أضواء على ثورة الحسين عليه السلام

السيد محمّد الصدر

أضواء على ثورة الحسين عليه السلام

المؤلف:

السيد محمّد الصدر


المحقق: الشيخ كاظم العبادي الناصري
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٣

مَعقل

يقول المؤرّخون : إنّ مَعقلاً حين أراد التجسّس لابن زياد ، أقبلَ إلى المسجد ، فرأى مسلم بن عوسجة يُصلّي فيه فسألَ عنه؟ فقيل له : هذا يبايع للحسين بن علي ، فجاءه وجلس إلى جانبه ، حتّى إذا فرغَ من صلاته سلّم عليه وأظهرَ لهُ أنّه رجل من أهل الشام ، وأنّه مولى لذي الكلاع الحميري ، وممّن أنعمَ الله عليه بحبّ أهل البيت وحُبّ مَن أحبّهم وتباكى له ، وقال له : إنّ عنده ثلاثة آلاف درهم يريد بها لقاء رجل من أهل البيت ، بَلَغه أنّه قدمَ إلى الكوفة يبايع لابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقبلَ منهُ مسلم بن عوسجة وأخذ منه البيعة على يده فوراً. ثمّ أخذهُ إلى مسلم بن عقيل ، فأخذَ عليه البيعة والمواثيق المغلّظة ليناصحنّ وليكتمنّ ، فأعطاهُ (مَعقل) من ذلك ما رضي به ، ثمّ أمرَ مسلم أبا ثمامة الصائدي (١) بقبض المال منه ، وكان قد عيّنه مسلم لقبض الأموال من الناس وتجهيزهم بما يحتاجونه من السلاح والعتاد ، وظلّ معقل يختلف إلى دار هانئ كلّ صباحٍ ومساء ، فهو أوّل داخل وآخر خارج ، فينطلق بجميع الأخبار والأسرار ، فيقرؤها في أُذن ابن زياد (٢) ، ممّا أدى في النتيجة إلى فشل مهمّة هذه الجماعة المُحقّة وتفرّقها عن مسلم بن عقيل.

فهنا قد يرد السؤال عن السبب في انخداع مسلم بن عوسجة ومسلم بن

__________________

(١) أبو تمّام الصادئدي : هو عمرو بن عبد الله بن كعب الصائدي ، من شهداء الطف ، كان من فرسان العرب ووجوه الشيعة ، وكان بصيراً بالأسلحة ، ولهذا لمّا جاء مسلم بن عقيل إلى الكوفة قامَ معه وصار يقبض الأموال ، ويشتري بها الأسلحة بأمر مسلم بن عقيل.

وفي كتاب (نَفَس المهموم) أنّ أبا تمّام قال للحسين عليه‌السلام : يا أبا عبد الله ، نفسي لك الفدى ، إنّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منك ، ولا والله لا تُقتل حتّى أُقتل إنشاء الله ، وأحبُ أن ألقى ربّي وقد صلّيت هذه الصلاة التي قد دنى وقتها ، قال : فرفعَ الحسين رأسه ثمّ قال : «ذكرتَ الصلاة جَعلكَ الله من المصلّين الذاكرين ، نعم ، هذا أوّل وقتها» (الكُنى والألقاب : ج ١ ، ص ٣٣).

(٢) الإرشاد للمفيد : ص ٢٠ ، مُثير الأحزان لابن نما : ص ٢١ ، مناقب ابن شهرآشوب : ج ٣ ، ص ٢٤٢.

٢٠١

عقيل وأصحابهما ، بهذا الرجل المُعيّن ضدّهم ، ولئن كان مسلم بن عوسجة رجلاً اعتيادياً ، مهما كان عالي الإيمان ، فإنّ مسلم بن عقيل (سلام الله عليه) ، قد أثبتنا له أنّه مؤيّد ومُسدّد بالإلهام ، فكيف لم يلتفت إلى ذلك؟!

وجواب ذلك يكون على عدّة مستويات :

المستوى الأوّل : إنّ هذا موجود في قضاء الله وقدره ، وكلّما كان ذلك ، فلابدّ من حدوثه ، ومطابق للحكمة الإلهيّة ، سواء عَلمنا بسببه أو جهلنا.

المستوى الثاني : مستوى مَن نعلم أو نحتمل عدم تسديده وتأييده بالإلهام المباشر ـ لو صحّ التعبير ـ وهم أصحاب مسلم بن عقيل سواه ، فمن الواضح أنّ العادة في تلك الأجيال ، وهي عادة استمرّت مئات وآلاف السنين ، حتّى لم تكن كتابة وأوراق تدلّ على الشخصيّة ، كما في الدول الحاليّة ، فكان الناس يسألون الفرد عن اسمه وانتسابه ، ويُصدّقون منه ذلك على السجيّة والعادة المتّبعة ، وواضحٌ أنّه لو كذَبَ أيّ شخص في اسمه أو نَسبه ، فسوف يقع في أنواع من المصاعب اجتماعياً واقتصادياً ، أو يُحتمل وقوعه في ذلك على بعض التقادير ، فكان الناس يُصَدَّقون في أقوالهم تلك ، وكانوا يُصدِّقون أقوال الآخرين في ذلك ، وليس أصحاب مسلم بن عقيل سلام الله عليه وعليهم إلاّ جماعة من ذلك المجتمع المعتاد على ذلك.

فإذا انضمّ إلى ذلك حُسن الظاهر والملاينة والمُسايسة ، فقط أصبحَ الفرد ناجحاً في الامتحان أو الاختبار الاجتماعي ، وانتهى الأمر.

المستوى الثالث : مستوى النظر إلى المواثيق المغلّظة التي أخذها مسلم بن عقيل وأصحابه على (معقل) ، وقد أعطاهم من نفسه ما يريدون ، ولم يكونوا يتصوّرون أنّ شخصاً ما من المسلمين يمكن أن يحيف بالعهد ، أو يحيف باليمين ، وإنّما قيام العلاقات بين الأفراد والمجتمعات كانت ولا زالت على

٢٠٢

شرف الالتزام بالعهود ، وإلاّ كان الفرد ساقطاً بالمرّة أمام الله والناس ، ولم يكن يخطر على البال أنّ هذا الإنسان من الساقطين وبهذه الدرجة.

