أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء

المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء

المؤلف:

المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: ليلى
الطبعة: ١
ISBN: 964-5688-21-3
الصفحات: ٢٤٤

به القوى الغادرة ، فلمّا قرأ الرسالة قال عليه‌السلام : «آمنك الله من الخوف ، وأرواك يوم العطش الأكبر».

ولمّا تجهّز ابن مسعود لنصرة الإمام بلغه قتله فَجَزع لذلك ، وذابت نفسه أسىً وحسرات (١).

موقف والي الكوفة

كان النعمان بن بشير والياً على الكوفة وقتذاك ، ومع أنّه كان عثماني الهوى واُمويّ الرغبة لكنّه لم يكن راضياً عن خلافة يزيد ، وبعد موت معاوية انضم إلى عبد الله بن الزبير وقاتل وقُتل معه.

وعليه فإنّه لم يتّخذ موقفاً متشدّداً من نشاطات مسلم بن عقيل في الكوفة ، ولم يُنقل عنه في تلك المرحلة الحسّاسة سوى خِطاب ألقاه في جمع الكوفيين ، كان ـ كما يتصوّر ـ لرفع العتب والتظاهر بأنّه يقوم بواجبه كوال تابع لحكومة الشّام. وقد ذكر في خطابه :

أمّا بعد ، فاتّقوا الله عبادَ الله ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة ؛ فإنّ فيها تَهلِكُ الرجال ، وتُسفَكُ الدماء ، وتُغْصَبُ الأموال. إنّي لا اُقاتل مَنْ لا يُقاتلني ، ولا آتي على مَنْ لم يأت عليَّ ، ولا اُنبّه نائمكم ، ولا أتحرّش بكم ، ولا آخُذُ بالقرف ولا الظِنَّة ولا التهمة ، ولكنّكم إنْ أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم ، فوالله الذي لا إله غَيرُه َلأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن لي منكم ناصر ، أما إنّي أرجو أن يكون مَنْ يعرف الحقّ منكم أكثرَ مِمَّنْ يرديهِ الباطل (٢).

__________________

(١) اللهوف / ٣٨ ، وأعيان الشّيعة ١ / ٥٩٠ ، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٣٩.

(٢) الكامل في التأريخ ٣ / ٢٦٧.

١٦١

فقام إليه عبد الله بن مسلم بن ربيعة الحضرمي حليف بني اُميّة فقال : إنَّه لا يُصْلِحُ ما ترى أيّها الأمير إلاّ الغُشْمُ ، وإنّ هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوّك رأيُ المستضعفين. فقال له النعمان : لئن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحبُّ إليّ مِنْ أن أكون من الأعزّين في معصية الله (١).

أنصار الاُمويّين يتداركون أُمورهم

كانت الكوفة تضمّ آنذاك فئةً من أنصار الاُمويّين والمعارضين لأهل البيت عليهم‌السلام ، وبين هذه الفئة كان بعض المنافقين الذين يتظاهرون بالتشيّع لأمير المؤمنين عليه‌السلام فيما كانوا يُبْطِنُونَ محبّة الاُمويّين ، الأمر الذي ساعدهم في اختراق صفوف شيعة أهل البيت عليهم‌السلام والتجسس لصالح الحكم الاُموي ، وكان من بين هؤلاء عبد الله الحضرمي الذي عاب على النعمان رأيَه كما لاحظنا قبل قليل ؛ فقد كتب رسالةً إلى يزيد جاء فيها : أمّا بعد ، فإنّ مسلم بن عقيل قد قَدِمَ الكوفة وبايعته الشّيعة للحسين بن عليّ بن أبي طالب ، فإن يكن لك في الكوفة حاجة فابعثْ إليها رجلاً قويّاً ينفذ أمرك ، ويعمل مثل عملك في عدوّك ؛ فإنّ النعمان بن بشير رجل ضعيف ، أو هو يتضَعَّفُ (٢).

ويضيف المؤرّخون أنّه كتب إليه ـ يعني إلى يزيد ـ عمارة بن عقبة بنحو كتابه ـ يعني كتاب الحضرمي ـ ، ثمّ كتب إليه عمر بن سعد بن أبي وقّاص مثلَ ذلك (٣).

