أضواء على ثورة الحسين عليه السلام

السيد محمّد الصدر

أضواء على ثورة الحسين عليه السلام

المؤلف:

السيد محمّد الصدر


المحقق: الشيخ كاظم العبادي الناصري
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٣

الجانب الأوّل : جانب نسبته إلى فاعليه وهم الجيش المعادي ، وهو بهذا الاعتبار موجِب للحزن والبكاء من الناحية الدينيّة ، للأسف الشديد على وجود هذا العصيان والطغيان من قِبل أفراد الجيش المعادي.

الجانب الثاني : جانب نسبته إلى المظلومين بهذا البلاء وهم الحسين عليه‌السلام وأصحابه ، وهو الجانب المسبِّب لفيض رحمة الله ونعمته ، وهو الموجِب للاستبشار.

ومن اعتبارٍ آخر يمكن أن نقول : إنّ لهذا البلاء ـ كأيّ بلاءٍ آخر ـ نسبتان : نسبة إلى الخالق ونسبة إلى المخلوق ، باعتبار أنّ أفعالنا الاختياريّة كلّها لها هاتين النسبتين ، فالفاعل المباشر المختار لها هو الواحد البشري ، والفاعل الخالق لها بصفتها أحد أفراد الكون المخلوق هو الله سبحانه ، إذاً فالنسبتان ثابتتان لكلّ الأفعال الاختياريّة بما فيها المظالم والبلاء الذي يُنزله الظالمون بالمظلومين ، ومنه البلاء الواقع على جيش الحقّ في كربلاء ، فمن زاوية نسبته إلى فاعليه البشريّين وهم الجيش المعادي تترتّب عدّة نتائج ، منها :

أوّلاً : كونهم يتحمّلون مسؤوليّته الأخلاقيّة والقانونيّة في الدنيا والآخرة ، وهم بهذا الاعتبار يكون لهم عقاب الدنيا والآخرة.

ثانياً : جانب الحزن والبكاء عليهم أسفاً على توريط أنفسهم على ذلك ، وتزايد عصيانهم لله سبحانه ، ومن زاوية نسبة هذا البلاء إلى الله عزّ وجل تترتّب عدّة نتائج منها :

أوّلاً : وجوب التسليم والرضا بقضاء الله وقدره بإيجاده للبلاء ، ومن هنا ورد عنه (سلام الله عليه) : «رضا الله رضانا أهل البيت» (١) ، وقد سبقَ تفسيره.

__________________

(١) مقتل الخوارزمي : ج ٢ ، ص ٥ ، أسرار الشهادة للدربندي : ص ٢٢٥.

١٦١

ثانياً : إنّ هذا البلاء مهما كان كثيراً ، فهو أقلّ من استحقاق الله سبحانه للطاعة ، وأقلّ من استحقاق النفس للقهر ، ومن هنا وردَ عنه (سلام الله عليه) : «هوّنَ ما نزلَ بي أنّه بعينِ الله» (١).

ثالثاً : الاستبشار بوجود نعمة الله وثوابه ، الذي يُعتبر هذا البلاء على عظمته مقدّمة أو سبباً بسيطاً بالنسبة إليه.

__________________

(١) اللهوف لابن طاووس : ص ٤٩ ، البحار للمجلسي : ج ٤٥ ، ص ٤٦.

١٦٢

تألّبُ الناس ضدّه

إنّ ممّا يُبالغ في التأكيد عليه الخطباء الحسينيّون ، لأجل الزيادة في المصيبة وحشد العواطف هو : التأكيد على تألّب الناس ضدّ الحسين عليه‌السلام ، حتّى أنّ أفراد القبائل ـ وهي مئات الألوف ـ قد خَرجت كلّها لحرب الحسين عليه‌السلام ، ولبعض الخطباء سياق كلامي خاصّ يُعدِّد فيه رايات القبائل التي أقبلَت للحرب ، فيعدِّد أسماء خمسة عشر قبيلة أو أكثر من الساكنين في الكوفة وجنوب العراق : كتميم ، وفزارة ، وبجيلة ، ومذحج ، وربيعة ، وطي ، وأسد ، وبني فلان ، وبني فلان ..... كما ورَدَنا في التاريخ أنّ سوق الحدّادين في الكوفة بقيَ مشتغلاً ليلاً ونهاراً أيّاماً متطاولة قد تبلغ شهراً أو أكثر ، لإصلاح السيوف والرماح والسهام والنبال ، مُقدّمة للخروج لحرب الحسين عليه‌السلام (١).

كما ورَدنا : أنّ الناس الخارجين في هذا السبيل ، كانوا من الكثرة بحيث لم يستطيعوا أن يجدوا وسائط النقل من الجمال والأفراس والحمير حتّى رَكبوا البقر والثيران (٢) ، ثمّ يستشهد الخطباء بقول الشاعر :

بجحافلٍ في الطف أوّلها

وأخيرها بالشام متّصل (٣)

وهذا المفهوم الشعري يناسب أن تكون آلاف الكيلومترات بين كربلاء

__________________

(١) أسرار الشهادة للدربندي : ص ٤٤٥ بتصرّف.

(٢) مع الحسين في نهضته لأسد حيدر : ص ١٧٣.

(٣) للشيخ الحاج حمّادي الكوّاز (١٢٤٥ ـ ١٢٨٣ هـ) ، توفي في مرض السِل وعمره فيما يُعتقد لم يتجاوز ٣٨ سنة ، وهذا البيت من قصيدة طويلة والتي مطلعها :

أدهاك ما بي عندما رَحلوا

فأزالَ رَسمك أيّها الطَلَلُ

أدب الطف : ج ٧ ، ص ١٦١ ـ ١٧٢.

١٦٣

والشام ، وهي منطقة دمشق الآن (١) ، وهي ليست في الحدود الشرقيّة لسوريا بل على الحدود الغربية لها ، وهي الحدود مع لبنان.

