أضواء على ثورة الحسين عليه السلام

السيد محمّد الصدر

أضواء على ثورة الحسين عليه السلام

المؤلف:

السيد محمّد الصدر


المحقق: الشيخ كاظم العبادي الناصري
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٣

إلى غير ذلك من النصوص ، وفيما نقلناهُ الكفاية لوضوح الفكرة ، وهو تسالم الحسين عليه‌السلام وأصحابه على خدمة الدين ونصر سيّد المرسلين.

هذا ، وينبغي أن نلتفت إلى أنّ مَقصد هذا المعسكر الشريف وإن كان كذلك ، إلاّ أنّ مقصد المعسكر المعادي لا نُبرّؤهُ من كلّ عنوانٍ زائف وقصدٍ دنيوي هزيل ، بما فيها العصبيّة والعنصريّة والتعصّب الأعمى ، حتّى لعلّ المُعاندين منهم كانوا ينظرون إلى الحسين عليه‌السلام بهذه الصفة وحاشاه.

السؤالُ الثالث : من الأسئلة العامّة حول الحسين عليه‌السلام : هل حَصل للحسين وأصحابه الذلّ والمهانة في واقعة كربلاء؟

هناك بلا شكّ مَن يعتقد ذلك على أيّ حالٍ ، ومنه جاء قول الشاعر :

ويصيح وآ ذلاّه أين عشيرتي

وسُراة قومي أين أهل ودادي (١)

وحاشاهُ (سلام الله عليه) وليس هذا إلاّ من الكذب على المعصومين (سلام الله عليهم) ، فيكون من أشدّ المُحرّمات ، بل هو لا ينوي ذلك في قلبه فضلاً عن أن يقوله أو أن يصيح به ، كما يَزعم هذا الشاعر. وفي مقابله قول الشاعر :

فأبى أن يعيش إلاّ عزيزاً أو

تجلّي الكفاح وهو صريع (٢)

بل القول بالذّلة مُخالف للقرآن الكريم الذي يقول : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (٣) ، والحسين عليه‌السلام كان في زمانه ولا زال إماماً وأَولَى المؤمنين بصفات الإيمان ، ومن هنا جاء قوله عليه‌السلام في بعض خُطبه

__________________

(٦) الندى : بمعنى الجود والكرم (مجمع البحرين ج ١ ص ٤١).

(٧) الطبري ج ٦ ص ٣٥٣ ـ مناقب ابن شهر آشوب ج ٣ ص ٢٥٢ ـ الخوارزمي ج ٢ ص ٢٠.

(١) للشيخ محمّد النحوي العراقي (رياض المدح والرثاء للشيخ علي البحراني : ص ٤٨٩).

(٢) للسيّد حيدر الحلّي (أدب الطف : ج ٨ ، ص ٢٢).

(٣) سورة المنافقين : آية ٨.

١٢١

ذاكراً طلب الحاكم الأموي للبيعة : «ألا إنّ الدّعي ابن الدّعي قد رَكز بين اثنتين : بين السِلّة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة يأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون ، وحُجورٍ طابت وأرحامٍ طهُرت على أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام» (١).

وهو واضحٌ جدّاً بالاعتزاز بالإيمان والصمود في جانب الحقّ ، وليس هذا من التكبّر الباطل في شيء ، وإنّما هو الاعتزاز بالله ورسوله ، حسبُنا أن نسمع قوله : «مَن أراد عزّاً بلا عشيرة ، وهيبة من غير سلطان ، وغنى من غير مال ، وطاعة من غير بذل ، فليتحوّل من ذلّ معصيته إلى عزّ طاعته ؛ فإنّهُ يجد ذلك» (٢).

وكذلك قوله : «فأولياؤه بعزّته يعتزّون» (٣) ، وليس لهم كبرياء مستقلّة عن كبرياء الله عزّ وجل ، ولا شكّ أنّ الحُسين وأصحابه من خيرة مَن يكون مصداقاً وتطبيقاً لهذه النصوص.

بل هو العزيز في الدنيا والآخرة ، أمّا في الدنيا فلصموده وصبره ، وأمّا في الآخرة فللمقامات العُليا التي ينالها بالشهادة.

نعم ، لا شكّ أنّ المعسكر المعادي وقادته أرادوا إذلاله وحاولوا إهانته ، وهذا أكيد ، إلاّ أنّ شيئاً من ذلك لم يحصل ؛ لأنّ الذلّة الحقيقيّة إنّما تحصل لو حَصلت المبايعة للحاكم الأموي والخضوع له ، تلك هي الذلّة التي تجنّبها الحسين عليه‌السلام بكلّ جهده وضحّى ضدّها بنفسه ، وأمّا الصمود في ساحة القتال فلن يكون ذلّة ، لا في نظر أصدقائه ، ولا في نظر أعدائه ، ولا في نظر ربّه جلّ جلاله.

__________________

(١) اللهوف : ص ٤١ ، الخوارزمي : ج ٢ ، ص ٦ ، البحار للمجلسي : ج ٤٢ ، ص ٩.

(٢) أمالي الطوسي : م ٢ ، ج ١٨ ، ص ١٣٧ ، الكافي : ج ١ ، ص ١٧.

(٣) من دعاء للحسين عليه‌السلام يوم عرفة (مفاتيح الجنان للشيخ عبّاس القمّي) انظر : ص ٢١٦ وما بعدها.

١٢٢

وهنا قد يخطر في البال : أنّ قوله تعالى : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ) (١) دالٌ على حصول الذلّة لجيش النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في واقعة بدر.