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٤٢ ، وأنساب الأشراف / ٧٧ ، والفتوح ٥ / ٧٥ ، والعوالم ـ للبحراني ١٣ / ١٨٢.

(٢) الإرشاد ٢ / ٤٢ ، وإعلام الورى ١ / ٢٣٧.

(٣) المصدر السابق.

١٦٢

قلق يزيد واستشارة السيرجون (١)

قَلِقَ يزيد كثيراً من الأخبار التي وصلته من الكوفة ، وهي تتحدّث عن موقف الكوفيّين من الحكم الاُموي ومبايعتهم للإمام الحسين عليه‌السلام ؛ فدعا يزيد السيرجون الذي كان يعدّ غلاماً لمعاوية ، فقال له : ما رأيك؟ إنّ حسيناً قد أنفذ إلى الكوفة مسلم بن عقيل يبايع له ، وقد بلغني عن النعمان ضعف وقول سيّئ ، فَمَنْ ترى أن أستعمل على الكوفة؟ وكان يزيد عاتباً على عبيد الله بن زياد (٢). فقال له السيرجون : أَرأيت لو [يُنشر] إليك معاوية حيّاً هل كنتَ آخذاً برأيه؟ قال : بلى. فأخرج السيرجون عهد عبيد الله بن زياد على الكوفة ،

__________________

(١) السيرجون : غلام نصراني كان معاوية قد اتخذه كاتباً ومستشاراً له ، واستمر في منصبه الخطير في عهد يزيد الذي كان قد نشأ على التربية النصرانية ، وكان أقرب منها إلى غيرها.

وليس هذا أوّل مورد نلاحظ فيه بصمات أصابع أهل الكتاب في صنع مواقف هؤلاء الحكّام تجاه الرسالة والعقيدة ، والاُمة الإسلاميّة وقادتها الاُمناء عليها ؛ لقد كان لكلّ من تميم الداري (الراهب النصراني) وكعب الأحبار (اليهودي) موقع متميّز عند عمر ؛ حيث كان يحترمهما ويستشيرهما ، ويسمح لهما بالتحدّث كلّ أُسبوع قبل صلاة الجمعة ، فضلاً عن تدريس التوراة وتفسير القرآن الكريم ، في وقت كان لا يسمح للصحابة بكتابة حديث الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا التحديث به ، بل كان يحبسهم في المدينة لئلاّ ينشروا حديث الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله. (راجع كنز العمّال / الحديث رقم ٤٨٦٥ ، وتذكرة الحفاظ / بترجمة عمر ، وتاريخ ابن كثير ٨ / ١٠٧).

وقد عظم نفوذ هؤلاء القصّاصين بعد عمر ، وتعاظم في عهد الاُمويّين ، واستمر في عهد العباسيين ، بالرغم من أنّ الإمام عليّاً عليه‌السلام كان قد طردهم من مساجد المسلمين.

ولا يبعد أن يكون دخول عقائد منحرفة كالتجسيم ، وعدم عصمة الأنبياء وغيرها من المفاهيم المنحرفة إلى مصادر المسلمين نتيجة هذا الحضور الفاعل منهم في السّاحة الإسلاميّة وتحت شعار الإسلام ونصح الحكّام.

وقد تميّز معاوية باتخاذ بطانة واسعة من أهل الكتاب ؛ حيث تلاحظ أنّ كاتبه ومستشاره نصراني ، وهو (السيرجون) ، كما أنّ طبيبه كان نصرانياً وهو (أثال) ، وشاعره أيضاً كان نصرانياً وهو (الأخطل) ، والشّام هي عاصمة نصارى الروم البيزنطيين قبل دخول الإسلام إليها. (راجع معالم المدرستين ٢ / ٥١ ـ ٥٣).

(٢) لأنّ عبيد الله بن زياد كان معارضاً لمعاوية في تولية العهد ليزيد ، انظر البداية والنهاية ٨ / ١٥٢.