والمسافة بينهما تُقدّر بحوالي ألفي كيلومتر ، فإذا كانت كلّها مملوءة بالجيش المعادي كخطّ طويل مُحتشد في هذا البر المتطاوِل ، فكم سوف يكون عدد أفراده؟

إنّ الكيلو متر الواحد الممتدّ لن يكفي في امتلائه بالناس ألف إنسان بطبيعة الحال ، بل لن يكفي ضِعف هذا العدد ، ولكنّنا لو اقتصرنا على ألف لكان المجموع مليونين من الناس على أقلّ تقدير ، وقد يصل الرقم إلى أربعة ملايين ، مع أنّ أعلى رقم مُحتمل للجيش المعادي للحسين عليه‌السلام هو مئة وعشرون ألفاً (٢).

__________________

(١) معجم البلدان للحَمَوي : ج ٢ ، ص ٤٦٣.

(٢) اختلفَ المؤرّخون كثيراً في عدد الجيش الذي قاتلَ الحسين عليه‌السلام ، بل بعضهم قد بالغَ في كثرة الجيش إلى حدٍّ قال فيه العلماء : إنّه شاذ ، كالذي ذكرهُ ابن العصفور البحراني حيث قال : إنّ عدد الجيش الخارج على الحسين قد بلغَ خمسمئة ألف ، والأغرب من هذا أنّه يقول : إنّ الحسين عليه‌السلام قد قتلَ منهم (٤٠٠ ألف) ، وينقل لنا ذلك الفاضل الدربندي في أسرار الشهادة فيعلِّق على هذا القول بقوله : (نعم ، إنّ هذا يجوز ويصحّ بالقوّة اللاهوتيّة لا البشريّة ، بل الاستغراب والاستبعاد من جهةٍ أخرى وهي : إنّ المحاربة والقتل كانت بالسيف والرمح يومئذٍ ، وقد وقَعت شهادة الإمام عليه‌السلام قريب من الغروب أو العصر من ذلك اليوم ، فهذا الوقت القليل لا يسع لتلك المقاتلات والمحاربات الكثيرة منه عليه‌السلام ، فهذا أمرٌ ظاهر عند الكل ولاسيّما إذا لوحِظَ في العين محاربات الأصحاب وفتية بني هاشم) أسرار الشهادة : ص ٤١٤.

أمّا الأرقام التي وردت في عدد الجيش والتي يمكن احتمال صحّتها فهي كما يلي :

١ ـ ٨٠ ألف ، بُغية النُبلاء : ج ٢ ، الدمعة الساكبة : ص ٣٢٢ نقلاً عن أبي مخنف وتحفة الأزهار لابن شدقم.

٢ ـ ٧٠ ألف ، أسرار الشهادة للدربندي : ص ٢٣٧ ، سفينةُ النجاة للعيّاشي.

٣ ـ ٥٠ ألف ، شرح شافية أبي فراس : ج ١ ، ص ٩٣.

١٦٤

صحيحٌ أنّ هذا الرقم بالنسبة إلى جيوش الدول في العالَم المعاصر بسيط جدّاً ، وقد استطاعت الدول أن تبلغ الملايين في تعداد أفراد جيوشها ، لكنّ هذا لا ينطبق على إمكانيّات الدول السابقة ، ولا على أسلحتها ، ولا على وسائط نقلها ، وخاصّةً بعد أن كان النظام القديم هو الخروج الاختياري للفرد أوّلاً ، وتَحمّل مسؤوليّته الاقتصاديّة والعناية بأموره وأسلحته بنفسه ثانياً ، ولا دخلَ للقيادة في ذلك حتّى التدريب على الأسلحة لم يكن ، فكيف يمكن أن تحصل الأعداد الضخمة من الجيوش؟

فإذا أخذنا بنظر الاعتبار طريقة القتال القديمة ، وقد كانت كلّها بالسلاح الأبيض ـ كما هو المصطلح اليوم ـ هذه طريقة تُعتبر لحدّ الآن مؤلمة ألماً

__________________

٤ ـ ٣٥ ألف ، مناقب ابن شهرآشوب : ج ٤ ، ص ٩٨ ، ط قم.

٥ ـ ٣٠ ألف ، مطالب السؤول ، عُمدة الطالب : ص ١٨١ ، الدمعة الساكبة : ص ٣٢٢ ، أسرار الشهادة للدربندي : ص ٢٣٧.

٦ ـ ٢٢ ألف ، مرآة الجنان : ج ١ ، ص ١٣٢ ، شَذرات الذهب : ج ١ ، ص ٦٧.

٧ ـ ٢٠ ألف ، الصواعق المُحرقة : ص ١١٧ ، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ : ص ١٧٨ ، اللهوف لابن طاووس ، مُثير الأحزان لابن نما الحلّي.

٨ ـ ١٦ ألف ، الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة : ص ١٦٨.

٩ ـ ٨ آلاف ، مرآة الزمان في تواريخ الأعيان : ص ٩٢.

١٠ ـ ٦ آلاف ، الصراط السوي في مناقب آل النبي : ص ٨٧.

١١ ـ ٤ آلاف ، البداية والنهاية لابن كثير : ج ٨ ، ص ١٦٩.

والراجح بين هذه الأقوال : هو أنّ عدد الجيش (٣٠ ألفاً) ؛ وذلك لأنّ الروايات التي تنصّ على هذا العدد أكثر من غيرها ، ولوجود الرواية التي يذكرها الصدوق في أماليه بإسناده عن الإمام الصادق عليه‌السلام حيث قال : (إنّ الحسين دَخلَ على أخيه الحسن عليه‌السلام في مرضه الذي استُشهد فيه ، فلمّا رأى ما بهِ بكى ، فقال له الحسن عليه‌السلام : ما يُبكيك يا أبا عبد الله؟ قال : أبكي لِمَا صُنعَ بك ، فقال الحسن عليه‌السلام : «إنّ الذي أوتيَ إليّ سمٌ أُقتل به ، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله وقد ازدلفَ إليك ثلاثون ألفاً .. الخ» نقلهُ المجلسي في البحار : ج ٢٥ ، ص ١٥٤ ، ابن شهرآشوب في المناقب : ج ٣ ، ص ٢٣٨ ، ط نجف ، ابن نما الحلّي في مُثير الأحزان.

