أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء

المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء

المؤلف:

المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: ليلى
الطبعة: ١
ISBN: 964-5688-21-3
الصفحات: ٢٤٤

وقد اشتدّ به العطش ، وأحاط القوم بالعبّاس عليه‌السلام فاقتطعوه عنه ، فجعل يقاتلهم وحده حتّى قُتل (رحمة الله عليه) (١).

ونظر الحسين عليه‌السلام إلى ما حوله ، ومدّ ببصره إلى أقصى الميدان فلم يرَ أحداً من أصحابه وأهل بيته إلاّ وهو يسبح بدم الشهادة ، مقطّعَ الأوصال والأعضاء.

وهكذا بقي الإمام عليه‌السلام وحده يحمل سيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين جنبيه قلب علي عليه‌السلام ، وبيده راية الحقّ البيضاء ، وعلى لسانه كلمة التقوى.

الحسين عليه‌السلام وحيداً في الميدان

حينما التفت أبو عبد الله الحسين عليه‌السلام يميناً وشمالاً ولم يرَ أحداً يذبّ عن حرم رسول الله أخذ ينادي : «هل من ذابٍّ يذبّ عنا؟» فخرج الإمام زين العابدين عليه‌السلام من الفسطاط ، وكان مريضاً لا يقدر أن يحمل سيفه واُمّ كلثوم تنادي خلفه : يا بُني ارجع. فقال : «يا عمّتاه ، ذريني اُقاتل بين يدي ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وإذا بالحسين عليه‌السلام ينادي : «يا اُمّ كلثوم ، خذيه لئلاّ تبقى الأرض خالية من نسل آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٢).

ويقول المؤرخون : إنّه لمّا رجع الحسين عليه‌السلام من المسنّاة إلى فسطاطه تقدّم إليه شمر بن ذي الجوشن في جماعة من أصحابه فأحاطوا به ، فأسرع منهم رجل يُقال له : مالك بن النسر الكندي فشتم الحسين عليه‌السلام ، وضربه على رأسه بالسيف ، وكان عليه قلنسوة فقطعها حتّى وصل إلى رأسه فأدماه

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ١٠٩.

(٢) بحار الأنوار ٤٥ / ٤٦.

٢٠١

فامتلأت القلنسوة دماً ، فقال له الحسين عليه‌السلام : «لا أكلت بيمينك ولا شربت بها ، وحشرك الله مع القوم الظالمين».

ثمّ ألقى القلنسوة ودعا بخرقة فشدَّ بها رأسَه ، واستدعى قلنْسوة اُخرى فلبسها واعتمّ عليها ، ورجع عنه شمر بن ذي الجوشن ومَنْ كان معه إلى مواضعهم ، فمكث هنيئة ثمّ عاد وعادوا إليه وأحاطوا به (١).

حمل الإمام الحسين عليه‌السلام سيفه وراح يرفع صوته على عادة الحروب ونظامها في البراز ، وراح ينازل فرسانهم ، ويواجه ضرباتهم ببسالة نادرة وشجاعة فذّة ، فما برز إليه خصم إلاّ وركع تحت سيفه ركوع الذلّ والهزيمة.

قال حميد بن مسلم : فوالله ، ما رأيت مكثوراً قطّ قد قُتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً ولا أمضى جناناً منه! أَن كانت الرجّالة لتشدّ عليه فيشدَّ عليها بسيفه فتنكشف عن شماله انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب (٢).

ولمّا عجزوا عن مقاتلته لجأوا إلى أساليب الجبناء ؛ فقد استدعى شمر الفرسان فصاروا في ظهور الرجّالة ، وأمر الرماة أنْ يرموه ، فرشقوه بالسّهام حتّى صار جسمُه كالقنفذ فأحجم عنهم ، فوقفوا بإزائه ، وخرجت أُخته زينب إلى باب الفسطاط فنادت عمر بن سعد بن أبي وقاص : ويلك يا عمر! أيُقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟! فلم يجبها عمر بشيء ، فنادت : ويحكم! أما فيكم مسلم؟! فلم يجبها أحد بشيء ، ونادى شمر بن ذي الجوشن الفرسان والرجّالة فقال : ويحكم! ما تنتظرون بالرجل؟ ثكلتكم أُمهاتكم! فحملوا عليه من كلّ جانب.

فضربه زُرعة بن شريك على كتفه اليسرى فقطعها ، وضربه آخر منهم على عاتقه فكبا منها لوجهه ، وطعنه سنان بن أنس النخعي بالرمح فصرعه ،

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ١١٠ ، إعلام الورى ١ / ٤٦٧.

(٢) الإرشاد ٢ / ١١١ ، إعلام الورى ١ / ٤٦٨.

٢٠٢

وبدر إليه خُولى بن يزيد الأصبحي فنزل ليحتزّ رأسه فأرعد ، فقال له شمر : فتَّ الله في عضدك ، ما لك ترعد؟!

ونزل شمر إليه فذبحه ، ثمّ رفع رأسه إلى خولى بن يزيد فقال : احمله إلى الأمير عمر بن سعد.

