بحوث في الفقه المعاصر - ج ١

الشيخ حسن الجواهري

بحوث في الفقه المعاصر - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن الجواهري


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الذخائر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٣
  الجزء ١   الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الملائكة حتى يؤديه » (١).

٣ ـ عن الفضيل قال : قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « ما من مسلم أقرض مسلما قرضا حسنا يريد به وجه الله الا حسب له أجرها كحساب الصدقة حتى يرجع اليه » (٢).

٤ ـ عن هيثم الصيرفي وغيره عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « القرض الواحد بثمانية عشر ، وان مات حسبتها من الزكاة » (٣).

ولعل السرّ في ترجيح ثواب القرض على ثواب الصدقة ـ حيث ان ثواب الصدقة الواحدة بعشر ـ ما ذكره الشهيد الثاني في كتاب شرح اللمعة الدمشقية : « إن الصدقة تقع في يد المحتاج وغيره والقرض لا يقع إلاّ في يد المحتاج غالباً ، وأن درهم القرض يعود فيقرض ثانياً ودرهم الصدقة لا يعود » (٤). وهذا التعليل وجيه لترجيح القرض على الصدقة مع كون كلا العقدين يقصد بهما وجه الله تعالى ، فان الانسان إن امكنه ان ينفع اكثر من واحد بماله ويعود اليه سالما يكون أفضل من نفع فرد واحد ولا يعود اليه المال ، كما ان البر الاكمل أن يقع المال في يد المحتاج فهو أفضل من وقوعه في يد غير المحتاج.

٥ ـ وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « ومن اقرض أخاه المسلم كان له بكل درهم أقرضه وزن جبل اُحد من جبال رضوى وطور سيناء حسنات ، وان رفق به في طلبه تُعُدِّي ( جاز ) به على الصراط كالبرق الخاطف اللامع بغير حساب ولا عذاب ، ومن شكا اليه أخوه المسلم فلم يقرضه حرَّم الله ـ عزوجل ـ عليه الجنة يوم يجزي المحسنين » (٥).

__________________

(١) المصدر السابق ، ح ٣.

(٢) نفس المصدر السابق ، ح ٢ ، ص ٨٧.

(٣) نفس المصدر السابق ، ح ٤ ، ص ٨٧.

(٤) اللمعة الدمشقية ، ج ٤ ، ص ١٢.

(٥) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، باب ٦ من ابواب الدَّين ، ح ٥ ، ص ٨٨.

١٤١

٦ ـ عن الإمام الصادق عليه‌السلام في قول الله عزوجل ( إنّا نراك من المحسنين ) قال : « كان يوسع المجلس ، ويستقرض للمحتاج ، ويعين الضعيف » (١). وواضح ان نفس عملية الاقراض هي اولى من الاستقراض فيكون المقرض داخلا في المحسنين.

٧ ـ عن عبدالله بن سنان قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله « الف درهم أقرضها مرتين أحبّ الي من أن اتصدق بها مرة » (٢).

وهذه الروايات المتقدمة بعضها مقيد بقصد القربة كما في الرواية الثالثة ، واما الباقي ، فان قلنا إنها روايات مطلقة حتى لصورة عدم قصد القربة ، فهنا يكون الثواب من الله تعالى على المقرض تفضلا ، وقد يقع الفضل من الله تعالى على كثير من فاعلي البر من غير اعتبار القربة كالكرم الذي يصدر من الكرماء.

ملاحظة : إن هذه الروايات المتقدمة كلها تذكر ( القرض ) كمصداق من مصاديق الدَّين ، وتخص الثواب على هذا المصداق فقط ، فيكون الدائن اذا كان مقرضا هو الحاصل على الثواب العظيم ، فكل ما صدق عليه من الدَّين أنه قرض كانت له هذه النتيجة وإلاّ فلا اقتصار على مورد الروايات.

وقد نقول في مصاديق الدَّين غير القرضية (٣) ، اذا انتظر الدائن مدينه في

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، باب ٤ من احكام العشرة ، ح ١ ، ص ٩٠.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ١١٣ ، باب ٢٥ من أبواب الدَّين.

(٣) إن مصادر الدَّين كثيرة منها :

أ ـ العقد ، كالقرض الذي يلتزم به المقترض أن يرد للمقرض مبلغا من النقد أو شيئا آخر مثلياً او قيمياً ( إن دَين القيمي صحيح عندنا ، ولكن يردّ المقترض قيمة ما اقترضه من القيمي حين القرض ). وكالبيع اذا كان الثمن نقودا او عينا كلية يلتزم المشتري أن يدفعه للبائع بعد مدة معينة ، وكبيع السلم ، فأن المبيع دَين ، وكثمن بيع النسيئة.

ب ـ الارادة المنفردة ك‍ ( النذر والوصية والهبة ).

ج ـ الضمان الذي ينشأ من غير عقد كغصب او سرقة او إتلاف ، فيكون كل الدَّين عوض هذه الاشياء في

١٤٢

سداد دينه ولم يعاجله في اداء الدَّين ، وكان قصده مساعدة المدين ، وايثارا له على نفسه ، كان ايضا ذا ثواب من الله إلاّ أن هذا الثواب قد لا يكون من سنخ ثواب القرض الذي هو بثمانية عشر ، حيث إن روايات ثواب الثمانية عشر قد خصصته بالقروض وهو احد مصاديق الدَّين.