وهنا ينبغي أن نلتفت إلى ما وردَ في تفسير قوله تعالى عن قول إبليس : (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (١) ، من أنّ آدم وزوجته لم يتصوّرا شخصاً يُقسم بالله كذباً ، يعني أنهّما حين سمعا إبليس يُقسم بالله سبحانه صدّقاه وأكلا من الشجرة. أقول : فكذلك الحال في مسلم وأصحابه من حيث إنّ العهد مُلزم في الدنيا ، واليمين مُلزم في الآخرة ، فماذا بقيَ ممّا يكون أن يفعلوه أمامه؟

المستوى الرابع : إنّ مُسلماً وأضرابه من خاصّة أصحاب المعصومين عليهم‌السلام ، وإن قلنا بأنّهم مؤيّدون ومسدّدون بالإلهام ، إلاّ أنّ ذلك ممّا لا ينبغي أن يؤخذ على أوسع نطاق :

أوّلاً : لأنّهم ليسوا معصومين بالعصمة الواجبة ، كما يُعبّر عنها في (علم الكلام) ، والمعصوم بالعصمة الواجبة يكون معصوماً من الخطأ والنسيان ، مضافاً إلى عصمته من الذنوب والمحرّمات ، بخلاف المعصوم بالعصمة غير الواجبة ، فإنّه يكون معصوماً من الذنوب لا من الخطأ والنسيان.

ثانياً : إنّ الإلهام والتسديد إلى أمثال هؤلاء يختلف في السعة والضيق أو القلّة والكثرة ، ينالُ منه كلّ منهم بمقدار قابليّته واستحقاقه وعمله وغير ذلك من الأسباب ، وليس بالضرورة أن يناله بشكلٍ مطلق ومستمرّ ، إذاً فمن الجائز أن يُحجب الإلهام والتسديد عن الفرد حيناً أو أحياناً ، بمقدار ما تقتضي الحكمة

__________________

(١) سورة الأعراف : آية (٢٠ ـ ٢١).

٢٠٣

الإلهيّة ذلك. وهناك مستويات أخرى للجواب لا حاجة إلى الدخول في تفاصيلها.

تفرّقُ الناس عنه

ولعلّ السؤال الأخير الذي يمكن عَرضهُ في هذا الصدد : ما قالهُ بعض الأذكياء لبعض العلماء عمّا رويَ في التاريخ ، من أنّ مسلم بن عقيل تفرّق عنه أصحابه كلّهم في يومٍ واحد أو عشيّة واحدة ، حتّى أصبحَ يتلدّد في أزقّة الكوفة في ظلام الليل لا يجد مَن يؤويه (١) ، مع العلم أنّ من الكوفيين مَن هم على درجة عالية من الإخلاص للحقّ المتمثّل في مسلم بن عقيل والحسين عليهما‌السلام أمثال : حبيب بن مظاهر ، ومسلم بن عوسجة ، وآخرين ، بدليل أنّ هذين المذكورَين قد استشهدا مع الحسين في كربلاء ، إذاً فإخلاصهم مُحرز فلماذا تفرّقوا عن مسلم في تلك الليلة وتركوه وحيداً حائراً؟

وقد أجاب ذلك العالِم : بأنّهم أعدّوا أنفسهم للشهادة بين يدي الحسين عليه‌السلام ، أقول : وهذا وحدهُ لا يكفي للإقناع ؛ لأنّ حادثة الحسين عليه‌السلام كانت في ضمير المستقبل بالنسبة إليهم ، ولم يكونوا يعلمون من حصولها شيئاً ، فكيف نتعقّل كونهم استهدفوها بصراحة؟

ولكنّ تفصيل الجواب أن يقال : إنّ المخلِصين الكاملين كانوا قلّة لا يستطيعون وحدهم الدفاع عن مسلم بن عقيل ، ولا حفظ حياته وحياتهم.

فلمّا رأوا فشل الحركة وتفرّق الجيش عنه ، لم يشعروا بوجوب المحافظة على حياته شرعاً ، لليقين بكونه مقتولاً لا محالة ، حتّى ولو كانوا هم إلى جنبه بل سيقتلون معه أيضاً ، إذاً فمسؤوليّة الدفاع عنه والحفاظ عليه ساقطة عنهم يقيناً ، إذاً فخيرٌ لهم أن يحافظوا على حياتهم ، وهم كوفيون يَعرفون المدينة

__________________

(١) اللهوف لابن طاووس : ص ٢٣ ، تاريخ الطبري : ج ٦ ، ص ٢٠٩ ، مقاتل الطالبيين : ص ١٠٢.

٢٠٤

وطبيعة سكّانها ، وهو غريب جديد العهد بهذا المجتمع.

وأمّا سببُ محافظتهم على أنفسهم ، فلا ينبغي الإشكال فيه في الدنيا والآخرة. أمّا في الدنيا فواضح ؛ لصعوبة تعريض النفس للقتل ، وخاصّةً إذا كان بلا موجب وبشكل غير مُنتج كما عَرفنا. وأمّا في الآخرة (أعني في التكليف الشرعي في الدين) ؛ فلأنّ بقاءهم خيرٌ من موتهم ، لاحتمال أن يُفيدوا المجتمع بقليلٍ أو بكثير ، وأن لا يُخلو الساحة بالمرّة لعُبيد الله بن زياد وجماعته يفعلون ما يشاءون ، دون وازعٍ من دين ، أو ضمير ، أو رقيب ، أو حسيب.

مضافاً إلى احتمال تأييدهم للحسين عليه‌السلام ؛ فإنّهم كانوا عالِمين بأنّه مُقبل عليهم وقريب الوصول إليهم ، بالرغم من طول السفر وبُعد الشقّة ، إذاً فلعلّهم يستطيعون رؤيته ، أو معونته ، أو نصرته ، أو امتثال أوامره.

صحيحٌ أنّهم لم يكونوا يعلمون بحادثة كربلاء كما وقعت ؛ لأنّها لم تكن قد وقعت ، إلاّ أنّ نصرتهم للإمام الحسين عليه‌السلام إجمالاً ـ ولقاءه وامتثال أوامره أيّاً كانت ـ هذا ممّا كان هؤلاء الخاصّة يستهدفونهُ بصراحة ووضوح ، فإن بقيَ الحسين وانتصرَ بقوا معه ، وإن قُتل قُتلوا معه ، وعلى أيّ حال فينبغي لهم في التكليف الشرعي الذي يعرفونه ، أن يحافظوا على حياتهم الآن ليطبّقوا مثل هذا التكليف في المستقبل عند لقاء الحسين عليه‌السلام.