ثمّ أقبلوا على سلب الحسين عليه‌السلام فأخذ قميصه إِسحاق بن حَيْوَة الحضرمي ، وأخذ سراويله أبجر بن كعب ، وأخذ عمامته أخنس بن مرثد ، وأخذ سيفه رجل من بني دارم ، وانتهبوا رحله وإبله وأثقاله وسلبوا نساءه (١).

امتداد الحمرة في السّماء

ومادت الأرض ، واسودَّتْ آفاق الكون ، وامتدت حمرة رهيبة في السّماء كانت نذيراً من الله لاُولئك السفّاكين المجرمين الذين انتهكوا جميع حُرُماتِ الله (٢).

وصبغ فرس الحسين عليه‌السلام ناصيته بدم الإمام الشّهيد المظلوم ، وأقبل يركض مذعوراً نحو خيام الحسين عليه‌السلام ؛ ليعلم العيال بمقتله واستشهاده. وقد صوّرت زيارة الناحية المقدّسة هذا المشهد المأساوي كما يلي :

«فلمّا نظرت النساء إلى الجواد مخزيّاً ، والسّرج عليه ملويّاً ؛ خرجن من الخدور ناشرات الشعور ، على الخدود لاطمات ، وللوجوه سافرات ، وبالعويل داعيات ، وبعد العزّ مذَلَّلات ، وإلى مصرع الحسين مبادرات».

ونادت عقيلة بني هاشم زينب بنت عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وهي ثكلى : وا محمداه! وا أبتاه! وا علياه! وا جعفراه! وا حمزتاه! هذا حسين بالعراء ، صريع

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ١١٢ ، إعلام الورى ١ / ٤٦٩.

(٢) راجع كشف الغمة ٢ / ٩ ، سير أعلام النبلاء ٣ / ٣١٢ ، تاريخ الإسلام ـ للذهبي / ١٥ ، حوادث سنة ٦١ ، إعلام الورى ١ / ٤٢٩.

٢٠٣

بكربلاء ، ليت السّماء أُطبقت على الأرض! وليت الجبال تدكدكت على السّهل (١)!

حرق الخيام وسلب حرائر النبوة

وعمد المجرمون اللئام إلى حرق خيام الإمام أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام غير حافلين بمَنْ في الخيام من بنات الرسالة وعقائل النبوّة. قال الإمام زين العابدين عليه‌السلام : «والله ، ما نظرت إلى عمّاتي وأخواتي إلاّ وخنقتني العبرة ، وتذكّرت فرارهن يوم الطفّ من خيمة إلى خيمة ، ومن خباء إلى خباء ، ومنادي القوم ينادي : أحرقوا بيوت الظالمين» (٢).

وعمد أراذل جيش الكوفة إلى سلب حرائر النبوّة وعقائل الرسالة ، فنهبوا ما عليهنّ من حليّ وحلل ، كما نهبوا ما في الخيام من متاع.

الخيل تدوس الجثمان الطاهر

لقد بانت خِسّة الاُمويّين لكلّ ذي عينين ، وعبّرت عن مسخفي الوجدان الذي كانوا يحملونه ، وماتت الإنسانيّة فتحوّلت الأجساد المتحركة إلى وحوش دنيئة لا تملك ذرّة من رحمة ، ولا يزعها وازعٌ من بقيّة ضمير إنساني.

فحين حاصرت جيوش الضلالة أهل بيت النبوّة عليهم‌السلام في عرصات كربلاء كتب ابن زياد إلى عمر بن سعد كتاباً وهو يبيّن له ما يستهدفه من نتيجة للمعركة ، وما تنطوي عليه نفسه الشّريرة من حقد دفين على الرسالة والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكلّ ما يمتّ إليهما بصلة أو قرابة ، وقد جاء فيه ما يلي :

أما بعد ، فإنّي لم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه ، ولا لتطاوله ، ولا لتمنّيه السّلامة والبقاء ، ولا لتعقد له عندي شافعاً ، انظر فإن نزل حسين وأصحابه على

__________________

(١) مقتل الحسين ـ للمقرم / ٣٤٦.

(٢) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ، نقلاً عن تاريخ المظفري / ٢٣٨.

٢٠٤

الحكم واستسلموا فابعث بهم سلماً ، وإن أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم ؛ فإنّهم لذلك مستحقّون ، فإن قُتل الحسين فأوطئ الخيل صدره وظهره ؛ فإنّه عاقّ مشاقّ ، قاطع ظلوم ، وليس في هذا أن يضرّ بعد الموت شيئاً ، ولكن عليّ قول ، لو قد قتلته فعلت هذا به (١).

على أنّ ابن زياد كان من أعمدة الحكم الاُموي. ولا نعلم أوامر صدرت من أحد أفراده بحيث كانت ترعى حرمة أو تقديراً لمقام ابن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي لم يكن خافياً على أحد من الاُمويّين.

وهكذا انبرى ابن سعد بعد مقتل ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لينفّذ أوامر سيّده الحاقد ابن زياد ، فنادى في أصحابه : مَنْ ينتدب للحسين فيوطئه فرسه؟

فانتدب عشرة ، فداسوا جسد الحسين عليه‌السلام بخيولهم حتّى رضّوا ظهره (٢).

