أضواء على ثورة الحسين عليه السلام

السيد محمّد الصدر

أضواء على ثورة الحسين عليه السلام

المؤلف:

السيد محمّد الصدر


المحقق: الشيخ كاظم العبادي الناصري
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٣

الروايات ، ممّا يحصل رد فعلٍ غير مناسب لديهم ، فإمّا أن يسقط الخطيب من أنظارهم ، وإمّا أن يتجرّأوا على الحرام ، بعنوان : أنّ أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ، كانوا يعملون الحرام فلماذا لا نعمله ، وتكون الخطيئة في النتيجة في ذمّة الخطيب الناقل للرواية.

ويحسن بنا الآن أن نذكر لهذا الأمر مثالين يخطران على البال ؛ لأجل التدليل بهما أوّلاً ، ولأجل التعرّض إلى فلسفتهما وأسبابهما ثانياً :

المثال الأوّل : قولهُ عن نساء الحسين عليه‌السلام في وصف حالهنّ بعد مقتله ، وذلك في زيارة الناحية : «فخرجنَ من الخدور ناشرات الشعور ، على الخدود لاطمات ، وللوجوه سافرات ، وبالعويل داعيات ، وبعد العزّ مُذلّلات ، وإلى مصرعك مُبادرات» (١).

حيث إنّ الظاهر الأوّلي لقوله : ناشرات الشعور ، كونهنّ كذلك أمامَ الرجال الأجانب من المعسكر المعادي ، وهو ممّا لا شكّ في حُرمته في الشريعة المقدّسة ، فيكون ذكرهُ من نسبة المحرّم إلى نساء الحسين عليه‌السلام.

وجوابُ ذلك من وجوه :

الوجهُ الأوّل : ضعف هذه الرواية سنداً ، فهي لا تقوم كدليلٍ معتبر على أيّ شيء فيها ، فينتفي الأمر من أصله.

الوجه الثاني : لو تنزّلنا وفرضناها معتبرة ، فالدليل إنّما يكون معتبراً في حدود ما يمكن تصديقه والأخذ به من المعاني والأفكار ، وأمّا ما لا يمكن فيه ذلك فلا يكون الدليل معتبراً أو حجّة فيه ، فإذا نَسَبت أيّة رواية إلى هؤلاء الأجلاّء أيّ محرّم ـ والعياذ بالله ـ كانت هي الساقطة عن الحجيّة ، لا أنّ التصديق بمضمونها يكون ممكناً ، وليست هذه الرواية ببدَعٍ عن ظواهر القرآن الكريم ، حيث ثبتَ في علم الأصول أنّها إنّما تكون حجّة ، إذا لم تكن منافية للدليل القطعي.

__________________

(١) زيارة الناحية المقدّسة المرويّة عن الإمام الحجّة (عجّل الله فرجه).

١٨١

وأمّا إذا كانت منافية له ، لم تكن حجّة كقوله تعالى : (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (١) ، أو قوله تعالى : (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (٢) ، بعد قيام الدليل العقلي القطعي على استحالة ثبوت مثل هذه الأمور للذات الإلهيّة المقدّسة.

الوجهُ الثالث : أنّ النساء كنّ مدهوشات وحائرات الفكر وغير شاعرات بواقعهنّ ، لمَدى الحُزن والأسى الذي تَملَكهنّ وسيطر عليهنّ لمقتل الحسين عليه‌السلام وأصحابه ، فإذا كُنّ قد خرجنَ أمام الرجال الأجانب ، فهنّ غير ملتفتات إلى واقعهنّ وغافلات عن الحكم الشرعي أو قل : ناسيات له ، فلا يكون الحكم فعليّاً أو مُنجّزاً في حقّهنّ أو قل : إنّهن معذورات بالنسبة إليه ، وهذا الوجه له درجة من الوجاهة ، بعد التنزّل عن الوجهين السابقين ، وهو المشهور بين الناس ، ولعلّه هو المقصود في الزيارة لو كانت معتبرة سنداً ، إلاّ أنّه مع ذلك لا يخلو من استبعادٍ لأمرين نذكرهما مع إحالة القناعة بهما إلى وجدان القارئ اللبيب :

الأمرُ الأوّل : إنّ النساء كنّ كثيرات كعشرة أو أكثر ، ولم تكن واحدة أو اثنتين مثلاً ، فإذا أمكنَ سيطرة الحزن بشدّة على واحدة أو اثنتين ونحو ذلك ، لم يكن ذلك في الجميع باستمرار أو قل طيلة الوقت ، فلا أقلّ من أنّ واحدة أو أكثر تلتفت لحالهنّ فيجب عليها تنبيههنّ على ذلك ويتمّ الأمر.

الأمر الثاني : إنّه يُستبعد جدّاً أن يكون مقتضى الحكمة الإلهيّة ذلك ؛ لأنّ الحسين عليه‌السلام وأصحابه قُتلوا في سبيل الله والدين ، فمن الصعب أو من السخف أن نتصوّر أنّ في التقدير الإلهي أن يصدر العصيان الصريح ، والمنظر القبيح من نسائه الأشدّ ارتباطاً به من بعد مقتله مباشرة.

__________________

(١) سورة الفتح : آية ١٠.

(٢) سورة طه : آية ٥.

١٨٢

الوجه الرابع : للجواب على هذه الرواية :

إنّه لم يقل في الرواية : ناشرات الشعور أمام الرجال الأجانب ، أم أمام الأعداء ونحو ذلك ، بل من الواضح أنّهن ناشرات الشعور فقط ، وهذا من الممكن بل المتعيّن أن يكون ضمن التعاليم الدينيّة أو الحجاب الإسلامي ، فإذا ضَممنا إلى ذلك هذه الفكرة ، وهي : إنّ النساء في الشرق كنّ ولازلنَ ، قد ورثنَ الأمر عن الأجيال السابقة ورأيناه عَياناًَ ، وهو اعتياد النساء في حالة الحزن والمصيبة على الالتزام بنشر شعورهنّ وإرسالها وذلك لأمرين :

أحدهما : أنّ ذلك بنفسه علامة الحزن والحِداد.

وثانيهما : أنّ ذلك ناشئ من إعراضها عن الزينة حزناً ، أو من ضيق نفسها عن التمشّط أساساً ، إمّا حقيقةً ، أو أنّ المرأة تريد أن تُظهر ذلك أمام الآخرين ، أو أن تكون في هذا الحال كغيرها من النساء ؛ فإنّ التزام النساء بعادات بعضهنّ البعض ممّا هو واضحٌ ومُسلّم.

