بحوث في الفقه المعاصر - ج ١

الشيخ حسن الجواهري

بحوث في الفقه المعاصر - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن الجواهري


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الذخائر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٣
  الجزء ١   الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

٣٨١
٣٨٢

المقدمة

قبل البدء في البحث لابدّ من التنبيه إلى خطرين يقفان في طريق المجتهد عليه أن يتجاوزهما :

الخطر الأوّل : « تبرير الواقع الفاسد على حساب تطوير النص ».

ويحدث هذا الخطر عند مَنْ استسلم للواقع الإجتماعي أو الإقتصادي الفاسد الذي يعيشه كما حدث لبعض المفكرين المسلمين حيث تأوّل حرمة الربا ، وخرج بنتيجة تواكب الواقع الفاسد وهي : أنّ الإسلام يسمح بالفائدة إذا لم تكن أضعافاً مضاعفة وإنّما ينهى عنها إذا بلغت مبلغاً فاحشاً كما في آية : ( يا أيّها الّذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلّكم تفلحون ) (١).

وقد منع هذا الواقع الفاسد هؤلاء المفكّرين من إدراك غرض الآية التي كانت تريد لفت نظر المرابين إليه ، وهي النتائج الفضيعة التي يسفر عنها الربا ، ولذا نرى القرآن الكريم يقول : ( وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ) (٢).

__________________

(١) آل عمران : ١٣٠.

(٢) البقرة : ٢٧٩.

٣٨٣

إذن المسألة ليست مسألة حرب مع نوع خاص من الربا ، وإنّما هي مسألة عدم جواز نموّ رأس المال من دون مبرّرات شرعيّة لنموّه.

النتيجة : هو عدم جواز اتّباع الواقع الفاسد الذي يعيشه المسلمون اليوم ، وهو الواقع الرأسمالي الذي تعيشه بعض البلدان الإسلاميّة ، أو الواقع الإشتراكي الذي تعيشه بعض البلدان الاُخرى ، وإنّما يجب أن تكون الشريعة الإسلاميّة هي المتّبعة ويكون مذهبها الإقتصادي هو المتبع أيضاً حتّى وإن خالف الواقع المعاش ، فعلى علماء الإسلام أن يغيّروا الواقع إذا لم يكن منسجماً مع الشريعة الإسلاميّة حتّى تكون شريعة الإسلام هي المتّبعة.

الخطر الثاني : « اتخاذ موقف معين مسبق اتجاه المسألة ».

كما إذا كان العالم الذي يبحث المسألة له اتجاه نفسي ، فإنّ هذا الإتجاه النفسي سوف يؤثر عليه إلى حدّ كبير في عمليّة الإستنباط أو فهم النص الشرعي ، وقد تصل المرحلة إلى إغوائه وخداعه بحيث تنطمس أمام عينيه جوانب واضحة من النص الشرعي الذي لم ينسجم معه نفسيّاً.

ومثال ذلك : ما ينهجه علماء العقائد في سبيل ترسيخ عقائدهم المنسجمين معها نفسيّاً ، فيحاولون تفسير وتأويل النصوص الشرعيّة بما ينسجم مع هذه العقيدة ، وقد تصل هذه الطريقة إلى حدّ الإغواء والخداع ، فأيُّ موضوعيّة في مثل هذا البحث ؟!!

وكمثال فقهي من الشريعة الإسلاميّة ما نراه من نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن « ذبح الحمر الأهليّة يوم خيبر » ، فإنّ بعض العلماء يتخذون موقفاً نفسيّاً مسبقاً تجاه النص ، وهو الموقف القائل : ب‍ « أنّ كلّ نص هو حكم شرعي عام » ، وأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هو « مبلّغ الأحكام دائماً ». إذن هؤلاء العلماء سوف يفسّرون النص المسبق بأنّه حكم شرعي عام ، بينما هذا الموقف الخاص من تفسير النص لم ينبع من

٣٨٤

النص نفسه وإنّما نتج عن اتجاه نفسي خاص عند العالِم ، ويمكن أن يكون نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو إجراء معيّن اتخذه في تلك الحالة والفترة بما أنّه ولي الأمر المسؤول عن رعاية مصالح المسلمين ، وحينئذ يكون النهي نهياً ولائيّاً بما أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو حاكم المسلمين.

وقد نبّه الإمام الباقر عليه‌السلام في صحيحة محمّد بن مسلم وزرارة حيث سألاه عن أكل لحوم الحمر الأهليّة فقال : « نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أكلها يوم خيبر ، وإنّما نهى عن أكلها في ذلك الوقت لأنّها كانت حمولة الناس ، وإنّما الحرام ما حرّم الله في القرآن » (١). وفي صحيحة محمّد بن مسلم عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : « نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أكل لحوم الحمير ، وإنّما نهى عنها من أجل ظهورها مخافة أن يفنوها وليست الحمير بحرام ، ثمّ قرأ هذه الآية : قل لا أجد فيما اُوحي إلي محرّماً على طاعم يطعمه ... » (٢).

إذن موضوعيّة البحث في النصوص الشرعيّة تفرض على الباحث إستيعاب كلا هذين التقديرين ، وتعيين أحدهما على ضوء صيغة النص الظاهرة.