عقيلة بني هاشم أمام الجثمان العظيم

ووقفت حفيدة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وابنة أمير المؤمنين عليه‌السلام العقيلة زينب عليها‌السلام على جثمان أخيها العظيم ، وهي تدعو قائلةً : «اللّهمّ تقبّل هذا القربان» (٣).

إنَّ الإنسانيّة لتنحني إجلالاً وخضوعاً أمام هذا الإيمان الذي هو السرّ الوحيد في خلود تضحية الحسين عليه‌السلام وأصحابه (رضوان الله تعالى عليهم أجمعين).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣١٤ ، إعلام الورى ١ / ٤٥٣.

(٢) إعلام الورى ١ / ٤٧٠ ، مقتل الحسين ـ للخوارزمي ٢ / ٣٩.

(٣) حياة الإمام الحسين بن علي عليه‌السلام ٣ / ٣٠٤.

٢٠٥
٢٠٦

الفصل الثالث

نتائج الثورة الحسينيّة

انبعثت ثورة الإمام الحسين عليه‌السلام من ضمير الاُمّة الحيّ ، ومن وحي الرسالة الإسلاميّة المقدّسة ، ومن البيت الذي انطلقت منه الدعوة الإسلاميّة للبشرية جمعاء ، البيت الذي حمى الرسالة والرسول ودافع عنهما حتّى استقام عمود الدين. وأحدثت هذه الثورة المباركة في التأريخ الإنساني عاصفة تقوّض الذلّ والاستسلام ، وتدكّ عروش الظالمين ، وأضحت مشعلاً ينير الدرب لكلّ المخلصين من أجل حياة حرّة كريمة في ظلّ طاعة الله تعالى.

ولا يمكن لأحد أن يغفل عمّا تركته هذه الثورة من آثار في الأيام والسّنوات التي تلتها ، رغم كلّ التشويه والتشويش الذي يحاول أن يمنع من سطوع الحقيقة لناشدها. وبالإمكان أن نلحظ بوضوح آثاراً كثيرة لهذه الثورة العظيمة عبر الأجيال وفي حياة الرسالة الإسلاميّة ، بالرغم من أنّا لا نحيط علماً بجميعها طبعاً ، وأهم تلك الآثار هي :

١ ـ فضح الاُمويّين وتحطيم الإطار الديني المزيّف

بفعل ثورة الإمام الحسين عليه‌السلام تكشّفت للناس حقيقة النزعة الاُموية المتسلّطة على الحكم ، ونسفت تضحيات الثائرين كلّ الاُطر الدينية المزيّفة

٢٠٧

التي استطاع الاُمويّون من خلالها تحشيد الجيوش للقضاء على الثورة ، مستعينين بحالة غياب الوعي ، وشيوع الجهل الذي خلّفته السّقيفة. ونلمس هذا الزيف في قول مسلم بن عمرو الباهلي يؤنّب مسلم بن عقيل ربيب بيت النبوّة ، والعبد الصالح لخروجه على يزيد الفاسق ، ويفتخر بموقفه قائلاً : أنا مَنْ عرف الحقّ إذ تركته ، ونصح الأُمّة والإمام إذ غششته ، وسمع وأطاع إذ عصيته (١).

وهذا عمرو بن الحجاج الزبيدي ـ من قادة الجيش الأموي ـ يحفّز النّاس لمواجهة الإمام الحسين عليه‌السلام حين وجد منهم تردّداً وتباطؤاً عن الأوامر قائلاً : يا أهل الكوفة ، الزموا طاعتكم وجماعتكم ، ولا ترتابوا في قتل مَنْ مرق من الدين وخالف الإمام (٢).

فالدين في دعوى الاُمويّين طاعة يزيد ومقاتلة الحسين عليه‌السلام.

ولكن حركة الإمام الحسين عليه‌السلام ورفضه البيعة وتضحياته الجليلة نبّهت الاُمّة ، وأوضحت لها ما طُمس بفعل التضليل ؛ فقد وقف الإمام الحسين عليه‌السلام يخاطبهم ويوضّح مكانته في الرسالة والمجتمع الإسلامي : «أمّا بعد ، فانسبوني فانظروا مَنْ أنا ، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم فعاتبوها ، وانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟! ألست ابن بنت نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وابن وصيه وابن عمّه ، وأوّل المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء من عند ربّه؟!».

هذا بالإضافة إلى كلّ الخطب والمحاورات التي جرت في وضع متوتّر حسّاس أوضح للناس مكانة طرفي النزاع. ثمّ ما آلت إليه نتيجة المعركة من

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٢٨١.

(٢) المصدر السابق ٤ / ٣٣١.

٢٠٨

بشاعة في السّلوك والفكر ؛ فاتّضحت خسّة الاُمويّين ودناءتهم ودجلهم.

وكان الأثر البالغ في مواصلة الثورة الحسينيّة بدون سلاح دمويّ حين واصلت العقيلة زينب بنت أمير المؤمنين عليه‌السلام فضح الجرائم التي ارتكبها بنو اُميّة ، ومن ثمّ توضيح رسالة الإمام الحسين عليه‌السلام.

إنّ جميع المسلمين متّفقون ـ على اختلاف مذاهبهم وآرائهم ـ بأنّ الموقف الحسيني كان يمثّل موقفاً إسلامياً شرعيّاً ، وأنّ يزيد كان مرتدّاً ومتمردّاً على الإسلام والشّرع الإلهي والموازين الدينية.

