الصّحابة

السيّد علي الحسيني الميلاني

الصّحابة

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-263-6
الصفحات: ٥٠

الرأي الحقّ في مسألة عدالة الصحابة

وأمّا الرأي الحق في المسألة ، بعد أن بطلت أدلة القول الاوّل الذي ادعي عليه الاجماع ، فهو أنْ ننظر إلى الكتاب وإلى السنّة نظرة أُخرى ، فنجد في القرآن الكريم أنّ الذين كانوا حول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ثلاثة أقسام :

إمّا مؤمنون ، وهذا واضح.

وإمّا منافقون ، وهذا واضح.

وإمّا في قلوبهم مرض ، وهذا أيضاً واضح.

هؤلاء طوائف كانوا حول رسول الله.

فإذن ، ليس كلّ من كان مع رسول الله كان مؤمناً ، المؤمنون طائفة منهم ، المنافقون طائفة أُخرى ، والذين في قلوبهم مرض طائفة ثالثة.

ومن الجدير بالذكر ـ وعلى الباحثين أن يتأمّلوا فيما أقول ـ أنّ

٤١

في سورة المدّثر وهي ـ على قول ـ أوّلُ ما نزل من القرآن الكريم في مكّة المكرّمة ، ولو لم تكن أوّل ما نزل فلعلّها السورة الثانية ، أو السورة الثالثة ، في أوائل البعثة النبويّة والدعوة المحمّديّة نزلت هذه السورة المباركة ، في هذه السورة نجد أنّ الله سبحانه وتعالى يقول : (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) لاحظوا بدقّة (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) هذه طائفة من أهل مكّة (وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً) إذنْ ، في مكّة عند نزول الاية أُناس كانوا أهل كتاب واُناس مؤمنين (وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً) (١).

يظهر من هذه الاية المباركة : أنّ حين نزول السورة المباركة في مكة كان الناس في مكّة على أربعة أقسام : كافرون ، أهل كتاب ، مؤمنون ، في قلوبهم مرض.

الكافرون معلوم ، وهم المشركون ، وأهل الكتاب أيضاً معلوم ، يبقى المؤمنون وهم الذين آمنوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أمّا الذين في قلوبهم مرض ، فمن هم؟ ففي مكة ، المسلمون

__________________

(١) سورة المدثر : ٣١.

٤٢

الذين كانوا حول رسول الله عددهم معيّن محصور ، وأفراد معدودون جدّاً ، يمكننا معرفة المؤمن منهم من الذي في قلبه مرض ، نحن الان لسنا بصدد تعيين الصغرى ، لسنا بصدد تعيين المصداق ، لكنّا عرفنا على ضوء هذه الاية المباركة أنّ الناس في مكّة في بدء الدعوة المحمديّة كانوا على أربعة أقسام : أُناس مشركون كافرون وهذا واضح ، في الناس أيضاً أهل كتاب وهذا واضح ، وفي الناس آمن برسول الله وهذا واضح ، الذين في قلوبهم مرض ، هؤلاء ليسوا من الذين آمنوا ، وليسوا من المشركين والكافرين ، وليسوا من أهل الكتاب ، فمن هم؟ فيظهر ، أنّ هناك في مكة المكرمة وفي بدء الدعوة المحمديّة أُناساً عنوانهم عند الله وفي القرآن الكريم : (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ).

ولو راجعتم التفاسير لرأيتم القوم متحيّرين في تفسير هذه الاية وحلّ هذه المشكلة ، ولن يتمكّنوا إلاّ أنْ يفصحوا بالحق وإلاّ أنْ يقولوا الواقع ، فما دام لا يريدون الواقع تراهم متحيّرين مضطربين.

يقول الفخر الرازي بتفسير الاية (١) ـ لاحظوا بدقّة ـ : جمهور المفسّرين قالوا في تفسير قوله : (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) إنّهم

__________________

(١) تفسير الرازي ٣٠ / ٢٠٧.

٤٣

الكافرون ، والحال أنّ في قلوبهم مرض قسيم وقسمٌ في مقابل الكافرين ، هذا رأي جمهور المفسّرين.

ثمّ يقول ـ لاحظوا بدقّة ـ : وذكر الحسين بن الفضل البجلي : أنّ هذه السورة مكيّة ، ولم يكن بمكّة نفاق ، فالمرض في هذه الاية ليس بمعنى النفاق.

وترك الامر على حاله ، ليس بمعنى النفاق ، إذاً ماذا؟ فهذا قول في مقابل قول جمهور المفسّرين!