فالنتيجة : لا يجوز أن يكون عند الباحث في مسألتنا موقفاً مسبقاً معيّناً يقول بوجوب أن يعوّض الضرر الذي حدث لهذا الفرد نتيجة معاملة قد قام بها بكل اختياره وإرادته مادام لا يوجد دليل ظاهر من الشريعة الإسلاميّة على تعويضه ، بل ربمّا يكون الحكم بتعويضه مخالفاً لمباديء الشريعة الحقّة ، فالنظر الموضوعي في بحثنا الذي نريد أن نبحثه يدعونا إلى فحص الأدلّة الشرعيّة للحكم بتعويض الضرر أو عدم الحكم به.

وبعد هذه المقدّمة نقول :

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٦ ، باب ٤ من أبواب الأطعمة المحرّمة ، ح ١.

(٢) المصدر السابق ، ح ٦.

٣٨٥

المشاكل المتعلقة بتغيير قيمة العملة :

والجواب : هناك مشكلتان تتعلّقان بكيفيّة الوفاء.

الاُولى : كيفيّة الوفاء في عقد القرض إذا تغيّرت القيمة ؟

الثانية : كيفيّة الوفاء للثمن المؤجّل في البيع إذا تغيّرت القيمة ؟

وسوف نبحث كل واحدة من المشكلتين على حدة لنرى الحكم الشرعي في الشريعة الإسلاميّة ( الإماميّة ). وتوجد مشكلة ثالثة لا تتعلق بالقرض أو البيع ، نتعرض لها في آخر البحث وهي مشكلة مهر الزوجة الذي كان عبارة عن مائة تومان إيراني قبل ثلاثين سنة ، فكيف توفّى هذه الزوجة مهرها ؟ وأمثال هذه المسائل.

المشكلة الاُولى :

فهي جزء من بحث مهم في الشريعة الإسلاميّة وهو « كيفيّة الوفاء في عقد القرض » سواء كان المال المقترض من المثليّات ( كالحنطة والشعير ، والأوراق النقديّة ، والدنانير الذهبيّة والدراهيم الفضيّة ، أو كان من القيميّات كقرض خاتم عقيق أو زمرّد ).

وهنا لابدّ لنا من معرفة معنى القرض في الشريعة الإسلاميّة أولاً ، ثمّ نرى كيف يؤدّى المال المقترض ثانياً.

أولا : معنى القرض : لا يخفى أنّ معنى القرض معروف وهو : « تملّك كميّة من المال مع ردّ عوضه في غير المجلس غالباً ». وقد أثبته الله سبحانه وتعالى للمحتاجين.

ثانياً : المال المقترض : ثمّ إنّ المال المقترض إمّا أن يكون من المثليّات أو من القيميّات.

٣٨٦

والمثلي : ما تساوت أجزاؤه في القيمة والمنفعة وتقاربت صفاته كالسكر والحنطة والدهن النباتي وأمثالها.

والقيمي : وهو ما كانت أجزاؤه مختلفة في القيمة والمنفعة مثل الخيار والعقيق والزمرّد وأمثالها.

فإن اقترض الإنسان شيئاً مثليّاً : فقد يكون أحد أقسام ثلاثة :

١ ـ أن يقترض مثليّاً ، وهو عرض من الأعراض كالثوب المثلي ، والحنطة ، والرز ...

٢ ـ أن يقترض نقداً مثليّاً « ذهباً أو فضّة ».

٣ ـ أن يقترض نقداً ورقيّاً تكون ماليّته إعتباريّة وإلزامية من قبل الدولة.

والمشكلة المطروحة هنا من قبل الباحثين هي فقط في النقد الورقي إذا تغيّرت قيمته إلى النقيصة ، بينما ينبغي أن تبحث المسألة بصورة أوسع ، لأنّ الذهب والفضّة الذي كان هو النقد المتعارف قبل سنة ١٩١٤ م ، أي قبل الحرب العالميّة الاُولى أيضاً تتغيّر قيمته بالنقيصة والزيادة ، ولا يلتفت إلى من يقول بأنّ قيمة الذهب والفضّة لم تتغيّر وثابتة مادامت النصوص الكثيرة في زمان الإمام الصادق عليه‌السلام تخبرنا عن نزول قيمة الذهب مرّة ونزول قيمة الفضّة مرّة اُخرى. وإليك رواية واحدة من الروايات الكثيرة ليتضّح لك الأمر.

فقد روى عبدالملك بن عتبة الهاشمي قال : « سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام عن رجل يكون عنده دنانير لبعض خلطائه ، فيأخذ مكانه ورِقاً في حوائجه ، وهو يوم قبضت سبعة وسبعة ونصف بدينار ، وقد يطلب صاحب المال بعض الورِق وليست بحاضرة فيبتاعها له الصيرفي بهذا السعر ونحوه ، ثم يتغيّر السعر قبل أن يحتسبا حتّى صارت الورِق اثنى عشر بدينار ، هل يصحّ ذلك له ؟ وإنّما هي بالسعر الأوّل حين قبض كان سبعة وسبعة ونصف

٣٨٧

بدينار ؟ ... الخ » (١).

وكذلك ينبغي أن تبحث المسألة في صورة ما إذا كان المال المقترض من العَرَض كالحنطة والسكّر ، حيث أنّ قيمتها تنخفض مرّة وترتفع اُخرى كما هو واضح.