١٦٥

شديداً ، وليس في النفوس الهمّة الكافية لتحمّلها ، ولا شكّ أنّ الناس يُفضلّون الراحة على التورّط في الحروب مهما كانت ، فضلاً عن قتال شخصٍ مُحقّ جليل القدر كالإمام الحسين عليه‌السلام ، على أنّه توجد فيما يخصّ الحسين عليه‌السلام عدّة نقاط تصلح كقرائن واضحة على عدم تألّب الناس عليه إلى الحدّ الذي يتصوّره الآخرون :

النقطة الأولى : كون الحسين عليه‌السلام معروف بالنسبة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفاطمة الزهراء عليها‌السلام ، وأمير المؤمنين عليه‌السلام ، كما هو معروف بالعلم والصلاح ، سواء من قِبل مَن يؤمن بإمامته أو مَن لا يؤمن.

النقطة الثانية : إنّه اجتمعَ إليه في جيشه أُناس معروفون بالصلاح والأهميّة : كحبيب بن مظاهر الأسدي ، ومسلم بن عوسجة (١) ، وبُرير بن خضير ، وغيرهم كثير ، فمَن كان غافلاً عن أهميّة الحسين عليه‌السلام ـ باعتباره عاشَ أغلب حياته في الحجاز بعيداً عن الكوفة ـ فلا أقلّ من أن يتعرّف على أمثال هؤلاء من أصحابه رضوان الله عليهم.

النقطة الثالثة : الخُطَب والمواعظ التي صدرت من الحسين عليه‌السلام وأصحابه وأهل بيته إلى الجيش المعادي قبل التحام الحرب ؛ فإنّها وإن لم تؤثّر في توبة

__________________

(١) هو مُسلم بن عَوسجة بن سعد بن ثعلبة ... الأسدي السعدي ، ذَكرتهُ عامّة المصادر التاريخيّة بأنّه أوّل قتيل من أنصار الحسين عليه‌السلام بعد الحَملة الأولى. كان شريفاً في قومه صحابيّاً جليلاً ممّن رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وروى عنه ، وكان ممّن كاتبَ الحسين عليه‌السلام من أهل الكوفة ووفى له بذلك ، فقد كان يأخذ البيعة له على يد مسلم بن عقيل عليه‌السلام ، وعَقدَ لهُ مسلم على ربع مذحج وأسَد لمحاربة ابن زياد ، وبعد فَشل الثورة وقَتل مسلم وهاني اختفى مدّة بين قومه ثمّ خرجَ بأهله مُتخفيّاً إلى الحسين عليه‌السلام ، فأدركهُ وهو في كربلاء فاستشهدَ بين يديه ، ويبدو من خلال المصادر الباحثة عنه ، أنّه كان شيخاً كبير السنّ ومن الشخصيّات الأسديّة البارزة في الكوفة (واقعة الطف لبحر العلوم : ص ٥٢٦).

١٦٦

هذا الجيش أو تفرّقهم أو التحاقهم بمعسكر الحسين عليه‌السلام ، ولكنّها لا شكّ أثّرت على أقلّ تقدير في تحريك بعض عواطفهم إليه : كالشَفَقة دنيويّاً ، والتعرّف على مستواه دينيّاً ، وهذا أمر يقتضي فتور الهمّة في ممارسة حربه وضربه محالة.

النقطة الرابعة : قولهم للحسين عليه‌السلام : قلوبُنا معك وسيوفنا عليك. وهذا معناه : أنّ السيوف وإن كانت عليه ظاهراً ، إلاّ أنّ القلوب معهُ واقعاً فمن غير المُحتمل أن توجد لهم همّة حقيقيّة لحربه.

النقطة الخامسة : ما وردَ في التاريخ عنه شخصيّاً : أنّ أفراد الجيش المعادي كانوا يتحامون عن قتله (١) ، ولا يريد كلّ منهم أن يكون هو البادئ بالضرب ضدّه ، ومن دلائل ذلك : أنّه وردَ عن أصحابه أنّهم التحموا في مبارزات مفردة مع الأعداء ، مع أنّه لم يرِد ضدّ الحسين عليه‌السلام ذلك أصلاً ، بل كان يكتفي بالهجوم على الجيش ككلّ ، وهم يفرّون من بين يديه فرار المِعزى إذا شدّ فيها الذئب ، كما وردَ مثاله في التاريخ (٢).

النقطة السادسة : ما وردَ من بعض أفراد الجيش المعادي ، بل ربّما عددٍ منهم ، كانوا يُشفقون على الحسين وأصحابه ، حتّى أنّ عمر بن سعد ـ وهو قائد الجيش كلّه ـ شوهِدَ والدموع تنزل من عينيه أكثر من مرّة (٣). وممّا يَدعم ذلك : ما وردَ من أنّ الحسين عليه‌السلام حين أخذَ ولدهُ الرضيع ليطلب لهُ الماء ، اختلفَ العسكر في شأنه فقال بعضهم : إن كان ذنبٌ للكبار فما ذنبُ الصغار ، وقال البعض : لا تُبقوا لأهل هذا البيت باقية (٤). إذاً ، فليسوا كلّهم على رأيٍ

__________________

(١) الخوارزمي : ج ٢ ، ص ٣٥.

(٢) البحار للمجلسي : ج ٤٥ ، ص ٥٠ ، اللهوف لابن طاووس : ص ٥١.

(٣) الكامل لابن الأثير : ج ٤ ، ص ٣٢ ، تاريخ الطبري : ج ٦ ، ص ٢٥٩.

(٤) مقتل الخوارزمي : ج ٢ ، ص ٣٨.

١٦٧

واحد ، وكان يوجد فيهم مَن هو مستعدّ للمناقشة ، وإن لم يكن يظنّ أنّ الأمر سوف يؤول بالحسين وأصحابه إلى هذه الدرجة من البلاء.

