أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء

المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء

المؤلف:

المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: ليلى
الطبعة: ١
ISBN: 964-5688-21-3
الصفحات: ٢٤٤

وأهل بيته عليهم‌السلام ؛ فقد دخل هو وأبوه الإسلام مقهورين موتورين يوم فتح مكة ، ودخل في عداد الطلقاء ، بعد أن كان قد فقد جدّه وخاله وأخاه في الصّراع ضدّ الإسلام قبل فتح مكّة.

على أنّ طوال هذه الفترة ـ منذ وفاة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى نهاية حكم عثمان ـ لم يعتنِ النظام الحاكم بالدعوة الإسلاميّة ونشرها وترسيخها في النفوس ، ولم يسعَ لاجتثاث العقد والأمراض والعادات القبلية ، بل كان همّ الحاكمين هو الاندفاع في الفتوحات طمعاً في توسعة الدولة وزيادة الأموال.

وقد عمل الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام منذ وفاة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله جاهداً على أن لا تفقد الاُمّة شخصيتها الإسلاميّة وحاول تقليل انحرافها ، فكان يتدخّل ويُعِين الفئة الحاكمة تارةً باللين واُخرى بالشدّة متجنّباً الصدام المباشر معهم ؛ لأجل استرداد حقّه الشرعي في الخلافة ، مؤثراً مصلحة الإسلام العامّة على ما سواها من المصالح (١).

لقد فُجعت الاُمّة بمصلحها الكبير ـ يوم استشهد الإمام علي عليه‌السلام ـ وانهارت بين يدي الإمام الحسن بن عليّ عليهما‌السلام بعد أن أنهكتها حروب الإصلاح ضدّ الناكثين والقاسطين والمارقين ؛ إذ أسرعت القوى النفعية والمنافقة والحاقدة على الإسلام إلى الوقوف في وجه الإمام عليّ عليه‌السلام متنكرة لأوامر الله سبحانه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله غير مبالية بمصلحة الاُمّة ، بالرغم من تجسيده للزعامة الحقيقية التي تقود إلى منهج الحقّ والعدل الإلهي ، وهم يعلمون بشرعيته التي اكتسبها من الرسالة والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله. وهذا ما كان يشكّل خطراً حقيقياً من شأنه أن يلغي وجودهم من المجتمع الإسلامي ؛ ولهذا كانت حروب ، الجمل وصفّين ثمّ النهروان.

__________________

(١) شرح النهج ـ لابن أبي الحديد ١ / ٢٤٨.

٨١

ورأى الإمام الحسن عليه‌السلام أن ينهض بالاُمّة مواصلاً مسيرة الإصلاح ومواجهة الانحراف ، ولكنّ الجموع آثرت السّلامة والركون إلى الراحة (١) ، فاضطرّ الإمام الحسن عليه‌السلام إلى الصلح والمهادنة مع معاوية ـ وهو المتحصّن القويّ في بلاد الشام ـ على شروط وعهود مهمّة ؛ ليضمن سلامة الصّفوة الخيّرة من الاُمّة ، وليبني قاعدة جماهيرية أكثر وعياً وأعمق إيماناً برسالتها الإسلاميّة ، كي لا يُمسخ المجتمع المسلم ولا تُمحق الرسالة ؛ إذ ليس السيف دائماً هو الفيصل في حالات النزاع ، فربما كان للكلمة والمعاهدة أثر أبلغ في مرحلة خطرة ، حيث الهدف هو صيانة الرسالة الإسلاميّة وحفظ الاُمّة الإسلاميّة في كلّ الأحوال ، وليتّضح دور النفاق والعداء الذي كان يتّسم به بنو اُميّة وما كان يُضمِرهُ حكّامهم للإسلام.

ولقد وقف الإمام الحسين عليه‌السلام إلى جانب أخيه الإمام الحسن عليه‌السلام وعايش جميع الأحداث التي مرّ بها أخوه ، وكانا على اتّفاق تامّ في الرأي والموقف ، يُعاضده في توجيه الاُمّة وإنقاذها بعد أن رأى كيف أنّ انحراف السّقيفة تكاملت أدواره في هذه المرحلة ، وقد سرى هذا الانحراف في جسد الاُمّة حتّى غدت لا تتحفّز لنهضة الإمام الحسن عليه‌السلام ولا تستجيب لأوامره.