١٦٣

وقال : هذا رأي معاوية ، مات وقد أمر بهذا الكتاب ، فضُمّ المصرَيْن (يعني الكوفة والبصرة والتي كان والياً عليها أيام معاوية) إلى عبيد الله. فقال له يزيد : أفعلُ. ابعث بعهد عبيد الله بن زياد إليه ... ثمّ دعا مسلم بن عمرو الباهلي وكتب إلى عبيد الله معه كتاباً جاء فيه :

أمّا بعد ، فإنّه كتب إليَّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل فيها ، يجمع الجموع ليشق عصا المسلمين ، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتّى تأتيَ الكوفة فتطلب ابنَ عقيل طَلَب الخِرزةِ حتّى تثقفه فتُوثِقَه ، أو تقتله أو تنفيَهُ ، والسّلام (١).

توجّه عبيد الله بن زياد إلى الكوفة

استلم عبيد الله بن زياد كتاب يزيد بن معاوية ، فانطلق في اليوم الثاني نحو الكوفة ومعه مسلم بن عمرو الباهلي ، وشريك بن الأعور الحارثي وحشمه وأهل بيته (٢) ، حيث ينتظر أهلُها قدومَ الإمام الحسين عليه‌السلام ومعظمهم لا يعرف شخصية الإمام ولم تكن قد التقته من قبل ، وقد تعجّل ابن زياد الانتقال إلى الكوفة ليصلها قبل الإمام الحسين عليه‌السلام.

باغت ابن زياد جماهير الكوفة وهو يُخفي معالم شخصيتِه ، ويتستّر على ملامحه ، فقد تلثّم ولبس عمامةً سوداء ، وراح يخترق الكوفة والناس ترحّب به وتسلِّمُ عليه ، وتردِّد : مرحباً بك يابن رسول الله ، قدمت خير مقدم (٣).

فساءه ما سمع وراح يواصل السير نحو قصر الإمارة ، فاضطرب النعمان

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٤٢ ـ ٤٣ ، وإعلام الورى ١ / ٤٣٧ ، وسير أعلام النبلاء ٣ / ٢٠١.

(٢) إعلام الورى ١ / ٤٣٧.

(٣) الإرشاد ٢ / ٤٣ ، وإعلام الورى ١ / ٤٣٨.

١٦٤

وأطلّ من شرفات القصر يخاطب عبيد الله بن زياد ، وكان هو أيضاً قد ظنّ أنّه الإمام ، فخاطبه : اُنشدك الله إلاّ ما تنحّيتَ ، واللهِ ما أنا بمسلِّم إليك أمانتي ، وما لي في قتالك من إرب ... (١).

صمت ابن زياد وراح يقترب من باب القصر ، حتّى شخّص النعمان أنّ القادم هو ابن زياد ، ففتح الباب ودخل ابن زياد القصر وأغلق بابه وباتَ ليلته ، وباتت الكوفة على وجل وترقّب ، وفي منعطف سياسي خطير.

محاولات ابن زياد للسيطرة على الكوفة

فوجئ أهل الكوفة بابن زياد عند الصّباح وهو يحتلّ القصر بالنداء : الصلاة جامعةً ، فقام خطيباً في الجموع المحتشدة ، وراح يُمنّي المطيع والسّائر في ركب السّياسة القائمة بالأماني العريضة ، ويهدّد ويتوعّد المعارضة والمعارضين والرافضين لحكومة يزيد ، حتّى قال : ... سوطي وسيفي على مَنْ ترك أمري وخالف عهدي (٢).

ثمّ فرض على الحاضرين مسؤولية التجسّس على المعارضين ، وهدّد مَنْ لَمْ يُساهم في هذه العملية ويُنَفِّذْ هذا القرار بالعقوبة وقطع المخصّصات المالية ، فقال : ... فمَنْ يجيء لنا بهم فهو بريء ، ومَنْ لم يكتب لنا أحدٌ فليضمن لنا في عَرافته أن لا يخالِفَنا منهم مخالف ، ولا يبغي علينا منهم باغ ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ برئت منه الذمّة وحلال لنا دمُه ومالُه. وأيُّما عريف وجد في عرافته مَنْ بُغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه إلينا صُلب على باب داره ، واُلغيت

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٤٣ ، وروضة الواعظين / ١٧٣ ، ومقتل الحسين ـ للخوارزمي / ١٩٨ ، وتهذيب التهذيب ٢ / ٣٠٢.

(٢) مقاتل الطالبيّين / ٩٧ ، وإعلام الورى ١ / ٤٣٨.