فإذا ضَممنا هذه الفكرة إلى ما سبقَ أمكننا أن نقول : إنّ نساء الحسين عليه‌السلام ناشرات الشعور ، حِداداً على هذا المصاب الجَلل ، وحزناً وإظهاراً لزيادة المصاب ، وليس في الأمر ولا في الرواية بالمرّة أنّهنّ كنّ ناشرات الشعور أمام الرجال الأجانب ، بل كنّ كذلك في مجتمعهنّ الخاصّ ، أعني النساء أمام بعضهنّ البعض.

فإن قال قائل : إنّ هذا الوجه مُحتمل وليس أكيداً ، قلنا : إنّه بعد التنزّل عن كلّ ما سبق ممّا يقتضي كونه أكيداً ، فإنّ مجرّد الاحتمال هنا يكفينا ، كأطروحة موهِنة للاستدلال بهذه الرواية ضدّ نساء الحسين عليه‌السلام ، أو قيامهنّ بالمحرّمات ، وإذا دَخلَ الاحتمال بطلَ الاستدلال.

المثال الثاني : لِمَا رويَ من قضايا الحسين عليه‌السلام ، ممّا يكون ظاهره العمل

١٨٣

بشيءٍ من المحرّمات ، مع التعرّض إلى جوابه :

ما وردَ في تاريخ مسلم بن عقيل (سلام الله عليه) : من أنّه حين أُخذَ مكتوفاً إلى عُبيد الله بن زياد ، رأى قُلّة (١) ماء بارد فقال : اسقوني منها ، فقال له بعضهم : انظر إليها ما أبرَدها ، لن تذوق منها حتّى تذوق الحميم ، إلى أن تقول القصّة : إنّه صُبّ لهُ في قدح ماء وقرّبه إلى فمه لكي يشربه ، فامتلأ القدح دَماً ؛ لأنّه كان قد حَصلت له ضربة على شَفته العليا ووصلت إلى أسنانه فسكبَ الماء ، فملؤوه لهُ مرّة أخرى ، فامتلأ القدح دماً فسكبه ، فلمّا كانت الثالثة قال : لو كان من الرزق المقسوم لشربتهُ (٢).

ففي هذه الحادثة يمكن أن نلاحظ كملاحظة أوّليّة : عدم مشروعيّة مطالبة مسلم بن عقيل عليه‌السلام بالماء ؛ لأنّه لا يخلو إمّا أن يكون ملتفتاً إلى جرحه الذي في فَمه أم لا ، والجَرح لم يكن مضت عليه مدّة طويلة ، ولعلّه كان ينزف لحدّ الآن.

أمّا عدم التفاته إليه فهذا مُستبعد جدّاً ، باعتبار الدم الذي ينزف ، وإن لم يكن له دم كان الألم موجوداً ، ومن الصحيح أنّه (سلام الله عليه) يتحمّله ويصبر عليه ، إلاّ أنّ ذلك لا يعني نسيانه ، بحيث يستطيع أن يأكل أو يشرب كأيّ إنسانٍ اعتيادي.

فإذا كان ملتفتاً إلى الجَرح ، فلماذا طلبَ الماء وهو يعلم سَلفاً باختلاطه بالدم ؛ لأنّ الدم وإن لم يكن ينزف بشدّة ، ولكنّه إذا شربَ الماء فسوف يدخل الماء في الجرح ويحدث نزف جديد يقيناً ، فهذا فيه احتمالان باطلان لإتمام الاستشكال ومُحتمل ثالث صحيح للجواب عليه :

__________________

(١) القُلّة : بمعنى الجرّة ، وقيل : الكوز الصغير (أقرب الموارد : ج ٢ ، ص ١٠٣٤ بتصرّف).

(٢) الإرشاد للشيخ المفيد : ص ٢١٥ ، ط نجف ، تاريخ الطبري : ج ٦ ، ص ٢١٢ ، الكامل لابن الأثير : ج ٣ ، ص ٢٧٤ ، مقاتل الطالبيين : ص ١٠٧.

١٨٤

أمّا الاحتمالان الباطلان فهما :

الأوّل : أن يكون مسلم بن عقيل عليه‌السلام مستعدّاً لشرب الماء المختلط بالدم بالرغم من نجاسته ، وهذا باطلٌ ؛ لأنّه حرام أوّلاً ، وينصّ التاريخ على تركه وإراقة الماء ثلاث مرّات ثانياً.

الثاني : تبذير الماء بحيث كان كلّما امتلأ دَماً أراقهُ ، وخاصّة في المرّة الثالثة حيث كان من المعلوم حصول نفس النتيجة ، وهذا الاحتمال باطل أيضاً ؛ لأنّه وإن كان تبذيراً إلاّ أنّه ليس بمحرّم على مسلم بن عقيل في ذلك المورد ، لوجود المصلحة فيه ـ على ما سيأتي ـ ولكن لو صحّ أحد هذين الاحتمالين لتمّ الاستشكال ، ولم يبقَ عندنا من جواب إلاّ الطعن بسند هذه القصّة نفسها ، واحتمال كونها مكذوبة أساساً أو تأكيد ذلك ؛ لأنّنا نَجلّ مسلم بن عقيل عن مثل هذا الإسفاف.

ولكنّ الاحتمال الثالث والأخير يصلح جواباً على الإشكال أساساً : وهو أنّنا ينبغي أن نلتفت إلى أنّ طلبهُ للماء كان في أوّل دخوله على عبيد الله بن زياد ، فأراد أن يبرهن له عمليّاً وحسيّاً على حاله السيّئة دنيويّاً والبلاء الحاصل عليه قبل الق٨ض عليه وشدّ وثاقه ، فهو مُتعب جدّاً وعطشان جدّاً ومجروح جَرحاً بليغاً ، مضافاً إلى كونه أسيراً ومكتوفاً ، ولئن كان في شرب الماء نوع من الراحة لهُ ، فهو قد أصبحَ بحالٍ بحيث لا يستطيع أن يشرب الماء ليرتاح حتّى بهذا المقدار ، كلّ هذا فَهَمهُ عُبيد الله بن زياد من تنفيذ طلبه ومحاولته لشرب الماء ، بل أكثر من ذلك وهو : أنّ الجرح بليغ إلى درجة لا يؤمَل معه انقطاع الدم حتّى في الصبّة الثالثة للماء.