الخلاصة :

إن القرض والدَّين بصورة عامة اذا انتظر فيه الدائن مدينه ، فيه نوع رعاية واحسان لمن عليه الدَّين ، فقد يكون ايثارا من قبل الدائن وقد يكون مخاطرة لنفع المدين ، وهذا الايثار والمخاطرة لهما قيمتهما الخلقية والانسانية ، لذا حقَّ لمن يعمل هذا الاحسان أن يحصل على مكافأة من الله سبحانه الذي يحب الاحسان الى العباد ، وان لم يقصد الانسان القربة فان الله سبحانه يثيب من يفعل البِرّ وان لم يكن لوجه الكريم.

ومع هذا كله فان الاسلام لم يرَ للإيثار والمخاطرة قيمة اقتصادية ، فلم يجعلهما طريقامن طرق الكسب التجاري ، حيث إن طرق الكسب في التشريع الاسلامي هي اما العمل المباشر من الافراد ، او العمل المختزن الذي هو بصورة سلعة او عين اُنفق

__________________

صورة تلفها ، وهذا العوض قد يكون نقودا وقد يكون عيناً مثلية.

د ـ الاثراء بلا سبب : وله امثلة كثيرة منها ، كمن دفع شيئا لآخر ظاناً أن الدفع واجب عليه ، فتبين عدم وجوبه ، فللدافع الرجوع به على من قبضه بغير حق ، فاذا كان هذا الشيء نقودا او مثليات قد تلفت ، او قيميات كذلك ، كان رجوع الدافع على المدفوع اليه هو عبارة عن وجود دَين للدافع بذمة المدفوع اليه ، وكذا اذا تعامل شخص بالربا او بكل عقد باطل لا يعلمه الدافع كأن آجر بيتنا بخمسين دينارا وآجره لغيره باكثر من ذلك من دون ان يعمل فيه عملا ، فالعقد الثاني باطل لا يستحق المستأجر الإثراء بواسطته ويجب عليه أن يرد الزائد على الخمسين دينارا الى المستأجر الثاني ، وعلى هذا يكون المستأجر الاول مديناً للمستأجر الثاني بالزائد على الخمسين دينارا.

ه‍ ـ نفقة الزوجة ، فان الزوج إن لم يقم بها تبقى ديناً في ذمّة الزوج لها.

و ـ الشارع قد يجعل شيئاً ديناً كما في النجوم والاقساط المقررة في الدية الخطأية او شبه العمدية.

ز ـ وقد يكون الدَّين صداقا وفي النكاح مؤجلا لمدة معينة ، وعوضاً عن الخلع كذلك.

وقد يكون الدَّين غير ذلك ، فان هذه الأمثلة ليست للحصر.

١٤٣

عليها عمل من الآخرين ، لذا حرَّم القرآن والسنة النبوية أخذ الفائدة على القرض الذي هو ليس إلاّ إحسان او مخاطرة بالمال الى التلف او إيثار للآخرين على النفس ، فالإحسان والمخاطرة والإيثار ليست مصدرا من مصادر التكسب في التشريع الإسلامي ، وإنما هي حالات شعورية ذاتية تستحق التقدير والإعجاب في اكثر الحالات فيستحق صاحبها ثواباً من الله تعالى.

اما المستقرض فحاله مردّدبين الجواز والكراهة والوجوب ؛ فان كان استقراضه للطاعة ( العمل العبادي ) فهو جائز لما فيه من الطاعة التي يحصل عليها فانها تجبر المنّة والذل الذي كان في عملية الاستقراض فكأن عمله القرضي ليس فيه حزازة.

وأما إذا كان محتاجا الى الاستقراض فان هذا الاحتياج يسَوّغ له ذلك العمل الذي رغَّب عنه الشارع المقدس.

وأما اذا كان غير محتاج الى الاستقراض وليس استقراضه للعمل العبادي ، ومع هذا يقدم على عملية الاستقراض لتوسيع نطاق تجارته مثلا ، فهو عمل مكروه لما فيه من المنّة التي تحصل من قبل المقرض وليس في مقابلها عمل عبادي ، وانما في مقابلها عمل دنيوي وهو الربح المأمول ، وهذا لا يجبر الذل الذي يحصل عليه الانسان من عملية الاستقراض ، لذلك كان العمل فيه حزازة الكراهة الاصطلاحية.

النظرية الغربية للتداين :

والمراد بها النظرية غير الاسلامية ، ويمكننا أن نوضح هذه النظرية بعرض رأي ثلاث مدارس رأسمالية بالنسبة الى الدَّين :

١ ـ المدرسة الكلاسيكية ونظرها الى التداين.

٢ ـ المدرسة الكينزية ونظرها الى التداين.

٣ ـ مدرسة ثالثة.

اما المدرسة الاُولى : فانها تنظر الى أن الدائن قد أخّر تمتعه الآني الحالي الى أجل « والفرد لا يقبل بهذه التضحية ، بهذا التأخير إلاّ اذا كان يأمل ان يكون

١٤٤

الاشباع او التمتع في المستقبل اكبر من التمتع الحالي » (١).

أما في المدرسة الثانية : فقد عرّف كينز الفائدة بأنها : « ثمن النقود ، أي ثمن النزول عن السيولة » (٢) وبما أن السيولة النقدية يزداد الطلب عليها لأسباب متعددة فان من يتنازل عن السيولة قد ضحى بها ، ومن حقه أن يطلب فائدة على تضحيته بهذه السيولة النقدية لماله.

ومن الواضح أن مقصود كينز هو التنازل عن السيولة لمدة معينة يتفقان عليها ، حيث إن المال يرجع الى صاحبه بعد المدة بسيولته ، فليست الفائدة هي التنازل عن السيولة مطلقا ، ومن الواضح أن المدرستين تتفقان في تسويغ الفائدة للدائن على اساس الايثار من الدائن الى المدين.