ثمّ إنّ ارتفاع القرض أو إنخفاضه وكذلك ارتفاع الذهب أو الفضّة أو انخفاضهما قد يكون سببه ظلم الإنسان لاخيه الإنسان في سلوكه الإقتصادي من احتكار أو غيره ، وقد يكون سببه من السماء ، كما إذا تحسّن المطر في سنة من السنين فكان الناتج جيّداً أو وافراً ، وقد يسوء المطر أو ينقطع في سنة اُخرى فيكون الناتج رديئاً أو قليلاً ، كما يمكن أن يكون ارتفاع سعر الذهب نتيجة قلّته في بعض البلدان ، ورخصه في مكان آخر نتيجة عثور تلك الدولة على مناجم له في أرضها.

وكذلك نقول نفس الكلام في الأوراق النقديّة ، فقد ترتفع قيمتها نتيجة تحسّن الأوضاع الإقتصاديّة ، وقد تنزل قيمتها نتيجة تردّي الأوضاع الإقتصاديّة لأنّها اصبحت الآن بنفسها قيمة سوقيّة ، ويُقصد النقد بنفسه لأنّه مال ، وإن كان هذا المال اعتباريّاً ، وتدلّ عليه السيرة من قبل الناس والإعتبار في قياس قيمة كلّ شيء بالأوراق النقديّة ، ومعنى هذا أنّ النقد الورقي أصبح الآن عرضاً مطلوباً بنفسه وهو مال اعتباري.

إذن المشكلة التي يجب أن تبحث ليست مقتصرة على النقد الورقي ، وليست مختصّة بتدهور القيمة إلى النزول ، بل يجب أن تبحث المسألة في كلّ نقد سواء كان ورقياً أو معدنيّاً ، كما يجب أن تبحث في حالة تدهورها أو تحسّنها ، لأننا نرى إمكان تحسّن قيمة النقد الذهبي أو الفضّي أو الورقي أمراً متصوّراً وواقعاً حتّى في هذا الزمان بالنسبة للأوراق النقديّة للدول المتقدّمة من الناحية الإقتصاديّة ، كاليابان وأمريكا وأمثالهما ... كما يجب أن تبحث المسألة في اقتراض القرض الذي قد تنزل قيمته ، وقد ترتفع للأسباب المتقدّمة.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٢ ، باب ٩ من أبواب الصرف ، ح ١.

٣٨٨

جواب المشكلة :

إذا اقترض الفرد شيئاً من المثليّات المتقدّمة بأقسامها الثلاثة ، فبما أنّ القرض معناه : « تملّك الشيء مع ردّ عوضه في غير المجلس غالباً » أي حسب المدّة المتفقة بين الطرفين إن كانت. فهنا يكون المقترض قد أقدم على ضمان ما في ذمّته من هذا المثلي ، فلنفرض أن المقترض قد اقترض خمسة كيلوات من الحنطة لمدّة شهر واحد ، فهو مسؤول عن ضمان هذا المقدار المثلي بعد الشهر الواحد ، سواء كانت قيمة الحنطة قد ارتفعت نتيجة تدهور حالة الطقس وهجوم الجراد على المزارع ، أو كانت الدولة قد جمعت الحنطة لأجل تصديرها إلى دولة اُخرى ، أو قد جمعها المحتكر يترقّب بها الغلاء ، وقد تكون الحنطة قد تدهورت قيمتها نتيجة تحسّن الطقس وهبوط الأمطار الملائمة للزراعة ، أو استوردت الدولة كميّات كبيرة من الحنطة ، أو منعت وعاقبت المحتكرين فنزلت الحنطة من مستودعات المحتكرين إلى السوق. وكلّ الروايات الواردة في اقتراض المثليّات تؤكّد على وجوب ارجاع المثل ( بصفاته وقدره ) ، ولا توجد أي رواية تقول بوجوب ردّ عوض ما يمكن أن يشترى بالقرض في زمن القرض ، بل كلّ الروايات تقول بوجوب ردّ عوض القرض ( بصفاته وكميّته ). ونفس هذا الكلام نقوله بالنسبة للذهب والفضّة أو الأوراق النقديّة إذا كان أحدها هو المال المقتَرض. بل لا يخفى على علماء الإسلام أنّ وجوب ردّ أكثر ممّا اقترض من الناحية الكميّة أو من الناحية الوصفيّة هو الربا الذي نهانا عنه القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة ، فأنّى تذهبون ؟!

وقد يقال : إنّ الأوراق النقديّة أو الحنطة والسكر قد تنخفض قيمتها بعد شهر فيتضرّر المقرِض نتيجة معاملته هذه.

والجواب : إنّ هذا الضرر على فرض تحقّقه ، هو الذي أقدم عليه فلا يكون مضموناً على المقترض ، كما إنّ العكس قد يكون صحيحاً ، إذ قد ترتفع قيمة الأوراق النقديّة أو الحنطة أو السكّر ، فهل يصح في هذه الصورة أن يقال

٣٨٩

بوجوب أن يردّ المقترض أقلّ ممّا استقرض بحجّة إنّ القيمة الشرائيّة للمال المقترض قد ارتفعت ؟!! (١).

وعدم صحّة هذا القول : لأنّ القرض كما قلنا معناه « ردّ العوض » ، فإذا أخذ الفرد شيئاً ولم يردّ عوضه بل ردّ أكثر منه ، فهو قد ردّ « عوض ما يمكن أن يشتري به » ، وهذا ليس هو معنى القرض ، لأنّ القرض هو ردّ العوض المثلي ، لا رد ما يمكن أن يشترى به من أشياء.