وهذا الذي أشرنا إليه : من أنّ المصلحة تقتضي وجود هذه الصّبة فلا تكون تبذيراً ، فقد كان طلبهُ بيان عملي لشرح حاله لا أكثر ، وبهذا يندفع الإشكال السابق جملةً وتفصيلاً.

١٨٥

مُسلم بن عقيل في الكوفة

حيث تحدّثنا عن مسلم بن عقيل ويُعتبر الحديث عنه حديثاً عن أوّل قضايا الحسين عليه‌السلام تقريباً ، أودُّ بهذه المناسبة أن أعرض عدّة أفكار ، أعرضها في العناوين التالية :

الأخوّة

حين أرسل الإمام الحسين عليه‌السلام مسلم بن عقيل إلى الكوفة ، كتبَ معهُ كتاباً يُعرّفه لأهلها ويصفهُ بأنّه : «أخي وابن عمّي ، وثقتي من أهل بيتي ، والمفضّل عندي» (١) ، فهذه عدّة صفات :

أمّا كونهُ ابن عمّه : فهو تعبير عن قرابته فعلاً ؛ لأنّ عليّاً وعقيل (سلام الله عليهما) أخوان شقيقان ، وهما أبوا الحسين ومسلم.

وأمّا كونهُ أخاه : فهو على ما أعتقد أهمّ هذه الصفات على الإطلاق ؛ لأنّه لم يكن أخاً شقيقاً حقيقة ولا غير شقيق ، فلابدّ من حَمله على أحد معنيين : إمّا المعنى المجازي ، أو المعنى المعنوي ، ولا تنافي بينهما ؛ لأنّه في الظاهر أخ مجازي وفي الباطن أخ معنوي.

وفي هذا الصدد ينبغي أن نلتفت إلى أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين آخى بين أفراد المهاجرين والأنصار وترك عليّاً عليه‌السلام ، شكى إليه علي بأنّه لم يُعيّن له أخاً؟ فقال : «جَعلتك أخاً لنفسي» (٢) ، ومن هنا وردَ تشريفه بهذه الصفة بأنّه المخصوص بالأخوّة ، يعني مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذه ليست أخوّة مجازيّة بل أخوّة معنويّة وحقيقية

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٦ ، ص ١٩٨ ، مناقب ابن شهرآشوب : ج ٣ ، ص ٢٤٢ ، مقتل الخوارزمي : ج ١ ، ص ١٩٥ ، الإرشاد للمفيد : ص ٢٠٤ ، ط نجف.

(٢) أسد ُالغابة لابن الأثير : ج ٤ ، ص ١٦ ، مناقب ابن شهرآشوب : ج ٢ ، ص ٨٥ بتصرّف.

١٨٦

على المستوى الإلهي.

ومحلّ الشاهد من ذلك أنّنا نسأل : لماذا نحمل أخوّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على الأخوّة المعنويّة ، ولا نحمل أخوّة الحسين على نفس المضمون ، فإمّا أن نحملهما معاً على عالَم المجاز ، وإمّا أن نحملهما معاً على عالَم المعنى ، ولا يحقّ لنا أن نحمل بعضها هكذا وبعضها هكذا؟

وحيث تعيّن أن تكون أخوّة علي عليه‌السلام لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله معنوية ، كذلك ينبغي أن تكون أخوّة مسلم بن عقيل للحسين عليه‌السلام معنوية ، كلّ ما في الأمر أنّ الفرق بين الأخوّتين : هو الفرق بين الشخصين أعني عليّاً ومسلماً من ناحية ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والحسين من ناحية ثانية ، فهذه الأخوّة أدنى من تلك الأخوّة ؛ لأنّها تختلف عنها باختلاف الحسين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكنّها مع ذلك شريفة وعظيمة جدّاً ، بحيث لا تُقاس معها أيّ أخوّة أخرى في البشريّة.

هذا ، وأمّا قوله : (ثقتي من أهل بيتي) فهو واضح المعنى ، غير أنّ فيه جهتين من الحديث لابدّ من خوضهما :

الجهة الأولى : أنّ الوثاقة لا مَحالة تختلف ، فهناك الثقة ، وهناك الأوثق ، وهناك الأوثق منه ، وهكذا. أمّا كلام الإمام الحسين عليه‌السلام ، فيدلّ على أنّ مسلم بن عقيل (سلام الله عليه) ثقة للإمام المعصوم عليه‌السلام ، وهذه أعلى أشكال الوثاقة بعد العصمة.

الجهة الثانية : أنّه قد يقع السؤال : أنّ في العبارة دلالة أو إشعاراً بأنّه أوثق من غيره من الهاشميّين (من أهل بيتي) ، ولا يوجد مَن هو في مستواه ، مع أنّ فيهم الكثيرين ممّن يعدلونهُ في الوثاقة : كالعبّاس بن علي ، وعليّ بن الحسين الأكبر ، والقاسم بن الحسين السبط ، فضلاً عن الإمام السجّاد عليّ بن الحسين (عليه وعليهما السلام) ، وهو الإمام المعصوم بعد الحسين عليه‌السلام؟

وجواب ذلك على مستويين :

١٨٧

المستوى الأوّل : إنّ قوله : (ثقتي من أهل بيتي) ، لا دلالة فيه على أنّ ثقاته عليه‌السلام منحصرون فيه ، وإنّ غيره ليس من ثقاته ، أو أدنى منه في وثاقته ؛ فإنّ هذه الاستفادة وأمثالها تسمّى في علم الأصول من مفهوم الوصف ، وهو باطل على ما هو المُبرهن عليه هناك ؛ فإنّك لو وصفتَ شخصاً كريماً لم يكن معناه أنّ الآخرين ليسوا كُرماء ، أو لا يوجد كريم غيره ، وخاصّة إذا فَصَلنا نقطة بين الصفتين : أعني (ثقتي) من ناحية ، و (من أهل بيتي) من ناحية أخرى ؛ فإنّ هذا المعنى يكون واضح جدّاً ، ولا دليل على ارتباطهما من هذه الناحية. وعلى أيّ حال ، فلو كان ظاهر العبارة ذلك ، لابدّ من حَرفها عن ظاهرها وتأويلها ؛ لأنّ الظاهر إنّما يكون حجّة مع عدم قيام الدليل على بطلانه ، ومن العلوم بالضرورة أنّ مثل هذا الظاهر ـ بعد التنزّل جَدلاً عمّا قلناه ـ يكون غير مُحتمل الصحّة.

هذا ، وكلّ هذه المستويات من الكلام يمكن أن نقولها في الصفة الأخرى ، وهي قوله : (والمفضّل عندي) ، فراجع وتأمّل ، مضافاً إلى أنّها رواية غير معتبرة السند.