النقطة السابعة : إنّ أهل الكوفة وضواحيها يومئذٍ ، ممّا لا دليل تاريخيّاً على كثرتهم بهذا المقدار الوفير ، ولعلّ مجموع أفرادهم من رجال ونساء وأطفال لم يكن يتجاوز المئة ألف أو المئة والعشرين ، فكيف يخرج من المئة وعشرين مئة وعشرون؟ وهل يخرجون كلّهم من نساء وأطفال وشيوخ وعَجَزة ، مع العلم أنّهم يقولون : إنّهم مئة وعشرون ألف مُحارب ، وليسوا من هذا القبيل ، وهل يمكن أن نقول : إنّ الكوفة خَلَت تماماً من الرجال في ذلك الحين ، ولم يبقَ مَن يحرس البيوت ويقوم بشؤونها؟

فإذا ضَممنا إلى هذا الاستبعاد أمراً آخر : وهو أنّ كثيراً من أهل الكوفة ، كان يمكنهم عدم تسليم أنفسهم للحرب ضدّ الحسين عليه‌السلام : إمّا بالجلوس في داره عدّة أيّام ، أو بالسفر خارج الكوفة عدّة أيّام ، أو بالتعلّل بالمرض ، أو بحاجة العائلة إليه ، أو بوجود مريض لديه ، أو غير ذلك كثير ، وعَلمنا مع ذلك : أنّهم كانوا يتحامون عن حربه وضربه ، إذاً فكم من النسبة بقيت ممّن يمكن أن يخرج من أهل الكوفة فعلاً لحرب الحسين عليه‌السلام؟

النقطة الثامنة : إنّ من جملة ما أوجبَ تجمّع الجيش : هو أنّ أمير الكوفة يومئذٍ عبيد الله بن زياد ، وعدَ بمضاعفة العطاء للأفراد الخارجين في هذا الجيش ، أو أنّه وعدَ بزيادة كلّ فردٍ منهم عشرة دنانير (١) ذهبيّة في ذلك الحين ، على اختلاف النقل التاريخي. ونحن إذا أخذنا بأضعف الاحتمالات وأقلّها : وهو أن يكون الجيش ثلاثين ألف وأنّ العطاء عشرة لكلّ فردٍ ، فستكون الدنانير الموزّعة

__________________

(١) تاريخ الفتوح لابن أعثم : ج ٥ ، ص ١٥٧ ، ط ٩ ، أسرار الشهادة للدربندي : ص ٢٥٦ ، الأخبار الطوال للدينوري : ص ٢٧٣.

١٦٨

ثلاثمائة ألف دينار ذهبي ، فهل كان عبيد الله بن زياد يملك هذا المقدار من الدنانير؟

مضافاً إلى ما يحتاجهُ هو وتحتاجه قيادة الجيش المعادي الذاهب إلى كربلاء منها ، مع العلم أنّ النقد بالأساس في تلك العهود كان قليلاً والمسكوك منه يكاد يكون نادراً ، فمن أين حصلت هذه الألوف من الدنانير الذهبيّة؟

وهنا يخطر في البال : أنّ الناس اكتفوا بمجرّد الوعد وإن لم يقبضوا المال ، وكان هذا كافياً لحثّهم على الخروج إلى الحرب.

وجوابُ ذلك من وجوه أهمّها : إنّ الفرد المُحارب يحتاج إلى المال لخروجه ، ويحتاج إلى المال لعائلته الباقية في المدينة ، ويحتاج المال لسلاحه ، وحاله الاقتصادي الخاص به لا يساعد في الأعمّ الأغلب من التخلّي عن ذلك. إذاً ، فاكتفاؤهم بالوعد أمر مستبعد ، فإذا ضَممنا إلى ذلك عِلمهم بقلّة النقد أساساً ، وصعوبة توزيعه من قِبل عُبيد الله بن زياد ـ كما أشرنا ـ لم يبقَ لهم أيّ دافعٍ حقيقي للتصديق بهذا الوعد الزائف.

النقطة التاسعة : ولعلّها الأهمّ وإن جعلناها في المؤخّرة من هذه النقاط : هي أنّ الكوفة بلد أمير المؤمنين عليه‌السلام ، والد الحسين عليه‌السلام قبل سنوات قليلة من ذلك الحين ، وأغلبهم جدّاً قد شاهدَ ذلك الإمام وسمعَ خُطبه ومواعظه سلام الله عليه ، وشاهدَ وَلده الإمام الحسن عليه‌السلام وسمعَ منه ، بل وشاهدَ الإمام الحسين عليه‌السلام نفسه في مُقتبل عمره.

ولم يعرفوا منهم إلاّ الخير والصلاح ، بل ما هو أفضل كما هو معلوم ، فمن أين يأتي هذا الحقد المتزايد والتألّب المكثّف على الإمام الحسين عليه‌السلام فجأة وبدون سابق إنذار كما يعبّرون ، لمجرّد أنّ عُبيد الله بن زياد أمرَ بالزيادة الماليّة القليلة؟

١٦٩

صحيح أنّ الكوفة أو أنّ سكّانها لم يكونوا مُجمعين على الولاء لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، بل كان فيها اتّجاهات مختلفة حتّى من الدهريّة والخوارج وغيرهم ، إلاّ أنّ الذي يُفيدنا في المقام أمور :

أوّلاً : إنّ الأغلب من سكّانها كان وما زال موالياً لأمير المؤمنين عليه‌السلام.

ثانياً : إنّ الاتّجاهات الأخرى في الكوفة تُمثّل جاليّات قليلة جدّاً.

ثالثاً : إنّ هناك عدد من نفوس الأفراد تُشكّك ـ على الأقل ـ في جواز حرب الحسين أمام الله سبحانه ، وإن لم تجزم بحرمته وهذا يكفي.