٢ ـ إحياء الرسالة الإسلاميّة

لقد كان استشهاد الإمام الحسين عليه‌السلام هزّة لضمير الاُمّة ، وعامل بعث لإرادتها المتخاذلة ، وعامل انتباه مستمر للمنحدَر الذي كانت تسير فيه بتوجيه من بني اُميّة ، ومَنْ سبقهم من الحكّام الذين لم يحرصوا على وصول الإسلام نقيّاً إلى مَنْ يليهم من الأجيال.

لقد استطاع سبط الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يُبيّن الموقف النظري والعملي الشّرعي للاُمّة تجاه الانحراف الذي يصيبها حينما يستبدّ بها الطّغاة ، فهل انتصر الحسين عليه‌السلام في تحقيق هذا الهدف؟

لعلّنا نجد الجواب فيما قاله الإمام زين العابدين عليه‌السلام حينما سأله إبراهيم بن طلحة بن عبد الله قائلاً : مَنْ الغالب؟ قال عليه‌السلام : «إذا دخل وقت الصلاة فأذّن وأقم تعرف الغالب» (١).

لقد كان الحسين عليه‌السلام هو الغالب إذ تحقق أحد أهم أهدافه السّامية بعد محاولات الجاهليّة لإماتته وإخراجه من معترك الحياة.

__________________

(١) حياة الإمام الحسين بن علي عليهما‌السلام ٣ / ٤٤٠ عن أمالي الشيخ الطوسي.

٢٠٩

٣ ـ الشعور بالإثم وشيوع النقمة على الاُمويّين

اشتعلت شرارة الشّعور بالإثم في نفوس النّاس ، وكان يزيدها توهجاً واشتعالاً خطابات الإمام عليّ بن الحسين عليهما‌السلام ، وزينب بنت عليّ بن أبي طالب ، وبقية أفراد عائلة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله التي ساقها الطّغاة الاُمويّون كسبايا من كربلاء إلى الكوفة فالشام.

فقد وقفت زينب عليها‌السلام في أهل الكوفة حين احتشدوا يُحدّقون في موكب رؤوس الشهداء والسّبايا ، ويبكون ندماً على ما فرّطوا وما حصل لآل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فأشارت إليهم أن اسكتوا فسكتوا ، فقالت :

أما بعد :

يا أهل الكوفة أتبكون؟ فلا سكنت العبرة ، ولا هدأت الرّنة ، إنّما مثلكم مثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً ، تتّخذون أيمانكم دخلاً بينكم ، ألا ساء ما تزرون ، أي والله ، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً ، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ، فلن ترحضوها بغسل أبداً ، وكيف ترحضون قتل سبط خاتم النبوّة ، ومعدن الرسالة ، ومدار حجّتكم ، ومنار محجّتكم ، وهو سيد شباب أهل الجّنة؟».

وتكلّم عليّ بن الحسين عليهما‌السلام فقال :

أيّها النّاس ، ناشدتكم الله ، هل تعلمون أنّكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه ، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه؟ فتبّاً لكم لما قدمتم لأنفسكم ، وسوأة لرأيكم! بأيّ عين تنظرون إلى رسول الله إذ يقول لكم : قتلتم عترتي ، وانتهكتم حرمتي فلستم من اُمّتي؟ (١).

__________________

(١) حياة الإمام الحسين بن علي عليهما‌السلام ٣ / ٣٤١ عن مثير الأحزان.

٢١٠

وروي أيضاً أنّ يزيد بن معاوية فرح فرحاً شديداً ، وأكرم عبيد الله بن زياد ، ولكن ما لبث أن ندم ، ووقع الخلاف بينه وبين ابن زياد حين علم بحال النّاس وسخطهم عليه ، ولعنهم وسبّهم (١).

ولقد كان الشّعور بالإثم يمثّل موقفاً عاطفياً مفعماً بالحرارة والحيوية والرغبة الشديدة بالانتقام من الحكم الاُموي ؛ ممّا دفع بالكثير في الجماعات الإسلاميّة إلى العمل للتكفير عن موقفهم المتخاذل عن نصرة الإمام الحسين عليه‌السلام بصيغة ثورة مسلحة لمواجهة الحكم الاُموي الظالم.

صحيح إنّه لا يمكننا أن نعتبر موقف المسلمين هذا موقفاً عقلياً نابعاً من إدراك فساد الحكم الاُموي وبعده عن الرسالة الإسلاميّة ، إلاّ إنّه كان موقفاً صادقاً يصعب على الحاكمين السّيطرة عليه كالسيطرة على الموقف العقلاني ، فكان الحكّام الظلمة وعبر مسيرة العداء لأهل البيت النبوي عليهم‌السلام يحسبون له ألف حساب.

٤ ـ إحياء إرادة الاُمّة وروح الجهاد فيها (٢)

كانت ثورة الإمام الحسين عليه‌السلام السّبب في إحياء الإرادة لدى الجماهير المسلمة وانبعاث الروح النضالية ، وهزّة قويّة في ضمير الإنسان المسلم الذي ركن إلى الخنوع والتسليم ، عاجزاً عن مواجهة ذاته ومواجهة الحاكم الظالم الذي يعبث بالاُمّة كيف يشاء ، مؤطّراً تحرّكه بغطاء ديني يحوكه بالدجل والنفاق ، وبأيدي وعّاظ السّلاطين أحياناً ، واُخرى بحذقه ومهارته في المكر والحيلة.