وأحاط الإمام الحسن عليه‌السلام بكلّ ما دبّره معاوية من المكائد والدسائس ، وأصبحت الأكثرية من جيش العراق في قبضة معاوية بن أبي سفيان وطغمته ، بعد أن كان يُمثّل جيش العراق العمود الفقري لجيش الإمام عليّ عليه‌السلام.

ولم يكن ليخفى على الإمام الحسين عليه‌السلام أنّ المعركة ـ لو قدّر للإمام الحسن أن يدخلها مع معاوية ـ ستكون لصالح الأخير ، وستنتهي حتماً إمّا بقتل

__________________

(١) الإرشاد ـ للمفيد / ٨ ـ ٩.

٨٢

الحسن والحسين وجميع الهاشميّين وخُلَّص شيعتهم ، أو ستنتهي بأسرهم ، في الوقت الذي تحتاج فيه الاُمّة الإسلاميّة إلى وجود الإمام المعصوم بينها ؛ لإنقاذ ما تبقّى وبناء ما تهدّم ، فإنّ الرسالة الإسلاميّة خاتمة الرسالات ولا بدّ من إتمام ما بناه الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

ومن ذلك تبيّن أنّ ما رواه بعض المؤرّخين من أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام كان كارهاً لما فعله الإمام الحسن عليه‌السلام ، وأنّه قال له : «اُنشدك الله أن لا تصدّق اُحدوثة معاوية وتكذّب اُحدوثة أبيك» ، وأنّ الحسن قال له : «اُسكت أنا أعلم منك» ... يتبيّن أنّ هذه المرويّات لا أساس لها من الصّحة (١).

هذا بالإضافة إلى أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام كان أبعد نظراً ، وأعمق غوراً في الاُمور ومعطياتها من أفذاذ عصره الذين قدّروا للحسن عليه‌السلام موقفه الحكيم الذي لم يكن هناك مجال لاختيار موقف سواه ، وكان عليه‌السلام أرفع شأناً من أن تخفى عليه المصلحة التي أدركها غيره فيما فعله أخوه حتّى يقف منه ذلك الموقف المزعوم.

ولا يشكّ المعتقدون بإمامة وعصمة الإمامين الحسنين عليهما‌السلام في عدم صحة الروايات التي تحدّثت عن معارضة الإمام الحسين عليه‌السلام لموقف أخيه الإمام الحسن عليه‌السلام من الصلح مع معاوية.

فإذا كان الحسنان عليهما‌السلام إمامين مفترضي الطاعة ، كان كلّ ما قاما به هو محض التكليف الإلهي ، وطِبقاً لما أراده الله تعالى لهما ، فليس ثمّة مجال لمثل تلك الروايات.

ويشهد على قولنا هذا روايات معتبرة تُعارض تلك الروايات غير الصحيحة ، منها ما يلي :

__________________

(١) سيرة الأئمّة الاثني عشر ٢ / ٢٣.

٨٣

١ ـ قال أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام : «نحن قوم فرض الله طاعتنا ، وأنتم تأتمّون بمَنْ لا يعذر النّاس بجهالته» (١).

٢ ـ سأل رجل أبا الحسن الإمام الرضا عليه‌السلام فقال : طاعتك مفترضة؟ فقال : «نعم». قال : مثل طاعة عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام؟ فقال : «نعم» (٢).

٣ ـ عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال له حمران : جُعلت فداك! أرأيت ما كان من أمر عليّ والحسن والحسين عليهم‌السلام وخروجهم وقيامهم بدين الله (عزّ وجلّ) ، وما اُصيبوا من قتل الطواغيت إيّاهم والظفر بهم حتّى قُتلوا أو غلبوا؟ فقال أبو جعفر عليه‌السلام : «يا حُمران ، إنّ الله تبارك وتعالى قد كان قدّر ذلك عليهم وقضاه ، وأمضاه وحتمه ثمّ أجراه ، فبتقدّم علم ذلك إليهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قام عليّ والحسن والحسين ، وبعلم صمت مَنْ صمت منّا» (٣).

٤ ـ وعن عظيم أخلاق الحسين عليه‌السلام واحترامه لأخيه الحسن عليه‌السلام قال الإمام محمّد الباقر عليه‌السلام : «ما تكلّم الحسين بين يدي الحسن إعظاماً له» (٤).