وصحيحٌ أنّ الكوفة غَدرت بأبيه وأخيه ، كما قالوا للحسين عليه‌السلام حين أرادوا إرجاع نظره عن السفر إليها ، إلاّ أنّ هذا هو الظاهر الذي فعلهُ الأشرار وهم القلّة منهم ، وهذا لا ينافي وجود مَن يواليه فعلاً أو يتورّع أمام الله سبحانه وتعالى عن حربه.

وصحيحٌ أنّ الحسين عليه‌السلام لو وصلَ إلى الكوفة فعلاً ـ وهي تحت حُكم عبيد الله بن زياد ـ لم يستطع أن يجد أحداً يبايعه ، إلاّ أنّ هذا لا يُنتج معنى الإخلاص لابن زياد من قِبل الجميع ، بل ينتج أنّ الناس كانوا يومئذٍ في خوف ورعب من إظهار الولاء للحسين عليه‌السلام ، وهذا لا يعني بكلّ وضوح استعداهم لحمل السيف ضدّه ، أو قل : لحمله بهذه السعة وبهذه المرارة والقسوة.

النقطة العاشرة : جهود رسول الحسين عليه‌السلام إلى الكوفة ، مسلم بن عقيل رضوان الله عليه ، فإنّه أخذَ البيعة على نطاق واسع وألّب العواطف باتّجاه الحسين عليه‌السلام ، وأبلى في ذلك بلاءً حسناً وسمعَ الناس مواعظه وخطبه ، وقرأوا الكتاب الذي كان معه من الحسين عليه‌السلام (١) ، حتّى

__________________

(١) أسرار الشهادة : ص ٢٠٠ ، تاريخ الفتوح لابن أعثم : ج ٥ ، ص ٥٦.

(٢) مقتل الخوارزمي : ج ١ ، ص ١٩٥ ، تاريخ الطبري : ج ٦ ، ص ١٩٧.

١٧٠

أثمرَت جهوده بإرسال الكتب إليه عليه‌السلام للوفود إليهم والورود عليهم ، وقالوا في كتابهم الأخير : فأقبِل يا بن رسول الله ، إنّما تَقبِل على جُندٍ لك مجنّدة والسلام) (١).

وبحسب ما هو المعروف من نظام النفوس أو القلوب ـ لو صحّ التعبير ـ أنّها لا يمكن أن تنقلب من هذه الصداقة الحميمة إلى العداوة القاسية بين عشيّة وضُحاها ، بدون أن ترى الحسين عليه‌السلام ، أو أن تسمع منه شرّاً أو ترى منه ضرراً وحاشاه.

وقد يخطر في الذهن : إذاً فكيف قُتل الحسين عليه‌السلام؟ إذ لو تمّ ما قلناه ، إذاً لم يخرج إلى قتاله أحد إلاّ شرذِمة قليلة قابلة للسيطرة عليهم أو صدّهم بكلّ سهولة ، ولم يحتج الأمر إلى تلك المظالم والآثام.

وجواب ذلك : أنّ الجيش المعادي للحسين عليه‌السلام ، في حدود ما نحتاج إليه من فكرة الآن ، يمكن تقسيمه إلى قسمين :

القسمُ الأوّل : وهو الأغلب أو الأغلب جدّاً ، وهم الواردون مع الأعداء خوفاً أو طمَعاً أو إحراجاً ، أو نحو ذلك من المصاعب الدنيويّة ، مع كونهم يتورّعون بقليلٍ أو بكثير عن ضرب معسكر الحسين عليه‌السلام ، إلاّ تحت ضغطٍ مماثل من قِبل قادتهم ، وربّما كان بعضهم إذا تلقّى الأمر بالهجوم مع جماعة يجول بفرسه هنا وهناك ، باعتبار أنّه متصدي للهجوم ولكنّه لا يَضرب ، أو يَضرب بالأقلّ المجزي ، أو لا يَضرب إلاّ تحت الإحراج الشديد (١).

ولا ينبغي أن يخطر في البال : أنّ هؤلاء وأمثالهم ناجون من العقوبة الأخرويّة ، وأنّهم أخيار أو إبرار ، كلاّ ثمّ كلاّ ، يكفي أنّهم يقفون موقفاً مُعادياً للحسين عليه‌السلام ويشاركون في ترويع أصحابه وأهل بيته ، وينصرون

__________________

(١) الإيقاد للعظيمي : ص ١٢٩.

(٢) مقتل الخوارزمي : ج ١ ، ص ٢٢٧ ، البحار للمجلسي : ج ٤٤ ، ص ٣١٥.

١٧١

أعداءه ويكونون مشمولين لقوله عليه‌السلام : «مَن سمعَ واعيتنا ولم ينصُرنا ، أكبّهُ الله على منخرَيه في النار» (١) ، وهم وإن لم يحاربوا الحسين عليه‌السلام حقيقة ، إلاّ أنّهم لم ينصروه بكلّ تأكيد.

والمهمّ الآن : أنّ هذا القسم من الناس هو الذي كان يُشكّل الجمهور.

الغفير من الجيش المعادي ، وأنّ هذا المستوى من التفكير لديهم هو الذي أدّى إلى احتشاد الجمهور ضدّ الحسين عليه‌السلام.

القسم الثاني : وهم المُعاندون ضدّ الحسين عليه‌السلام والحاقدون عليه ، وهم قلّة موجودة في الكوفة فعلاً ، ولا شكّ أنّهم استغلّوا الموقف للخروج ، كما لا شكّ أنّ ابن زياد استغلّهم للقتال ، كما أنّهم بلا شكّ يُشكّلون جماعة مهمّة وقابلة للتأثير الكبير في المجتمع الكوفي وما حوله ، سواء حال جَمع الجيش أو حال القتال ، ممّا يشكّل في كربلاء عدداً معتدّاً به من المحاربين ، وهو الذي أوجبَ الانتصار العسكري بالمعنى المباشر للجيش المعادي للإمام الحسين عليه‌السلام.