اما المدرسة الثالثة : فهي تسوّغ الفائدة على أساس أنها مخاطرة أقدم عليها الدائن قد تفقده ماله اذا عجز المدين في المستقبل عن الوفاء وتنكّب له الحظ ، فكان من حق الدائن أن يحصل على أجر ومكافأة على مغامرته بماله لأجل المدين وهي الفائدة.

وأما المدين فبالعكس قد حصل على التمتع الحالي بدلا من التمتع في المستقبل ، والتمتع الحالي يُفضَّل على التمتع في المستقبل ، كما أنه قد حصل على السيولة النقدية المالية بدلا عن السيولة المستقبلية حسب رأي المدرسة الكينزية ، فمن واجبه ان يدفع أجرا لقاء هذه المكافأة التي قدمت له من غيره.

نقول : لقد قلنا سابقا ان الايثار والمخاطرة ليسا من عوامل الكسب في النظرية الاسلامية حيث إنهما ليسابسلعة يقدمانها حتى يطلب ثمنها ، وليسا هما عملا قد انفق على مادة ليكون من حقهما تملكها او المطالبة بأجر على ذلك من مالكها. فقد ذكر السيد الشهيد الصدر رحمه‌الله أن المخاطرة : « انما هي حالة شعورية خاصة تغمر الانسان وهو يحاول الاقدام على أمر يخاف عواقبه ، فاما أن يتراجع انسياقا مع

__________________

(١) الدخل القومي والاستثمار ، د. خزعل البيرماني ، ص ١٦٥.

(٢) الاقتصاد السياسي ، د. رفعة المحجوب ، ج ١ ، ص ٤٢٩.

١٤٥

خوفه ، واما أن يتغلب على دوافع الخوف ويواصل تصميمه فيكون هو الذي رسم لنفسه الطريق ، واختار ـ بملء ارادته ـ تحمُّل مشاكل الخوف بالاقدام على مشروع يحتمل خسارته مثلا ، فليس من حقه أن يطالب بعد ذلك بتعويض مادي عن هذا الخوف مادام شعوراً ذاتيا وليس عملا مجسدا في مادة ولا سلعة منتجة. صحيح أن التغلب على الخوف في بعض الاحيان قد يكون ذا أهمية كبيرة من الناحية النفسية والخلقية ، ولكن التقييم الخلقي شيء والتقييم الاقتصادي شيء آخر » (١).

ونفس هذا الكلام يقال عن الإيثار الذي هو شعور ذاتي إن لم يكن هو نفس المخاطرة بمنظار دقيق.

ثم إن في الشريعة الاسلامية عدة ظواهر تبرهن على الموقف السلبي من المخاطرة في تسويغ الكسب ، فمن ذلك : حرمة القمار وحرمة الشركة في الابدان ، فان القمار يرتكز على اساس المخاطرة وحدها ، فالفائز يحصل على الرهان لانه غامر بماله وأقدم على دفع الرهان لخصمه اذا خسر الصفقة ، او قل آثر غيره بماله اذا خسر الصفقة.

وأما الشركة في الابدان فهي عبارة عن اتفاق اثنين أو اكثر على ممارسة كل واحد منهم عمله الخاص ، والاشتراك فيما يحصلون عليه من مكاسب ( كما اذا قرر طبيبان ان يمارس كل واحد منهما عمله في عيادته ، ويحصل في نهاية الشهر مثلا على نصف مجموع الاجور التي كسبها الطبيبان معاً خلال ذلك الشهر ) فان إلغاء هذه الشركة مردّه الى كون الكسب قائما فيها على اساس عنصر المخاطرة لا العمل ، لأنَّ كسب الطبيب الأقل دخلا ينبع من عنصر المخاطرة ولا يرتكز على عمل منفق.

وبهذا اتضح الفرق بين النظرة الاسلامية للدَّين ، والنظرة المخالفة ، إذ إن الرأسمالية لا تعترف بوجود قيم واخلاق في المجتمع (٢).

__________________

(١) اقتصادنا ، ج ٢ ، ص ٦٣٣ ـ ٦٣٤ ، من الطبعة السابعة عشرة ، طبعة دارالتعارف ببيروت.

(٢) راجع المحلق في آخر الكتاب.

١٤٦

١٤٧
١٤٨

لمعرفة نظرية الذمّة في الفقه الاسلامي ، نعرض : ـ

١ ـ ما قاله علماء غير الشيعة فيها.

٢ ـ نعرض ما قاله علماء الشيعة في الذمّة.

٣ ـ ثم نتكلم فيما تخرب به الذمّة إن كان هناك شيء تخرب به.

١ ـ نظرية الذمّة عند علماء غير الشيعة :

اولاً : ذكر السنهوري في الجزء الاول من كتابه ( مصادر الحق ) ان الذمّة هي : « وصف شرعي يفترض الشارع وجوده في الانسان ، ويصير به اهلاً للالزام وللالتزام ، اي صالحا لان تكون له حقوق وعليه واجبات. ولما كانت هذه الصلاحية التي ترتبت على ثبوت الذمّة يسميها الفقهاء بأهلية الوجوب ـ إذ يعرفون هذه الأهلية بأنها : صلاحية الانسان للحقوق الواجبات المشروعة ـ فان الصلة ما بين الذمّة وأهلية الوجوب صلة وثيقة. فالذمّة هي كون الانسان صالحا لان تكون له حقوق وعليه واجبات. وأهلية الوجوب هي هذه الصلاحية ذاتها. والذمّة تلازم الانسان ، إذ يولد الانسان وله ذمّة بحكم أنه انسان ، ومن ثم تثبت له أهلية الوجوب. فأهلية الوجوب إذن تترتب على وجوب الذمّة.