بقيَ السؤال الذي يخطر في الذهن : وهو أنّ مسلم بن عقيل عليه‌السلام لماذا بقيَ مُتلدِّداً في أزقّة الكوفة ، وقد كان من الأفضل له أن يلتجئ إلى بيت أحد الثقاة من أصحابه ، أو أن يخرج إلى البرّ ويلتحق بالأعراب فلا يعرفهُ أحد.

والجواب عن ذلك يكون على مستويات :

المستوى الأوّل : إنّ مسلم بن عقيل (سلام الله عليه) رجلٌ غريب في الكوفة ، لا يعرف بيوتها ولا طُرقاتها ، وقد كان أصحابه يقصدونه من منازلهم وهو لا يعلم أين تقع منازلهم ، ولم يكن خلال هذه المدّة التي عاشَ فيها في

٢٠٥

الكوفة متيّسراً لهُ المشي في الطُرقات والتعرّف على البيوت ؛ لأنّه كان بمنزلة القائد ، فلابدّ لهُ من البقاء في مركزه ، وإنّما يشتغل له الأتباع فقط.

المستوى الثاني : إنّ مسلم بن عقيل (سلام الله عليه) أدركَ لا محالة ما التفتنا إليه قبل قليل ، من تفرّق خاصّته عنه ، وأدركَ سبب ذلك ، وهذا السبب ممّا ينبغي أن يحترمه تجاههم ، مضافاً إلى إدراكه كراهتهم البقاء معه في ذلك الحين ، وكان إذا أراد متابعتهم فسوف يعمل ما يكرهونه ويدخل بيوتهم عنوة عنهم ، ويبقى فيها فيكون حراماً عليه.

المستوى الثالث : إنّه لا يوجد في ذلك الحين من أصحابه مَن يستطيع حمايته على الإطلاق ؛ لأنّ بعضهم كان قد سُجن : كهاني بن عروة ، والمختار بن عبيدة الثقفي ، وآخرون ، إذاً فدُورُهم مُغلقة في وجهه ، وهم منكوبون قبل نكبته ، وبعضهم مراقَب ومطارَد ، وليس أسهل على الحكّام من أن يجدوا مسلماً في بيت أحد أصحابه ، فإنّها أرجح الاحتمالات لوجوده ، بخلاف ما إذا تخفّى في محلّ غير مُلفت للنظر كما فعل.

المستوى الرابع : إنّ خروجه بالبرّ لم يكن مُنجياً له ؛ لأنّه لم يكن يملك فرساً ، أو أيّة دابة في ذلك الحين ، وإنّما كان يمشي راجلاً في الطُرقات ومتعباً بعد يومٍ حافل بالنشاط والحركة.

إذاً ، فحتّى لو خرجَ إلى البرّ فسوف لن يستطيع أن يبتعد كثيراً ، حتّى يطلع الصبح وسوف يَدركه أعداؤه لا محالة ، بل سوف يُقبض عليه عاجلاً ؛ لأنّ ابن زياد جَعلَ في المدينة وأطرافها عيوناً ساهرة تراقب الحال باستمرار ، فما أسهل ما يقع مسلم بن عقيل بيد أحد هؤلاء أو جماعة منهم ، إذاً فما فعلهُ (سلام الله عليه) كان أفضل الاحتمالات وهو : الالتجاء إلى محلّ غير مُلفت للنظر على الإطلاق ، عسى الله أن يكتب لهُ فيه الخير.

٢٠٦

المستوى الخامس : إنّه قد يقع السؤال عن إمكانه النجاة بالمعجزة ، أو طيّ الأرض ونحو ذلك ، وقد ناقشنا ذلك فيما سبق ، والتفتنا إلى أنّه لم يكن في الحكمة الإلهيّة حصول المعجزات لنصرة أهل الحق ، بل يبقى الأمر مطابقاً للقانون الطبيعي باستمرار ، وإلاّ لم تكن أيّة حاجة إلى أيّ حربٍ خاضها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو أمير المؤمنين ، أو الحسين عليهم‌السلام ، أو أيّ شخصٍ آخر.

تألّبُ الناس ضدّه

وكما نفينا فيما سبق إمكان المبالغة في تألّب الناس ضدّ الحسين عليه‌السلام ، كذلك ننفي هنا المبالغة في تألّب الناس ضدّ مسلم بن عقيل (سلام الله عليه) ؛ وذلك أنّ مقتضى كلام الخطباء الحسينيين عنه : أنّه عليه‌السلام جَمع الناس في أحد الأيّام كجيش محارِب وزوّدهم بالأسلحة ، وأمّر عليهم الأمراء والقوّاد ، ونادى بشعار المسلمين يوم بدر : يا منصور ، أمِت أمت (١).

واجتمعت إليه الكوفة برمّتها ، حتّى إذا كان المساء نفسه تفرّقوا عنه ، حتّى بقيَ وحده يتلدّد في أزقّة الكوفة ، فلمّا كان الصباح نفسه تألّبوا جميعاً ضدّه وقاتلوه ، حتّى النساء والأطفال كانوا يرمونه من السطوح بالحجارة ، ويشعلون النار في أطناب القصب ويرمونها عليه.

وهذه (خريطة) ذهنية غير معقولة ، ولئن كان يمكن حصولها في مدّة طويلة ، فلا يمكن حصولها في مدّة قصيرة في عشيّة واحدة ، فلئن كان يمكن تفرّق الناس عنه لمدى الضغط والمكر الذي مارسه ابن زياد وأصحابه ، غير أنّه لا يمكن تألّبهم ضدّه إلى هذه الدرجة ، فإذا عَلمنا أنّه كان يحارب وحده حين هجموا عليه في الدار ، بقصد إلقاء القبض عليه ، إذاً لم يكن الحاكم في حاجة إلى جيش عَرمرم ضدّه مهما كان شجاعاً ومقاتلاً بارعاً.

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٦ ، ص ٢٠٧ ، الكامل لابن الأثير : ج ٣ ، ص ٢٧١ ، ط مصر.

٢٠٧

ويكفي أن يجد ابن زياد من أصحابه عدّة مئات يكفونه المؤونة ، بدون حاجة إلى أن نتصوّر إلى أنّ الكوفة كلّها قد انقلبت ضدّه في عشيّة واحدة.