١٧٢

توصياتٌ عامّة للخُطباء

يحسُن بنا قبل الدخول في التفاصيل الآتية أن نلمّ إلمامة ، بما ينبغي أن يكون عليه حال الخطباء الحسينيّين ، لكي يتطوّروا إلى الأفضل في الدنيا والآخرة ، وبذلك يُحرزون خير الدارين وكلّ ما تقرّ به العين.

والنصائح العامّة تنقسم إلى قسمين : منها ما يرتبط بالمسؤوليّة الدينيّة العامّة ، ومنها ما يرتبط بواقعة الحسين عليه‌السلام ، ونحن فيما يلي ذاكرون بعون الله الأهمّ ممّا يخطر على البال من كلا القسمين :

أوّلاً : البدء بالخطبة بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) ، لا بشيء آخر حتّى لو كان ذاكراً للحسين عليه‌السلام ، فإنّ كل ّكلام لا يبدأ بـ (بسم الله) فهو أبتر ، وبالبسملة يمكن للخطيب أن يُعاذ في خطبته من الشيطان وأن يُؤيَّد برحمة الرحمان.

ثانياً : الموعظة والإرشاد ؛ فإنّه من الضروريات والواجبات في هذا المجتمع وفي كلّ مجتمع ، وفي هذا الزمان وفي كلّ زمان ، لكي تصل الموعظة إلى أهلها ويستفيد منها أكبر عدد ممكن ، سواء كانت الموعظة مرتبطة بقضايا الحسين

١٧٣

عليه‌السلام أم لا؟ فإنّ في تلك القضايا من العِبر والمواعظ ما لا حدّ لهُ ، فضلاً عن غيرها.

ثالثاً : عدم إيذاء أحد من الناس أو من الطوائف في كلام الخطباء ، وهو معنى (التقيّة) فإنّها واجبة على كلّ حال ، ما لم يكن الأمر خارجاً عن موردها ، يعني أن يَحرز الفرد أنّ كلامه سالم النتيجة.

رابعاً : التورّع عن نسبة الأقوال والأفعال إلى المعصومين عليهم‌السلام وغيرهم كذباً ؛ فإنّ الكذب على المعصومين من أعظم الكبائر ، والكذب على غيرهم كبيرة ، سواء على الأشخاص التاريخيّين ، أو على مؤلّفي المصادر ، أو على أيّ مؤمنٍ ومؤمنة ، وأوضح أسلوب يتّخذه في هذا الصدد أن يقول : (قيل) ، أو (روي) ، أو (يقال) ، ونحو ذلك حتّى لا ينبغي له ذكر أحد من أسماء المؤلّفين ، ما لم يَحرز باليقين وجوده في كتابه وصحّة انتساب الكتاب إليه باليقين أو بدليلٍ معتبر.

خامساً : أن يتوّرع من نسبة الأقوال والأفعال إلى المعصومين عليهم‌السلام وغيرهم ، باعتبار لسان الحال ، شعراً كان ما يقوله الخطيب أم نثراً ، فصيحاً كان الكلام أم دارجاً ، ما لم يَعلم أو يطمئنّ بأنّ لسان حالهم هو كذلك فعلاً ، وقد ناقشنا ذلك مفصّلاً فيما سبق ، فراجع.

سادساً : أن يتوّرع الخطيب عن ذِكر الأمور النظريّة والتاريخيّة أو غيرها ، ممّا قد يُثير شُبهات حول الأمور الاعتقاديّة في أذهان السامعين ، ويكون هو قاصراً أو عاجزاً عن ردّها ومناقشتها أو غافلاً عن ذلك ، بل يجب عليه أن يختار ما سيقوله بدقّة وإحكام ، وإلاّ فسوف يكون هو المسؤول عن عمله ، فيقع في الحرام من حيث يعلم أو لا يعلم.

١٧٤

وينبغي أن يلتفت إلى أنّ هذا ممّا لا يُفرّق فيه بين أن يكون مرتبطاً بحوادث الحسين عليه‌السلام أو غير مرتبط ، أو كان مُسلّم الصحّة في اعتقادهم أو غير مُسلّم.

سابعاً : أن يحاول الخطيب سترَ ما سترهُ الله سبحانه وتعالى من الأمور ، فلا يُصرّح بأمورٍ قد حَدثت خلال الحرب أو القتل ، قد توجِب ذلّة أو مهانة المقتول ، أو ما يسمّى في عرفنا (بالبهذلة) ، فيسكت عن كلّ شي يوجِب بهذلة المؤمنين الموجودين يومئذٍ ، بل كلّ المؤمنين في كلّ جيل ، وخاصّة الحسين عليه‌السلام ونسائه وأصحابه وأهل بيته.

وهنا ينبغي أن نلتفت إلى أمرين :

الأمرُ الأوّل : إنّ هذا الذي قلناه الآن غير ما سبق أن نفيناه من وجود الذلّة للحسين عليه‌السلام وأنصاره ؛ فإنّهم لم يمرّوا في الذلّة بكلّ تأكيد ، ولكنّ المقتولين مرّوا بالذلّة بكلّ تأكيد ، وهذا ما تعمّده الأعداء وما يكون طبيعيّاً وجوده عند الحرب ، إلاّ أنّ ستره واجب ، والتصريح به حرام.

الأمرُ الثاني : إنّ هذا الذي قلناه غير ما سبقَ من حرمة نسبة الأقوال والأفعال إلى المعصومين وغيرهم كذباً ، بمعنى أنّ الخطيب حتّى لو كان عالِماً بالحال ، أو متأكّداً منه ، أو قامت عنده الحجّة الشرعيّة لديه ، فإنّه أيضاً لا يجوز عليه أن يفتح فَمه بالأمور التي توجب مهانتهم رضوان الله عليهم.