نعم في صورة عدم وجود المثل عند الأداء لسبب من الأسباب ، فهنا يجب على المقترض أن يردّ الأقرب للمثل ، وحينئذ يجب عليه أن يردّ القيمة وقت الأداء لأنّها أقرب إلى المثل.

وأمّا إذا كان الشيء المقترض من القيميّات : فالقاعدة تقول بوجوب ردّ قيمة يوم قبضه ، لأنّ المقترض أقدم على ضمانه وردّه ، وبما أنّه ليس له مثل كما هو الفرض ، فهو مسؤول عن ردّ قيمته يوم تملّكه وهو يوم القبض.

تنبيهات :

الأوّل : « كلّ الروايات توجب إرجاع نفس المال المقترَض ».

عند مراجعتنا للروايات الواردة في القرض رأينا أنّها تشير إشارة عهديّة إلى وجوب رد المال المقترَض ، ومعنى ذلك أنّ كلّ الروايات تقول بأنّ المقترِض مسؤول عن ردّ ما أخذه من المقرِض ، والذي أخذه هو عبارة عن الشيء المثلي ( بكميّته وكيفيّته ) ، ولا توجد أي إشارة إلى وجوب رد قيمة ما يمكن أن يشترى به ، فلو كان وجوب ردّ ما يمكن أن يشترى به هو الحكم الشرعي لظهر ذلك في

__________________

(١) حينما كنت أكتب هذا الموضوع كان سعر الذهب في إيران للمثقال الواحد (٦٧٠٠) تومان ، وعلى حين غفلة من الناس أصدرت الحكومة موافقتها على قبول إتفاقيه (٥٩٨) الصادرة من منظمة الاُمم المتحدة ، وفجأة نزل الذهب فصار المثقال الواحد (٤٥٠٠) تومان ، ومعنى هذا تحسّن النقد الإيراني ، فهل نقول للمقترض قبل الإعلان بإرجاع أقل ممّا أخذ ؟!!

٣٩٠

أسئلة الرواة وأجوبة الأئمة أو النبي عليهم‌السلام ، فعدم انعكاس هذا في الروايات ولو على مستوى رواية واحدة يكون دليلاً كاشفاً عن أنّ إرجاع نفس المال المقترض سواء زادت قيمته السوقيّة أو نقصت هو المعتبر في عقد القرض.

بل الروايات الكثيرة المتواترة من الطرفين تؤكّد أنّ أي زيادة على المال المقترض بالنسبة إلى المقرِض ( سواء كانت الزيادة عينيّة أم حكميّة ) هي ربا إذا كانت على وجه الإلزام من قبل المقرِض بواسطة الشرط.

وإليك نموذج من الروايات :

١ ـ موثّقة موسى بن بكر ، قال : قال لي أبو الحسن عليه‌السلام : « من طلب هذا الرزق من حلّه ليعود به على نفسه وعياله كان كالمجاهد في سبيل الله ، فإن غلب عليه فليستدن على الله وعلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يقوت به عياله ، فإن مات ولم يقضه كان على الإمام عليه‌السلام قضاؤه ... » (١).

فلم تقل الرواية كان على الإمام قضاء قيمته أو قضاء ما يمكن أن يشترى به ، بل قال : كان على الإمام عليه‌السلام قضاء نفس الدين وهو ما اقترضه بمكيّته وصفاته.

٢ ـ رواية إبراهيم بن محمّد الأشعري في كتابه بإسناده عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « قبض علي عليه‌السلام وعليه دين ثمانمائة ألف درهم ، فباع الحسن عليه‌السلام ضيعة له بخمسمائة ألف فقضاها عنه ، وباع ضيعة له بثلاثمائة ألف فقضاها عنه ... » (٢).

وهذه الرواية قد صرّحت بوجوب وفاء نفس المال المقترض مع أنّ المال الفضّي قد تنزل قيمته وقد ترتفع ، إلاّ أنّ الواجب هو وفاء المثل لأنّه هو المال المقترض.

٣ ـ صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « إذا أقرضت الدراهم ثمّ

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٣ ، باب ٩٠ من أبواب الدين ، ح ٢.

(٢) وسائل الشيعة : ج ١٣ ، باب ٢ من أبواب الدين ، ح ١١.

٣٩١

أتاك بخير منها فلا بأس إذا لم يكن بينكما شرط » (١).

٤ ـ وصحيحة عبدالرحمان بن الحجّاج ، قال : « سألت الإمام الصادق عليه‌السلام عن الرجل يقترض من الرجل الدراهم فيردّ عليه المثقال أو يستقرض المثقال فيردّ عليه الدراهم ، فقال عليه‌السلام : إذا لم يكن شرط فلا بأس وذلك هو الفضل إنّ أبي عليه‌السلام كان يستقرض الدراهم الفسولة فيدخل عليه الدراهم الجياد الجلال ، فيقول : يا بني ردّها على الذي استقرضتها منه ، فأقول : يا أبه إنّ دراهمه كانت فسولة ، وهذه خيرمنها ، فيقول : يا بني إنّ هذا هو الفضل فأعطه إيّاها » (٢).