وقد نظرتُ في المصادر التاريخيّة فوجدتُ أنّ الرمي من سطوح المنازل ضدّ مسلم بن عقيل ، مذكورٌ فعلاً (١) ، إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّ الشعب كلّه فعل ذلك ؛ وذلك :

أوّلاً : إنّه لا وجود لذكر النساء والأطفال الفاعلين لذلك.

ثانياً : إنّنا لو سلّمنا ذلك ، فإنّما هم شَرذِمة من عوائل أعدائه.

ثالثاً : إنّ أصحاب بعض البيوت من أعدائه من الرجال فعلوا ذلك.

رابعاً : إنّ الجيش المعادي له الذي أرسلهُ ابن زياد للقبض عليه ، وجدَ من الحيَل للسيطرة عليه أن يدخل البيوت عَنوة ويرميه البعض من السطوح بالحجارة والنار ، فإذا كان ذلك محتملاً ، والاحتمال مبطل للاستدلال ، فلماذا نفترض ما هو مُستبعد في نفسه ، وهو انقلاب الشعب كلّه ضدّه في عشيّة وضُحاها.

تأسيسهُ للجيش

سَمعنا قبل قليل ما نقلهُ التاريخ من تأسيسه (سلام الله عليه) ـ في أيّامه الأخيرة من حياته ، ومن وجوده في الكوفة ـ جيشاً مهمّاً أمّر عليه القادة ونادى بشعار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأصبحَ هو القائد العام له ، ولكنّهم تفرّقوا عنه بسبب مكر أعدائه.

والمهمّ الآن أنّه قد يخطر في الذهن سؤالان :

الأوّل : إنّه لماذا أراد تأسيس الجيش مع أنّنا عرفنا فيما سبق أنّه غير مخوّل

__________________

(١) مناقب ابن شهرآشوب : ج ٢ ، ص ٢١٢ ، مقتل الخوارزمي : ج ١ ، ص ٢٠٩.

٢٠٨

بذلك ، وإنّ نصّ الرسالة التي أرسلها الإمام الحسين عليه‌السلام معه لا تساعد على ذلك؟

الثاني : إنّه لماذا لم يحتل بهذا الجيش قصر الإمارة في نفس اليوم ويقضي على عبيد الله بن زياد ويستلم الحكم ، ولقد كان ذلك أفضل بكلّ تأكيد له وللحسين عليه‌السلام وللدين عموماً ، من هذا التأخير الذي حَصل والذي أدّى إلى فشل تلك المهمّة؟

أمّا السؤال الأوّل ، فيمكن أن يجاب عنه بعدّة مستويات :

المستوى الأوّل : إنّ تأسيس هذا الجيش لمجرّد الدفاع عن الوضع الذي كان فيه مسلم بن عقيل عليه‌السلام وأصحابه ـ أو قل : إنّه محاولة لإرجاع الوضع المرتبك الذي استطاع ابن زياد زرعهُ ضدّه ، إلى أوّل حالة من حرّية التحرّك والكلام ـ لم يكن فيه بأس على الإطلاق ؛ لأنّه لا يستلزم إهراق أيّ دم.

المستوى الثاني : إنّ تأسيس الجيش والسيطرة على الحكم في الكوفة وإن لم يكن مذكوراً في كتاب الحسين عليه‌السلام ، غير أنّ مسلم بن عقيل ضمناً مخوّل لا محالة بأن يفعل في الكوفة كلّ ما يرى فيه المصلحة والإصلاح ، فإن وجدَ في حال الكوفة ومن حال أصحابه إمكان أو وجوب تأسيس مثل هذا الجيش ، لم يكن فيه بأس ، حتّى لو استلزمَ الحرب وإراقة الدماء ، لكنّنا سبقَ أن قلنا : إنّ مسلماً (سلام الله عليه) كان يتجنّب ذلك جهد الإمكان ، لكي لا يكون مسؤولاً أمام الله سبحانه في التسبيب لضرب المجتمع بعضه بعضاً وهو جديد عهد بالإسلام ، وقد فعل ذلك إلى آخر لحظات حياته.

مضافاً إلى أنّنا يحسن أن نلتفت إلى أنّه إذا كان قاصداً للسيطرة على الحكم ، فالمظنون جدّاً أنّها سوف تتمّ بدون إراقة دماء على الإطلاق ، أو بدماء

٢٠٩

قليلة جدّاً ، لإمكان السيطرة على قصر الإمارة بسهولة وسرعة مع نجاح الجيش العقيلي وانضباطه.

المستوى الثالث : إنّ تأسيس هذا الجيش ، ليس لكلّ ما ذكرناه ، بل لاستقبال الحسين عليه‌السلام به حين يرِد الكوفة ، فَيرِد على جيش منظّم ومن نقطة قوّة عالية وكافية ، وهذا سبب محترم جدّاً لانتصاره وسيطرته على العراق كلّه لو شاء الله لهُ الاستمرار.

ومسلم عليه‌السلام وإن لم يصرِّح بذلك لأحدٍ ، لكنّه من الأرجح جدّاً أن يكون قد احتملَ ذلك ، وإذا تمّ لهُ الجيش لم يكن في الإدارة المعادية له في الكوفة أيّة أهميّة عملية وهي ضعيفة عندئذٍ ، بل يمكن السيطرة عليها لحظة ورود الحسين عليه‌السلام ، أو قبل ذلك لو اقتضت المصلحة ذلك.

وأمّا الجواب على السؤال الثاني : فلعلّ نفس إثارة السؤال يُعتبر هَذراً وسُخفاً ، وإن كان طالما خطرَ في عددٍ من الأذهان ، لوضوح أنّ العمل الجادّ والحقيقي يكاد أن يكون مستحيلاً في اليوم الأوّل ، حين لم يكن الجيش مرتّباً ولا مضبوطاً لحد الآن ، وإنّما يُعتبر اليوم الأوّل جَمعاً للأفراد وتسجيلاً لهم في هذا الجيش. وينصّ التاريخ أنّ الكوفة بقيت خلال ذلك اليوم في حركة ولغط طيلة ذلك اليوم (١) ، وليس هناك من هدفٍ لهم إلاّ التجمّع وتطبيق الشعار الذي قاله مسلم بن عقيل (سلام الله عليه) ، وأمّا مسلم نفسه فمعَ استمرار هذا الارتباك واللغط وكثرة الحركة ، فمن المتعذّر عليه إصدار الأمر باحتلال قصر الإمارة بهذه السرعة والسهولة ، ولعلّ فيه أو في خارجه مَن يحارب إلى جانبه فيصل الأمر إلى ما لا تُحمد عُقباه.