وإذا صحّ وصف جيش النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك صحّ وصف غيره بطريق أولى ، فلماذا نتحاشى عن وصف الحسين وجيشه بالذلّة؟

وجوابهُ : أنّ الآية الكريمة غير دالّة أصلاً على ثبوت الذلّة بمعنى المهانة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وجيشه ، ولو دلّت على ذلك لوجبَ تأويلها بما يناسب الحال ، شأنها في ذلك شأن الظواهر القرآنيّة التي دلّ الدليل على عدم إمكان التعبّد بمظاهرها ، وذلك من وجوه :

الوجهُ الأوّل : إنّ المنظور هو الذلّة بالمعنى العرفي ، يعني أنّ الانطباع هو ذلك بغضّ النظر عن الإحساس به ، وذلك مثل قوله تعالى :

(وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ) (٢) ، وهذا تعبيرٌ عن انطباع معيّن يمكن التعبير عنه بالذلّة مجازاً ، بعد النظر إلى قلّة المسلمين وضعفهم تجاه عدد الكفّار وعدّتهم وجبروتهم.

الوجهُ الثاني : إنّ المنظور في الآية الكريمة هو الذلّة لولا العناية الإلهيّة ، وبالاستقلال عنها ، وإلاّ فمن غير المحتمل حصول الذلّة مع وجود تلك العناية ، ولا شكّ أنّ تلك العناية موجودة باستمرارٍ مع طرف الحقّ ، سواء كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو الحسين عليه‌السلام ، أو أيّ شخصٍ آخر مهم دينيّاً أو إلهيّاً.

__________________

(١) سورة آل عمران : آية ١٢٣.

(٢) سورة الأنفال : آية ٢٦.

١٢٣

الوجهُ الثالث : إنّ الآية الكريمة وإن صرّحت بالذلّة ، إلاّ أنّها لم تُصرِّح بمَن يكونون أذلاّء أمامهُ ، فلو تصوّرنا أنّهم أذلاّء أمام الأعداء ، لوردَ الإشكال ، ولكن يمكن أن نفهم أنّ المراد كونهم أذلاّء أمامَ الله عزّ وجل.

ونجعل التبشير بالنصر كقرينة متّصلة على ذلك يعني : أنّه جلّ جلالهُ إنّما نَصرهم ؛ لأنّهم كانوا أذلاّء أمامهُ وخاشعين له ومتوسّلين به.

إذاً ، فالآية الكريمة لا تدلّ بحالٍ على تحقق الذلّة الفعليّة لطرف الحقّ أينما كان ، ولو دلّت على ذلك لتعارَضت مع الآيات الأخرى جزماً ، كقوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (١) ، فتكون هذه الآيات أَولَى بالصحّة ، ويكون من الواجب تأويل تلك الآية الكريمة ، وإذا تنزّلنا جَدلاً عن التأويل ، أمكنَ تساقط دلالتها مع دلالة الآيات الأخرى ، ومعهُ لا يبقى دليل على وجود الذلّة.

السؤالُ الرابع : هل اهتمّ الإمام الحسين عليه‌السلام بعياله؟

هذا ما يؤكِّد عليه الخطباء الحسينيّون كثيراً ، ولكنّني أعتقد أنّه أمر لا ينبغي المبالغة فيه إطلاقاً ، بل يجب أخذهُ من أقلّ زاوية وأضيق نطاق.

فإنّه عليه‌السلام لو أرادَ الاهتمام الحقيقي بعياله كما يعتني أهل الدنيا بعوائلهم ويحرصون عليه ، إذاً لكانَ الأَولَى به أن يعمل أحد أمور :

أوّلاً : أن يُبايع الحاكم الأموي لينال الدنيا وأموالها وزخارفها ويرتاح هو وأهله وعياله فيها خير راحة ، بغضّ النظر عن الآخرة ، أعوذ بالله من ذلك.

ثانياً : إن كان هو يريد عدم البيعة فليخرج بهم إلى اليمن أو غيرها من بلاد الله ، ليكونوا سُعداء مرتاحين هناك.

__________________

(١) سورة المنافقين : آية ٨.

١٢٤

ثالثاً : إن كان لا يريد ذلك فليتحمّل القتل في المدينة المنوّرة ، ولا حاجة إلى أن يخرج إلى العراق ، لكي يكون هو المقتول ولا يكون على عياله بأس ، وقد وردَ عنه : «إنّ القوم إنّما يطلبونني ، ولو أصابوني لذُهلوا عن طلب غيري» (١).

رابعاً : إن كان يريد الخروج إلى الكوفة ، فليَدَع عياله في المدينة مرتاحين في طيب العيش ، حتّى يصل إليهم تارةً أخرى ، أو يصل إليهم خبر مقتله.

وهنا قد يخطر بالبال : أنّهُ أخذَ عيالهُ معه لأجل قيامهنّ بالخَدَمات الاعتياديّة في الأسرة : كتقديم الطعام ، وغَسل الثياب.

وجوابهُ : إنّ هذا من خطل القول ؛ فإنّ هذه المهمّة ممكن أن تكون موكولة إلى بعض الرجال المرافقين له ، كما يمكن استئجار نساء اعتياديّات يقُمنَ بها ، ولا تكون هذه المهمّة مبرِّراً لاصطحاب النساء الجليلات معهُ كزوجاته ، وبناته ، وأخته ، وغيرهنّ من الهاشميات. إذاً ، فتعريضهُ لهنّ للتعب والسهر أوّلاً ، وللسبي ثانياً ؛ إطاعة لله عزّ وجل حين قال (ع) : «شاءَ الله أن يراهنّ سبايا على أقتاب المطايا» (٢). ولكثيرٍ من المصاعب الأخرى ، دليلٌ صريح على أنّهُ عليه‌السلام لم يهتمّ بهم الاهتمام الدنيوي المتوقّع من أيّ واحد من أهل الدنيا ، أمّا أنّهُ عليه‌السلام لماذا أخذَ عيالهُ معه؟ فهذا ما سنُجيب عليه في سؤالٍ آت.

نعم ، ينحصر الاهتمام بالعيال بمقدار الضرورة ، وقد فعلَ ذلك سلام الله عليه ؛ وذلك أنّه هو المسؤول الحقيقي والرئيسي عنهم أمام الله سبحانه ، فلا يمكنهُ التخلّي عن وظيفته الشرعيّة تجاههم ، وذلك في عدّة أمور :

__________________

(١) مناقب ابن شهرآشوب : ج ٣ ، ص ٢٤٨ ، أمالي الصدوق : مجلس ٣ ، ص ١٣٨ ، الطبري : ج ٦ ، ص ٢٣٨.