ولا يقتصر الفقه الاسلامي في الذمَّة على ما في الانسان من الصلاحية

١٤٩

للتملك والكسب اي على نشاطه الاقتصادي فحسب ، بل الذمّة وصف تصدر عنه الحقوق والواجبات جميعها وان لم تكن مالية كالصلاة والصيام والحج ، او كانت مالية ذات صبغة دينية كالزكاة وصدقة الفطر والعشر والخراج. ومن ثم كان نطاق الذمّة واسعاً في الفقه الاسلامي حتى قال صاحب كتاب فخر الاسلام ( اليزدوي ) إن الذمّة لا يراد بها إلاّ نفس الانسان.

وتبدأ الذمّة ببدء حياة الانسان وهو جنين ، فتكون له ذمّة قاصرة ، إذ يجوز أن يرث وأن يوصى له وأن يوقف عليه. ثم يولد حيّاً فتتكامل ذمّته شيئاً فشيئاً في المعاملات والعبادات والحدود حتى تصير كاملة ، وتبقى ذمّة الانسان ما بقي حيّا وتنتهي بموته ، وانتهاء الذمّة بالموت تختلف فيه المذاهب » (١).

وهذا المعنى الذي ذكره السنهوري مأخوذ من تعاريف علماء السنة ( أهل العامة ) للذمّة ؛ فقد قال صاحب تنقيح الاصول إن الذمّة : « وصف شرعي يصير به الانسان اهلا لما له وما عليه » (٢). وقد عرَّفها صاحب حاشية الحموي على الاشباه والنظائر بانها : « امر شرعي مقدر وجوده في الانسان يقبل الالزام والالتزام » (٣).

ويعلل صاحب كتاب ( مرآة الاصول ) ما تقدم بما خلاصته : « ان الله تعالى قد ميّز الانسان عن سائر الحيوان بخصوصية من قوى ومشاعر كانت سبباً في أهليَّته لوجوب أشياء له وعليه ، فتلك الخصوصية هي المراد بالذمّة » (٤).

والملاحظ على هذه التعاريف اُمور كثيرة منها :

١ ـ ما ذكره الاُستاذ مصطفى الزرقاء من ان هذه التعاريف تجعل الذمّة ملازمة لأهلية الوجوب مع اننا نعرف أن اهلية الوجوب كما يصطلح عليها العلماء

__________________

(١) مصادر الحق ، السنهوري ، ج ١ ، ص ٢٠ ـ ٢١.

(٢) ج ٣ ، ١٥٢ عن الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد لمصطفى الزرقاء ، ج ٣ ، ص ٢١٢.

(٣) ج ٣ / ٢١٠ عن الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد ، لمصطفى الزرقاء ، ج ٣ ، ص ٢١٢.

(٤) للعلامة ملا خسرو ( بحث المحكوم عليه ص ٣٢١ ) عن الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد ، ج ٣ ، ص ٢١٧.

١٥٠

هي ( قابلية الانسان لثبوت الحقوق له وعليه ) ويعبَّر عنها بصلاحية الالزام والالتزام. فصلاحية الالزام وهي قابلية الانسان لثبوت الحقوق له هي ثابتة منذ كونه جنينا كما ذكر ذلك الفقهاء فقالوا بصلاحية الجنين لان يوصى له او يوهب او يملك او يرث ، وهذا متفق عليه. واما صلاحية الالتزام اي ثبوت الحقوق عليه فهي تتوقف على أمرين :

أ ـ أهلية ( قابلية ) الانسان لأن تجب عليه حقوق.

ب ـ محل مقدّر يتسع لاستقرار تلك الحقوق فيه.

وفي الحقيقة ، ان الذمّة هي الامر الثاني من الأمرين ، وإن كان الامران متلازمين في الوجود ، ولكنهما متغايران في المفهوم ، فانه يلزم من كون الشخص أهلا لتحمل الحقوق أن يكون في شخصه مستقر ومستودع لها ، واذا كان للشخص مستودع ومحل للحقوق ثبت كونه اهلا للتحمل. إذن متى اعتبرت للشخص اهلية التحمل شرعا اعتُبرت له ذمّة ، ومتى اُعتُبرت له ذمّة اعتُبرتا له أهلية التحمل ، ولكن ليست تلك الاهلية هي الذمة نفسها ، بل بينهما من الفرق ما بين معنى القابلية ومعنى المحل (١).

والدليل على التغاير في المفهوم مع التلازم في الوجود بين مفهومي الذمّة وأهلية التحمل هو أن الفقهاء في عباراتهم يصورون الحق والذمّة في صورة الشاغل والمشغول ، فيقولون : « إن ذمّته مشغولة بكذا » ويقولون : « إن الدَّين في الذمّة وصف شاغل لها » فهذا يفيد ان الذمّة غير أهلية الوجوب التي هي مجرد قابلية ، فلا يصح أن يقال مثلا : « إن أهليته او قابليته مشغولة بالدَّين » (٢).

٢ ـ ويمكن ان يورد على السنهوري ايراد آخر وهو مخالفة ما ذكره لما قاله

__________________

(١) الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد ، ج ٣ ، ص ٢١٣ ـ ٢١٤.

(٢) الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد ، ج ٣ ، ص ٢١٣ ـ ٢١٤.

١٥١

صاحب كتاب فخر الاسلام ( اليزدوي ) اذ ذكر أن الجنين ليس له ذمّة فقال : « إن ولي الطفل اذا اشترى بحكم ولايته شيئا له بعد ولادته فان الطفل يملكه ويلزمه الثمن ، أما قبل الولادة فلا ، لانه كالجزء من اُمه فليس له ذمّة ، فيكون صالحا لأن يجب الحق له ، لا لأن يجب عليه » (١).