فتعلّم الإنسان المسلم من ثورة الحسين عليه‌السلام أن لا يستسلم ولا يساوم ، __________________

(١) تأريخ الطبري ٤ / ٣٨٨ ، تأريخ الخلفاء / ٢٠٨.

(٢) للمزيد من التفصيل راجع ثورة الحسين (النظرية ، الموقف ، النتائج) ـ للسيّد محمّد باقر الحكيم / ١٠٠.

٢١١

وأن يصرخ معبّراً عن رأيه ورغبته في حياة أفضل في ظلّ حكم يتمتّع بالشّرعية ، أو على الأقل برضى الجماهير.

ونجد انطلاقات عديدة لثورات على الحكم الأموي وإن لم يُكتب لها النجاح إلاّ إنّها توالت حتّى سقط النظام. ورغم أنّ أهدافها كانت متفاوتة إلاّ إنّها كانت تستلهم من معين ثورة الحسين عليه‌السلام ، أو تستعين بالظرف الذي خلقته. فمن ذلك ثورة التوّابين (١) التي كانت ردّة فعل مباشرة للثورة الحسينيّة ، وثورة المدينة (٢) ، وثورة المختار الثقفي (٣) الذي تمكّن من محاكمة المشاركين في قتل الحسين عليه‌السلام ، ومجازاتهم بأفعالهم الشنيعة وجرائمهم الفضيعة ، ثمّ ثورة مطرف بن المغيرة ، وثورة ابن الأشعث ، وثورة زيد بن عليّ بن الحسين عليهما‌السلام (٤) ، وثورة أبي السّرايا (٥).

لقد أحيت الثورة الحسينيّة روح الجهاد وأجّجتها ، وبقي النبض الثائر في الاُمّة حيّاً رغم توالي الفشل اللاحق ببعض تلكم الثورات ، إلاّ إنّ الاُمّة الإسلاميّة أثبتت حيويّتها ، وتخلّصت من المسخ الذي كاد أن يطيح بها بأيدي الاُمويّين وأسلافهم.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٤٢٦ ، ٤٤٩.

(٢) المصدر السابق ٤ / ٤٦٤.

(٣) المصدر السابق ٤ / ٤٨٧.

(٤) مقاتل الطالبيين / ١٣٥.

(٥) المصدر السابق / ٥٢٣.

٢١٢

الفصل الرابع

من تراث الإمام الحسين عليه‌السلام

نظرة عامّة في تراث الإمام الحسين عليه‌السلام

الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهما‌السلام قائد مبدئي ، وأحد أعلام الهداية الربّانية الذين اختارهم الله لحفظ دينه وشريعته ، وجعلهم اُمناء على تطبيقها ، وطهّرهم من كلّ رجس ليصونوها من أيّ تحريف أو تحوير.

إنّ المحنة التي عاشها الأئمّة الثلاثة عليّ والحسن والحسين عليهم‌السلام كانت أكبر محنة للعقيدة والأُمّة ؛ لأنّها قد بدأت بانحراف القيادة عن خطّ الرسالة ، ولكنها لم تقتصر على الانحراف عن المبدأ الشّرعي في ممارسة الحكم فحسب ، وإنّما كانت تمتد أبعادها إلى أعماق الأُمّة والشّريعة.

إنّ هذا الانحراف الخطير قد زاد في عزيمة هؤلاء الأئمّة الهداة ، ممّا جعلهم يهتمّون بإحكام قواعد الشّريعة في الاُمّة وتعليمها وتربيتها بما يحول دون تسرّب الانحراف إليها بسرعة ، وبما يحول دون تفتيتها وتمزيق قواها.

ومن هنا كانت تربية الجماعة الصّالحة ، والسّهر على تنشئتها والاهتمام بقضاياها أمراً في غاية الأهمّية ، ويظهر للمتتبع والمحقّق عظمة ذلك فيما لو أراد أن يقارن بين مواقف المسلمين تجاه أهل بيت الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله خلال

٢١٣

خمسين عاماً بعد وفاة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومن هنا كان التراث الذي تركه لنا كلّ من الإمام المرتضى والحسن المجتبى والحسين الشّهيد بكربلاء تراثاً عظيماً ومهمّاً جدّاً.

حيث نلمس الغناء في هذه الثروة الفكرية والعلمية التي وصلتنا عنهم عليهم‌السلام.

وللمتتبع أن يراجع موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه‌السلام ، ووثائق الثورة الحسينيّة ، وبلاغة الحسين ، ومجموعة خطبه ورسائله ؛ ليقف على عظمة هذه الثروة الكبرى وقفة متأمّل ومستفيد.

وها نحن نستعرض صوراً من اهتمامات هذا الإمام العظيم فيما يلي من بحوث :

في رحاب العقل والعلم والمعرفة

قال عليه‌السلام :

١ ـ خمس مَنْ لم تكن فيه لم يكن فيه كثير مستمتع : «العقل ، والدين ، والأدب ، والحياء ، وحسن الخلق» (١).

