آل بحر العلوم ص ٤٨٩.

٤٠