٣ ـ سوف يأتي منّا في معنى الذمّة عند فقهاء الشيعة ، ما يتبين به خلط السنهوري بين الذمّة والعهدة.

ثانياً : معنى الذمّة عند الاستاذ مصفى الزرقاء : هو أنها « محل اعتباري في الشخص تشغله الحقوق التي تحقق عليه » (٢).

فتثبت في هذه الذمة الحقوق المالية وغير المالية مهما كان نوعها ومقدارها ، فكما تشغل بحقوق الناس المالية تشغلها ـ ايضا ـ الأعمال المستحقة كعمل الأجير ، وتشغلها الواجبات الدينية من صلاة وصيام ونذور وغيرها (٣).

ويستند هذا التعريف الى ما ذكر في كتاب اصول فخر الاسلام لليزدوي وشرحه للشيخ عبد العزيز البخاري اذا قال : « إن الآدمي يولد وله ذمّة صالحة للوجوب بإجماع الفقهاء ، أما أهلية الوجوب فهي بناء على قيام الذمّة ، اي لا تثبت هذه الأهلية إلاّ بعد وجود ذمّة صالحة ، لان الذمّة هي محل الوجوب ، ولهذا يضاف إليها ( الذمّة ) ولا يضاف الى غيرها بحال » (٤).

نقول : وسيأتي في بيان معنى الذمّة عند فقهاء الشيعة ما يتبين به خلط مصطفى الزرقاء بين الذمّة والعهدة.

__________________

(١) شرح اصول فخر الاسلام للشيخ عبدالعزيز البخاري ، ص ٢٣٩ ، عن الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد ، ج ٣ ، ص ٢١٦.

(٢) الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد ، ج ٣ ، ص ٢٢٢.

(٣) الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد ، ج ٣ ، ص ٢٢٢.

(٤) ج ٤ ، ص ٢٣٨ ، عن الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد ، ج ٣ ، ص ٢١٥.

١٥٢

ثالثاً : وهناك تعريف ثالث للذمّة ذكره القرافي من فقهاء المالكية في كتابه ( الفروق ) ذهب الى ان معنى الذمّة : « جعله الشارع مسبباً عن أشياء خاصة ، منها البلوغ ومنها الرشد ، فمن بلغ سفيهاً لا ذمّة له ومن حجّر عليه فقد ذمّته كالمفَّس ... » (١).

« فقد ذهب القرافي بالذمّة الى معنى أهلية الاداء الكاملة التي تشترط لصحة التصرفات ونفاذها ، وتتوقف على البلوغ وتنسلخ بالحجر. اذ من المقرر أن كلاًّ من المفلَّس والمحجور والطفل الوليد غير المميز يتمتع بأهلية وجوب كاملة تثبت بمقتضاها الحقوق له وعليه ؛ فيرث ويملك ما يوهب له ويضمن قيمة ما يتلف وتجب عليه النفقة لو كان غنيّاً.

فقوله : بان الصغير والسفيه والمفلَّس المحجور عليه لدَين لا ذمّة لهم ، معناه انه ليس لهم أهلية أداء تصح معها تصرفاتهم (٢).

ويرد على هذا المعنى للذمّة ما تقدم على السنهوري من ان الذمّة هي المحل المقدر لأهلية الانسان لأن تكون عليه حقوق. إضافة الى أن الذمّة ربما يقال بارتباطها باهلية الوجوب لما ذكر من الملازمة ، فقد يفضل الانسان ويقول : إن الذمّة هي أهلية الوجوب ، ولكن لا معنى لارتباط الذمّة باهلية الاداء والتصرفات ، فلا معنى للقول بأن الذمّة هي مرتبطة ( او ملازمة ) باهلية الاداء ، إذ من الواضح ان من لا تصح تصرفاته المالية لفَلس او حجر ، له ذمّة تتعلق بها الحقوق عليه كما لو أتلف مال غيره مثلا.

ثم ان هذه التعاريف الثلاثة للذمّة تذهب بالذمّة الى أنها شيء افتراضي ( مقدر الوجود ) وهو شيء صحيح.

رابعاً : ولكن هناك تعريفا رابعا لابناء العامة فَرَّ من القول بأن الذمّة شيء

__________________

(١) كتاب الحق والذمة ، ص ٨٦ ، عن الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد ، ج ٣ ، ص ٢١٥.

(٢) الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد ، ج ٣ ، ص ٢١٨.

١٥٣

اعتباري الى القول بانها أمر وجودي مادي ، فقال فخر الاسلام اليزدوي : « إن الذمّة نفس لها عهد » ثم أوضحه بان ذلك من قبيل المجاز باطلاق اسم الحال ( وهو العهد على المحل اي نفس الانسان ) ، ثم شاع هذا الاستعمال فأصبح حقيقة عرفية (١).

وهذا التعريف وقع صاحبه فيما فر منه ( وهو الافتراض ) اذ أن تعلق الديون بالانسان لا يكون إلاّ اعتباريا ، فصاحب التعريف حوّل التعريف من افتراض المحل الى افتراض التعلق.

خامساً : وهناك تعريف خامس يفرّ من القول بأن الذمّة شيء افتراضي ، ويقول : بان الذمّة في لسان الفقهاء لم تخرج عن أصل معناها اللغوي وهو العهد (٢) ، فليس معنى قول الفقهاء « ثبت في ذمّة فلان كذا » إلاّ أنه ثبت بعهده او فيما تعهد به او التزمه. ويكفي لثبوت الواجبات ان الشارع كلَّفه بها.