ثامناً : أن لا يروي الخطيب أموراً مستحيلة بحسب القانون الطبيعي حتّى وإن ثَبتت بطريقٍ معتبر ؛ لأنّها على أيّ حالٍ ستكون صعبة التحمّل على السامعين ، ولعلّ أوضح أمثلة ذلك : ما يذكرهُ بعض الخطباء عن عليّ بن الحسين الأكبر (سلام الله عليه) ، أنّه حين ضُرب على رأسه بالعمود تناثرَ مُخّه ، وفي بعض

١٧٥

المصادر أنّه سالَ مُخّه على كتفيه ، ثمّ يقول الخطباء : إنّه في آخر رَمق من حياته دعا أباه الحسين عليه‌السلام ، فبادرَ بالذهاب إليه فأخبرهُ قائلاً : هذا جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد سقاني شُربة لا أظمأُ بعدها أبداً (١).

مع العلم اليقين أنّ مَن تناثرَ مُخّه ، فهو ميّت لا محالة ، ولا يستطيع الكلام ولا بكلمة واحدة ، فضلاً عن انتظار مدّة إلى أن يصل إليه أبوه ؛ فإنّ تَلف المُخ طبيّاً يعني الوفاة ، وعدم إمكان استمرار الحياة بكلّ تأكيد ، فيكون ما يقوله الخطباء من كلامٍ بعد ذلك مُمتنعاً بحسب القانون الطبيعي ، إلاّ أنّ يقول : إنّ مُخّه لم يتناثر ولم يسل على كتفيه ، عندئذٍ تكون له فرصة الكلام.

وقد يخطر في البال أمران :

الأمرُ الأوّل : إنّ هذا وأمثاله يمكن أن يحصل بنحو المعجزة ؛ فإنّه وإن كان خارقاً للناموس الطبيعي ، إلاّ أنّ كلّ معجزة خارقة له بطبيعة الحال ، فليكن هذا منها.

وجواب ذلك : إنّنا بحسب ما نفهم ، فإنّ واقعة كربلاء بكلّ تفاصيلها ليست قائمة على شيء من المعجزات ، وإلاّ لم يكن الإمام الحسين عليه‌السلام في حاجة إلى الحرب ، وإلى تحمّل هذا البلاء الدنيوي العظيم ، بل كان يمكن بدعاء واحدٍ لله عزّ وجل أن يقتل كلّ أعدائه ، وأن يعود إلى المدينة بأسلوب طيّ الأرض ، أو أن يُسخّر الجنّ ، أو الملائكة في القتال ، أو أن يَصرف قلوب أو أذهان أعدائه عن مقاتلته أو قتله .... إلى غير ذلك من احتمالات السلامة ، ولعلّنا نبحث هذا الأمر بمزيدٍ من التفاصيل حين تسنح الفرصة إليه قريباً.

__________________

(١) مقتل الخوارزمي : ج ٢ ، ص ٣١ ، اللهوف لابن طاووس : ص ٤٩ ، البحار : ج ٤٥ ، ص ٤٤.

١٧٦

الأمرُ الثاني : إنّه من المروي ، بل المؤكّد حصول بعض المعجزات في ساحة كربلاء يومئذٍ ، حين يوجد شخص أو أكثر ، وربّما مُتعدّدون دعا عليهم الحسين عليه‌السلام ، فحصلَ فيه حادث مروّع : كالموت حَرقاً ، أو غرقاً (١) ، أو غير ذلك ، وإذا أمكنت المعجزة هناك مرّة أمكنت مرّات.

وجواب ذلك على مستويين :

المستوى الأوّل : إنّ المروي من أمثال هذه الحوادث قد حَدثت بأسباب طبيعيّة ، مهما كانت ضعيفة ، فهي وإن كانت استجابةً لدعاء الحسين عليه‌السلام ومن أقسام المعجزة ، إلاّ أنّ الله سبحانه لم يشأ أن تَحدث فجأة وبدون سبب ، وإذا عُرف السَبب زالَ العَجَب.

المستوى الثاني : إنّنا لو تنازلنا عن المستوى الأوّل وفرضناها معجزات ناجزة ، فيمكننا أن نلتفت إلى أنّ المعجزات على قسمين في حدود ما نستهدفه الآن :

القسم الأوّل : معجزات قد تحصل لإقامة الحجّة على المعسكر المعادي ، لجلب الانتباه إلى أنّ الحقّ إلى جانب الحسين عليه‌السلام وأصحابه ، وتركيز ذلك في

__________________

(١) كالذي جرى مع (ابن جوزة) ، فقد ذَكر السيّد المقرّم في مقتله نقلاً عن مَجمع الزوائد للهيثمي : ج ٩ ، ص ١٩٣ ، ومقتل الخوارزمي : ج ١ ، ص ٢٤٩ ، وروضة الواعظين للفتّال : ص ١٥٩ : (أنّ عبد الله بن جوزة أتى الحسين عليه‌السلام وصاحَ : يا حسين ، أبشر بالنار ، فقال الحسين عليه‌السلام : «كذِبتَ ، بل أقدِم على ربٍّ غفور كريم. فمَن أنتَ؟» فقال : أنا أبو جوزة ، فرفعَ الحسين عليه‌السلام يديه حتّى بانَ بياض إبطيه وقال : «اللهمّ جرّهُ إلى النار» ، فغضبَ ابن جوزة وأقحمَ فرسهُ إليه ، وكان بينهم نهر فسقطَ عنها ، وعَلِقت قدمهُ بالركاب وجالت به الفرس ، وانقطعت قَدمه وساقه وفخذه وبقى جانبه الآخر بالركاب ، وأخذت تضرب به كلّ حجرٍ وشجر ، وألقتهُ بالنار المشتعلة في الخندق.

وكالذي جرى مع محمّد بن الأشعث حينما قال للحسين عليه‌السلام : أيّ قرابة بينك وبين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله! فدعا عليه الحسين عليه‌السلام ، فخرجَ من المعسكر لقضاء حاجته ، فلَدغهُ عقرب أسود لدغة تركتهُ متلوّثاً في ثيابه ممّا به ، وماتَ باديَ العورة (مقتل المقرّم نقلاً عن روضة الواعظين للفتّال : ص ١٥٩ ، الكامل لابن الأثير : ج ٤ ، ص ٢٧).