يقول الفخر الرازي وهو يريد أنْ يدافع عن قول جمهور المفسّرين ، لاحظوا بدقة قوله : قول المفسّرين حق ، وذلك لانّه كان في معلوم الله تعالى أنّ النفاق سيحدث ، أي في المدينة المنوّرة ، فأخبر عمّا سيكون ، وعلى هذا تصير هذه الاية معجزة ، لانّه إخبار عن غيب سيقع ، وقد وقع على وفق الخبر ، فيكون معجزاً!!

كان ذكر الذين انحصر في قلوبهم مرض هنا معجزة ، لكن لن يرتضي الفخر الرازي أيضاً هذا التوجيه مع ذكره له.

والعجيب من الفخر الرازي حيث يقول : جمهور المفسّرين قالوا إنّهم الكافرون ، وهو يدافع عن قولهم ويقول : هو حق ، ثمّ يحمل الاية على أنّه إخبار عن النفاق الذي سيقع.

فإذا كان قول المفسّرين حقّاً ، فقد فسّروا بأنّهم الكافرون ،

٤٤

وأنت تقول : بأنّ هذا إخبار عن النفاق الذي سيقع في المدينة المنوّرة ، فكيف كان قول المفسّرين حقّاً؟ وهذا يكشف عن تحيّرهم واضطرابهم في القضية.

وممّا يزيد في وضوح الاضطراب قوله بعد ذلك : ـ أرجو الملاحظة بدقة ـ : ويجوز أنْ يراد بالمرض الشك.

أي : الذين في قلوبهم شك ، لكنْ يعود الاشكال ، فمن الذين في قلوبهم شك ، في بدء الدعوة في مكة ، في مقابل الذين آمنوا ، والذين كفروا ، وأهل الكتاب؟

فيعلّل كلامه قائلاً : لانّ أهل مكّة كان أكثرهم شاكّين.

فنقول : من المراد هنا من أهل مكة؟ هل المراد أهل الكتاب؟ هل المراد الكفّار والمشركون؟ من هؤلاء الذين أكثرهم مشركون؟

وقد زاد في الطين بلّةً فقال : وبعضهم كانوا قاطعين بالكذب؟

وهذا عجيب من مثل الفخر الرازي ، عجيب والله ، وليس إلاّ الاضطراب والحيرة!!

هذا ، والفخر الرازي في مثل هذه المواضع يأخذ من الزمخشري ولا يذكر اسم الزمخشري ، وطابقوا بين عبارة الفخر الرازي والزمخشري ، لرأيتم الزمخشري جوابه نفس الجواب ، ولا أدري تاريخ وفاة الحسين بن الفضل ، وربّما يكون متأخّراً عن

٤٥

الزمخشري ، فنفس الجواب موجود عند الزمخشري وبلا حلّ للمشكلة (١).

ويأتي أحدهم فيأخذ كلام الفخر الرازي والزمخشري حرفيّاً ، ويحذف من كلام الفخر الرازي قول الحسين بن الفضل والبحث الذي طرحه الفخر الرازي ، وهذا هو الخازن في تفسيره ، فراجعوا (٢).

ثمّ جاء المتأخرون وجوّزوا أنْ يكون المراد النفاق ، وأن يكون المراد الشك ، وتعود المشكلة ، وكثير منهم يقولون المراد الشك أو النفاق ، لاحظوا ابن كثير (٣) ولاحظوا غيره من المفسّرين ، فهؤلاء يفسّرون المرض بالشك ، يفسّرون المرض بالنفاق ويسكتون ، أي يسلّمون بالاشكال أو السؤال.

كان في مكّة المكرّمة نفاق ، وأنتم تعلمون دائماً أنّ النفاق إنّما يكون حيث يخاف الانسان على ماله ، أو يخاف على دمه ونفسه ، فيتظاهر بالاسلام وهو غير معتقد ، وهذا في الحقيقة إنّما يحصل في المدينة المنوّرة ، لقوّة الاسلام ، لتقدّم الدين ، ولقدرة رسول

__________________

(١) الكشاف في تفسير القرآن ٤ / ٦٥٠.

(٢) تفسير الخازن ٤ / ٣٣٠.

(٣) تفسير ابن كثير ٤ / ٣٨٨.

٤٦

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذا كلّه صحيح.

أمّا في مكّة ، حيث الاسلام ضعيف ، وحيث أنّ النبي مطارد ، وحيث أنّه يؤذى صباحاً ومساءً ، فأيّ ضرورة للنفاق ، وأيّ معنى للنفاق حينئذ؟ والله سبحانه وتعالى لم يعبّر بالنفاق ، وإنّما عبّر بالمرض في القلب ، وفيه نكتة.

إذن ، كان في أصحاب رسول الله منذ مكّة من في قلبه مرض ، ومن كان منافقاً ، وأيضاً كان حواليه مؤمنون ، فكيف نقول إنّهم عدول أجمعون؟ وهذا على ضوء هذه الاية.