وواضح من هذه الرواية أنّ رد الأجود والأكثر يجوز إذا لم يكن بشرط ، وأمّا إذا كان بشرط فهو الربا ، وما نحن فيه أيضاً من قبيل الربا ، لأنّنا نعطي مائة دينار ونلزم المقترض بأن يرجع منها بحجّة أنّ القيمة الشرائيّة للمائة دينار قد نزلت ، بينما هذه الروايات مطلقة ، فيما إذا تنزلت القيمة الشرائية أوْ لا فإنّها تقول بعدم جواز ردّ أكثر ممّا اقترض.

الثاني : « شرع الله القرض للمحتاجين ، وجعل فيه ثواباً كثيراً ».

لا يخفى أنّ المسلم ينبغي أن يلتفت إلى الروايات الواردة في الإهتمام بهذا العقد وإستحبابه ، ومن خلال هذه الروايات يتكلّم في أنّ المقرِض هل استفاد في عقده هذا أو خسر شيئاً ، حتّى إذا نقصت القيمة الشرائيّة للنقد او العرض ؟ ولا يجوز لنا أن نبحث هذه المسألة « كالرأسماليّين والإشتراكيّين » ، بعيدين عن فضل هذا العقد عند الله سبحانه وتعالى كما ذكرت ذلك الروايات ، لأنّنا نكون بهذا العمل قد فصلنا بين المذهب الذي يرتكز عليه تشريع القرض وبين نفس التشريع.

فقد ورد في الروايات أنّ في القرض أجراً عظيماً ينشأ من معونة المحتاج

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٢ ، ب ١٢ من أبواب الصرف ، ح ٣.

(٢) وسائل الشيعة : ج ١٢ ، ب ١٢ من أبواب الصرف ، ح ٧.

٣٩٢

تطوّعاً ، وكشف كربة المسلم حتّى روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « القرض الواحد بثمانية عشر وإن مات حسبتها من الزكاة » (١) ، بينما نحن نعلم أنّ درهم الصدقة بعشرة.

وقد روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « لئن أقرض قرضاً أحبّ إليّ من أن أتصدّق بمثله » ، وكان يقول : « من أقرض مؤمناً وضرب له أجلاً فلم يؤت به عند ذلك الأجل كان له من الثوب في كلّ يوم يتأخّر عن ذلك الأجل بمثل صدقة دينار واحد في كلّ يوم » (٢).

وقد أكدت الروايات فضل هذا العقد بالنسبة للمؤمن حتّى قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من أقرض مؤمناً قرضاً ينظر به ميسوره كان ماله في زكاة ، وكان هو في صلاة من الملائكة حتّى يؤدّيه » (٣). وقال أيضاً صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من أقرض أخاه المسلم كان له بكلّ درهم أقرضه وزن جبل أحد من جبال رضوى وطور سيناء حسنات ، وإن رفق به في طلبه تُعدّي به على الصراط كالبرق الخاطف اللامع بغير حساب ولا عذاب ، ومن شكا إليه أخوه المسلم فلم يقرضه حرّم الله عزّ وجلّ عليه الجنّة يوم يجزي المحسنين » (٤). وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : « وما من مسلم أقرض مسلماً قرضاً حسناً يريد به وجه الله إلاّ حُسب له أجره كأجر الصدقة حتّى يرجع إليه » (٥).

ومع النظر إلى هذه الروايات وما يكسبه الإنسان من الثواب الكثير على حسب عقيدته في أنّ هذه الدنيا طريق إلى الآخرة فهل يعدّ متضرّراً إذا نزلت قيمة

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٣ ، باب ٦ من أبواب الدين ، ح ٤.

(٢) المصدر السابق ح ١.

(٣) المصدر السابق ح ٣.

(٤) وسائل الشيعة : ج ١٣ ، ب ٦ من أبواب الدين ، ح ٥.

(٥) وسائل الشيعة : ج ١٣ ، ب ٦ من أبواب الدين ، ح ١.

٣٩٣

ما أقرضه ؟ على أنّ النزول أمر احتمالي في بعض الأوقات وبعض البلدان ، كما أنّ احتمال زيادة القيمة الشرائيّة أيضاً وارد إذا توّفرت أسبابه السماويّة أو الأرضيّة.

إذن الواقع الفاسد الذي نعيشه نحن المسلمون ( من تطبيق النظم الرأسماليّة أو الإشتراكيّة ) في مجتمعنا يجب أن لا يجعلنا نغض النظر عن النصوص الشرعيّة ونأوّلها حتّى تنسجم مع الواقع الفاسد ( وهذا هو أوّل خطر نبّهنا عليه في المقدّمة ) فإذا كان الرأسمالي لا يعتقد بما يعتقد به المسلم من الجزاء والثواب في يوم القيامة على هذا العمل الذي شرّع للمحتاجين ، وكان الرأسمالي يبحث المسألة من ناحية نفعيّة ماديّة فقط ، فيجب أن لا ينساق المسلم ورائه في هذا المنهج العقيم ، إذ رسالتنا التي خطّها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تحتم علينا أن نربط بين أساس التشريع والتشريع لا أن نفصل بينهما ، على أنّ ما يقوله الرأسمالي هو نظر إلى شق واحد من المسألة وهي مسألة تنزل قيمة النقد ، أمّا الشقّ الآخر الذي هو أيضاً أمر متوقّع فلا ينظر إليه.

الثالث : « الإقتراض لغير حاجة مكروه في الشريعة الإسلاميّة ».