(٢) البحار للمجلسي : ج ٤٤ ، ص ٣٦٤.

١٢٥

الأمرُ الأوّل : حمايةُ العيال عن الأعداء ما دام حيّاً ، ولذا وردَ عنه :

أحمي عيالات أبي

أمضي على دين النبي (١)

وقد وردَ عنه أيضاً مُخاطباً الجيش المعادي : «أنا الذي أُقاتلكم وتقاتلوني والنساء ليس عليهنّ جُناح ، فامنَعوا جهّالكم وعُتاتكم عن التعرّض لحَرَمي ما دُمتُ حيّاً» (٢) ، إذاً فهو عمليّاً كان يُفديهم بنفسه.

الأمرُ الثاني : الاعتناء بشؤونهم بعد وفاته. ومن هنا وردَ أنّهُ أوصى إلى أخته الحوراء زينب بنت أمير المؤمنين عليه‌السلام أن تقوم بهذه المهمّة ، حين كان ولدهُ الإمام السجّاد عليه‌السلام لا يستطيع أن يقوم بشيء (٣) ، وقد قامت سلام الله عليها بمهمّتها خير قيام.

الأمرُ الثالث : العناية الدينيّة بهم في الدنيا والآخرة ، وخاصّة وهو يعلم أنّهم مُقبلون على بلاءٍ لا يكادون يطيقونه ، وهو حالهم بعد مقتله عليه‌السلام ومن هنا وردت بعض التعليمات عنه ، ولعلّ لهُ تعليمات كثيرة لم تُنقل في التاريخ ، فمن ذلك قوله عليه‌السلام : «يا أخيّة ، أُقسِم عليكِ فأبري قَسَمي لا تخمشي عليّ وجهاً ، ولا تشقّي عليّ جيباً ، ولا تَدعي بعدي بالويل والثبور إذا أنا هلكتُ» (٤).

وهذا ، ومع ذلك يبقى السؤال المهم عن العيال ، وهو إنّه عليه‌السلام لماذا أخذهم معه؟ أو قل : لماذا شاء الله أن يراهنّ سبايا على أقتاب المطايا؟ كما ورد عنه عليه‌السلام ، وهذا ما نجيب عليه ضمن السؤال الآتي :

السؤالُ الخامس : لماذا أخذ عيالهُ معه؟

__________________

(١) مناقب ابن شهرآشوب : ج ٣ ، ص ٢٥٨ ، البحار للمجلسي : ج ٥ ، ص ٤٩.

(٢) اللهوف : ص ٥٠ ، ابن نما : ص ٥٥ ، البحار : ج ٤٥ ، ص ٥١ ، أسرار الشهادة : ص ٤٠٧.

(٣) تاريخ الطبري : ج ٦ ، ص ٢٤٠ ، الكامل لابن الأثير : ج ٣ ، ص ٢٨٦ ، الإرشاد للمفيد : ص ٢٣٢.

(٤) نفس المصدر.

١٢٦

وجوابهُ : إنّنا في حدود تصوّرنا الممكن لنا ، يمكننا أن نحدِّد ونُعدّد عدّة مصالحة حقيقيّة ومهمّة لذلك ، نوجزها فيما يلي :

أوّلاً : إنّهُ أخذَهم امتثالاً لأمر الله سبحانه ؛ لأنّه هو الذي أمرَه بذلك.

وهذا صحيح أكيداً ، ومن شواهد تلك العبارة الواردة : «شاء الله أن يراهنّ سبايا» ، ولكنّنا إذا أردنا الغرض من الحكمة الإلهيّة في ذلك ، وإنّ الله سبحانه لماذا أمرهُ بذلك ، لم نجد في هذا السبب وجهاً كافياً ، فنعود إلى الوجوه الأخرى التالية.

ثانياً : إنّه أخذهم معهُ ليشاركوه في نيل الثواب العظيم المذخور لشهداء كربلاء ، كلّ منهم بمقدار استحقاقه ، فلماذا يكون الثواب حكراً على الرجال دون النساء ، ولماذا يكون له منه حصّة الأسد ويُحرم الباقون ، بل الثواب ينبغي أن يوزّع على أوسع نطاق ممكن؟ وهكذا كان.

ثالثاً : إنّهم جاءوا معهُ بطلبٍ منهم (١) ، وقد استجابَ لطلبهم فأخذهم معه. وقد جاء هذا الطلب حُبّاً لهُ وشوقاً إليه واستيحاشاً من فراقه ، وليس كلّ ذلك أمراً دنيوياً فحسب ، بل هو كذلك بصفته إمامهم وقائدهم ووليّ الله بينهم ، مضافاً إلى توقّعهم نيل الثواب معه ، كما أشرنا في الوجه السابق.

رابعاً : إنّهم جاءوا معهُ أو إنّه أخذَهم معه ، بحسب الحكمة الإلهيّة ليُكملوا ثورة الحسين بعد مقتله ، كما حصلَ ذلك على أفضل وجه ، وذلك بأن يكونوا ناطقين أمامَ المجتمع بأهداف الحسين وأهميّة مقتله والإزراء بأعدائه ، ويمارسوا الإعلام الواسع حينما لا يكون الرجال قادرين على ذلك بعد موتهم واستئصالهم.

__________________

(١) البحار للمجلسي ج ٤٤ ص ٢٧٣ ـ اسرار الشهادة للدربندي ص ٢٢٧.

١٢٧

وهذا الإعلام كان ضروريّاً للمجتمع تماماً ، وإلاّ لذَهبت حركة الحسين عليه‌السلام في طيّ النسيان والكتمان ، ولمَا أثّرت أثرها البليغ في مستقبل الدهر ، فكان من الضروري في الحكمة الإلهيّة وجود النساء معهُ لكي يُعبّرنَ عن الحسين ويُدافعنَ عنه بعد مقتله ، ومن هنا «شاء الله أن يراهنّ سبايا» ؛ لأنّ هذا السبي دليل عملي قاطع على فضاضة أعدائهم وما يتّصفون به من القسوة واللؤم وعدم العناية بالدين ، وهذا وحدهُ يكفي للإعلام إلى مصلحة الحسين عليه‌السلام فضلاً عن غيره.