وأمّا الايات الواردة في النفاق ، أو السورة التي سمّيت بسورة المنافقون ، فأنتم بكلّ ذلك عالمون عارفون.

وأمّا السنّة ، فيكفينا من السنّة حديث الحوض ، وأنتم كلّكم مطّلعون على هذا الحديث وألفاظه ، وهو في الصحيحين ، وفي المسانيد وفي المعاجم ، وهو من أصحّ الاحاديث المعتبرة المقبولة :

«ليردنّ عليّ الحوض رجال ممّن صحبني ورآني ، حتّى إذا رفعوا إليّ رأيتهم اختلجوا دوني ، فلاقولنّ : يا ربّ أصحابي أصحابي ، فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّكم تحشرون إلى الله تعالى ، ثمّ يؤخذ بقوم منكم ذات الشمال ، فأقول : يا ربّ أصحابي ، فيقال لي : إنّك لا

٤٧

تدري ما أحدثوا بعدك ، لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم ـ إشارة إلى قوله تعالى : (أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُم وَمَنْ يَنْقَلِب عَلى عَقِبيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) (١) ـ فأقول كما قال العبد الصالح : (كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْء شَهِيدٌ إنْ تُعذِّبْهُمْ فَإنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢)».

قال رسول الله : «بينما أنا قائم إذا زمرة ، حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال : هلمّ ، فقلت : أين؟ قال : إلى النار والله ، قلت : ما شأنهم؟ قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، ثمّ إذا زمرة ، حتّى إذا عرفتهم قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، فلا أراهم يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم ، فأقول : أصحابي أصحابي ، فقيل : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول : بعداً بعداً ، أو سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي» (٣).

وأنا عندما أثبتنا على ضوء الكتاب والسنة القطعية وجود

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٤٤.

(٢) سورة المائدة : ١١٧ ـ ١١٨.

(٣) مسند أحمد ١ / ٣٨٩ ، ٢ / ٣٥ ، ٦ / ٣٣ ، صحيح البخاري ٦ / ٦٩ ، ٨ / ١٤٨ ، ١٥١ ، ٩ / ٥٨ ، صحيح مسلم ٤ / ١٨٠ ، الموطّأ ٢ / ٤٦٢ ، المستدرك ٤ / ٧٤ ـ ٧٥.

٤٨

المنافقين ومن في قلبه مرض حول رسول الله ، فإنّ هذه الادلّة تكون قرينة للادلّة التي يستدلّون بها على فرض تمامية دلالتها بالعموم أو الاطلاق ، بأن تكون تلك الايات بعمومها دالّة على فضل أو فضيلة ، أو تكون بنحو من الانحاء دالة على عدالة الصحابة بصورة عامّة ، فتلك الادلّة التي ذكرناها أو أشرنا إليها ممّا يدلّ على وجود المنافقين والذين في قلوبهم مرض حول رسول الله ، تلك الادلّة تكون مخصّصة أو مقيّدة للايات والاحاديث التي استدل بها على عدالة الصحابة بصورة عامة على فرض تمامية الاستدلال بها.

وهذه الادلّة التي أشرنا إليها تكون قرينة على خروج المنافقين والذين في قلوبهم مرض عن تحت تلك العمومات ، إمّا تخصّصاً أو تخصيصاً.

حينئذ لا يمكن التمسك بإطلاق أو عموم تلك الايات أو الروايات على فرض تمامية الاستدلال بها ، وعلى فرض تمامية ظهورها في العموم أو الاطلاق.

وهذا المقدار يكفينا لانْ نعرف حكم الله سبحانه وتعالى في المسألة ، ولان نعرف أنّهم يحاولون المستحيل ، وغاية ما هناك إنّهم حاولوا أنْ يسدّوا باب أهل البيت ، وباب الرواية عن أهل بيت

٤٩

العصمة والطهارة ، وأرادوا أن يروّجوا لغيرهم ، وعندما يواجهون مثل هذه القضايا وهذه المشاكل يضطربون ويتحيّرون ، ولا يدرون ماذا يقولون ، وهذا واقع الامر.

ونحن ليس عندنا أيّ نزاع شخصي مع أحد من الصحابة ، ليس عندنا أي خصومة خاصّة مع واحد منهم ، إنّما نريد أنْ نعرف ماذا يريده الله سبحانه وتعالى منّا ، ونريد أنْ نعرف الذي يريد الله سبحانه وتعالى أنْ يكون قدوةً لنا ، وأُسوة لنا ، وواسطة بيننا وبينه في الدنيا والاخرة.

وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.

٥٠