ونحن لو التفتنا إلى تفرّق الناس عن مسلم عليه‌السلام لمجرّد التهديد

__________________

(١) مقتل الخوارزمي : ج ١ ، ص ٢٠٧ ، مُروج الذهب للمسعودي : ج ٣ ، ص ٦٩.

٢١٠

والخديعة ، فكيف لا يكون تفرّقهم عنه إذا دخلوا تحت ضغط الحرب الحقيقية.

وهذا أمرٌ لا يفوت إدراكه لمسلم عليه‌السلام وقد عاشرهم هذا الردح من الزمن. إذاً فتأسيسه للجيش ليس للحرب الفعلية ؛ وإنّما للدفاع الفعلي ، أو قل للاطمئنان الفعلي ودَفع مكر الأعداء عنه أوّلاً ، وانتظار دخول الإمام الحسين عليه‌السلام إلى الكوفة ثانياً ، ثمّ يكون هو المتكفّل بما يفعل ويأمر بعد أن ساعدهُ مسلم عليه‌السلام بتأليب القلوب والنفوس إلى جانبه ، غير أنّ كلّ ذلك أو غير ذلك ، ممّا لا يَذعن له أعداؤه بطبيعة الحال ، ومن هنا تسبّب ابن زياد إلى إفشال هذه المهمّة على كلّ حال.

٢١١

أسئلةٌ حول واقعة الطف

بعد أن انتهينا من المهمّ من موارد ومقدّمات واقعة الطف ـ لو صحّ التعبير ـ فلنا الآن أن نلتفت إلى الواقعة نفسها ؛ لنسمع ما قد يُثار حولها من استفهامات يمكننا أن نعرضها في الجهات التالية :

الجهة الأولى : إنّه وردَ في التاريخ أنّ الحسين عليه‌السلام جَمع أصحابه ليلة اليوم العاشر من المحرّم ، وأذِنَ لهم بالانفصال عنه والتفرّق في البلدان لكي ينجوا من القتل ، وقال فيما قال : (ألا وإنّي لأظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً ، ألا وإنّي قد أذنتُ لكم جميعاً ، فانطلقوا في حِلٍّ ليس عليكم منّي حرج ولا ذمام ، وهذا الليل قد غَشيكم فاتّخذوهُ جَمَلاً ، ثمّ ليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، وتفرّقوا في سواد هذا الليل ، وذَروني وهؤلاء القوم ؛ فإنّهم لا يريدون غيري ، ولو أصابوني لذُهلوا عن طلب غيري) (١) ، فرفضوا ولم يتفرّقوا ، فهنا قد تَرد عدّة أسئلة :

إحداها : لماذا أذِن لهم بالتفرّق عنه مع حاجته إليهم في الدفاع عنه؟

ثانيها : لماذا لم يتفرّقوا عنه ، وماذا كان هدفهم في ذلك؟

ثالثها : إنّهم كان يجب عليهم أن يهربوا ؛ لأنّ التعرّض للقتل حرام ، فلماذا لم يفعلوا؟

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٦ ، ص ٢٣٨ ، الكامل لابن الأثير : ج ٤ ، ص ٢٤ ، الخوارزمي : ج ١ ، ص ٢٤٦.

٢١٢

أمّا عن السؤال الأوّل : فأوّل خطوة ينبغي اتخاذها بهذا الصدد هو : نفي ما زَعمه السائل من أنّ الحسين عليه‌السلام كان محتاجاً إلى أصحابه في الدفاع عنه ، بل لم يكن من حاجة إلى ذلك أصلاً ؛ لأنّه يعلم أنّه مقتول لا محالة ، ولم يكن في وضعٍ يؤهّله للنجاة طبيعياً بكلّ صورة ، ولم يكن كلّ أصحابه بالعدد الكافي للدفاع عنه ، وإنّما يدور الأمر بين مقتله وحده أو قتله مع أصحابه ، أمّا التسبيب إلى نجاته فهو غير محتمل إطلاقاً.

وقد كان ذلك غير محتمل في زمنٍ سابق حال وجوده في الحجاز ، أو حين بَلَغه خبر مقتل مسلم بن عقيل وهو في الطريق ، أو حين جعجعَ به الحرّ الرياحي ، ففي مثل وقته هذا وقد تجهّز عليه الجيش كلّه ، يكون العلم بالنتيجة أولى وروداً وأوضح ثبوتاً ، هذا مضافاً إلى ما حصلَ فعلاً تاريخيّاً : وهو أنّ أصحابه صَمدوا معه وحاربوا إلى جنبه ، ومع ذلك لم يدفعوا عنه القتل وهذا كان معلوماً سَلفاً ، وقد ثبتَ بالتجربة صدقه.

فإذا انتفت حاجتهُ إليهم عمليّاً لم يكن هناك إشكال شرعي في الإذن لهم بالتفرّق ، ولا يجب عليه الاحتفاظ بهم ؛ لأنّهم سوف لن يسعفوه بشيء.

بل الأمر قد يكون بالعكس : وهو أنّه (عليه الصلاة والسلام) قد يحسّ بتكليفه الشرعي بلزوم أمرهم بالانصراف ، إنقاذاً لهم من الموت الذي يمكن أن يكونوا في غنىً عنه ، مضافاً إلى جهة أخرى وهي : الحفاظ على النفوس ، يعني الحفاظ على جماعة من المؤمنين الذين يصلحون للدعوة إلى قضية الحسين عليه‌السلام وهداية الناس ، وقد قام عليه‌السلام بهذه المهمّة ، ومن هنا قد يتخيّل الفرد أنّه يجب عليهم أن يتفرّقوا لأجل إحراز هذه النتائج ، وسيأتي الكلام عنه.