وهذا التعريف المتأخِّر عن ثورة الحسين عليه‌السلام ليس لأجل مصلحة الحسين نفسه ، ولا لمصلحة أصحابه المستشهدين معه ؛ لأنّهم نالوا بالشهادة ما رزقهم الله جلّ جلاله من المقامات العالية في الدار الآخرة ، وإنّما هذا الإعلام أرادهُ الله سبحانه لأجل الناس وهداية المجتمع ، فما يقال : من أنّه إكمال لثورة الحسين عليه‌السلام يراد به الجانب الظاهري في الدنيا ، لا الجانب الباطني في الآخرة.

وهذا التعريف كما يصلح أن يكون تبكيتاً (*) وفضحاً لأعداء الحسين عليه‌السلام في كلّ جيل ، ورَدعاً عن التفكير في مثل هذه الجريمة النكراء لكلّ حاكمٍ ظالم على مدى التاريخ.

كذلك يصلح لهداية الناس نحو الحسين ، وبالتالي نحو دين الله عزّ وجل ، ونحو أهداف الحسين الإلهيّة ، وبالتالي نحو طاعة الله عزّ وجل والتربية الصالحة في إطاعة الدين وعصيان الشهوات والتمرّد على كلّ ظلمٍ وفساد ، سواء كان في المجتمع أو في النفس الأمّارة بالسوء.

فهذا هو الجواب على السؤال الرئيسي الرابع : هل اهتمّ الحسين عليه‌السلام بعياله؟

__________________

(*) تبكيتاً : مثل بكّته : قَرّعهُ وعنّفهُ (أقرب الموارد : م ١ ، ص ٥٥ مادّة بكت).

١٢٨

السؤال السادس : هل اغتمَّ الحسين عليه‌السلام وحَزنَ لوقوع هذا البلاء العظيم عليه وعلى أهل بيته وأصحابه؟

لعلّ من الواضح الجواب بالنفي ؛ لعدّة اعتبارات :

منها : إنّ الحُزن والبكاء فيه إشعار بالاعتراض على الله سبحانه وحاشاه. ومنها : ما ذكرناه فيما سبق من أنّ للشهادة في سبيل الله جانبان : أهمّهما الاستبشار برحمة الله ولطفه ، واستشهدنا على ذلك بعدّة نصوص سابقة.

وأمّا الحُزن والبكاء المطلوب من مُحبّي الحسين عليه‌السلام في الشريعة ؛ فلأنّ تكليفه عليه‌السلام يختلف عن تكليفنا ، وتقديره غير تقديرنا ، ونظرهُ إلى الأمر غير نظرنا.

أمّا البكاء والحزن ، فهو لنا لأجل تربيتنا دينيّاً وثوابنا أخرويّاً ، وأمّا الاستبشار ، فلهُ ولأصحابه لأجل الشعور بالسعادة بنِعَم الله ورحمته.

وكلّما ازدادَ البلاء كان أكثر نعمة ورحمة كما سُئل صلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن أشدّ الناس بلاءً في الدنيا؟ قال : «النبيّون ، ثُمّ الأمثل فالأمثل» (١) ، ووردَ ما مضمونه أنّه : لولا إلحاح المؤمنين على الله في طلب الرزق ، لَنَقلهم من الحالة التي هم فيها إلى حالٍ أضيَق منها (٢) ، لمدى ما يريد أن يعطيه من الثواب إلى غير ذلك من النصوص.

ومن علامات ما قلناه : ما وردَ عن عليّ بن الحسين الأكبر أنّه قال لأبيه الحسين عليه‌السلام وهو في الرمق الأخير : هذا جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد سقاني بكأسه الأوفى شربة لا أظمأُ بعدها أبداً (٣).

__________________

(١) أصول الكافي : ج ٢ ، باب شدّة ابتلاء المؤمن ، الحديث ٢٩ ، تُحف العقول للبحراني : ص ٣٣.

(٢) مرآة العقول للمجلسي : ج ٩ ، ص ٣٥٨.

(٣) البحار للمجلسي : ج ٤٥ ، ص ٤٤.

١٢٩

ومن دلائل ذلك : أنّه وردَ عن العديد من الناس في التاريخ ، أنّهم كانوا يدعون الله عزّ وجل للحصول على الشهادة ، ثمّ يشكرونه حين يجدون أنفسهم عندها ، فكيف الحال في الحسين وأصحابه وأهل بيته ومقدار إدراكهم لذلك.

ومن دلائل ذلك أيضاً : ما وردَ عن أنّه عليه‌السلام كشفَ لأصحابه وأهل بيته ـ بعد أن اختبرهم وأحرز إخلاصهم ـ وأراهم مواقعهم في الجنّة ليلة مقتلهم (١) ، فهشّت نفوسهم إليها ورَغبت بها ، فكانوا فَرحين مستبشرين لذلك ، وهذا معنى ما سمعناهُ من قول أحدهم : ليس بيننا وبين أن نُعانق الحور العين إلاّ أن يَميل علينا هؤلاء بأسيافهم (٢).

وقد يخطر في الذهن : أنّ البكاء ليس دائماً على أمور الدنيا ، بل له مبرِّرات عديدة ممّا هو صحيح دينيّاً ، نذكر منها ما يلي :

أوّلاً : البكاء من الذنوب.

ثانياً : البكاء شوقاً إلى الثواب.

ثالثاً : البكاء خوفاً من العقاب.

رابعاً : البكاء لأجل قلّة الصبر على البلاء.

خامساً : البكاء لأجل إقامة الحجّة على الخصوم.