وضُعف هذا القول واضح لانتقاضه بالصغير والمجنون اللّذين لا يصح منهما عهد مع أن الحقوق تثبت عليهما ولو لم يكن لهما ، مال حيث تستوفى متى امتلكا مالا ، كما ينتقض بالكبير العاقل اذا اتلف مال غيره من دون وعي فانه يتعلق بذمته الضمان مع عدم وجود تعهد سابق بالضمان.

٢ ـ الذمّة عند فقهاء الشيعة

الذمّة ـ في الحقيقة ـ هي : « وعاء اعتباري افترضه العقل للاموال الرمزية ( التي لا وجود لها في الخارج ) كي يكون موطناً لتلك الأموال التي تتَّخذ كرمز للاموال

__________________

(١) كشف الاسرار ، شرح اصول البزدوي ، ج ٤ ، ص ٢٣٩ عن الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد ، ج ٣ ، ص ٢١٩.

(٢) سمي العهد بالذمة لان نقضه يوجب الذم ، ومن ذلك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث شريف : « المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم ادناهم ».

١٥٤

الخارجية تُطبَّق حين التنفيذ والاداء على الخارج تطبيقا للرموز على ذي الرمز ».

ثم إن هذا الاعتبار العقلائي له فوائد كثيرة منها :

١ ـ ييسر المعاملات ويكيّفها تكييفاً عقلائيا ؛ اذ قد يحتاج انسان الى أن يبيع شيئا غير موجود له ( كما في السلم ) او يشتري بثمن لا يملكه. ولا طريق في هذه المعاملات إلاّ البيع للسلعة في ذمته تسلَّم بعد مدة معينة ، او الشراء بثمن في ذمّته يسلَّم ـ ايضا ـ بعد مدة معينة إشباعاً للقانون القائل « لا بيع إلاّ في مِلك » فان البائع لشي كلي وان كان لا يملكه عند البيع كي يبيعه ، إلاّ أنه تكفي مالكية الانسان لنفس ذمّته التي هي من سنخ مالكيته لنفسه ولأعماله ، فالانسان اولى باشغال ذمته من غيره وهو اولى ـ ايضاً ـ بابقائها على الفراغ.

٢ ـ قد يمتلك الانسان المال الخارجي وهو لا يريد ان يفقده ، وفي نفس الوقت هو محتاج الى ايقاع معاملة على سنخ ما يمتلكه ، فلا طريق له إلاّ ايقاع المعاملة على الذمّة.

٣ ـ قد يقتضي القانون تغريم شخص ما من دون غرض في التحجير على ماله ، كما اذا اتلف شخص مال غيره فيكون المتلف ضامنا في ذمّته لمن أتلف ماله ، وبهذايكون المتلف مالكاً لأمواله الخارجية وهو حرٌّ في التصرف فيها ، كما يكون من أتلف ماله قادراً على التصرف فيما ثبت له في ذمّة المتلف من بيع أو هبة مثلا. وهذا فيه جمع بين الحقين.

٤ ـ وفي القرض تصبح عين المال المقترض ملكاً للمقترض ، ولكن يستقر عوضه في ذمّة المقترض ، ويمكن للمقرض أن يوقع بعض المعاملات على المال الذي له في ذمّة المقترض كبيع او هبة معوضة.

٥ ـ إن بعض النظريات والاحكام الفقهية لا يمكن تفسيرها إلاّ بافتراض الذمّة ، مثلاً :

أ ـ صحة التزام الانسان ـ بما لاحد له من الديون من دون نظر الى قدرته

١٥٥

وثروته ـ لا يكون إلاّ بافتراض ان له ذمّة تكون وعاء لتلك الديون ، ولا علاقة للديون بما يملكه في الخارج او يمكن أن يملكه.

ب ـ صحة تصرفات الانسان بماله بحيث يتمكن من اخراج ماله من ملكه حتى لو كانت عليه ديون تستغرق ثروته لا يمكن تفسيره إلاّ بوجود ذمة تتعلق بها الديون ، ولا ربط لها بما يملكه في الخارج. بينما لو لم تكن هناك ذمّة مفترضة في الانسان ، لوجب أن نفترض أن الديون متعلقة اما بعين الأموال او بشخص المدين ، بحيث تكون سلطة للدائن على شخص المدين تمكّن الدائن من استرقاق المدين. وإن افترضنا أن تكون الديون متعلقة بعين اموال المدين ، فيلزم من ذلك أن تُشَلَّ حركته الاقتصادية حتى لو كان الدَّين غير محيط بكل ثروة المدين.

وتوضيح ذلك : إن الجزء الكافي من ثروة المدين لوفاء الدَّين بما أنه غير معين ، فلا يصح أن نمنع تصرف المدين في بعض ماله وأن نطلقه في البعض الآخر ، لأنَّ هذا يلازم مشكلات في التعيين والتخصيص ، وهذا ينافي مباني التشريع الاسلامي من عدِّه الحرج في الدِين وعدم الضرر في الاسلام ، ومن سلطة الناس على أموالهم.

٦ ـ لولا قبول الذمّة الافتراضية في الشخص الطبيعى لما أمكن القول بملكية الجهة المعبَّر عنها ( بالشخص الحكمي في النظر الحقوقي ) التي هي من اساسها افتراضية اعتبارية ولكنها منتزعة من وجود مادي وهو افراد الجمعيات والشركات او المصلحة في المؤسسات ، فملكية الجهة تشبه الذمّة التي هي منتزعة من شخص الانسان وملتصقة به (١).