إلاّ أنّ الحقيقة أنّ المقصد الرئيسي ـ حسب ما نفهم ـ لم يكن هو ذلك ، بل كان لأجل اختبار هِممهم في نصره وفي السير في سبيل الشهادة ، وتحصيل طاعة الله ورضاه سبحانه من هذه الناحية ، ومن هنا يمكن أن يقعوا تحت طائلة نفسية

٢١٣

قوية في التضاد ، أو في الشعور المتضاد في ضرورة البقاء وضرورة الذهاب ، إلاّ أنّهم مع ذلك لم يفكّروا طرفة عينٍ في الذهاب ، بل أدركوا بكلّ وضوح ضرورة البقاء مع الحسين ونيل الشهادة بين يديه ، جزاهم الله خير جزاء المحسنين ، وبذلك صاروا أفضل الشهداء على الإطلاق (١).

__________________

(١) ويمكن الاستدلال على أنّ أصحاب الحسين عليه‌السلام هم أفضل الشهداء ؛ وذلك على مستويين :

الأوّل : وهو قول الإمام الحسين عليه‌السلام عندما خطبَ بأصحابه ، ومَن معهُ من آل هاشم ليلة العاشر من المحرّم حيث قال : «أمّا بعد ، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيتٍ أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عنّي جميعاً خيراً ...... إلخ) ، نقلهُ ابن طاووس في اللهوف ، والفتّال في روضة الواعظين ، والطبري في تاريخه ، وابن الأثير في الكامل ، والخوارزمي في مقتله ، والمفيد في الإرشاد ، وابن شهرآشوب في المناقب ، وغيرهم كثير».

وبهذا يكون قد صرّح الإمام عليه‌السلام أنّ أصحابه أفضل الأصحاب فقوله : (..... لا أعلم ......) ينفي فيها عن وجود أصحاب أفضل من أصحابه قد وجِدوا قبل زمانه ، سواء كان قبل الإسلام أو بعد الإسلام ، ممّن صاحبَ جدّه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو أباه أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أو أخاه الحسن عليه‌السلام ، بل يتعدّى الأمر إلى ما بعد زمانه باعتبار أنّ الأئمّة عليهم‌السلام ـ ومن ضمنهم الإمام الحسين عليه‌السلام ـ يعلمون من جدّهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ما يحدث بعدهم إلى يوم القيامة.

الثاني : إنّا لو أخذنا أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبالخصوص البدريّون ـ باعتبار أنّه الصحابة الأوائل ، أو أفضل الصحابة بشهادة جميع المذاهب الإسلاميّة وفيهم يُضرب المثل ، وجَعلِهم القدوة لمَن أراد الجهاد في سبيل الله ، فترى الإمام عليه‌السلام يخاطب أبا الفضل عليه‌السلام عند زيارته : «وأشهدُ أنّك مضيتَ على ما مضى عليه البدريّون» ـ وقارنّا بينهم وبين أصحاب الحسين عليه‌السلام ، لوجَدنا فروقاً كثيرة بين الفريقين وبالأخص ممّن قُتل بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في بدر ، وبين يدي الحسين عليه‌السلام في كربلاء ، فمن هذه الفروق وبما يَسمح به المقام :

١ ـ إنّ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله البدريين حينما خَرجوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بدرٍ ، كان عنوان خروجهم الغنيمة ، وذلك بالاستيلاء على قوافل قريش ، ولكن عندما فاتهم أبو سفيان وجاء أبو جهل ومَن معه وأصرّ على محاربة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، عند ذلك وطّد الرسول نفسه ومَن معه للقتال ، فتغيّر العنوان من حرب اقتصادية إلى حرب عسكرية بينما أصحاب الحسين عليه‌السلام فقد كانوا يعلمون منذ البداية أنّه لا يوجد غنيمة ؛ وإنّما ذهابهم إلى موتٍ لابدّ منه ، فالحسين أخبرهم بهذا منذ بداية خروجه ، فنراه مثلاً في إحدى خُطبه يقول : «وكأنّي بأوصالي هذه تُقطّعها عَسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء .... إلخ».

٢١٤

__________________

إذاً أصحاب الحسين كانوا يعلمون أنّهم قادمون إلى الموت وليس إلى الغنيمة ، بل للقتال فقط.

٢ ـ إنّ أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وعِدوا بإحدى الطائفتين : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ) سورة الأنفال / ٧ أي : إمّا الإبل (والتي تَحمل الأموال والغنائم) ، وإمّا النفير (أي القتال ، ونتيجة الحرب تكون لهم) ، وكلا الطائفتين فيها فائدة دنيوية إضافةً إلى الثواب الأخروي. أمّا الحسين عليه‌السلام فلم يُخبر أصحابه إلاّ بطريقٍ واحد ، وهو الموت الذي يؤدّي بهم إلى دخول الجنّة.

٣ ـ من الناحية العسكرية : إنّ الجيش الذي واجهَ الرسول في بدر ، لم يكن جيش دولة منظّمة ؛ إنّما كان جيش قَبَلي (أي عشائري) ، وتركيبتهُ تركيبة قَبَلية.

أمّا الجيش الذي زَحفَ إلى الحسين عليه‌السلام ، فقد كان جيشاً نظامياً فهو يمثّل جيش دولة كبرى ، وهذه الدولة استفادت من تجاربها بحروبها مع الغرب والشرق : (كالروم ، والفرس) ببناء جيش منظّم ، إذاً فتركيبتهُ من الناحية الفنّية العسكرية يختلف تماماً عن الجيش الذي واجه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في بدر.

٤ ـ من الناحية التعبوية : فلو أخذنا النسبة بين أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين المشركين الذين قاتلوهم في بدر ، فهي الثلث تقريباً ؛ لأنّ المسلمين كانوا (٣١٣) ، بينما المشركين كانوا في حدود الألف تقريباً.

أمّا لو أخذنا النسبة بين أصحاب الحسين عليه‌السلام إلى نسبة الجيش الزاحف عليهم ، لوجدناهم ثلث عشر العشر على أقلّ تقدير ، فلو أخذنا الرواية التي تقول : إنّ أعداء الحسين الذين قاتلوه في كربلاء (٣٠ ألف) ، والتي هي عن الإمام الحسين عليه‌السلام ، وأخذنا أكبر رقم ذُكر عن عدد أصحاب الحسين والذي هو مئة ألف ، فنجد النسبة بينهما ثلث عُشر العشر ؛ لأنّ عُشر (٣٠٠٠٠) هو (٣٠٠٠) ، وعُشر الثلاثة آلاف هو ثلاثمئة وثُلثها مئة.

٥ ـ إنّ أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كان لديهم وضوح في المعركة بشكلٍ كامل ؛ ذلك لأنّ معركة بدر كانت بين كفرٍ صريح يمثّله أبو جهل وعتبة وأضرابهم ، وبين الإسلام الذي يمثّله المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو واضح ليس فيه لبس.