فمن هنا يمكن أن يكون بعض هذه الأسباب موجوداً لدى الحسين عليه‌السلام وأصحابه.

جوابهُ : أمّا الأسباب الثلاثة الأولى فهي خارجة عن محلّ كلامنا هذا ؛ لأنّنا نتكلّم عن البكاء الناتج بسب الواقعة نفسها ، وأمّا البكاء لأجل قلّة الصبر فهو غير صحيح للحسين عليه‌السلام ؛ لأنّه معصوم ، وأمّا غيره فلعدّة أمور منها :

__________________

(١) أسرار الشهادة للدربندي : ص ٢٤٧.

(٢) تاريخ الطبري : ج ٦ ، ص ٢٤١ ، أسرار الشهادة للدربندي : ص ٢٤٩.

١٣٠

أوّلاً : قال تعالى : (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) (١) ، إذاً فالبلاء أو أيّ شيء آخر لا يكون إلاّ بمقدار التحمّل ، ويستحيل أن يكون أكثر من ذلك ، بمشيئة الله سبحانه.

ثانياً : الاستبشار الذي ذكرناهُ وكرّرنا الحديث عنه ، فإنّه ممّا يُقوّي العزيمة ويشدّ الهمّة ويمنع الانهيار ، فلا يكون لقلّة الصبر مورد بالنسبة لهم ، ليسبِّب لهم البكاء.

وأمّا السبب الأخير : وهو إقامة الحدّة على الأعداء ، فهو صحيح ، إلاّ أنّه ليس من وظيفة الشهداء أنفسهم ؛ وإنّما هي وظيفة مَن بقيَ منهم ومن ذويهم ونسائهم ، لكي يكشفوا للعالَم الخارجي عن أهميّة الأمر وعَظمة قضيّة الحسين عليه‌السلام.

مضافاً إلى أنّ الأسلوب الوحيد لإقامة الحجّة ليس هو البكاء ، بل ليس هو الأسلوب الأفضل ؛ وإنّما الأسلوب الأفضل هو الكلام والإفهام ، والبكاء أسلوب صامت وسلبي مهما كان مؤثراً ، نعم ، حين لا يكون الكلام ممكناً يكون أسلوب البكاء لإقامة الحجّة متعيّناً ، وهو ما فَعلتهُ فاطمة الزهراء سلام الله عليها بعد أبيها ، وفَعلتهُ زينب بنت علي (عليه وعليها السّلام) بعد أخيها الحسين وأصحابه ، وفعلهُ الإمام السجّاد عليه‌السلام بعد أبيه ، إلى غير ذلك من الموارد.

وأمّا لماذا كان الكلام متعذِّراً أو صعباً بالنسبة لهؤلاء ، فهذا ما لا ينبغي أن نطيل الكلام فيه الآن.

__________________

(١) سورة البقرة : آية ٢٨٦.

١٣١

يا ليتَنا كنّا مَعكم

هناك عبارة يُكرِّرها خطباء المنبر الحسيني حتّى أصبحت متعارفة وتقليديّة وهي قولهم : يا ليتنا كنّا معكم فنفوزَ فوزاً عظيماً (١).

والخطاب ـ بصيغة الحال ـ للحسين عليه‌السلام وأصحابه ، وأودُ الآن بمناسبة حديثي عن هؤلاء العظماء أن أتعرّض إلى معنى هذه العبارة ؛ فإنّ في ذلك : عبرة أوّلاً ، وموعظة ثانياً ، وتربية للخطباء ثالثاً ، لعلّهم يأخذون ما سوف أقول بنظر الاعتبار.

واللفظ الذي هو الأهمّ والأشدّ تركيزاً في هذه الجملة هو (معكم) ؛ فإنّ المعيّة قد تكون : مكانيّة ، وقد تكون زمانيّة ، وقد تكون معنويّة ؛ فإنّ المتكلّم بهذه الجملة مرّة يتمنّى أن يكون مع شهداء كربلاء في الزمان والمكان المعينيّن اللذين كانوا فيهما ، وأخرى يتمنّى أن يكون معهم معنويّاً.

والأداةُ (ليت) للتمنّي ، والمشهور في علوم العربيّة أنّ التمنّي لا يكون إلاّ للمستحيل ، ويوردون كشاهدٍ على ذلك قول الشاعر :

ألا ليتَ الشبابَ يعود يوماً

فأُخبرهُ بما فعلَ المشيب (٢)

وسناقش ذلك بعد قليل ونعود إلى الحديث عن (المعيّة).

أمّا تمنّي الفرد للكون معهم في نفس الزمان والمكان الذي كانوا فيه ، فيُراد

__________________

(١) البحار للمجلسي : ج ٤٤ ، ص ٢٨٦ ، أمالي الصدوق : ص ١١٢.

وهي من رواية للإمام الرضا عليه‌السلام يقول فيها لابن شبيب : «إنْ سرّكَ أن يكون لك من الثواب مثل ما لمَن استُشهد مع الحسين عليه‌السلام ، فقل متى ذكرته : يا ليتني كنتُ معهم فأفوزَ فوزاً عظيماً».

(٢) ديوان أبو العتاهية : ص ٣٢.

١٣٢

به عادة تمنّي الحصول على الشهادة معهم لكي يفوز فوزاً عظيماً ، وهو أمرٌ جليل ولطيف في حدّ نفسه إلاّ أنّه قابل للمناقشة من أكثر من جهة :

الجهةُ الأولى : أنّ تمنّي العود إلى الماضي من تمنّي المستحيل طبيعيّاً ، وتمنّي المستحيل مستحيل ، أو قل : إنّه لا يتصوّره ولا يقتنع به إلاّ مَن خولِط في عقله ، وليس من تمنّي الأسوياء ما كان مستحيلاً.