٥ ـ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إنّ معاوية كتب إلى الحسن بن عليّ (صلوات الله عليهما) أن أقدم أنت والحسين وأصحاب عليّ ، فخرج معهم قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري فقدموا الشّام ، فأذن لهم معاوية ، وأعدّ لهم الخطباء ... ثمّ قال : يا قيس ، قم فبايع ، فالتفت إلى الحسين عليه‌السلام ينظر ما يأمره ، فقال : يا قيس ، إنّه إمامي ـ يعني الحسن عليه‌السلام ـ» (٥).

__________________

(١ و٢) اُصول الكافي ١ / ١٤٣ ، باب فرض طاعة الأئمّة.

(٣) اُصول الكافي ١ / ٢٢١ ـ ٢٢٢ باب أنّ الأئمّة عليهم‌السلام لم يفعلوا شيئاً ولا يفعلون إلاّ بعهد من الله (عزّ وجلّ) وأمر منه لا يتجاوزونه.

(٤) حياة الإمام الحسين ٢ / ٢٥٢.

(٥) بحار الأنوار ٤٤ / ٦١.

٨٤

احترام الإمام الحسين عليه‌السلام لبنود صلح الإمام الحسن عليه‌السلام :

استشهد الإمام الحسن عليه‌السلام سنة (٤٩) أو (٥٠) للهجرة ، ومات معاوية سنة (٦٠) للهجرة ، وفي هذه المدّة كانت الإمامة والقيادة للإمام الحسين عليه‌السلام ، ولم تجب عليه طاعة أحد ، لكنّه عليه‌السلام ظلّ ملتزماً ببنود معاهدة الصلح التي عقدها أخوه الإمام الحسن عليه‌السلام مع معاوية ، فلم يصدر عنه أيّ موقف ينتهك به بنود المعاهدة المذكورة ، بل لمّا طالبه بعض الشيعة بالقيام والثورة على معاوية ، أوصاهم بالصبر والتقية مُشيراً إلى التزامه بالمعاهدة ، وأنّه سيكون في حِلٍّ من المعاهدة بموت معاوية.

رسالة جعدة بن هبيرة إلى الإمام الحسين عليه‌السلام :

كان جعدة بن هبيرة بن أبي وهب من أخلص النّاس للإمام الحسين عليه‌السلام وأكثرهم مودّة له ، وقد اجتمعت عنده الشيعة وأخذوا يلحّون عليه في مراسلة الإمام للقدوم إلى مصرهم الكوفة ؛ ليعلن الثورة على حكومة معاوية ، فدفع جعدة رسالة إلى الإمام الحسين عليه‌السلام هذا نصها : «أمّا بعد ، فإن من قبلنا من شيعتك متطلّعة أنفسهم إليك ، لا يعدلون بك أحداً ، وقد كانوا عرفوا رأي الحسن أخيك في الحرب ، وعرفوك باللين لأوليائك والغلظة على أعدائك والشدّة في أمر الله ، فإن كنت تحبّ أن تطلب هذا الأمر فاقدم علينا ، فقد وطنّا أنفسنا على الموت معك» (١).

فأجابه الإمام الحسين عليه‌السلام بقوله : «أمّا أخي فإنّي أرجو أن يكون الله قد

__________________

(١) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

٨٥

وفّقه وسدّده ، وأمّا أنا فليس رأيي اليوم ذاك ، فالصقوا رحمكم الله بالأرض ، واكمنوا في البيوت ، واحترسوا من الظنّة ما دام معاوية حيّاً ، فإن يُحدث الله به حدثاً وأنا حيّ كتبت إليكم برأيي ، والسّلام».

يتبيّن ممّا تقدّم أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام ـ انطلاقاً من مسؤوليته الشّرعية ـ اتّبع أخاه الإمام الحسن عليه‌السلام في مسألة الصّلح مع معاوية ، وقد قبله والتزم به طيلة حكم معاوية ، بل إنّ عشرات الشّواهد تؤكّد أنّهما كانا منسجمين في تفكيرهما ونظرتهما إلى الاُمور ومعطياتها ، ومتّفقين في كلّ ما جرى وتمّ التوصل إليه.

وكما نسبوا إلى الإمام الحسين عليه‌السلام ذلك فقد نسبوا إلى الإمام الحسن عليه‌السلام أيضاً أنّه كان على خلاف مع أبيه! في كثير من مواقفه السياسية قُبيل خلافته وخلالها. ومن الواضح أنّ الهدف من أمثال هذه المزاعم هو زرع الشّك في نفوس الاُمّة بالنسبة للموقع الريادي للإمامين الشّرعيين الحسن والحسين عليهما‌السلام ؛ بغية إيجاد الفرقة والاختلاف كي يبتعد النّاس عنهما.