وأمّا قياسه ـ أعني مسلم بن عقيل عليه‌السلام بالإمام المعصوم عليه‌السلام ـ فهو غير مُحتمل أصلاً في ضمير المؤمنين ووجدانهم ، وإنّما مراد الحسين عليه‌السلام لو أراد تفضيله على الآخرين ، فإنّما يريد غير المعصومين منهم بطبيعة الحال.

المستوى الثاني : أن ننظر إلى أنّ الحسين عليه‌السلام لماذا اختار مسلماً بالذات للسفارة عنه في الكوفة ، مع أنّ أهل بيته عديدون ، فإذا أجبنا ـ كما سنسمع بعد قليل ـ أنّه هو الوحيد الصالح منهم للسفارة ، أمكننا عندئذٍ أن نفهم من العبارة أنّه (ثقتي من أهل بيتي ، والمفضّل عندي) : ممّن هو صالح لهذه السفارة والمهمّة ، وعندئذٍ لا بأس أن يكون هو الوحيد الموصوف بها.

وعلينا الآن استعراض بعض الموانع المحتملة التي كانت تحول دون إرسال غيره في هذه المهمّة :

١٨٨

أوّلاً : كان هناك جماعة لا يناسبهم العمر اجتماعيّاً للقيام بهذه المهمّة مهما كانوا علماء حكماء ؛ لأنّهم كانوا شبّاناً صغاراً : كالقاسم بن الحسن ، والإمام السجّاد عليه‌السلام ، وكذلك عليّ بن الحسين الأكبر على بعض الروايات (١).

ثانياً : كان هناك أكثر من واحد يتّصف بالعوق المانع عن أداء المهمّة : كالعمى في عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عليه‌السلام ، والضُعف العام عن الحرب ، أو ضُعف الذراعين عن الضرب ، كما وردَ عن محمّد بن الحنفية وهو ابن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

ثالثاً : يبدو أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام تجنّبَ عن عمدٍ إيكال المهمّة إلى أولاد علي عليه‌السلام وأحفاده ، بل أخرَجها عن هذه العائلة تماماً ، والوجه الذي يبدو من ذلك ـ بغضّ النظر عمّا يأتي ـ : هو إجلال هذه العائلة عن مهمّةٍ أدنى منها ، ويمكن لكثيرين من غيرهم القيام بها ، وسيكون مسلم بن عقيل هو خير مَن يكون من خارج الأسرة.

رابعاً : ما يذكرهُ عدد من الخطباء : من أنّ الحسين عليه‌السلام حين حَجبَ المهمّة ، أو مَنعها عن أخيه العبّاس عليه‌السلام ، وابنه الأكبر وأضرابهم ، إنّما ذَخرها بذلك لنيل الشهادة معه في كربلاء ، وهو مقام أسمى وأعظم ؛ فإنّ مسلم بن عقيل عليه‌السلام وإن كان من شهداء الحسين عليه‌السلام ، إلاّ أنّ الشهادة بين يدي الحسين وسمعه وبصره ، ولأجل الدفاع المباشر عنه مهمّة أعلى وأصفى وأقدس أمام الله عزّ وجل ، وهذا على أيّ حال مربوط بالعلم الإلهامي الذي يُعرِّفه الإمام الحسين عليه‌السلام من قضاء الله وقَدَره.

__________________

(١) حيث كان عُمرُ عليّ الأكبر ـ على ما هو الأشهر بين المؤرّخين وأرباب المقاتل والنَسب ـ نحو ٢٧ سنة ، كما عن الطريحي في المنتخب ، وعُمر السجّاد يوم الطف ٢٣ سنة ، كما في الإيقاد للعظيمي ، وكان عُمر القاسم يوم الطف لا يتجاوز الحُلم ، كما في مقتل الخوارزمي.

١٨٩

احتلالُ الكوفة

قد يخطر على البال السؤال : أنّ مسلم بن عقيل لماذا لم يحتل الكوفة احتلالاً عسكريّاً ويسيطر على الحكم فيها ، وخاصّة بعد أن تمّ لديه مبايعة اثني عشر ألفاً من أنصاره (١) ، وقد كانوا وَعَدوه أو وعَدوا الحسين عليه‌السلام ـ في بعض كتبهم إليه ـ أن يطردوا النعمان بن بشير ، حاكم الكوفة ممثّلاً عن الحاكم الأموي ، وقالوا : ثمّ إنّه ليس علينا إمام غيرك ، فأقبِل لعلّ الله يجمعنا بك على الحقّ ، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة ولسنا نجتمع معه في جمعة ولا جماعة ولا عيد ، ولو بَلَغنا إقبالك إلينا ، أخرجناه حتّى نُلحقه بالشام إن شاء الله تعالى (٢).

وواضحٌ : أنّ إقبال مُمثّل الحسين ورسوله عليهم ، كإقبال الحسين نفسه ، فلماذا لم يفعلوا ذلك ، ويتسبّبوا في أخذ زمام السلطة من قِبل مسلم بن عقيل عليه‌السلام؟

والجوابُ على ذلك ـ بغضّ النظر عمّا قلناه في مقدّمات هذا البحث من أنّ عقولنا قد تقصر عن نيل الواقعيات أوّلاً ، وأنّ هؤلاء العظماء عند الله كأمثال مسلم بن عقيل ممّن لهم التأييد والتسديد من الله سبحانه ثانياً ، ومعهُ ينسدّ السؤال عن ذلك وغيره ـ يمكن بأمور :

الأمر الأوّل : إنّ مسلم بن عقيل (سلام الله عليه) لم يكن مُخوّلاً من قِبل الحسين عليه‌السلام بالحرب ، ولا باستلام الحكم في الكوفة ؛ وإنّما كان مخوّلاً

__________________

(١) هذا ما ذكرهُ المسعودي في مُروج الذهب : ج ٣ ، ص ٦٦ ، والكليني في كفاية الطالب : ص ٢٨٢.

أمّا في مقتل الخوارزمي : ج ١ ، ص ٢٠ ذَكر أنّهم عشرون ألفاً ، أمّا في تاريخ الطبري ، والإرشاد للمفيد ، ونهاية الإرَب للنويري ، والإيقاد للعظيمي أنّهم ثمانية عشر ألفاً ، وقد ذَكر ابن نما الحلّي في مُثير الأحزان أنّهم أربعون ألفاً.