بينما في معركة الطف كانت هناك عدّة فتن وشُبهات تغصّ بها الأمّة الإسلامية ، فمن تلك الفتن مثلاً : إنّ كلا المُتقاتلين ينتمون إلى الأمّة الإسلاميّة فهما ذات قبلة واحدة ظاهراً ، إضافة إلى الفتن الأخرى كفتنة الخلافة ، وهل هي بالتعيين أم بالشورى؟ وفتنة مقتل الخليفة الثالث ، وما ترتّب عليه من الحروب الثلاثة : (الجمل ، وصفّين ، والنهروان) ، والأحاديث التي خرّجها بنو أميّة في طاعة وليّ الأمر المطلقة ، سواء كان عادلاً أو جائراً ........ وأنّ الحسين قد خرجَ على إمامه وخليفة عصره (أي يزيد) ، وأنّه بخروجه يُلقي نفسه في التهلكة المحرّمة ، وشقّ عصا المسلمين بذلك ، وجَعل الفتنة بينهم ، وقَتل الكثير منهم .......... إلخ ، ممّا كان يجعل وجود شبهات وتساؤلات حول نهضة الحسين عليه‌السلام.

٦ ـ إنّ أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عند خروجهم لواقعة بدر تركوا عوائلهم في المدينة ، وبذلك قد اطمئنّوا عليهم وأنّهم في أمان. أمّا الحسين عليه‌السلام وكثير من أصحابه كانت عوائلهم معهم ، وهنا يكون

٢١٥

فهذا هو مختصر الكلام في الجواب عن السؤال الأوّل.

وأمّا السؤال الثاني : وهو عن سبب التحاقهم به وعدم تفرّقهم عنه ـ بالرغم ممّا سبقَ قبل قليل من احتمال وجوب ذلك في ذِممهم ـ.

فجواب ذلك يتمّ على عدّة مستويات نذكر منها :

المستوى الأوّل : إنّ المهمّ في نظر المؤمن ليس هو النظر إلى التكليف الشرعي بالذات ، بل إلى رضاء الله عزّ وجل ، وإنّما يكون تطبيق التكليف وطاعته مقدّمة لذلك وأسلوباً لتحصيله ، فإذا أحرزَ الفرد أنّ هناك منبعاً لرضا الله عزّ وجل أفضل وأهم وأعلى من مجرّد تطبيق بعض الأحكام ، كما أحرز أصحاب الحسين عليه‌السلام ، كان لهم بل لزمهم اختيار الأفضل والمحلّ الأعلى لا محالة.

__________________

خوفهم على عوائلهم من السبي والأذى أمراً راجحاً جدّاً ، فيكون سبباً مهماً في تخاذلهم ورجوعهم عن القتال للحفاظ على تلك العوائل والأعراض.

٧ ـ إنّ الرسول وأصحابه سُدّدوا بتسهيلات كثيرة من السماء : كنزول الملائكة للقتال معهم ، وهطول المطر لإطفاء ظمأهم وتسديد الرَمية التي يرمونها ، والربح التي اقتلعت أخبية الأعداء ، والحصى التي رمى بها الرسول جبهة المشركين فانهزموا على إثر ذلك ، والنُعاس كما في قوله : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ) (الأنفال : آية ١١) لتستريح أعصابهم.

والأمر الآخر أيضاً : إنّ الله قلّل عدد المشركين في أعين المسلمين .....إلخ ، إذاً فهناك تسديدات وتسهيلات سماويّة لأصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

أمّا الحسين عليه‌السلام وأصحابه فالأمر يختلف ؛ إنّما شاء الله أن تسير الأمور في واقعة الطف بشكل طبيعي ، بل وبوجود بعض الابتلاءات للحسين عليه‌السلام وأصحابه ، كابتلائهم بالعطش بقطع الماء عنهم.

فلو عَلمنا ـ كما أشرنا إلى ذلك مُسبقاً ـ أنّ شهداء بدر على ما قيل هم أفضل الشهداء ، فمع هذه الفروق وغيرها يكون أصحاب الحسين عليه‌السلام قد تفوّقوا عليهم وبذلك تكون الأفضليّة لهم.

٢١٦

المستوى الثاني : إمكان المناقشة في ذينك التكليفين اللزوميين اللذين أشرنا إليهما فيما سبق ، وذلك بالقول إنّهما كانا ساقطَين تماماً عن ذمّة هؤلاء الجماعة الناصرين للحسين عليه‌السلام ، بالرغم من أنّ مقتضى القواعد المعروفة ثبوتها في كثيرٍ من الموارد الأخرى.

أمّا التكليف الشرعي بهداية الناس والدفاع الكلامي عن قضية الحسين خاصّة والدين عامّة ؛ فلأنّ ذلك كلّه لم يكن يتوقّف عليهم ولا يستند إليهم ، بل هم يعرفون وجود ناس آخرين على قدر الحاجة متفرّقين في البلدان يمكن أن يقوموا بهذه المهام ، ومن المعلوم أنّه مع وجود ما يكفي للحاجة يكون التكليف الإلزامي الكفائي ساقطاً عن الآخرين.

وأمّا المحافظة على النفس وحرمة إلقاء النفس في التهلكة ، أو قل وجوب الهرب عن مثل هذا السبب : فلا شكّ أنّهم عَلموا بجواز البقاء مع الحسين عليه‌السلام ، حتّى لو أذنَ لهم بالتفرّق ؛ فإنّه لم يأذن لهم إلزاماً ، وإنّما أذِن لهم جوازاً للقتل ، وإذا عرفوا منه ـ وهو آمرهم وإمامهم ومصدر شريعتهم ـ جواز البقاء والتعرّض للقتل ، إذاً فقد سقطَ تكليفهم بذلك أمامَ الله عزّ وجل ، فلم يبقَ أمامهم إلاّ البقاء وتحصيل المقامات العليا التي ينالونها بالشهادة.

المستوى الثالث : مستوى الامتحان أو التمحيص الذي مرّوا به وأحسّوا به.