استشهاد الإمام الحسن عليه‌السلام :

أقام الإمام الحسن عليه‌السلام بالكوفة أيّاماً بعد أن صالح معاوية ، ثمّ عاد مع أخيه الإمام الحسين عليه‌السلام وجميع أهل بيته إلى المدينة ، فأقام بها كاظماً غيظه ، لازماً منزله ، منتظراً لأمر ربّه جلّ اسمه (١). وكما ذكرنا فإنّ الإمام الحسين عليه‌السلام رفض التحرّك ضدّ معاوية ما دام حيّاً ؛ التزاماً بمعاهدة الصّلح التي كان قد عقدها أخوه الحسن عليه‌السلام معه.

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ١٥.

٨٦

وقد اهتمّ الإمامان عليهما‌السلام في المدينة بالعبادة وترسيخ العقيدة الإسلاميّة في نفوس النّاس ، وتوضيح الأحكام الإسلاميّة للناس وإرشادهم وهدايتهم ، والعمل من أجل تربية جيل واعٍ يتحمّل مسؤوليته تجاه الظلم والفساد والانحراف الحاصل في مسيرة الاُمّة. وفي هذه السّنوات العشر ـ كما دوّنته جملة من مصادر التاريخ الإسلامي ـ قد حدثت عدّة مناوشات كلامية من جانب الإمامين الحسن والحسين عليهما‌السلام بالنسبة لتصرّفات معاوية وجملة من عناصر بلاطه.

* * *

٨٧
٨٨

الباب الثالث

وفيه فصول :

الفصل الأوّل :

عصر الإمام الحسين عليه‌السلام

الفصل الثاني :

مواقف الإمام عليه‌السلام وإنجازاته

الفصل الثالث :

نتائج الثورة الحسينيّة

الفصل الرابع :

من تراث الإمام الحسين عليه‌السلام

٨٩
٩٠

الفصل الأول

عصر الإمام الحسين عليه‌السلام

البحث الأوّل : حكومة معاوية ودورها في تشويه الإسلام :

أمسك معاوية والطغمة الفاسدة من بني اُميّة بزمام الحكم ، وأكملوا بذلك الانحراف الذي حصل من السّقيفة ؛ حيث حوّل معاوية الخلافة إلى ملك عضوض مستبدّ حين صرّح بعدائه للاُمة الإسلاميّة ، واعترف بعدم رضى الاُمّة به حاكماً بقوله : والله ، ما ولّيتها ـ أي الخلافة ـ بمحبّة علمتها منكم ، ولا مسرّة بولايتي ولكن جالدتكم بسيفي (١).

ولكنّ معاوية والتّيار الذي تزعّمه واجه عقبةً كؤوداً ، هي تطبيق الإمام عليّ عليه‌السلام لأحكام الشّريعة الإسلاميّة بصورتها الصّحيحة ، مضافاً إلى أنّه لم يترك الاُمّة حتّى عمّق العقيدة في النّفوس ، فأحبّته الجماهير وخصوصاً أهل العراق ، وكان في ذلك حريصاً على الرسالة والاُمّة الإسلاميّة ، ومفنّداً مزاعم أرباب السّقيفة حين عبّر أبو بكر عن عجزه ، واعتذر عن كثرة أخطائه بقوله : فإنّي قد وُلّيت عليكم ولست بخيركم (٢). فإنّ هذا الاعتذار قد يُفهم منه

__________________

(١) تأريخ الخلفاء / ٧١.

(٢) المصدر السابق.

٩١

عدم إمكان التطبيق التام للشريعة الإسلاميّة ، ولكنّ الإمام عليّاً عليه‌السلام قد قدّم النّموذج الحيّ للقيادة الكفوءة الواعية والمعصومة بعد الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكانت الاُمّة المسلمة تتوقّع قائداً كعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

ولكن معاوية شرع في تشويه هذه القيم الإسلاميّة ، ومحاربة القوى المتعاطفة مع أهل البيت عليهم‌السلام ، وهدم كلّ ما بناه الإمام عليّ عليه‌السلام في الاُمّة الإسلاميّة من قيم ؛ فتفقد إرادتها ويموت ضميرها ؛ لئلاّ تكون قادرة على مواجهة أهواء الحكّام المخالفة للدين الحنيف.