(٢) الخوارزمي : ج ١ ، ص ١٩٤ ، الطبري : ج ٦٥ ، ص ١٩٧ ، الكامل لابن الأثير : ج ٣ ، ص ٢٦٦ ، مناقب ابن شهرآشوب : ج ٣ ، ص ٢٤١.

١٩٠

فقط لاستكشاف الحال في الكوفة وإرسال الخبر إلى الحسين عليه‌السلام ، ومن المعلوم أنّ السيطرة على الكوفة تحتاج إلى قتال ، وهو ممّا لم يأذن به الحسين عليه‌السلام.

فإنّ نصّ جواب الحسين عليه‌السلام يقول : «أمّا بعد ، فقد فهمتُ كلّ الذي اقتصَصتم وذَكرتم ، ومقالة جُلّكم : إنّه ليس علينا إمام فأقبِل لعلّ الله يجمعنا بك على الهدى والحقّ ، وأنا باعثٌ لكم بأخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل ، وأمرتهُ أن يكتب إليّ بحالكم وأمركم ورأيكم ، فإن كتبَ إليّ أنّه قد اجتمعَ رأي مَلأكم وذوي الحِجى منكم على مثل ما قدّمت به رُسلكم وتواترت به كتبكم ، أقدِم إليكم وشيكاً إن شاء الله» (١) إلى آخر ما قال ، وهو خالٍ من التخويل بالحرب ، كما هو واضح.

الأمر الثاني : إنّ استلام حكم الكوفة من قِبل مسلم بن عقيل إن كان بدون حرب ـ كما يُشعر به كتاب أهلها الذي سمعناه حين يقولون عن حاكمها : أخرجناهُ وألحقناه بالشام. هكذا بكلّ سهولة ـ لهانَ الأمر ، بل أمكنَ القول شرعاً ، بأنّه تجب السيطرة على الكوفة عندئذٍ ، إلاّ أنّ الأمر لم يكن كذلك جزماً ، لعدّة أمور منها :

أوّلاًً : وجود المنافين والمعاندين في الكوفة بمقدار معتدٍّ به ، وهم بلا شكّ مستعدّون للوقوف ضدّ هذا الاتّجاه ، سواء بالحرب لمنعه أو بالتآمر لإفشاله وإسقاطه لو تمّ ، ومن هنا يصعب حصول الأمر بالنجاح التام والمستمر.

ثانياً : إنّ حاكم الكوفة يومئذٍ (النعمان بن بشير) ، وإن كان حسب ما وردَ في التاريخ : أنّه كان رجلاً متخاذلاً مشكّكاً يحبّ العافية ، ويُفضّل الراحة والسلامة (٢) ، ولكنّه مع ذلك ورد أنّه خَطبَ وهدّد الكوفيين بأنّ استعمالهم

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٦ ، ص ١٩٨ ، مناقب ابن شهرآشوب : ج ٣ ، ص ٢٤٢ ، مقتل الخوارزمي : ج ١ ، ص ١٩٥.

(٢) إعلام الورى للطبرسي : ص ٢٢٤ ، الفتوح لابن أعثم : ج ٥ ، ص ٧٥.

١٩١

للسلاح ضدّه ، يعني استعماله ضدّهم ، ولن يستطيعوا أن يزيلوه بسهولة ؛ وإنّما لابدّ من أن تنشب الحرب بينهم ، وسيستعين في نفس الوقت بالمعاندين والمنافقين والفسقة الذين هم على استعداد لمعونته جزماً.

ونسمعهُ يقول في خطبته : إنّي لا أقاتل مَن لم يقاتلني ، ولا أثب على مَن لا يثِب عليّ ..... ولكنّكم إن أبديتم صفحتكم ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم (يعني الحاكم الأموي) ، فو الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبتَ قائمه بيدي ، ولو لم يكن لي منكم ناصر ولا مُعين ، أمّا إنّي أرجو أن يكون مَن يعرف الحقّ منكم أكثر ممّن يُرديه الباطل (١) ، إلى آخر ما قاله ، وهذا يعني عدّة أمور :

أوّلاً : مناجزتهم الحرب إذا هم حاربوا.

ثانياً : إعطاء الحريّة لهم في أن يفعلوا ما يشاءون ضمن التصرّف السلمي غير القائم على السلاح ، وأعتقدُ أنّ هذا من النِعم الإلهيّة على مسلم بن عقيل وأنصاره استطاعوا فيه أن يُثبتوا وجودهم تامّاً.

ويكفينا تقيماً للحالة ، لو استطعنا المقايسة بينها وبين ما أصبحَ عليه الحال عند حُكم عُبيد الله بن زياد ، الذي عيّنه الحاكم الأموي بعد النعمان بن بشير.

ثالثاً : المسؤوليّة الأخلاقيّة تجاه النعمان بن بشير هذا ، من حيث إنّه كفّ عنهم شرّه ، فاللازم أن يكفّوا عنه شرّهم ، وإذا لم يحاربوه ، لم يمكنهم عزلهُ والسيطرة على الحكم ، وعلى أيّ حالٍ فقد استطاع النعمان بن بشير بذلك أن يبقى هو الحاكم ما دام غير معزول من قِبل سيّده الأصلي الحاكم الأموي.

الأمر الثالث : إنّ مسلم بن عقيل عليه‌السلام شعرَ أنّ قيام حرب واسعة في داخل المجتمع الإسلامي الجديد ، الذي لم يكن قد تجاوز قَرنهُ الأوّل ، سوف

__________________

(١) الكامل لابن الأثير : ج ٣ ، ص ٢٦٧ ، الإرشاد للمفيد : ص ٢٥٠ ، الأخبار الطوال : ص ٢١١.

١٩٢

يكون كارثة على الإسلام كلّه ، وسيُقتل من المسلمين عامّة ومن المخلِصين خاصّة العدد الكثير ، وسيفتح ثغرة وفرصة لأعداء الإسلام من الخارج والداخل للسيطرة على المجتمع سيطرة كاملة ومحكمة.

إذاً ، فقد اقتنعَ مسلم بكلا الأمرين وهما : تعذّر السيطرة سلميّاً على الكوفة ، والآخر : عدم المصلحة في السيطرة عليها عسكريّاً ، إذاً فلا ضرورة إلى تلك السيطرة حتّى لو كان مسموحاً له من قِبل الحسين عليه‌السلام بها ما لم يكن مأموراً بها ، وهو جَزماً لم يكن كذلك.