١٦٥

تلك العرافة من العطاء (١).

وقد كان ابن زياد معروفاً في أوساط الكوفيّين بالقسوة والشدّة ، فكان من الطبيعي أن يُحْدِثَ قدومُه وخطابُه الشديد اللهجة هزّةً عند المعارضين لسياسته ، فلاحت بوادر النكوص والتخاذل والإرجاف تظهر على الكوفيّين وقياداتهم ؛ من هنا اعتمد مسلم بن عقيل وسيلةً جديدة للسير في حركته نحو الهدف المطلوب. فانتقل إلى دار هانئ بن عروة وجعل يتستّر في دعوته وتحركاته إلاّ عن خلّص أصحابه ، وهانئ يومذاك سيّد بني مراد وصاحب الكلمة المسموعة في الكوفة والرأي المطاع (٢).

موقف مسلم من اغتيال ابن زياد

لقد كان مسلم بن عقيل (رضوان الله تعالى عليه) يحمل رسالةً ساميةً ، وأخلاقاً فاضلة اكتسبها من بيت النبوّة ، كما كان يملك درايةً بكلّ تقاليد وأعراف المجتمع الذي كان يتحرّك فيه ، ففي موقف كان يمكن فيه لمسلم بن عقيل أن يغتال ابن زياد رفض ذلك لاعتبارات شتّى.

فقد روي أنّ شريك بن الأعور حين نزل في دار هانئ بن عروة مرض مرضاً شديداً ، وحين علم عبيد الله بن زياد بذلك قدم لعيادته ، وهنا اقترح شريك على مسلم أن يغتال ابن زياد ، فقال : إنّما غايتك وغاية شيعتك هلاك هذا الطاغية ، وقد أمكنك الله منه ، وهو صائر إليّ ليعودني ، فقم وادخل الخزانة حتّى إذا اطمأنّ عندي فاخرج إليه فاقتله ، ثمّ صر إلى قصر الإمارة فاجلس فيه ؛

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٤٥ ، والفصول المهمّة / ١٩٧ ، والفتوح ـ لابن أعثم ٥ / ٦٧.

(٢) مروج الذهب ٢ / ٨٩ ، والأخبار الطوال / ٢١٣ ، وإعلام الورى ١ / ٤٣٨.

١٦٦

فإنّه لا ينازعنّك فيه أحد من النّاس.

ولمس مسلم كراهية هانئ أن يُقتل عبيد الله في داره ، ولم يأخذ مسلم باقتراح شريك ، وحين خرج عبيد الله قال شريك بحسرة وألم لمسلم : ما منعك من قتله؟ قال مسلم : منعني منه خلّتان ؛ أحدهما كراهية هانئ لقتله في منزله ، والاُخرى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ الإيمان قيد الفتك ، لا يفتك مؤمن» (١).

الغدر بمسلم بن عقيل

اتّخذ ابن زياد كلّ وسيلة مهما كانت دنيئة للقضاء على الوجود السّياسي ، والتحرّك الذي برز منذراً بالخطر بوجود مسلم بن عقيل على النظام الاُموي ، وسارع للقضاء على مسلم بن عقيل وكلّ الموالين له قبل وصول الإمام الحسين عليه‌السلام ، وليتمكّن بذلك من إفشال الثورة فدبّر خطّةً للتجسّس على تحرّكات مسلم ومكانه والموالين له ، واستطاع أن يكتشف مخبأه ، وأن يعلم بمقرّه (٢) ، فكانت بداية تخاذل النّاس عن الصّمود في مواجهة الظلم.

لقد استطاع الوالي الجديد عبيد الله بن زياد أن يُحْكِمَ الحيلةَ والخداع ليقبضَ على هانئ بن عروة الذي آوى رسول الحسين عليه‌السلام وأحسن ضيافته ، واشترك معه في الرأي والتدبير ، فقبض عليه وقتله بعد حوار طويل جرى بينهما ، وألقى بجثمانه من أعلا القصر إلى الجماهير المحتشدة حوله ، فاستولى الخوف والتخاذل على النّاس ، وذهب كلّ إِنسان إلى بيته

__________________

(١) الأخبار الطوال / ١٨٧ ، ومقاتل الطالبيّين / ٩٨ ، وإعلام الورى ١ / ٤٢٨.