هذه هي مجموع الفوائد المترتبة على افتراض الذمّة للانسان ، فالذمّة امر لا مندوحة عنه في التشريع ، وليست الذمّة افتراضاً وهمياً تبنى عليه الاحكام ، بل

__________________

(١) إن ملكية الجهة في الفقه الشيعي قد انكرها بعض العلماء ، لا لعدم تصورها بل لعدم الدليل عليها ، ولكن الصحيح ثبوتها لانها امر عقلائي لم يرد فيه نهي فيكون ممضى من قبل الشارع المقدس.

١٥٦

هو أمر تقتضيه استقامة منطق الاحكام وتخريجها وتأصيلها.

والآن ـ بعد ان مهّدنا لمعرفة فوائد الذمة في التشريع ـ نشير الى الفرق بين الذمة والعهدة في الفقه الشيعي فنقول :

الذمّة عند الشيخ النائيني :

لقد فرّق الشيخ النائيني قدس‌سره بين الذمّة والعهدة فقال على ما هو المنقول عنه : « إن العهدة وعاء للأموال الخارجية ، والذمّة وعاء للأموال الكليّة » (١).

وهذا مأخوذ مما يقال في الفقه من أن الغاصب مادامت العين موجودة لم تنشغل ذمّته بشيء وانما كان على عهدته أن يَرُدَّ المال ، واذا تلفت العين انشغلت ذمّته بالبدل الكلي (٢).

واُشكل عليه :

١ ـ فيما قد يكون في العهدة أداء مال ما من دون تعيين مال خارجي ، ورغم كليَّة هذا المال لا يكون شاغلا للذمّة ، كما في نفقة الاقارب الواجبة على الانسان.

٢ ـ ربما يكون المال الكلّي مرتبطاً بالعهدة ، كما في من أتلف مال غيره ، فقد انشغلت عهدته بالمال حيث يجب عليه افراغ ذمّته وأداء المال.

الذمّة عند السيد الشهيد الصدر :

إن الفرق الجوهري عند الشهيد الصدر بين الذمّة والعهدة هو : « إن الذمّة

__________________

(١) (٢) منية الطالب في حاشية المكاسب ، تقريرات الميرزا النائيني ، بقلم الحاج الشيخ موسى الخوانساري ج ١ ، ص ١٤٥ « فإنَّ العين التالفة لا يمكن دخولها في الذمّة رأسا ، فانَّ الذمَّة ظرف للكلّيّات لا الأعيان ، فتلف العين موجب لسقوط الخصوصيّة الشخصيّة ، وهذا بخلاف تذُّر المثل فانه لا وجه لسقوطه عن الذمة » وفي ص ١٤١ « فانه لو تعذَّر العين لا ينتقل في العهدة الى القيمة ، بل تبقى نفس العين في العهدة ». وايضا في تقريرات الميرزا بقلم الشيخ الآملي نفس المعنيين » ، ج ١ ، ص ٣٥٢.

١٥٧

وعاء للاموال الرمزية ، والعهدة وعاء للتكاليف وما يلزم على الانسان من اعمال » (١). ويمكننا القول بأنَّ بين الذمة والعهدة عموماً وخصوصاً من وجه حيث يجتمعان ، فيكون المال الكلي مرتبطا بالعهدة والذمة معاً كما في من اتلف مال غيره ، فقد انشغلت ذمته بالمال وانشغلت عهدته به لوجوب افراغ ذمّته واداء المال. وقد يفترقان بان تكون عندنا عهدة ( وعاء التكليف فقط ) من دون انشغال للذمّة ، كما في نفقة الاقارب الواجبة على الانسان ، فعهدة الانسان مشغولة بالنفقة بينما ذمّته ليست مشغولة بها ، ولذا لا ضمان عليه لو ترك فمات مثلا اذا لم تؤخذ هذه النفقة ـ التي عصى ولم يعطها الى مستحقها ـ من تركته.

وقد يكون عندنا ذمّة ولا يكون عندنا عهدة ، كما في الطفل الذي اتلف مال غيره مثلا فانشغلت ذمّته بالمال فقط ، ولا يكون على عهدته شيء لعدم تكليفه ـ وهو طفل ـ بشيء من التكاليف ، وكذا الامر في المجنون ، وكما لو استدان الطفل مالاً من كافر حربي ، فقد انشغلت ذمّته ، ولكن ليس على عهدته الاداء ، وبإمكانه أن يمتلك ما في ذمّته فيسقط عنه وتفرغ ذمّته (٢).

__________________

(١) فقه العقود ، للسيد الحائري ، ص ٤٥ ، مخطوط.

(٢) نسب بعض الكتّاب الى الامامية القول بأنّ الذمّة عبارة عن العهدة ، فقد قال صاحب نظريَّة العقد في الفقه الجعفري : « وقال الجعفريون في فقههم : إن الذمّة عبارة عن العهدة والى ذلك يشير الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله « على اليد ما أخذت حتى تؤدي » اي أن ما أخذته اليد يبقى في عهدتها الى ان تؤديه بنفسه او ببدله لو كان تالفا وقد تكرر هذا الاستعمال للذمَّة في جميع الموارد التي تعرض فيها الفقهاء للضمان ». نظرية لعقد في الفقه الجعفري ، لهاشم معروف الحسني ، ص ٥٧.

أقول : لقد خلط الكاتب خلطاً واضحاً ، اذ أعطى الذمّة معنى العهدة التي هي ظرف التكاليف الالهية ، فان وجوب الردّ حكم شرعي ظرفه العهدة ، واما الضمان فهو يكون لما اُخذ في الذمّة واحدهما غير الاخر كما هو واضح.