٢ ـ وسُئل عن أشرف النّاس ، فقال : «مَنْ اتّعظ قبل أن يوعَظ ، واستيقظ قبل أن يوقِظ» (٢).

٣ ـ وقال عليه‌السلام : «لا يكملُ العقلُ إلاّ باتّباع الحقّ» (٣).

٤ ـ «العاقل لا يُحدِّث مَنْ يخاف تكذيبَه ، ولا يَسأل مَنْ يخاف منعَه ، ولا يثِقُ بمَنْ يخافُ غدرَه ، ولا يرجو مَنْ لا يوثقُ برجائه» (٤).

__________________

(١) موسوعة كلمات الإمام الحسين / ٧٤٣ عن حياة الإمام الحسين ١ / ١٨١.

(٢) المصدر السابق / ٧٤٣ عن إحقاق الحق ١١ / ٥٩٠.

(٣) المصدر السابق / ٧٤٢ عن أعلام الدين / ٢٩٨. وورد هذا النص عن الإمام علي عليه‌السلام أيضاً.

(٤) المصدر السابق / ٧٤٢ عن حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ١ / ١٨١.

٢١٤

٥ ـ «العلم لقاحُ المعرفة ، وطول التجارب زيادةٌ في العقل ، والشّرف التقوى ، والقنوعُ راحةُ الأبدان ، ومَنْ أحبَّكَ نهاكَ ، ومَنْ أبغضك أغراك» (١).

٦ ـ «من دلائل العالم انتقادُه لحديثهِ ، وعلمه بحقائق فنونِ النظر» (٢).

٧ ـ «لو أنّ العالِمَ كلّ ما قال أحْسَنَ وأصابَ لأوْشَكَ أن يجنّ من العُجْبِ ، وإنّما العالِمُ مَنْ يكثرُ صَوابُه».

٨ ـ وفي دعاء عرفةَ للإمام الحسين عليه‌السلام مقاطع بديعة ترتبط بالمعرفة البشرية وسُبُل تحصيلها ، وقيمة كلّ سبيل وما ينبغي للعاقل أن يسلكه من السبل الصحيحة والموصلة إلى المقصود ، نختار منها نماذج ذات علاقة ببحثنا هذا.

قال عليه‌السلام :

أ ـ «إلهي أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيراً في فقري؟ إلهي أنا الجاهل في علمي فكيف لا أكون جهولاً في جهلي؟!».

ب ـ «إلهي علمتُ باختلاف الآثار وتنقّلات الأطوار أنّ مرادك منّي أن تتعرّف إليَّ في كلّ شيء حتّى لا أجهلك في شيء».

ج ـ «إلهي تردّدي في الآثار يوجب بُعد المزار ؛ فَاجمعني عليك بحذمة توصلني إليك ، كيف يُستَدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكونُ لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكونَ هو المظهِرَ لك؟! متى غبتَ حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟! ومتى بَعُدْتَ حتّى تكونَ الآثار هي التي توصل إليك؟ عميت عين لا تراك عليها رقيباً ، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيباً».

د ـ «إلهي أمرتَ بالرجوع إلى الآثار فأرجعني إليك بكسوةِ الأنوار وهداية الاستبصار ؛ حتّى أرجعَ إليك منها كما دخلتُ إليك منها ، مَصونَ السرِّ عن النظرِ إليها ، ومرفوع

__________________

(١) موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه‌السلام / ٧٤٢ و٧٤٣ عن بحار الأنوار ٧٨ / ١٢٨ ح ١١.

(٢) المصدر السابق.

٢١٥

الهمّة عن الاعتمادِ عليها».

هـ ـ «منك أطلُبُ الوصول إليك ، وبك استدلُّ عليك ، فاهدني بنورك إليك ، وأقمني بصدْق العبودّية بين يديك».

و ـ «إلهي علّمني من علمك المخزون ، وصُنّي بستْرك المصون. إلهي حققّني بحقايق أهلِ القُرب».

ز ـ «إلهي أخرِجني من ذُلِّ نفسي ، وطهّرني مِن شكّي وشركي قبل حلول رمسي».

ح ـ «إلهي إنّ القضاء والقدر يُمنيّني ، وإنّ الهوى بوثائق الشهوة أسرني ، فكن أنت النصير لي حتّى تنصرني وتبصرني».

ط ـ «أنتَ الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوْليائك حتّى عرفوك ووحَّدوك ، وأنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبّائك حتّى لم يحبّوا سِواك ولم يلجأوا إلى غيرك ، أنت المُؤنس لهم حيث أوحشتهم العوالم ، وأنت الذي هديتهم حيث استبانت لهم المعالم. ماذا وجد مَنْ فقدكَ؟! وما الذي فقد مَنْ وجدك؟!».

ي ـ «أنت الذي لا إله غيرك ، تعرّفت لكلّ شيء فما جهلك شيءٌ ، وأنت الذي تعرّفت إليَّ في كلّ شيء فرأيْتُك ظاهراً في كلّ شيء. كيف تخفى وأنت الظاهرُ؟ أم كيف تغيبُ وأنت الرقيبُ الحاضِرُ؟!» (١).