لا يخفى أنّ القرض لغير المحتاجين يكون ممّا نهى عنه الشارع المقدّس ، وحينئذ لا ينبغي للمسلم أن يقدم على قرض إذا لم يكن محتاجاً إليه ، وبهذا لا يكون للمقرِض في هذا القرض أي فضل يذكر ، فمن الروايات ما عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « أعوذ بالله من الكفر والدَيْن قيل يا رسول الله أتعدل الدَين بالكفر ؟ قال : نعم » (١). وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً ، قال : « ما الوجع إلاّ وجع العين ، وما الجهد إلاّ جهد الدَين » (٢). وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أيضاً ـ قال : « إيّاكم والدَيْن ، فإنّه شين الدِين » (٣). وقال علي عليه‌السلام : « إيّاكم والدَين فإنّه مذلّة بالنهار ومهمّة بالليل وقضاء في الدنيا

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٣ ، باب ١ من أبواب الدين ، ح ٧.

(٢) المصدر السابق ح ٩.

(٣) المصدر السابق ح ٢.

٣٩٤

وقضاء في الآخرة » (١). وقال علي عليه‌السلام : « إيّاكم والدين فإنّه همّ بالليل وذلّ بالنهار » (٢). وهذه الروايات وإن كانت مطلقة لكلّ دين ، إلاّ أنّ الروايات السابقة في فضل الدين إذا كان لحاجة تخصّص هذه الروايات في صورة القرض لا لحاجة.

إذن ، القرض الذي يستحصله التجّار لزيادة تجارتهم وأرباحهم ليس هو القرض الذي قالت عنه الروايات أنّه زكاة ، وأنّ الدرهم بثمانية عشر ، وهو القرض الذي يعود به الإنسان لرفع حاجته وحاجة عياله ، وإذا كان هذا القرض الذي لا لحاجة ليس فيه ثواب فلا حاجة للبنوك أن تفتح لها سجلاًّ وتطالب بالزيادة على ما تقرض بالحجّة المتقدّمة ، فإنّ هذا القرض ممّا نهي عنه شرعاً فلا حاجة إلى سلوكه وإن كان النهي كراهيّتاً.

المشكلة الثانية : (٣)

فهنا ـ أيضاً ـ لا نرى أي مشكلة تذكر حيث أنّ البائع عندما باع ورضي أن يكون الثمن مؤجلاً إلى سنة مثلاً ، فهو يحتمل على أقل تقدير أن تنخفض قيمة النقد أو العرض ، كما يحتمل أن ترتفع ، ومع هذا هو راض بأن تكون له في ذمّة المشتري هذه الكميّة من النقود أو العروض المثليّة أو القيميّة ، وحينئذ يكون احتمال انخفاضها وارتفاعها غير مضرٍّ بالعقد وصحّته ، ولا يضمن المشتري هذه القلّة المحتملة إن حدثت.

ثمّ إنّ التاجر الذي يبيع شيئاً من التمر بكميّة من النقد الورقي بعد سنة مثلاً أو ستة أشهر ، فهو قد حسب حساب المدّة التي تكون فاصلة بين دفع التمر وبين إستلام النقد ، وبما أنّ للأجل قسطاً من الثمن فإنّ التاجر سوف يبيع تمره « الّذي

__________________

(١) المصدر السابق ح ٤.

(٢) وسائل الشيعة : ج ١٣ ، باب ١ من أبواب الدين ، ح ٣.

(٣) « وهي كيفيّة الوفاء للثمن المؤجّل إذا تغيّرت قيمة النقد ».

٣٩٥

يساوي خمسين ديناراً » بسبعين ديناراً يستلمها بعد ستّة أشهر مثلاً ، وبعد هذه العمليّة من قبل التاجر ، لماذا نقول يجب تدارك الضرر الذي وقع على البائع نتيجة نقصان الثمن بسبب التضخّم ؟! على أنّ التضخّم الذي نجده في بعض البلدان لا نقطع باستمراره على مدى السنين والأيّام ، إذ من الممكن أن يتحسّن اقتصاد الدولة ويكثر انتاجها فيقف التضّخم ، أو يتحسّن نقدها كما حدث لبعض بلدان العالم.

وكما قلنا سابقاً ـ أيضاً ـ إنّ ازدياد قيمة النقد الذهبي أو الفضّي أو الورقي أو إزدياد قيمة القرض هو محتمل أيضاً نتيجة لفعل السماء أو فعل الإنسان ، فكما في صورة تحسّن قيمة النقد لا يكون المشتري مسؤولاً عن قيمة النقد سابقاً وإنّما هو مسؤول عن نفس النقد ، كذلك في صورة نقيصة قيمة النقد أو القرض يكون المشتري مسؤولاً عمّا في ذمّته من النقد أو القرض.