الأمر الرابع : إنّ هناك أمراً قلّما يأخذهُ عامّة الناس بنظر الاعتبار ، وهو : التناسل البشري ، يعني احتمال ولادة مؤمن من مؤمن ، أو من كافر ، أو منافق ، غير أنّ هذا ممّا يؤخذ في الحكمة الإلهيّة جَزماً ، فيكون من الحكمة المحافظة على بعض النفوس ، لكي يوجد من ذراريها ولو بعد جيلٍ أو أجيال ، جماعة من المؤمنين الذين يعبدون الله وينصرون دين الله بإخلاص ، وإذا كانت أيّ حربٍ مانعة عن ذلك ـ والحرب بطبيعتها مانعة عن ذلك ـ إذاً فمن الضروري عدم وقوعها.

وهناك وجهٌ آخر مهم ذكرنا أُسسه في كتابنا (اليوم الموعود) ، إلاّ أنّ إيضاحه الكامل يتوقّف على ذِكر تلك الأسس فيطول المقام بنا ، ومن هنا يكون الأحجى الإعراض عن ذلك مؤقّتاً.

اغتيالُ ابن زياد

يقول لنا المؤرّخون ما مضمونهُ باختصار : إنّ شُريك بن عبد الله الحارثي ومسلم بن عقيل ، كانا معاً نازلين في دار هانئ بن عروة المذحجي (١) ، فتمرّض شريك واشتدّ به المرض ، فعلمَ بذلك عُبيد الله بن زياد

١٩٣

حاكم الكوفة يومئذٍ ، وكان له معهُ رفاقة ، فأرسلَ إليه أنّه سيعوده في دار هانئ ، وقبل مجيء ابن زياد تواطأ شريك مع مسلم على أن يغتال ابن زياد عند مجيئه ، فلمّا كان من العشي أقبلَ ابن زياد وتخفّى مسلم في إحدى الغُرف كأنّه يستعدّ لاغتياله ، ولكنّ هانئ اعترضهُ قائلاً : إنّي لا أُحبّ أن يُقتل في داري.

والمهمّ : أنّ مسلماً لم يقبل لقتل ابن زياد وخرجَ ابن زياد سالماً ، فخرج مسلم من مكانه.

فقال له شريك : ما مَنعك من قتله؟ قال : خصلتان : أمّا إحداهما : فكراهة هانئ أن يُقتل في داره ، وأمّا الأخرى : فحديث حدّثنيه الناس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ الإيمان قيّد الفتك ، ولا يَفتك مؤمن» (٢).

فقال هانئ : أمَا والله ، لو قتلتهُ لقتلتَ فاسقاً فاجراً كافراً غادراً ، ولكن كرهتُ أن يُقتل في داري (٣).

فمن هنا قد يخطر في البال : السؤال عن السبب الذي حَدا بمسلم بن عقيل على أن لا يقتل عبيد الله بن زياد ، بعد أن أصبحَ كاللقمة السائغة بيده ، وهو

__________________

(١) هانئ بن عروة المرادي المِذحجي : لقد ذَكر المؤرّخون أنّه كان شديد التشيّع ، ومن أشراف الكوفة وقرّائها ، ومن خواصّ أمير المؤمنين عليه‌السلام ، حضرَ حروبهُ الثلاث ، وأدركَ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتشرّف بصحبته ، وكان له يوم قتله بضع وتسعون سنة ، وكان شيخ مراد وزعيمها إذا ركبَ ركبَ معه أربعة آلاف دارع وثمانية آلاف راجل ، فإذا أجابتها أحلافها من كندة وغيرها كان في ثلاثين ألف دارع (واقعة الطف لبحر العلوم : ص ٢٨٦).

(٢) الفَتك : (فَتك فلان بفلان) أي : قتلهُ على غفلة ، أو انتهزَ منه فرصة فقتلهُ (أقرب الموارد : ج ٢ ، ص ٩٠١ ، مجمع البحرين : ج ٥ ، ص ٢٨٣ بتصرّف).

(٣) هذا ما وردَ في تاريخ الطبري : ج ٦ ، ص ٢٠٤ ، وكذلك في مقاتل الطالبيين ، والدمعة الساكبة : م ١ ، ص ٣٠٩ نقلاً عن البحار.

وقد ذكرَ هذه الرواية ابن الأثير في الكامل في التاريخ : ج ٣ ، ص ٢٧٠ إلاّ أنّه ذَكر أنّ مسلماً عندما سُئل عن عدم خروجه قال : (... وأمّا الأخرى ، فحديث حدّثه عليّ عليه‌السلام عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنّ الإيمان ... إلخ) ، وهذا ما أوردهُ الخوارزمي أيضاً في مقتله : ج ١ ، ص ٢٠٢.

أمّا ابن نما الحلّي : فقد ذَكر في مُثير الأحزان : ص ٢٠ أنّ زوجة هانئ هي التي مَنعت مسلم من قَتل عبيد الله بن زياد ، ولم يَذكر الحديث.

١٩٤

يَعلم أنّه عدوّه وعدوّ الحسين عليه‌السلام وعدوّ الله عزّ وجل ، وإنّ قتلهُ مهمّ جدّاً في إمكان السيطرة على المجتمع في الكوفة ، وتفريق القيادة من المنافقين الذين جَمعهم ابن زياد وتركيزها بيد أهل الحقّ.

والجواب على ذلك يكون من وجوه :

الوجه الأوّل : كراهة هانئ بن عروة أن يُقتل عبيد الله بن زياد في داره ، ومسلم بن عقيل كان ضيفاً لدى هانئ ، وكان ولا يزال يخدمه بالسمع والبصر ويؤدّي لمسلم أيّ مصلحة عامّة أو خاصّة ، فإذا فعلَ في داره ما يكرهه حَصلت عدّة مضاعفات :

أوّلاً : الإحراج أمام هانئ نفسه أخلاقيّاً ؛ فإنّ مقتضى المسؤوليّة الأخلاقيّة أن لا يفعل في داره ما لا يُحب ، وخاصّة وهو بهذه الصفة العظيمة في الانتصار له.

ثانياً : تحريم تصرّفه في الدار بعد ذلك ، لو كان قد فعلَ ما يكرههُ صاحبها ، ممّا يضطرّه للانتقال إلى دار شخص آخر ، وقد لا يجد شخصاً جامعاً للشرائط المتوفرة في هانئ ، أو قل : لا يجد له مثيلاً في سكّان الكوفة.