في رحاب القرآن الكريم

لقد اعتنى أهل البيت الطاهرون عليهم‌السلام بالقرآن الكريم اعتناءً وافراً ، فعكفوا على تعليمه وتفسيره ، وفقه آياته وتطبيقه وصيانته عن أيدي العابثين والمحرّفين ، وتجلّت عنايتهم به في سلوكهم وهديهم وكلامهم. وقد اُثرت عن الإمام أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام كلمات جليلة حول التفسير والتأويل والتطبيق ، وهي جديرة بالمطالعة والتأمّل نختار نماذج منها :

__________________

(١) موسوعة كلمات الإمام الحسين / ٨٠٣ ـ ٨٠٦ عن إقبال الأعمال / ٣٣٩.

٢١٦

أ ـ قال عليه‌السلام : «كتاب الله (عزّ وجلّ) على أربعة أشياء ؛ على العبارة والإشارة ، واللطائف والحقائق ؛ فالعبارةُ للعوام ، والإشارة للخواص ، واللطائفُ للأولياء ، والحقائق للأنبياء» (١).

ب ـ «مَنْ قرأ آيةً من كتاب الله في صلاته قائماً يُكتَب له بكلّ حرف مِئةُ حَسَنَة ، فإن قَرَأها في غير صلاة كتب اللهُ له بكلّ حرف عَشْراً ، فإن استمَعَ القرآنَ كان له بكلّ حرف حَسَنةٌ ، وإن خَتَمَ القرآنَ ليلاً صلّت عليه الملائكة حتّى يُصبِحَ ، وإن ختَمَه نهاراً صلّت عليه الحفَظَةُ حتّى يُمسيَ ، وكانت له دعوةٌ مستجابَةٌ ، وكان خيراً له ممّا بين السّماء والأرضِ» (٢).

ج ـ وعنه عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى : (تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ) يعني بها «أرض لم تُكتسب عليها الذنوب ، بارزة ليست عليها جبال ولا نبات كما دحاها أوّل مرّة» (٣).

د ـ وسأله رجل عن معنى (كهيعص) ، فقال له : «لو فسّرتُها لك لمشيت على الماء» (٤).

هـ ـ وقال النصرُ بن مالك له : يا أبا عبد الله ، حَدِّثني عن قول الله (عزّ وجلّ) (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ)، قال : «نحن وبنو اُمية اختصمنا في الله عزّ وجلّ ؛ قلنا : صدق الله ، وقالوا : كذب اللهُ. فنحن وإيّاهم الخصمان يوم القيامة» (٥).

و ـ وفي قوله تعالى : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ) ، قال عليه‌السلام : «هذه فينا أهل البيت» (٦).

__________________

(١) موسوعة كلمات الإمام الحسين / ٥٥١ عن جامع الأخبار / ٤٨.

(٢) المصدر السابق / ٥٥١ ، عن الكافي ٢ / ٦١١ ح ٣.

(٣) المصدر السابق / ٥٦٠ عن تفسير البرهان ٢ / ٣٢٣.

(٤) المصدر السابق / ٥٦١ عن ينابيع المودّة / ٤٨٤.

(٥) المصدر السابق / ٥٦٣ عن حياة الحسين ٢ / ٢٣٤.

(٦) المصدر السابق / ٥٦٤ عن بحار الأنوار ٢٤ / ١٦٦.

٢١٧

ز ـ في قوله تعالى : (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) ، قال عليه‌السلام : «إنّ القرابة الّتي أمَرَ اللهُ بصلتها ، وعظم حقّها ، وجعل الخير فيها قرابتنا أهل البيت الذين أوجب حقَّنا على كلّ مسلم» (١).

ح ـ وفسّر النعمة في قوله تعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ). «بما أنعم الله على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من دينهِ» (٢).

ط ـ وفسّر الصَمَد بقوله : «إنّ الله قد فَسَّرَهُ بقوله : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)» (٣).

ي ـ وقال : «الصمد : الذي لا جوف له. والصمد : الذي قد انتهى سؤدده. والصمد : الذي لا يأكل ولا يشرب. والصمد : الذي لا ينام. والصمد : الدائم الذي لم يزل ولا يزال» (٤).

ك ـ وروي أنّ عبد الرحمن السلمي علّم ولد الحسين عليه‌السلام سورة الحمد ، فلمّا قرأها على أبيه أعطاه عليه‌السلام ألف دينار ، وألف حُلّة ، وحشا فاه دُرّاً ، فقيل له في ذلك ، فقال عليه‌السلام : «وأين يقع هذا من عطائه؟» ، يعني بذلك تعليمه القرآن (٥).

في رحاب السُنّة النبويّة المباركة

لقد عاصر الحسين جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعاش في كنف الوحي والرسالة ، وارتضع من ثدي الإيمان ، فحمل هموم الرسالة الخاتمة كاُمّه وأبيه وأخيه ، وعلم أنّ سنة الرّسول وسيرته هي المصدر الثاني للإشعاع الرسالي ،

__________________

(١) موسوعة كلمات الإمام الحسين / ٥٦٥ عن بحار الأنوار ٢٣ / ٢٥١ ح ٣٧.

(٢) المصدر السابق / ٥٦٧ عن المحاسن ١ / ٣٤٤ ح ١١.