الجهةُ الثانية : إنّ مجرّد وجود الفرد هناك في الماضي ـ لو تمّ له ـ لا يعني كونه يفوز بالشهادة أو يفوز فوزاً عظيماً ، بعد أن نأخذ بنظر الاعتبار هذه النفوس الضعيفة الأمّارة بالسوء المعتادة على الترف والضيق من مصاعب الحياة. ومن الواضح أنّ حركة الحسين عليه‌السلام كلّها مصاعب وبلاء وضيق من الناحية الظاهريّة أو الدنيويّة ، ومن هنا لا يكون من المؤكّد أنّ الفرد إذا كان موجوداً في ذلك الزمان والمكان أن يكون ناصراً للحسين عليه‌السلام ، بل لعلّه يكون في الجيش المعادي تحت إمرة عبيد الله بن زياد ؛ لأجل الحصول على المال أو الشهرة أو دفع الشرّ والتهديد ، تماماً كما مالَ أهل الكوفة إليه بعد إعطائهم الولاء للحسين عليه‌السلام ومسلم بن عقيل عليه‌السلام ، ومن أجل شيء من الطمع والخوف.

وإذا كان الفرد أحسن نفساً وأكثر ثقافة ، فلا أقلّ من أن ينهزم من المعسكر ، فلا يكون مع مُعادي الحسين ، كما لا يكون مع الحسين نفسه ، تماماً كما ورد عن أبي هريرة أنّه قال : الصلاة خلف عليّ أتم ، وطعام معاوية أدسم ، والوقوف على التل أسلم (١) ، وإذا لم يكن مع الحسين عليه‌السلام فسوف يحصل : أوّلاً : إنّه لن ينال الشهادة ولن يفوز فوزاً عظيماً.

__________________

(١) هذا القول من أبي هريرة عبّر عن موقفه في حرب صفّين ، وقد ذكرهُ محمود أبو ريّة في كتاب شيخ المضيرة أبو هريرة ص ٥٦ عن شذرات الذهب في أخبار مَن ذَهب لابن عماد الحنبلي : ج ١ ، ص ٦٤.

١٣٣

وثانياً : إنّه سينال اللعنة الأبديّة طبقاً لقوله عليه‌السلام : «مَن سمعَ واعيتنا ولم ينصرنا ، أكبّه الله على مَنخريه في النار» (١).

وعلى أيّ حالٍ ، فمن أين يأتي التأكّد على أنّ الفرد إذا كان في ذلك الزمان وذلك المكان مع الحسين عليه‌السلام ، لفازَ فوزاً عظيماً ، بل لعلّه يَخسر خسراناً مبيناً ، كما ألمَعنا قبل قليل ؛ لأنّ مجرّد المصاحبة في المكان لا يعني أكثر من ذلك.

وقد يُستدلّ على أنّ المطلوب من أيّ فردٍ مُحبّ للحسين ، يَحسن به أن يتمنّى ذلك ، فيستدلّ عليه بالشعر المنسوب إلى الحسين عليه‌السلام :

شيعتي ما إن شربتم

عذبَ ماءٍ فاذكُروني

أو سَمعتم بقتيلٍ

أو جريحٍ فاندِبوني

فأنا السبطُ الذي من

دون جُرمٍ قتلوني

ليتكم في يوم عاشو

را جميعاً تنظروني (٢)

فقد تمنّى الحسين عليه‌السلام أن يكون معهُ شيعته يوم عاشوراء ، وهو المطلوب ، وجواب ذلك من عّدة وجوه منها :

الوجه الأوّل : إنّ هذا الشِعر ليس للحسين عليه‌السلام قطعاً ، بل هو ممّا قيل على لسانه قطعاً ، وأدلّ دليل على ذلك : أن يَذكر فيه مقتلهُ وما حدثَ بعد مقتله ، وهو ما لا يمكن أن يكون من قوله سلام الله عليه ، وفي ما سمعناه ما يشير إلى ذلك.

مضافاً إلى قوله :

وبجُرد الخيل بعد ال

قتل ظلماً سَحقوني

إلى غير ذلك.

__________________

(١) الخوارزمي : ج ١ ، ص ٢٢٧ ، البحار للمجلسي : ج ٤٤ ، ص ٣١٥ ، أمالي الصدوق : ص ١٢٣.

(٢) أسرار الشهادة للدربندي : ص ٣٩٨ ، وأشار إليها جعفر التستري في خصائصه ذاكراً البيت الأوّل فقط.

١٣٤

إذاً ، فهذا الشعر إنّما قاله الشاعر بعد أن سمعَ قول الخطباء : يا ليتنا كنّا معكم ، فأحبّ أن يكون هذا التمنّي صادراً عن الحسين عليه‌السلام أيضاً ، إذاً فلا يكون لهذا الشعر قيمة إثبات تاريخيّة أكثر من هذه الجملة التي يُكرّرها الخطباء.

الوجه الثاني : إنّ مثل هذا التمنّي لو كان صادراً عن الحسين عليه‌السلام أو محبّيه ، فإنّما يراد به تمنّي الاجتماع معنويّاً ـ كما سوف نذكر ـ لا ماديّاً ، أو تمنّي الاجتماع ماديّاً ومعنويّاً حتّى يتمّ الأمر ، وإلاّ فمن الواضح ـ كما أسلفنا ـ أنّ الاجتماع المادّي في الزمان والمكان وحده لا يكفي.

وأمّا المعيّة المعنويّة : وهي الاتّحاد في الهدف والمحبّة والإيمان ، فقد يُستشكل فيه من حيث إنّ (ليت) إنّما تأتي للتمنّي المستحيل على ما هو المشهور كما أسلفنا ، ومن الواضح أنّ المعيّة المعنويّة ليست مستحيلة ، بل بابها مفتوح لكلّ والج وواسع بسعة رحمة الله سبحانه ، فينال منها كلّ فردٍ حسب استحقاقه ، فمن هنا ناسبَ أن تُستعمل (ليت) للمستحيل ، وهو الكون المادّي معهم لا المعنوي.