١٧٧

أذهانهم ، فإنّني أعتقدُ أنّهم لم يكونوا يحتاجون إلى ذلك في موقفهم أمام الله سبحانه ، لوضوح ذلك للمعادين وغيرهم ، ولكن قد تقتضي الحكمة الإلهيّة الزيادة في ذلك التركيز واثبات ذلك حسيّاً أمامهم ؛ لإمكان أن يرجع بعضهم إلى التوبة ، وإن لم يرجع لها فسوف يشعر بضخامة عمله ووخامة عاقبته ، وهذا ما يندرج في إجابة دعاء الحسين عليه‌السلام في بعض الأفراد ، كما سبق.

القسم الثاني : معجزات لا ربطَ لها بإقامة الحجّة على المعسكر المعادي ، بل لعلّ الحكمة تقتضي عدم تحقّقها ؛ ليكون البلاء الدنيوي الواقع على معسكر الحسين عليه‌السلام أشدّ ، لتكون المقامات لهم أعلى ، والثواب أجزل ، ورضاء الله سبحانه

١٧٨

وتعالى أفضل.

تاسعاً : من الأمور التي ننصح بها الخطيب الحسيني أيّاً كان : أن يحاول برمجة مصادره جهد الإمكان في قالب موحّد ومنسجم ، وليس متنافراً ومتناقضاً من ناحية ، ولا متباعداً ومتناثراً من ناحية ، بل يذكر أموراً متقاربة تاريخيّاً منسجمة نظريّاً ، ويبذل أقصى إمكانه فيه.

عاشراً : أن يَدع ما أمكن التفلسف في الحوادث ، أعني التعرّض إلى الحُكم والأسباب التي اقتضتها ، ما لم يَحرز في نفسه الإصابة لذلك ، وإلاّ فليدع ذلك إلى أهله ، وهو خيرٌ له في الدنيا والآخرة من أن يكلّف نفسه ما لا يُطيق ، أو أن يُكلّف السامعين ما لا يطيقون ، فقد تثبُت الشُبهة في أذهانهم ويكون الخطيب عاجزاً عن ردّها ، أو عن إقناع السامعين بالرد ، فيتورّط بالحرام من حيث لا يعلم ، وليس ذلك فقط ، أعني فيما يخصّ كربلاء ، أو حركة الحسين عليه‌السلام ، بل كلّ أمور الشريعة على هذا الغرار ، فلا ينبغي لأيّ فردٍ التعدّي إلى التفلسف فيها ما لم يَحرز في نفسه الأهليّة والقدرة ، وإلاّ فمن الأولى لهُ إيكال عِلمها إلى الله سبحانه : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا) (١).

ومن أمثلة ذلك : ما سمعتهُ شخصيّاً من بعض الخطباء ، حيث كان يُحلّل معنى ما ورد : (لا عَدوى في الإسلام) (٢) ، ولم يكن يُفلح في ذلك ، وسمعتُ من بعضهم أيضاً : أنّه كان يُحلّل قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام ، على ما هو مروي في نهج البلاغة : «يا علي ، إنّك ترى ما أرى وتسمعُ ما أسمع» (٣).

__________________

(١) سورة آل عمران : آية ٧.

(٢) شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ج ١٩ ، ص ٣٨١.

(٣) نهج البلاغة : خطبة ١٩٢ ، ص ٣٠١ ، تحقيق د. صبحي الصالح.

١٧٩

وكلاهما كان عاجزاً عن الوصول إلى حقيقة المعنى ، فلو كانا قد تعرّضا إلى ما ينفع الناس من أمورهم الخاصّة والعامّة ، لكانَ خيراً لهم وأحسن تأويلاً.

الحادي عشَر : أن يدع الخطيب التشكيك فيما تسالمَ العامّة ـ أعني جمهور الناس ـ على صحّته ، فضلاً عن إنكاره بصراحة ؛ فإنّه ينبغي أن يستهدف هدايتهم وتوجيههم نحو الطاعة والعقيدة ، ومن الواضح أنّهم إذا وجدوا مثل هذا التشكيك في كلامه سوف ينتقدونه وسيسقط من أنظارهم ، فيسبّب ذلك عدم سماعهم لمواعظه وإرشاده ، أو بُعده عنهم ، أو مقاطعتهم له عمليّاً.

ومن هذا القبيل : ما طرَقَ سَمعي من أنّ شخصاً معروفاً في هذا العصر ، طبعَ كتاباً عن الحسين عليه‌السلام ، حاولَ فيه بوضوح أن يبرهن على أنّه (سلام الله عليه) لم يكن يعلم بمقتله قبل حصوله ، فسقطَ الكتاب والمؤلِّف عن أعين الناس ، كما هو أهلٌ له فعلاً ، لو صحّ النقل (١).

الثاني عشر : أن لا يَنسب الخطيب الحسيني وغيره إلى غير المعصومين من المؤمنين ـ فضلاً عن المعصومين عليهم‌السلام ـ الوقوع في الحرام ، قلّ ذلك أم كثُر ؛ فإنّ غير المعصومين وإن كان يمكن ذلك في حقّهم ، إلاّ أنّه مع ذلك يجب السكوت عن مثله :

أوّلاً : لأنّهم علماء عظماء من تربية الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام.

ثانياً : لأنّ نسبة المحرّم إليهم لم يَثبت بطريقٍ معتبر لو وجِد ، فيكون ذكرهُ من الكذب الحرام.

ثالثاًَ : لو تنزّلنا وفَرضنا ثبوته بدليلٍ معتبر ، فالسترُ على فاعله أولى وأفضل.

رابعاً : لو تنزّلنا عن كلّ ذلك ، فلا أقلّ من عدم تحمّل الجمهور لمثل هذه

__________________

(١) كتاب (شهيد جاويد) بالفارسيّة ، وقد تُرجم إلى العربيّة باسم واقعة كربلاء (ط).

١٨٠