ثمّ إنّ المشتري عندما يشتري شيئاً على أن يكون ثمنه مؤجلاً إلى ستّة أشهر ، ففي الحقيقة أنّ البائع يملك في ذمّة المشتري هذه الكميّة من النقود حين حلول الأجل ، ومعنى ذلك أنّه لا يملكها حين العقد ملكيّة مطلقة حتّى يستوجب أن يقول : إنّ قيمة هذه النقود حين العقد كان أكبر من القيمة الشرائيّة حين الأجل فيطالب بالزيادة على حسب القيمة الشرائيّة حين العقد ، إذ أنّه يملكها ملكيّة مقيّدة بالأجل « بعد ستة أشهر » فهو كأنّه يملك قيمة النقود حين الأجل ، لا حين العقد ، وبهذا تبطل المشكلة المتصوّرة هنا بالكليّة ، وعلى فرض وجود تصوّر المشكلة نقول :

إنّ البائع والمشتري أقدما على أن يكون المشتري ضامناً لكميّة النقد أو القرض ، وقد أقرّ الشارع هذه المعاملة ، ولا يوجد أي نص يقول إنّ على المشتري أن يدفع القيمة الشرائيّة للنقد أو للقرض فيتحمل النقص إذا نقصت القيمة الشرائيّة ، على أنّ لازم هذا القول أن نقول بأنّ القيمة الشرائيّة للنقد إذا تحسّنت فيجوز للمشتري أن يدفع أقل ممّا اتفقا عليه وإن لم يرض البائع ، وهذا ممّا لم يقل به أحد من الفقهاء.

٣٩٦

إذن عدم وجود أي نص على وجوب أن يدفع المشتري القيمة الشرائيّة للثمن حين العقد ، ووجود الإمضاء الشرعي على وجوب رد نفس الثمن المتفق عليه بين الطرفين حين الأجل ، دليل على أنّ الواجب هو الأداء بنفس كميّة الثمن ( سواء كان نقداً أو عروضاً ) سواء نزلت القيمة الشرائيّة أو ارتفعت أو بقيت كذلك من دون زيادة أو نقصان.

الإستدلال بالأولويّة :

ويمكن أن يستدلّ لما قلناه بالأولويّة المستخرجة من مسألة في الغصب أو الجحود وهي :

مسألة : إذا غصب أحد من آخر مالاً أو جحده عليه ، ثمّ وقع بيد المجحود أو المغصوب مال الآخر فما هو الحكم ؟

الروايات هنا كثيرة تقول بجواز أخذ مقدار المال المغصوب أو المجحود لا أكثر ، ومن هذه الروايات نفهم الحكم في القرض والبيع نسيئة ، إذ أنّ الصورة الاُولى وهي الصورة الغصبيّة والإعتدائيّة المحرّمة لم يُجِز الشارع إلاّ أخذ مقدار المال المغصوب أو المجحود لا أكثر ، فكيف بصورة القرض الذي حدث برضا المقرِض ولم يكن هناك اعتداء من المقترض ، وكذا الأمر في البيع الذي يكون فيه الثمن مؤجلاً ، إذن بالأولويّة يكون الحكم هو ردّ مثل المال المقترض أو قيمته وقت القرض. واليك الروايات :

١ ـ صحيحة أبي العبّاس البقباق : « إنّ شهاباً ما راه في رجل ذهب له بألف درهم واستودعه بعد ذلك ألف درهم ، قال أبو العبّاس فقلت له : خذها مكان الألف التي أخذ منك ، فأبى شهاب ، قال : فدخل شهاب على أبي عبدالله عليه‌السلام فذكر له ذلك ، فقال : أمّا أنا فأحب أن تأخذ وتحلف » (١).

٢ ـ صحيحة ابن مسكان عن أبي بكر الحضرمي ، قال : « قلت له ( للإمام

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٢ ، باب ٨٢ من أبواب ما يكتسب به ، ح ٢.

٣٩٧

الصادق عليه‌السلام ) رجل لي عليه دراهم فجحدني وحلف عليها ، أيجوز لي إن وقع له قبلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقّي ؟ قال : فقال : نعم ولكن لهذا كلام ، قلت : وما هو ؟ قال : تقول اللّهمّ إنّي لم آخذه ظلماً ولا خيانة وإنّما أخذته مكان مالي الذي أخذ منّي لم أزدد عليه شيئاً » (١).

٣ ـ صحيحة محمّد بن عيسى ، عن علي بن سليمان ، قال : « كتبت إليه ( الإمام الكاظم عليه‌السلام أو الرضا عليه‌السلام ) رجل غصب مالاً أو جارية ، ثمّ وقع عنده مال بسبب وديعة أو قرض مثل ما خانه أو غصبه أيحلّ له حبسه عليه أم لا ؟ فكتب : نعم يحلّ له ذلك إن كان بقدر حقّه ، وإن كان أكثر فيأخذ منه ما كان عليه ويسلّم الباقي إليه إن شاء الله » (٢). وبما أنّ النقد الورقي في هذا الزمان هو مال فلا يفترق حكمه عن حكم أي عرض آخر سواء كان ذهباً أو غيره.

بحث اقتصادي ( تاريخ النقد )

ثمّ إننّا لا بأس لنا أن نبحث المسألة بحثاً اقتصاديّاً فنقول :

كان الإنسان في بداية حياته هو الذي يوفّر جميع ما يحتاج إليه من حاجات ، ولكن حين تنوعّت حاجات الفرد وتعدّدت السلع لم يكن ممكناً للإنسان الواحد أن ينتجها بكاملها ، ولذا اضطرّ المجتمع إلى تقسيم العمل بين الأفراد ، فأخذ كلّ فرد أو فئة بانتاج سلعة ما ، وبدأ الإنسان يعطي ما أنتجه ويأخذ ما أنتجه غيره إذا كان محتاجاً إليه. وهكذا وجدت المبادلة كوسيط بين الإنتاج والإستهلاك ، ولكن لهذه الحالة تعقيداتها ، إذ من الصعب تبادل المنتوجات مباشرة إذ أنّ صاحب الجمل إذا احتاج في حياته إلى صوف مثلاً فهو لا يستطيع الحصول عليه من منتج الصوف في

__________________

(١) المصدر السابق ح ٤.