وجواب ذلك : إنّ اختصاص التمنّي بالمستحيل غير صحيح تماماً وإن ذهبَ إليه المشهور ؛ وذلك لعدّة وجوه منها :

أوّلاً : ما أشرنا إليه فيما سبق من أنّ تمنّي المستحيل مستحيل ، إلاّ من المجانين ومَن خُولطوا في عقولهم ، أو إنّه يتحدّث حديثاً مجازيّاً بعيداً عن الواقع تماماً ، كبيت الشعر الذي استشهدوا به (ألا ليتَ الشباب يعود يوماً).

ثانياً : إنّ التمنّي وأضرابه من موارد ما يسمّى في علوم البلاغة بالإنشاء : كالاستفهام ، والترجّي ، وهي حالات نفسيّة وجدانيّة محسوسة في النفس تختلف في معانيها ومداليلها ، فالترجّي المدلول عليه بالأداة (لعلّ) إنّما يعني مجرّد الاحتمال كقولنا : لعلّ فلاناً عادَ من سفره ، أو لعلّي أُسافر غداً.

وأمّا التمنّي فهو : إرادة حصول شيء في المستقبل والرغبة فيه كقولنا :

١٣٥

ليتني أُسافر غداً ، أي أحبُّ ذلك وأرغبُ به ، ولا ربطَ له بمجرّد الاحتمال.

فالتمنّي والترجّي أمران مختلفان تماماً ، كما لا ربطَ لهُ بالأمور المستحيلة بل يستحيل أن يتعلّق التمنّي بالمستحيل.

ثالثاً : إنّ في القرآن الكريم موارد استُعملت فيها الأداة (ليت) فيما هو ممكن وليس بمستحيل ، وظاهر القرآن حُجّة على كلّ مَن يناقش في ذلك ، كقوله تعالى : (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً) (١) ، مع العلم أنّ الموت في أيّ وقتٍ ممكن بقدرة الله سبحانه ، وقوله تعالى : (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً) (٢) ، يعني : ميّتاً قد زالت معالِم قبره ، وهو أمر ممكن على أيّ حال.

بل حتّى ما يبدو مستحيلاً من الاستعمالات كقوله تعالى : (يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) (٣) ، وقوله تعالى : (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا) (٤) ونحوها ، إنّما تكون مستحيلة باعتبار النظام الإلهي للخلق ، لا باعتبار قدرة الله على انجاز ما يتمنّونهُ إلاّ أنّه لا يُنجّزه ؛ لأنّهم لا يستحقّون ذلك.

ومحلّ الشاهد من كلّ ذلك : أنّ التمنّي للممكن أمرٌ ممكن ، فإذا عَرفنا أن المعيّة المعنويّة مع أصحاب الحسين عليه‌السلام أمر ممكن في أيّ مكانٍ وزمان ؛ لأنّها تُعبّر عن المعيّة القلبيّة والفكريّة ، وهي المعيّة الأهم والألزم ، فإذا كانت ممكنة كان تمنّيها ممكناً ، ويمكن أن يقصدها الفرد حين يقول : يا ليتنا كنّا معكم

__________________

(١) سورة مريم : آية ٢٣.

(٢) سورة النبأ : آية ٤٠.

(٣) سورة الزُخرف : آية ٣٨.

(٤) سورة الأنعام آية : ٢٧.

١٣٦

فنفوز فوزاً عظيماً ، والحقُّ أنّ المعيّة المعنويّة توجِب الفوز العظيم بلا إشكال.

ولكنْ يحسن بنا أن نلتفت إلى أنّ هذا التعبير وارد في القرآن عن قول فردٍ فاسق ، أو مُتدنّي الإيمان وقليل اليقين ؛ لأنّه سبحانه يقول : (وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) (١). إذاً فتكرار هذا المضمون من قِبَل الفرد لا يكاد يكون معقولاً ؛ لأنّه سيعتبر نفسه مُتدنّي الإيمان أو قليل اليقين ، وهذا لا يكون إلاّ مع الغفلة عن المضمون الحقيقي للعبارة كما هو الأغلب ، أو لأجل كسر النفس والوقيعة فيها ، كما هو شأن الزُهّاد والسالكين.

كما ينبغي أن نلتفت إلى أمرٍ أهمّ حول الآية الكريمة وهو : إنّه سبحانه يقول : (وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ ... الخ) (٢).

وهذا يعني ـ بالنسبة إلى الأفراد الاعتياديين ، بغضّ النظر عن المعاني التي أسلفناها ـ أمران :

الأمرُ الأوّل : إنّ الحسين عليه‌السلام أصابهُ فضلٌ من الله بالشهادة ، والفرد يتمنّى أن ينال من هذا الفضل ، وقد سبقَ أن قلنا : إنّ هذا الفضل من دواعي الاستبشار لا من دواعي البكاء ، مع العلم أنّهم يجعلونهُ مُقدّمة للبكاء كما هو المعهود أكيداً ، ومعهُ فلا يكون وضعه في هذا الموضع مناسباً.

الأمرُ الثاني : إنّ الفضل الذي نالهُ الحسين وأصحابه من الله سبحانه ليس مجانيّاً ولا يمكن أن يكون كذلك ، ولذا وردَ : «إنّ لك في الجنّة درجات لن تنالها إلاّ بالشهادة» (٣) ، فقد دفعَ الحسين عليه‌السلام تحمّلهُ لأنواع البلاء الدنيوي ، بما

__________________

(١) سورة النساء : آية ٧٢ ـ ٧٣.

(٢) سورة النساء : آية ٧٣.

١٣٧

فيه نفسه ونفوس أهل بيته وأصحابه فداءً لذلك الفضل العظيم ، فهل سيكون الفرد على استعداد حقّاً في المشاركة مع الحسين عليه‌السلام في بلائه ، كما هو على استعداد أن يشاركه في جزائه ، أم يتمنّى الفرد أن يحصل على ثواب الحسين عليه‌السلام مجاناً ، مع أنّ الحسين عليه‌السلام نفسه وهو المعصوم لم يحصل عليه إلاّ بالثمن الغالي ، إنّ هذا من سُخف القول حقّاً!