لقد أعلن معاوية منذ أوّل خطوة أنّ هدفه الأساس هو استلام زمام الحكم حتّى لو اُريقت من أجله دماء المسلمين المحرّمة ، بكلمته المعروفة : والله ، ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ، ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا ، وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم (١).

منهج معاوية لمحاربة الإسلام :

ولا بدّ لنا من دراسة موجزة للمخطّطات الشّيطانية التي تبنّاها معاوية وما رافقها من الأحداث الجسام ؛ فإنّها من أهمّ الأسباب في ثورة الإمام الحسين عليه‌السلام. لقد رأى الإمام عليه‌السلام ما وصل إليه حال المسلمين من التردّي ؛ عقائدياً وأخلاقياً ، واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً.

وكان كلّ هذا التردّي من جرّاء السّياسات التي أبعدت الاُمّة عن مسار الإسلام الأصيل من خلال ممارسات معاوية التي بلغت ذروتها في فرض يزيد بالقوة خليفةً على المسلمين ، فهبّ (سلام الله عليه) بعد هلاك معاوية إلى

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٤ / ١٦.

٩٢

تفجير ثورته الكبرى التي أدّت إلى إيقاظ النّفوس ، وتحريك إرادة الاُمّة.

وإليك بعض معالم سياسات الجاهلية الاُموية التي تصدّى لتنفيذها معاوية :

١ ـ سياسته الاقتصادية :

لم تكن لمعاوية أيّة سياسة اقتصادية في المال حسب المعنى المتداول لهذه الكلمة ، وإنّما كان تصرّفه في جباية الأموال وإنفاقها خاضعاً لرغباته وأهوائه ، فهو يهب الثّراء العريض للمؤيدين له ويحرم معارضيه من العطاء ، ويأخذ الأموال ويفرض الضّرائب بغير حقّ ، وقد شاع في عصر معاوية الفقر والحرمان عند الأكثرية السّاحقة من المسلمين ، فيما تراكمت الثروات عند فئة قليلة راحت تتحكّم في مصير المسلمين وشؤونهم.

وهذه بعض الخطوط الرئيسة في سياسته الاقتصادية :

أ ـ الحرمان الاقتصادي :

أشاع معاوية الحرمان الاقتصادي في الأقطار التي كانت تضمّ الجبهة المعارضة له ، مثل :

* يثرب :

لم ينفق معاوية على أهل يثرب أيّ شيء من المال ؛ لأنّ فيهم كثيراً من الشّخصيات المعارضة للاُسرة الأموية والطّامعة في الحكم. يقول المؤرخون : إنّ معاوية أجبرهم على بيع أملاكهم فاشتراها بأبخس الأثمان ، وقد أرسل قيّماً على أملاكه ؛ لتحصيل وارداتها فمنعوه عنها ، وقابلوا حاكمهم عثمان بن محمّد وقالوا له : إنّ هذه الأموال لنا كلّها ، وإنّ معاوية آثر علينا في عطائنا ، ولم يُعطنا

٩٣

درهماً حتّى مضّنا الزمان ونالتنا المجاعة ، فاشتراها بجزء من مئة من ثمنها ، فردّ عليهم حاكم المدينة بأقسى القول وأمّره (١).

وقد نصب معاوية على الحجاز مروان بن الحكم تارةً ، وسعيد بن العاص مرّة اُخرى ، وكان يعزل الأوّل ويولّي الثاني ، وقد جهدا معاً في إذلال أهل المدينة وإفقارهم.

* العراق :

فرض معاوية على أهل العراق عقوبات اقتصاديةً بصفته المركز الرئيسي للمعارضة ، وكان واليه المغيرة بن شعبة يحبس العطاء والأرزاق عن أهل الكوفة ، وقد سار الحكّام الاُمويّون بعد معاوية على هذا النهج في اضطهاد أهل العراق وحرمانهم (٢) ؛ باعتبارهم الثقل الأكبر في الخطّ الواعي الذي وقف مع أمير المؤمنين عليه‌السلام.

ب ـ استخدام المال لتثبيت ملكه :

استخدم معاوية بيت المال لتثبيت ملكه وسلطانه ، واتّخذ المال سلاحاً يمكّنه من التسلّط على الاُمّة ، فقد كان من عناصر سياسة الاُمويّين استخدام المال سلاحاً للإرهاب وأداةً للتقريب ، فحرم منه فئةً من النّاس ، وأغدق أضعافاً مضاعفة لطائفة اُخرى ثمناً لضمائرهم وضماناً لصمتهم (٣).