(٢) المصدر السابق ح ٩.

٣٩٨

مقابل الجمل إلاّ إن كان صاحب الصوف بدوره محتاجاً إلى جمل وكان الصوف كثيراً بحيث يقابل قيمة الجمل ، وهكذا بقيّة الاُمور التي هي مورد حاجة الإنسان ، وحينئذ كان اختراع النقد الذهبي والفضّي علاجاً لهذه المشاكل ، فكان للنقد دوره الأصيل وهو :

١ ـ القيام بدور المقياس العام للقيمة ، وأصبح من الميسور تقدير قيم السلع بسهولة.

٢ ـ أصبح أداة للمبادلة.

وبهذا العلاج أصبح عندنا مبادلتان بدل المبادلة الواحدة ، فصاحب الجمل يبيع جمله بمائة دينار ، ثمّ يشتري بعشرة دنانير الصوف الذي يحتاجه. وبهذا زالت جميع صعوبات المقايضة ، وهذا هو الدور الأصيل للنقد.

ولا بأس بالتنبيه إلى أنّ اختراع النقد كان بواسطة الإنسان ، والله سبحانه وتعالى خلق معدن الذهب والفضّة كبقيّة المعادن وبقيّة الأعراض ، ففيهما فائدة في نفسهما كبقيّة المعادن ، وحينئذ يكون الذهب والفضّة عرضاً من الأعراض ونقداً ، وبهذا يختلفان عن الأوراق النقديّة ، حيث أنّها تحمل صفة النقد ولا تحمل صفة العَرَضيّة ، ثمّ إنّ كلّ من قال بأنّ الذهب والفضّة خلقهما الله ثمناً وهما حجران لا منفعة في أعيانهما ، لا دليل له يقدّمه على كلامه بل الوجدان يقضي بخلاف ذلك ، إذ أنّهما زينة ويستعملان كعرض من الأعراض في حياة الإنسان المترفة كتزيين السقوف وصنع الأواني وأدوات الحلاقة وغير ذلك ممّا يحتاجه الإنسان من بقيّة المعادن.

خروج النقد عن دوره الأصيل :

وقد خرج النقد الذهبي والفضّي عن دوره الأصيل الذي وجد لأجله وهو دور « المقياس العام للقيمة وأداة المبادلة » نتيجة ظلم الإنسان ، فحدثت مفاسد من هذا الأمر ، وتوضيح ذلك :

٣٩٩

لقد استخدم النقد للقيام بدور طاريء لم يوجد لأجله وهو دور ( الإدخار والإكتناز ) فقد أخذ الإنسان يبيع سلعته لا لحاجة له بسلعة اُخرى يشتريها ، بل لأجل أن يحوّل سلعته إلى نقد يختزنه لوقت الحاجة ( إذ أصبح النقد هو الوكيل العام عن السلع ) ، وهذا معناه أنّ البيع لم يوجد لأجل الشراء المحتاج إليه في الإنتاج أو الإستهلاك ، وإنّما وجد البيع لأجل أن يمتص النقود فيختزنها ( إذ هي قابلة للإختزان من دون نقص في قيمتها ، ولا يحتاج إدخارها إلى نفقات بعكس إدخار السلع ) ، وهذا هو الدور الطاريء للنقد حيث أصبح النقد وسيطاً بين الإنتاج والإدّخار.

ومعنى هذا الدور أن المشتري ـ الذي اشترى سلعة ودفع نقداً فادخره البائع ـ لم يتمكّن أن يبيع منتوجه ، لأنّ البائع قد اكتنز النقد وسُحِبَ من مجال التداول فظهر الإختلال في توازن العرض والطلب الذي كانا متساويين في عصر المبادلة.

ثمّ إنّ الإختلال في توازن العرض والطلب يؤدّي إلى الكساد وعدم تصريف السلعة ، وهذا بدوره سوف يؤدّي إلى الإستغناء عن بعض العمّال وسدّ بعض المعامل فتحدث البطالة التي تعاني منها السوق الرأسماليّة.

ثمّ لم تقف المفاسد عند هذا الحدّ ، إذ قد يأتي المحتكر الذي اكتنز النقد ، ويخلق طلباً كاذباً فيشتري كلّ أفراد السلعة من السوق لا لحاجة إليها بل ليرفع ثمنها ، أو يعرض السلعة بأثمان دون كلفتها بقصد إلجاء المنتجين والبائعين الآخرين إلى الإنسحاب من ميدان التنافس وإعلان الإفلاس ، وبهذا تصبح الأثمان غير حقيقيّة وتكون السوق تحت رحمة المحتكرين ، ويسقط آلاف المنتجين والبائعين الصغار فريسة المحتكرين الكبار.

ثمّ يبقى المكتنز والمحتكر يبيع لأجل الإكتناز ، وبهذا يسحب النقد من مجال التداول وبهذا يقل الإستهلاك أو يتوقّف لإنخفاض المستوى الإقتصادي للجمهور ، وبهذا تقل أو تتعطّل حركة الإنتاج لعدم وجود القدرة الشرائيّة عند

٤٠٠