وقد أسلفنا أنّه من الواضح أنّ المقصود الرئيسي للحسين عليه‌السلام في الإذن لأصحابه بالانصراف : هو امتحان درجة همّتهم في نَصره واستعدادهم للفداء دونه ، ومن هنا وردَ في الرواية : «ولقد بَلَوتهم ، فلم أجدُ فيهم

٢١٧

إلاّ الأشوس الأقعس يستأنسون بالمنيّة دوني استئناس الطفل إلى محالب أمّه» (١).

فهذه هي نتيجة التمحيص والامتحان وهي نتيجة ناجحة ، ولو كانوا قد قالوا غير ذلك لفشلوا في نظر الحسين عليه‌السلام ، ولم يؤدّوا تكليفهم الكامل أمام الله وأمام إمامهم ومصدر شريعتهم ، والظاهر أنّ فيما ذكرناه الكفاية عن الدخول في المزيد من التفصيل.

الجهة الثانية : قالوا في تاريخ واقعة الحسين عليه‌السلام : إنّ العبّاس عليه‌السلام حين ذهبَ ليملأ القربة بالماء ، وحاربَ أعداءه إلى أن وصلَ إلى ضفّة النهر ، قالوا : ثمّ اغترفَ غرفة من الماء وأدناها من فمه ليشرب ، ثمّ رمى بها من يده وقال :

يا نفسُ من بعد الحسين هوني

وبعدهُ لا كنتِ أن تكوني

هذا الحسين وارد المَنون

وتشربينَ بارد المعينِ

تالله ما هذا فعالُ ديني (٢)

فقد يخطر في البال السؤال عمّا إذا كان الأولى بالعبّاس عليه‌السلام شُرب الماء ، للتقوّي على الأعداء ، ومن ثَمّ نصرة الحسين عليه‌السلام ، ومن ثمّ نصرة الدين أساساً؟

إلاّ أنّه ينبغي أن يكون الجواب واضحاً بعد كلّ الذي سبقَ أن عرفناه ؛ وذلك على عدّة مستويات ، نذكر منها :

المستوى الأوّل : إنّه لم يكن يوجد أيّ سبب في ذلك الحين ممّا يؤدي إلى نجاة الحسين عليه‌السلام من القتل ، فحتّى لو شَرب العبّاس الماء بالمقدار الذي

__________________

(١) الدمعة الساكبة : ص ٣٢٥.

(٢) البحار للمجلسي : ج ٤٥ ، ص ٤١ ، رياض المصائب : ص ٣١٣.

٢١٨

يحتاجه جسمه أو أكثر ، وتشجّع وقاتلَ أكثر ممّا قاتل ، فإنّه لم يكن بالممكن أن ينجو هو ولا أخوه الحسين عليه‌السلام من القتل ، بل السبب لقتلهم موجود ومتحكّم لا محالة.

المستوى الثاني : إنّه وجدَ من الخيانة لأخيه وذويه أن يكون ريّاناً بالماء وهم عطاشا ، وهذا ما يُصرّح به التاريخ (١) ، وقد نطقَ به الشعر الذي نقلناه عنه بصراحة ، وهو أدب إسلامي عالي أمام الله سبحانه ، ومن هنا قال : تالله ما هذا فعال ديني.

المستوى الثالث : إنّه شعرَ بتكليفه في ذلك الحين بوجوب الإعراض عن شُرب الماء وأطاع تكليفه ذاك ، وهذا الشعور يكون بأحد أساليب : إمّا بالإلهام ، أو بالرواية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو عن فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، كما نُقل في بعض الروايات (٢).

المستوى الرابع : إنّه عليه‌السلام أراد أن يموت عطشاناً عَمداً أمام الله سبحانه ؛ لأنّ ذلك أكثر أجراً وأعلى مقاماً ، ومن هذا القبيل ما رويَ عن أبيه أمير المؤمنين عليه‌السلام عندما دُعي إلى مأدبة ، فأكلَ ثلاث لقم فقط ثمّ سحبَ يده ، فقال له ابن عبّاس : هلاّ أكلتَ يا أمير المؤمنين؟ فقال : «إن هي إلاّ ثلاث وأريد أن ألقى ربّي خميصاً» (٣).

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) مقتل الخوارزمي : ج ١ ، ص ١٦٢.

(٣) الكامل لابن الأثير : ج ٣ ، ص ١٩٥.

٢١٩

إذاً فكان أمير المؤمنين يريد أن يلقى الله جوعاناً ، فكذلك ابنه العبّاس يريد أن يلقى الله عطشاناً.

وينبغي أن نلتفت أنّ المستوى الأوّل هو الأهمّ فقهيّاً ، وهو الذي فتحَ الباب للعبّاس عليه‌السلام إلى أحد المستويات الثلاثة الأخرى ؛ لوضوح أنّ شرب الماء لو كان سبباً للنجاة كان واجباً ، ولا تقوم أمامه المستويات الأخرى إطلاقاً ، إلاّ أنّنا عرفنا أنّه لا يُحتمل فيه ذلك.

الجهة الثالثة : إنّه نقلَ إلينا التاريخ : أنّ عليّ بن الحسين الأكبر عليه‌السلام خرجَ إلى الحرب فترةً من النهار ثمّ رجعَ إلى الحسين عليه‌السلام فقال : يا أبه ، العطش قد قَتلني وثِقل الحديد قد أجهدَني ، فهل إلى شُربة ماء من سبيل أتقوّى بها على الأعداء. فبكى الحسين عليه‌السلام وقال : «واغوثاه ، من أين آتي لك بالماء ، قاتِل قليلاً فما أسرع ما تلقى جدّك رسول الله ، فيسقيك بكأسه الأوفى شُربة لا تظمأ بعدها أبداً» (١).

ورويَ أنّ الحسين عليهم‌السلام قال له : «يا بُني هات لسانك ، فأخذَ لسانه فمصّه ودفعَ إليه خاتمه الشريف : وقال له : يا بُني أمسكهُ في فَمك وارجع إلى قتال عدوّك» (٢).

أقول : وفي النتيجة أنّه لم يَدفع له شربة ماء ، فقد يُثار السؤال عن السبب في ذلك وخاصّة عن استعمال المعجزة في هذا الصدد؟

وجوابُ ذلك على عدّة مستويات نذكر منها :

__________________

(١) مقتل الخوارزمي : ج ٢ ، ص ١٣ ، اللهوف لابن طاووس : ص ٤٨ ، ابن نما الحلّي : ص ٥١.

(٢) نفس المصدر ، البحار للمجلسي : ج ٤٥ ، ص ٤٤.

٢٢٠