ووهب معاوية خراج مصر لعمرو بن العاص ، وجعله طعمة له مادام

__________________

(١) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ١٢٣.

(٢) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ١٢٥ ، وراجع العقد الفريد ٤ / ٢٥٩.

(٣) المصدر السابق ٢ / ١٢٧ ، نقلاً عن اتجاهات الشّعر العربي ـ د. محمّد مصطفى / ٢٧.

٩٤

حيّاً ، وذلك لتعاونه معه على مناجزة أمير المؤمنين عليه‌السلام (١).

ج ـ شراء الذمم :

فتح معاوية باباً جديداً في سياسته الاقتصادية وهي شراء الذمم ، فقد أعلن عن ذلك بكلّ دناءة قائلاً : والله لأستميلنّ بالأموال ثُقات عليّ ، ولاُقسّمنّ فيهم الأموال حتّى تغلب دنياي آخرته (٢).

كما روي أنّه وفد عليه جماعة من أشراف العرب فأعطى كلّ واحد منهم مئة ألف درهم ، وأعطى الحتات عمّ الفرزدق سبعين ألفاً ، فلمّا علم الحتات بذلك رجع مغضباً إلى معاوية ، فقال له ـ بلا خجل ولا حياء ـ : إنّي اشتريت من القوم دينهم ، ووكلتك إلى دينك.

فقال الحتات : اشتر منّي ديني. فأمر له بإتمام الجائزة (٣).

د ـ ضريبة النيروز :

فرض معاوية على المسلمين ضريبة النيروز في بدعة سنّها من غير دليل في الشّريعة الإسلاميّة ؛ ليسدّ بها نفقاته ، وبالغ في إرهاق النّاس واضطهادهم على أدائها ، وقد بلغت فيما يقول المؤرخون : عشرة ملايين درهم ، وهي من الضّرائب التي يألفها المسلمون ، وقد اتّخذها الحكّام من بعده سنّةً فأرغموا المسلمين على أدائها (٤).

__________________

(١) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ١٢٧.

(٢) راجع وقعة صفّين ـ لنصر بن مزاحم / ٤٩٥ ، وشرح نهج البلاغة ٢ / ٢٩٣.

(٣) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ١٢٨ ـ ١٢٩.

(٤) المصدر السابق ٢ / ١٣١ ، وراجع الحياة الفكرية في الإسلام / ٤٢.

٩٥

٢ ـ سياسة التفرقة :

بنى معاوية سياسته على تفريق كلمة المسلمين ، إيماناً منه بأنّ الحكم لا يستقرّ له إلاّ بإشاعة العداء بين أبناء الاُمّة الإسلاميّة ، «وكانت لمعاوية حيلته التي كرّرها وأتقنها وبرع فيها ، واستخدمها مع خصومه في الدولة من المسلمين وغير المسلمين ، وكان قوام تلك الحيلة ، العمل الدائب على التفرقة والتخذيل بين خصومه بإلقاء الشّبهات بينهم وإثارة الإحن فيهم ، ومنهم مَنْ كان من أهل بيته وذوي قرباه ... كان لا يُطيق أن يرى رجلين ذوي خطر على وفاق ، وكان التنافس الفطري بين ذوي الأخطار ممّا يعينه على الإيقاع بهم» (١).

أ ـ اضطهاد الموالي :

بالغ معاوية في اضطهاد الموالي وإذلالهم ، وقد رام أن يبيدهم إبادةً شاملةً. يقول المؤرخون : إنّه دعا الأحنف بن قيس ، وسمرة بن جندب ، وقال لهما : إنّي رأيت هذه الحمراء قد كثُرت ، وأراها قد قطعت على السّلف ، وكأنّي أنظر إلى وثبة منهم على العرب والسّلطان ، فقد رأيت أن أقتل شطراً منهم ، وأدع شطراً لإقامة السّوق وعمارة الطريق (٢).

ب ـ العصبية القبلية :

أحيا معاوية العصبيات القبلية ، وقد ظهرت في الشّعر العربي صور مُريعة ومؤلمة من ألوان الصّراع الذي كانت السّلطة الاُموية تختلقه ؛ لإشغال النّاس عن التدخّل في الشؤون السّياسية، وقال المؤرّخون :

__________________

(١) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ١٣٥ ، عن العقّاد في كتابه «معاوية في الميزان» / ٦٤.