نعم : لقد ورد على لسان الفقهاء استعمال الذمّة بمعنى العهدة او العكس ، الا أنها استعمالات ليست دقيقة ،

١٥٨

٣ ـ الذمّة لا تموت بموت الانسان

فعلى هذا الذي تقدم من معنى الذمّة « انها وعاء اعتباري ... » وعلى ما تقدم من معنى الدّين « بانه مال موجود في الذمّة » فيرى فقهاء الشيعة ان ذمّة الشخص لا تموت بموته حيث انها وعاء اعتباري قابل للبقاء حتى بعد الموت ، ولذا لا حاجة الى قيام الوارث مقام المورّث في الدَّين ، لان الوارث انما يقوم مقام المورث في ما يكون المورّث ميتاً بلحاظه ، وهذا هو الحال بلحاظ الأموال الخارجية للمورّث ، وبلحاظ ما كان يطلبه من غيره ( انتقال الحق ).

أما بلحاظ الديون الثابتة على الميت فذمّة الميت باقية على حالها مالم يوفّ دينه ولا مجال لقيام الوارث مقامه ويوفى دينه من تركته ثم يورث المال كما قال تعالى : ( من بعد وصية يوصى بها او دين ).

اذن فالاسلام يقول لا علاقة لدين الميت بالورثة ، وتبقى ذمّة الميت مشغولة بالدَين للآخرين ، فيتمكن أن يتبرع عنه متبرع في اداء ما على ذمّة الميت فتفرغ حينئذ ، وقد يبرئه الدائن فتفرغ الذمّة ايضا ، كما يمكن ضمانها وعند التبرع والابراء والضمان (١) تنتهي ذمّة الميت ، حيث ان العقلاء لا يعتبرون ذمّة بعد ذلك.

هذا وقد أقر الشارع المقدس هذا الفهم العقلائي للذمّة ، فقد وردت الروايات الكثيرة عن ائمة أهل البيت عليهم‌السلام تقرر ما اعتبره العقلاء موجوداً حتى بعد الموت ، فمن تلك الروايات :لأنهم ليسوا بصدد بيان معنى الذمّة والعهدة ، بل بصدد بيان امر آخر فيقرون المعنى بما يتسامح به ، ولذا نراهم عندما يتعرضون لتعريف لذمّة يذكرون ذلك الفرق بينهما وبين العهدة كما ذكرنا.

__________________

لأنهم ليسوا بصدد بيان معنى الذمّة او العهدة ، بل بصدد بيان امر آخر فيقربون المعنى بما يتسامح به ، ولذا نراهم عندما يتعرضون لتعريف لذمّة يذكرون ذلك الفرق بينها وبين العهدة كما ذكرنا.

(١) المراد بالضمان هنا هو معناه الشيعي « نقل المال من ذمّة الى ذمّة ثانية » لا بمعنى ضم ذمّة الى ذمّة كما هو عند العامّة ، وحينئذ اذا ضمن انسان ما في ذمّة الميت فقد برأت ذمّة الميّت من الدَين.

١٥٩

١ ـ ما رواه محمد بن مسلم ( في الصحيح ) عن الإمام الباقر عليه‌السلام حيث قال :

« إن العبد ليكون بارّا بوالديه في حياتهما ثم يموتان فلا يقضي عنهما الدَّين ولا يستغفر لهما فيكتبه الله عاقا ، وأنه ليكون في حياتهما غير بار بهما فاذا ماتا قضى عنهما الدَّين واستغفر لهما فيكتبه الله بارا .. » (١).

٢ ـ وصحيحة صفوان بن يحيى عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام : « في رجل قُتِل وعليه دَين ولم يترك مالا ، فأخذ اهله الدية من قاتله ، عليهم أن يقضوا دَينه ؟ قال : نعم ، قلت : وهولم يترك شيئا ، قال : انما أخذوا الدية فعليهم أن يقضوا دَينه » (٢).

٣ ـ وعن ابراهيم بن عبدالحميد ، قال قلت للإمام الصادق عليه‌السلام : « إن لعبد الرحمن بن سبابة دَيناً على رجل قد مات ، وكلَّمناه على ان يحلِّله فأبى ، قال : ويحه أما يعلم ان له بكل درهم عشرة دراهم اذا حلَّله ، فان لم يحلِّله فانما له درهم بدل درهم » (٣) فهي تدل دلالة واضحة على ان الدَين يبقى في ذمّة الميت ولا يسقط حتى اذا لم يكن للميت مال.

٤ ـ وصحيحة عبدالله بن سنان عن الإمام الصادق عليه‌السلام : « في الرجل يموت وعليه دَين فيضمنه ضامن للغرماء ، فقال : اذا رضي به الغرماء فقد برئت ذمّة الميت » (٤).

وكل هذه الروايات تفيد ان ذمّة الانسان باقية حتى اذا مات ولم يكفِ ما لديه لسداد الدَين ، او لم يكن عنده شيء اصلا ، ولا تزول الذمّة إلاّ بابراء الديَّان او ضمان ما في ذمّة الميت من قبل شخص اخر قد رضي به الغرماء ، او بوفاء الدَّين من قبل ورثة الميت او شخص آخر.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، باب ٣٠ من ابواب الدين والقرض ، ح ١.

(٢) المصدر السابق ، باب ٢٤ من ابواب الدين ، ح ١.

(٣) المصدر السابق ، باب ٢٣ من ابواب الدين ، ح ١.

(٤) المصدر السابق ، باب ١٤ من ابواب الدين ، ح ١.

١٦٠