كما يحسن بنا أن نتساءل في هذا الصدد : إنّنا لماذا نتمنّى أن نكون مع الحسين خاصّة لنفوز فوزاً عظيماً ، مع أنّ الآية الكريمة مطلقة من هذه الناحية ، بل هي خاصّة بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والكون معه أيضاً فوز عظيم بلا إشكال ، فهل نتمنّى ذلك أو نتمنّى الكون مع أمير المؤمنين أو أحد الأئمّة المعصومين ، وإنّ لنا إماماً حيّاً مسؤولاً عنّا فعلاً ونحن مسؤولون عنه أيضاً ، فهل نتمنّى أن نكون معه ، وليتَ شِعري ؛ فإنّ الكون مع إمامنا الحيّ ليس سهلاً على الإطلاق ، بل هو امتحان عسير وبلاء كبير ويحتاج إلى إيمان عظيم وتسليم جسيم ، يكفينا ما ورد : «ما هذا الذي تمدّون إليه أعينكم ، وهل هو إلاّ لبس الخشن وأكل الجَشب» (١) ، وفي خبرٍ آخر : «وهل هو إلاّ السيف والموت تحت ظلّ السيوف) (٢).

__________________

(٣) أمالي الصدوق : مجلس ٣٠ ، ص ١٣٥ ، البحار للمجلسي : ج ٤٤ ، ص ٣٢٨ ، الخوارزمي : ج ٢ ، ص ١٨٧ ، أسرار الشهادة للدربندي : ص ١٩١.

(١) الكافي للكليني : ج ٨ ، ص ١٣٣ بتصرّف واقتضاب.

(٢) أمالي الصدوق : ص ٥١٧ بتصرّف.

١٣٨

فإنّه (سلام الله عليه) يُطبّق الإسلام كما طبّقهُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولن يكون ذلك في مصلحة أهل الدنيا ومُتّبعي الشهوات والمعتادين على اللّذات ، بل سيكون هذا العدل المطلق اقتصاديّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً ونفسيّاً وعقليّاً ودنيويّاً وأخرويّاً ، وهذا لا محالة يكون على الفرد الاعتيادي ـ كما قلنا ـ امتحاناً عسيراً وبلاءاً كبيراً ، إذاً فالتمنّي للكون مع إمامنا الحيّ ليس سهلاً بأيّ معنىً قصدناه.

ولكن ـ مع ذلك ـ فقد يُحسن الخطباء صُنعاً حين يخصّون الحسين عليه‌السلام بالذِكر لأمرين أو أكثر :

الأمرُ الأوّل : إنّ الحديث في المجلس عنه والمأتم المُنعقد ، لهُ عليه‌السلام.

الأمر الثاني : إنّ الحديث في المجلس وإن لم يكن عنه (سلام الله عليه) ، بل عن غيره من المعصومين عليهم‌السلام ، إلاّ أنّه لابدّ من ذكره خلال الحديث ، وإلاّ لم تطمئنّ النفس ولم يهدأ الخاطر ولم يتمّ الاستحباب الشرعي الكامل.

الأمر الثالث : إنّ شفاعة الحسين عليه‌السلام أوسع من غيره من المعصومين عليهم‌السلام جميعاً ، كما وردَ (١) ، ووردَ أنّ عدداً من المعصومين لا يصل إليهم إلاّ الخاصّة كعلي عليه‌السلام ، والرضا عليه‌السلام ، والمهدي عليه‌السلام ، في حين يصل إلى الحسين عليه‌السلام الخاصّة والعامّة ، فهو يشفع للجميع وزياراتهم لديه مقبولة ، وشفاعتهُ واسعة يوم القيامة.

إلاّ أنّنا مع ذلك ينبغي أن نتوخّى أن نضمّ إلى هذا الأمر الشعور على مستويين :

المستوى الأوّل : إنّ شفاعة الحسين عليه‌السلام لن تكون عامّة بالمعنى الكامل ، بل بشرطها وشروطها ، كما وردَ في الخبر ، تماماً كما قال الإمام الرضا عليه‌السلام في حديث سلسلة الذهب : «لا إله إلاّ الله حِصني ومَن دخل حِصني أمِنَ من عذابي ، ثمّ قال : بشرطها وشروطها وأنا من شروطها» (٢).

__________________

(١) البحار للمجلسي : ج ٤٤ ، ص ٢٢١.

(٢) عيون أخبار الرضا للصدوق : ج ٢ ، ص ١٣٤.

١٣٩

المستوى الثاني : أن لا نفهم من سعة شفاعة الحسين عليه‌السلام سعتها دنيويّاً ، بل سعتها أخرويّاً ، ولكن وجِد العديد ممّن يقول : إنّ سُفرة الحسين عليه‌السلام أوسع ، ويريد به الأرباح الماديّة المجلوبة بسبب ذكره (سلام الله عليه) أكثر من الأرباح المجلوبة بسبب ذكر غيره.

وهذا وإن كان صحيحاً عمليّاً وداخلاً ضمن النِعَم الإلهيّة على الحسين ومُحبّي الحسين عليه‌السلام ، إلاّ أنّ المطلوب أخلاقيّاً هو عدم النظر إلى حطام الدنيا مهما كان مهمّاً ، وقَصر النظر على ثواب الآخرة. ومن الواضح أخلاقيّاً ودينيّاً أنّ مَن قَصدَ الدنيا وحدها ، أو مَن قصدَ الدنيا والآخرة معاً ، فليس له الثواب في الآخرة إطلاقاً ، وإنّما يأخذ الثواب مَن خصّ قصدهُ في الآخرة تماماً.

وهذا لا يعني عدم جواز الأجرة على ذكره عليه‌السلام ، وخاصّةً ممّن كان عمله ذلك ورزقه متوقّفاً عليه ؛ وإنّما يعني أن يَسقط هذا عن نظر الاعتبار في نيّته ، ويجعلهُ بمنزلة الرزق صدفة أو تفضّلاً من الله عزّ وجل ، وليس بإزاء مأتم الحسين عليه‌السلام بأيّ حالٍ من الأحوال.

١٤٠