(٢) العقد الفريد ٢ / ٢٦٠.

٩٦

إنّ معاوية عمد إلى إثارة الأحقاد القديمة بين الأوس والخزرج ؛ محاولاً بذلك التقليل من أهمّيتهم ، وإسقاط مكانتهم أمام العالم العربي والإسلامي ، كما تعصّب لليمنيّين على المُضريّين ، وأشعل نار الفتنة فيما بينهم حتّى لا تتّحد لهم كلمة تضرّ بمصالح دولته (١).

٣ ـ سياسة البطش والجبروت :

ساس معاوية الاُمّة بسياسة البطش والقمع ، فاستهان بمقدّراتها وكرامتها ، وقد أعلن ـ بعد الصّلح ـ أنّه قاتل المسلمين وسفك دماءهم ؛ كي يتأمّر عليهم ، وقد أدلى بتصريح عبّر فيه عن كبريائه وغطرسته فقال : نحن الزمان ، مَنْ رفعناه ارتفع ، ومَنْ وضعناه اتّضع (٢).

وسار عمّاله وولاته على هذه الخطّة الغادرة ، فقد خاطب عتبة بن أبي سفيان المصريّين بقوله : فوالله لأقطعنّ بطون السّياط على ظهوركم.

وجاء في خطاب لخالد القسري في أهل مكة : فإنّي والله ما اُوتي لي بأحد يطعن على إمامه (يعني معاوية) إلاّ صلبته في الحرم (٣).

٤ ـ الخلاعة والمجون والاستخفاف بالقيم الدينية :

عُرف معاوية بالخلاعة والمجون. يقول ابن أبي الحديد : كان معاوية أيام عثمان شديد التهتّك ، موسوماً بكلّ قبيح ، وكان في أيام عمر يستر نفسه قليلاً ؛ خوفاً منه ، إلاّ أنّه كان يلبس الحرير والديباج ، ويشرب في آنية الذهب والفضّة ، ويركب البغلات ذوات السّروج المحلاّت بها ـ أي بالذهب ـ وعليها جلال الديباج والوشي ...

__________________

(١) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ١٣٧.

(٢) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ١٣٨ ـ ١٣٩ ، والعقد الفريد ٢ / ١٥٩.

(٣) الأغاني ـ لأبي الفرج الأصفهاني ٢٢ / ٣٨٢ طبعة بيروت.

٩٧

ونقل النّاس عنه في كتب السّيرة : أنّه كان يشرب الخمر في أيام عثمان في الشّام (١).

وروي عن عبد الله بن بريدة قوله : دخلتُ أنا وأبي على معاوية فأجلسنا على الفراش ، ثمّ اُوتينا بالطعام فأكلنا ، ثمّ اُوتينا بالشّراب فشرب معاوية! ثمّ ناول أبي فقال : ما شربته منذ حرّمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

وثمة روايات عديدة تحدّثت عن أكل معاوية للربا ، منها : أنّ معاوية باع سقاية من ذهب ، أو ورق بأكثر من وزنها ، فقال له أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن مثل هذا إلاّ مِثلاً بمثل. فقال معاوية : ما أرى به بأساً. فقال له أبو الدرداء : مَنْ يُعذرُني من معاوية؟! أنا أخبره عن رسول الله وهو يخبرني عن رأيه! لا اُساكنك بأرض أنت بها. ثمّ قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطّاب فذكر له ذلك ، فكتب عمر إلى معاوية : أن لا تبع ذلك إلاّ مثلاً بمثل ووزناً بوزن (٣).

ومن مظاهر استخفاف معاوية بالقيم الإسلاميّة استلحاقه زياد بن عبيد الرومي وإلصاقه بنسبه من دون بيّنة شرعيّة ، وإنّما اعتمد على شهادة أبي مريم الخمّار وهو ممّا لا يثبت به نسب شرعي ، وقد خالف بذلك قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الولد للفراش وللعاهر الحجر» (٤).

٥ ـ إظهار الحقد على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والعداء لأهل بيته عليهم‌السلام :

حقد معاوية على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد مكث في أيام خلافته أربعين جمعةً لا يُصلّي عليه ، وسأله بعض أصحابه عن ذلك فقال : «لا يمنعني عن ذكره إلاّ أن

__________________

(١) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ١٤٤ ـ ١٤٥.

(٢) مسند أحمد بن حنبل ٥ / ٣٤٧.

(٣) سنن النسائي ٧ / ٢٧٩.