ثالثاً : إحراج موقف هانئ من حصول هذا القتل في داره ، الأمر الذي أثار في نفسه هذه الكراهة ؛ فإنّه كان رئيساً لقبيلة مذحج ، ولهُ اتصالات ومجاملات ومصالح في مختلف أوساط المجتمع ، فإذا قُتل ابن زياد في داره كان ذلك إحراجاً لهُ أمام شريحة مهمّة في المجتمع ، وهذا ما يكرهه ، ولا يريد مسلم بن عقيل إثارة هذا الإحراج أمامه ، وتفكير هانئ بهذا الشكل ، تفكيرٌ على المستوى الدنيوي ، ولكنّه قائم على أيّ حال.

وهو بطبيعة الحال ، لا يَدرك ما ندركه أو نحتمله نحن الآن بعد ألف سنة وحوالي النصف من ذلك التاريخ ، من وجود مصلحة عامّة في قتله ، بحيث تجب

١٩٥

عليه التضحية في سبيلها بكلّ غالٍ وعزيز ، وإذا كان غافلاً عن ذلك ـ وهو غير معصوم على أيّ حال ـ فالله سبحانه يعذر الغافل.

الوجه الثاني : لعدم اغتيال ابن زياد :

ما ذكرهُ مسلم نفسه حسب الرواية «إنّ الإيمان قيّد الفتك ، ولا يفتك مؤمن».

إلاّ أنّ هذا بمجرّده لا يتمّ ، إلاّ أن يرجع معناه إلى الوجه الآتي ؛ وذلك لأنّ هذا الخبر يحتاج إلى الصحّة سَنداً ودلالة ، أمّا السند ، فيظهر حصول مسلم عليه مرسلاً غير موثوق ؛ لأنّه عبّر عن أنّه حديث حدّثنيه الناس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الأمر الذي يدلّ على أن يجهل راويه ، أو لا يوثّقه على أقلّ تقدير.

وأمّا من ناحية الدلالة ، فهذا الأمر الذي كان عازماً عليه هو الغيلة أو الاغتيال ، وليس الفتك فإنّه وإن كان قد يَرد في اللغة بهذا المعنى أيضاً ، إلاّ أنّ لهُ معانٍ أخرى كالشجاعة بحيث لا يهاب أحداً ، والاستقلال بالرأي عن الآخرين وغير ذلك (١) ، فلا يتعيّن أن يكون المراد من الخبر ذلك.

مضافاً إلى أنّ الاعتماد على خبرٍ من هذا القبيل ، بل حتّى ولو كان صحيحاً ، في دفع مصلحة عامّة في قتله ، أو جلب مفسدة عامّة في حياته ، كما قد حصلَ فعلاً ، غير صحيح جزماً وغير مرضيّ لله عزّ وجل ، ما لم يعِد الأمر إلى وجوه أخرى ، أو إلى الوجه الآتي الذي سنذكره الآن.

الوجه الثالث : الأخلاقيّة في العلاقات مع الآخرين ، الأصدقاء منهم والأعداء سِلماً كانت العلاقة أم حرباً أم قتلاً ، ومن جملة الأسس الأخلاقيّة التي التزمَ بها المسلمون ونَصحت بها تعاليم الإسلام عدم البدء بالحرب والضرب ، وإنّما يكون أهل الحقّ هم ثاني الضاربين لو صحّ التعبير ، ليكون

__________________

(١) ومثله قولهم الفاتك : أي الجريء الشجاع ، وقال ابن دريد : هو الذي إذا همّ بشيء فَعل (أقرب الموارد : ج ٢١ ، ص ٩٠١).

١٩٦

موقفهم أمام الله والناس هو الدفاع فقط ، وكان ولازال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هو نبيّ الرحمة ، وليس من مقتضى الرحمة البدء بالهجوم ، حتّى أنّ الحسين عليه‌السلام في ساحة كربلاء العسكرية التزمَ بذلك ، وهذه مصلحة أخلاقيّة جليلة في الحرب والقتل والقتال ، ذات تأثير عام في إحسان الظنّ بالمعسكر المحقّ وجلب القلوب نحوه ، وهي مصلحة عامّة تعدل الكثير من المصالح العام الأخرى التي قد ندركها ممّا تكون مصالح وقتيّة وإن كانت صحيحة ، في حين أنّ هذه القاعدة الأخلاقية دائمة الصحّة جيلاً بعد جيل.

فإذا عرفنا ذلك ، استطعنا تقييم وتمييز موقف ابن عقيل من ابن زياد ، من حيث إنّ ابن زياد لم يكن محارباً في ذلك الحين ولا ناوياً لقتل أحد ، إذاً ، فهو لم يبدأ بالقتال ولم ينوِ السوء ، فلا يجوز بَدؤه به أو نية السوء ضدّه ؛ لأنّه خلاف القاعدة الأخلاقية المشار إليها.

الوجه الرابع : ما ذكرناه فيما سبق : من كون مسلم بن عقيل عليه‌السلام مُسدّداً مُلهماً ، ولا أقلّ من احتمال ذلك ، إذاً فيمكن أن يكون قد واجه نهياً عن قتل عُبيد الله بن زياد ، كما يُحتمل أن يكون هذا النهي مأخوذاً عنده من الحسين عليه‌السلام ، أو من جدّه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بخصوص هذه الواقعة أو ما يشملها ، فيجب عليه الامتثال ، وقد سبقَ أن قلنا في أمثال ذلك : إنّ مجرّد الاحتمال يكفينا ؛ لأنّه إذا دخلَ الاحتمال بطل الاستدلال ، يعني يفسد السؤال عن إعراضه عليه‌السلام عن اغتيال ابن زياد ، وإنّ ذلك كان على خلاف المصلحة أو السياسة العامّة.

الوجه الخامس : ما أشرنا إليه أو إلى مثله ، من أحد الوجوه التي قلناها في نفي سيطرة مسلم بن عقيل على الكوفة ، وهو اقتضاء الحكمة الإلهيّة الإبقاء على بعض الفاسقين والكافرين ، من أجل ميلاد بعض المؤمنين من ذراريهم ولو في جيلٍ متأخّر ، ولو عدّة مئات من السنين أو أكثر ، فليكن ابن زياد كذلك.

١٩٧

وهذا لا يتوقف على علم مسلم بن عقيل أو التفاته إلى ذلك ، بل إمّا أن يكون ملتفتاً ، وإمّا أنّ الله سبحانه صَرَفه عن قتله لهذه الجهة ، والاحتمال في ذلك يكفينا لقطع الاستدلال المعاكس ، كما كرّرنا في أمثاله.