(٣) المصدر السابق / ٥٦٨ عن التوحيد / ٩٠ ح ٥ ، ثمّ نقل تفسيرها بشكل تفصيلي فراجع.

(٤) المصدر السابق / ٥٦٩ عن معادن الحكمة ٢ / ٥١.

(٥) المصدر السابق / ٨٢٧ عن بحار الأنوار ٤٤ / ١٩١.

٢١٨

وأيقن بضرورة الاهتمام بهما ، وضرورة الوقوف أمام مؤامرات التحريف والتضييع ، ومنع التدوين التي تزعّمها جملة من كبار الصّحابة ، وكيف واجهوا جدّه بكلّ صلف ؛ حذراً من انكشاف الحقائق التي تحول دون وصولهم للسّلطة ، أو تعكّر عليهم صفوها.

ومن هنا نجد الحسين عليه‌السلام يقف بكلّ شجاعة أمام هذا التآمر على الدين ، ويُضحّي بأغلى ما لديه من أجل إحياء شريعة جدّه سيّد المرسلين ، محقّقاً شهادة جدّه الخالدة في حقّه : «حسين منّي وأنا من حسين» ، «ألا وإنّ الحسين مصباح الهدى وسفينة النّجاة».

وهكذا نجد في تراثه الرائع اعتناءه البليغ بنقل السّيرة النبويّة الشّريفة ، والتحديث بسنّته والعمل بها وإحيائها ، ولو بلغ مستوى الثورة على مَنْ يتسلّح بها لمسخها وتشويهها.

قال (صلوات الله عليه) :

١ ـ «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أحسن ما خلق اللهُ خلْقاً» (١).

٢ ـ وروى الحسين عليه‌السلام ـ كأخيه الحسن عليه‌السلام ـ وصفاً دقيقاً للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهديه في سيرته مع نفسه وأهل بيته وأصحابه ، ومجلسه وجلسائه ، أخذاه من أبيهما علي عليه‌السلام وهو الذي ربّاه الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله منذ نعومة أظفاره حتّى التحاقه بالرفيق الأعلى. ونشير إلى مقطع من هذه السّيرة : قال الحسين عليه‌السلام : «فسألته عن سكوت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال :

كان سكوته على أربع ؛ على الحلم والحذر ، والتقدير والتفكّر ؛ فأمّا التقدير ففي تسوية النظر والاستماع بين النّاس ؛ وأمّا تفكّره ففيما يبقى أو يفنى. وجمع له الحلم في

__________________

(١) موسوعة كلمات الإمام الحسين / ٥٧١ ، عن كنز العمّال ٧ / ٢١٧.

٢١٩

الصبر ، فكان لا يغضبه شيء ولا يستفزّه ، وجُمع له الحذر في أربع ؛ أخذه بالحَسَن ليُقتدى به ، وتركه القبيح ليُنتهى عنه ، واجتهاده الرأي في صلاح اُمّته ، والقيام في ما جُمع له من خير الدنيا والآخرة» (١).

٣ ـ وروى أيضاً أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أصبح وهو مهموم ، فقيل له : ما لَكَ يا رسول الله؟ فقال : «إنّي رأيت في المنام كأنّ بني اُميّة يتعاورون منبري هذا». فقيل : يا رسول الله ، لا تهتم ؛ فإنّها دُنيا تنالهُمُ. فأنزل الله : (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ ...) (٢).

٤ ـ وروى أيضاً أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا أكل طعاماً يقول : «اللّهمّ بارك لنا فيه ، وارزقنا خيراً منه» ، وإذا أكل لَبَناً أو شَرِبَه يقول : «اللّهمّ بارك لنا فيه وارزقنا منه» (٣).

وكان يرفع يديه إذا ابتهل ودعا يفصل بينهما كما يَستَطْعِمُ المسكينُ (٤).

٥ ـ وسُئل عن الأذان وما يقول النّاس فيه ، قال : «الوحي ينزل على نبيّكم وتزعمون أنّه أخَذَ الأذانَ عن عبد الله بن زيد؟! بل سمعت أبي عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام يقول : أهبَطَ الله (عزّ وجلّ) ملكاً حين عُرِج برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأذّن مثنى مثنى ، وأقامَ مثنى مثنى ، ثمّ قال له جبرئيل : يا محمّد ، هكذا أذان الصلاة» (٥).

٦ ـ وروى أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث مع عليّ عليه‌السلام ثلاثين فرساً في غزاة السلاسل ، فقال : «يا عليّ ، أتلو عليك آيةً في نفقة الخيل : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ

__________________

(١) موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه‌السلام / ٥٧١ ـ ٥٧٥ عن مجمع الزوائد ٨ / ٢٧٤ ، ومعاني الأخبار / ٧٩.

(٢) المصدر السابق / ٥٧٥ عن الغدير ٨ / ٢٤٨.

(٣) المصدر السابق / ٥٧٨ عن عيون أخبار الرضا ٢ / ٤٢.

(٤) المصدر السابق عن بحار الأنوار ١٦ / ٢٨٧.

(٥) المصدر السابق / ٦٨٣ عن مستدرك الوسائل ٤ / ١٧.

٢٢٠