(٤) راجع قصة الاستلحاق وأسبابها وآثارها في (حياة الإمام الحسن بن علي) ٢ / ١٧٤ ـ ١٩٠.

٩٨

تشمخ رجال بآنافها» (١). وسمع المؤذّن يقول : «أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله ...» ، واندفع يقول : «لله أبوك يابن عبد الله! لقد كنت عالي الهمّة ، ما رضيت لنفسك إلاّ أن يُقرن اسمك باسم ربّ العالمين» (٢).

وسخّر معاوية جميع أجهزته للحطّ من قيمة أهل البيت عليهم‌السلام الذين هم وديعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتّى استخدم أخطر الوسائل في محاربتهم وإقصائهم عن واقع الحياة الإسلاميّة ، وكان من بين ما استخدمه في ذلك :

١ ـ تسخير الوعّاظ ليحوّلوا القلوب عن أهل البيت عليهم‌السلام.

٢ ـ افتعال الأخبار على لسان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله للحطّ من قيمة أهل البيت عليهم‌السلام ، وقد استفاد من أبي هريرة الدوسي ، وسمرة بن جندب ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، حيث اختلقوا مئات الأحاديث على لسان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٣ ـ استخدم معاوية معاهد التعليم وأجهزة الكتاتيب ؛ لتغذية النَشْء ببغض أهل البيت عليهم‌السلام وخلق جيل معاد لهم.

وتمادى معاوية في عدائه لأمير المؤمنين عليه‌السلام فأعلن سبّه ولعنه في نواديه العامّة والخاصّة ، وأوعز إلى جميع عمّاله وولاته أن يذيعوا سبّه بين النّاس ، وسرى سبّ الإمام في جميع أنحاء العالم الإسلامي. وقد خطب معاوية في أهل الشّام فقال لهم : أيّها النّاس ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لي : إنّك ستلي الخلافة من بعدي فاختر الأرض المقدّسة ـ يعني الشّام ـ فإنّ فيها الأبدال ، وقد اخترتكم فالعنوا أبا تراب (٣).

__________________

(١) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ١٥١ ، عن النصائح الكافية / ٩٧.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ١٠ / ١٠١.

(٣) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ١٦٠ ، وشرح نهج البلاغة ٣ / ٣٦١.

٩٩

٦ ـ العنف مع شيعة أهل البيت عليهم‌السلام :

اضطُهدت الشّيعة أيام معاوية اضطهاداً رسمياً ، ومورس معهم أشدُّ أنواع القمع والقهر. وقد وصف الإمام محمّد الباقر عليه‌السلام الإرهاب الاُموي بقوله عليه‌السلام : «وقُتلت شيعتنا بكلّ بلدة ، وقُطّعت الأيدي والأرجل على الظنّة ، وكان مَنْ يُذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجن ، أو نُهب ماله ، أو هُدمت داره» (١).

وعمد معاوية إلى إبادة القوى المفكّرة والواعية من الشّيعة ، وقد ساق أفواجاً منهم إلى ساحات الإعدام ، من قبيل : حجر بن عدي ، ورشيد الهجري ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وأوفى بن حصن.

ولم يقتصر معاوية على تنكيله برجال الشّيعة ، وإنّما تجاوز ظلمه إلى نسائهم ، فأشاع الذعر والإرهاب في العديد منهنّ ، مثل : الزرقاء بنت عدي ، وسودة بنت عمارة ، واُمّ الخير البارقيّة.

وأوعز معاوية إلى جميع عمّاله بهدم دور الشّيعة ، ومحو أسمائهم من الديوان ، وقطع عطائهم ورزقهم ، كذلك عهد إلى عمّاله بعدم قبول شهادتهم في القضاء وغيره ؛ مبالغة في إذلالهم وتحقيرهم.

إنّ انحرافات معاوية وجرائمه لا يمكن استيعابها في هذه الإشارات السّريعة ، وهي تتطلّب كتاباً خاصّاً بها لكثرتها وسعتها ، ولقد كنّا نرمي في الدرجة الاُولى من هذه الإشارات إلى التمهيد للتطرّق إلى ذِكر جريمته الكبرى التي أدّت بالإمام الحسين عليه‌السلام إلى إعلان ثورته. هذه الجريمة التي تمثّلت في فرض ابنه يزيد الفاسق وليّاً للعهد.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٣ / ١٥ ، والطبقات الكبرى ٥ / ٩٥.

١٠٠