الوجه السادس : ما ذكرناه أيضاً هناك من الأمر المربوط بكتابنا (اليوم الموعود) ، فإنّه أيضاً من الأمور المربوطة بتلك الأسس ، فراجع.

السيطرةُ على الكوفة مؤخّراً

إذ قد يخطر على البال : أنّ مسلم بن عقيل (سلام الله عليه) ، ما دام لم يسيطر على الكوفة في زمن النعمان بن بشير ولم يقتل عبيد الله بن زياد ، فلا أقلّ من أن يحاول السيطرة على الكوفة عندما أصبح ابن زياد حاكماً عليها ، إذ كان الشرّ قليلاً وغير واضح في زمن ابن بشير ، في حين أصبحَ واضحاً في زمن عبيد الله بن زياد ، ومن هنا كانت السيطرة على الكوفة أرجح جدّاً من ذلك الزمن السابق ، فلماذا لم يفعل ذلك مسلم؟

وجوابُ ذلك : إنّه يمكن القول بورود جميع الأجوبة التي قلناها فيما سبق عن سيطرة مسلم بن عقيل في الماضي (يعني في عهد النعمان بن بشير) ، كلّها تأتي عن سيطرته الآن ، مع زيادات معتدّ بها كما سنذكر ، ويكفينا أن نلتفت إلى أنّ زيادة الشرّ تقتضي زيادة الصعوبة في السيطرة ، الأمر الذي يجرّ إلى أمورٍ غير محمودة كما سنرى ، وهذه الصعوبة تتمثّل في أمور :

الأمرُ الأوّل : الزيادة في الضيق لجانب مسلم بن عقيل أعني في الحرّية العامّة ، وإعطاء الجانب الأفضل والتحرّك الأشمل لأعدائه.

الأمرُ الثاني : وجود تجسّس دقيق وكامل على كلّ أقوال وأفعال ابن عقيل وأصحابه ، ويمكن أن تكون العيون كثيرة ، غير أنّ التاريخ ينصّ على واحدٍ بعينه يسمّى (معقل) ، استطاع الوصول بدهاء إلى الدار التي يرتادها مسلم

١٩٨

وأصحابه ، فكان أوّل داخل وآخر خارج بعنوان كونه مؤيِّداً لهم ، وينقل كلّ ما سمعه ورآه إلى عبيد الله بن زياد.

الأمرُ الثالث : السرّية والتكتّم التي تعمّدها جانب مسلم بن عقيل وأصحابه ، بغضّ النظر عن التجسّس المشار إليه ، ومع التكتّم المتعمّد يصعب جدّاً وضع برنامج واضح وواسع لأجل السيطرة على المجتمع ، كما يتوقّع السائل أن يكون.

الأمرُ الرابع : إمكان التشكيك في العدّة والعدد اللذَين يمكن لابن عقيل أن يجمعهما في ذلك المجتمع ؛ فإنّ أفراد الناس هناك لم يكونوا معتادين على الحرب ومصاعبها وويلاتها ، وإنّما استطاع عبيد الله بن زياد أن يجمع منهم جيشاً ضخماً بعد التفكير بعدّة خطط ماكرة ، اكتسبها بصفته مُمثّلاً للدولة الحاكمة لا أكثر ، وهذا ما لا يستطيع طبعاً مسلم بن عقيل توفيره للناس بصفته معارِضاً للدولة ، فيكون احتمال حصوله على الجيش الكافي في العدّة والعدد احتمالاً غير قوي.

وحسبُنا أن ننظر إلى أهمّ الأفكار التي حاولَ عبيد الله بن زياد بثّها في المجتمع صدقاً أو كذباً ليستقطب الناس إلى جانبه :

أوّلاً : التهديد العسكري ، حيث زعمَ لهم أنّ هناك جيشاً مُقبلاً عليهم من الشام ضخم جدّاً ، يريد استئصالهم إن هم عصوا الدولة.

ثانياً : التهديد الشخصي بالسجن والضرب ، بل والقتل أيضاً.

ثالثاً : التهديد الاقتصادي بالمقاطعة مع كلّ معارِض.

رابعاً : الطمع ، بإضافة مبلغ من المال إلى راتب كلّ واحد يكون إلى جانبه ،

١٩٩

ويخرج في حرب الحسين عليه‌السلام ، ويُنقل ذلك تاريخيّاً على شكلين : أشهرهما : إضافة عشرة دنانير ذهبية إلى أيّ فرد ، والآخر : مضاعفة الراتب الذي يصله (١).

خامساً : الإحراج الاجتماعي عن طريق العلاقات والصداقات المبثوثة في تلك المدينة المنكوبة.

وكلّ هذه الأمور قائمة ضدّ مسلم بن عقيل ، ومن المتعذّر أن يكون مثلها إلى جانبه ، سوى التضحية في الرضوخ للحقّ لا أكثر ، وهو ممّا يقلّ العاملون به في أيّ مجتمع ، وخاصّة تحت ظروف من ذلك القبيل.

وقد بادرَ عبيد الله بن زياد إلى تغيير كفّة المجتمع إلى جانبه بمجرّد وروده ، وألقى في الناس خطبة تتكفّل بيان تلك التهديدات والأطماع ، مع بثّ شرطته وأنصاره بين الناس.

لأجل الطمع والتخويف والإحراج ، ممّا أنتجَ ما ينقلهُ بعض الخطباء الحسينيّين من أنّ الأم أصبحت تأتي إلى ابنها ، والزوجة إلى زوجها ، والبنت إلى أبيها ، والأخ إلى أخيه ، فيحذرّونهم مغبّة مناصرة مسلم ويقال لهم : (مالَكَ والدخول بين السلاطين) ، ويأخذون بيده ويُرجعونهُ إلى بيته ، ومهما يكن في هذا النقل التاريخي من المبالغة إن أخذناه على سعته ، كما سبقَ أن قلنا : إنّ الكوفة والمجتمع الكوفي لا يمكن أن ينقلب تماماً من الولاء إلى العداء بين عشيّة وضحاها ، وقد أقمنا على ذلك ما يكفي من القرائن والدلائل ، إلاّ أنّه من الممكن أن يكون قد حدثَ مثل هذا التخذيل فعلاً على نطاق ضيّق قلّ أو كثُر ؛ فإنّه على أيّ حال مُضر بجانب مسلم بن عقيل ، ويُضاعف عليه الصعوبة والبلاء.

__________________

١ ـ الفتوح لابن اعثم ج ٥ ص ١٥٧ ـ اسرار الشهادة للدربندي ص ٢٣٦.

٢٠٠