(٢) إعلام الورى ١ / ٤٤٠ ، والأخبار الطوال / ١٧٨ ، ومناقب آل أبي طالب ٤ / ٩١ ، والفتوح ـ لابن أعثم ٥ / ٦٩ ، وتأريخ الطبري ٤ / ٢٧١ ، وأنساب الأشراف / ٧٩.

١٦٧

وكأنّ الأمر لا يعنيه (١).

ولمّا علم مسلم بما جرى لهانئ ، ورأى تَخاذُلَ عشيرته مذحج الغنية بعددها وعدَّتِها خرج في أصحابه ، ونادى مناديه في النّاس وسار بهم لمحاصرة القصر ، واشتدّ الحصار على ابن زياد ، وضاق به أمرُه ، ولكنّه استطاع بدهائه مكره أن يتغلب على المحنة ويُخذل الناس عن مسلم(٢).

لقد دسّ ابن زياد في أوساط النّاس أشخاصاً يُخَذِّلونهم ، ويتظاهرون بالدعوة إلى حفظ الأمن والاستقرار ، وعدم إراقة الدماء ، ويحذّرون من قدوم جيش جرّار من الشّام بهدف كسب الوقت وتفتيت قوى الثوار. واستمرّ الموقف كذلك والناس تنصرف وتتفرّق عن مسلم. وبدخول الليل صلّى بمَنْ بقي معه وخرج من المسجد الجامع وحيداً لا ناصر له ولا مؤازر ، ولا مَنْ يَدُلُّه على الطريق ، وأقفل النّاس أبوابهم في وجهه ، فمضى يبحث عن دار يأوي إليها في ليلته تلك ، وفيما هو يسير في ظلمة الليل وجد امرأةً على باب دارها وكأنّها تنتظر شيئاً ، فعرّفها بنفسه وسألها المبيت عندها إلى الصّباح ، فرحّبت به وأدخلته بيتها ، وعرضت عليه العشاء فأبى أن يأكل شيئاً. وعرف ولدها بمكانه وكان ابن زياد قد أعدّ جائزة لِمَنْ يخبره عنه ، وما كاد الصّبح يتنفّس حتّى أسرع ولدها إلى القصر وأخبر محمّد بن الأشعث بمكان مسلم بن عقيل ، وفور وصول النبأ إلى ابن زياد أرسل قوّة كبيرة من جنده (٣) بقيادة ابن الأشعث إلى المكان الذي فيه مسلم ، وما أن سمع بالضجّة حتّى أدرك أنّ القوم

__________________

(١) الكامل في التأريخ ٣ / ٢٧١ ، والفتوح ـ لابن أعثم ٥ / ٨٣ ، وإعلام الورى ١ / ٤٤١.

(٢) سيرة الأئمّة الاثني عشر ، القسم الثاني / ٦٣ ، وإعلام الورى ١ / ٤٤١ ، ومناقب آل أبي طالب ٤ / ٩٢ ، والكامل في التأريخ ٣ / ٢٧١.

(٣) جاء في «الإرشاد» أنّهم كانوا سبعين رجلاً.

١٦٨

يطلبونه فخرج إليهم بسيفه.

وقد اقتحموا عليه الدار فشدّ عليهم يضربهم بسيفه حتّى أخرجهم من الدار ، ثمّ عادوا إليه فشدّ عليهم كذلك ، مع إنّهم تكاثروا عليه بعد أن اُثخن بالجراح ، فطعنه رجل من خلفه فخرّ إلى الأرض فاُخذ أسيراً ، وحُمل على بلغة وانتزع الأشعث سيفه وسلاحه ، وأخذوه إلى القصر فاُدْخِلَ على ابن زياد ولم يسلّم عليه ، وجرى بينهما حوار طويل كان فيه ابن عقيل (رضوان الله عليه) رابط الجأش ، منطلقاً في بيانه ، قويّ الحجّة ، حتّى أعياه أمرُه ، وانتفخت أوداجه ، وجعل يشتم عليّاً والحسن والحسين ، ثمّ أمر أجهزته أن يصعَدوا به إلى أعلا القصر ويقتلوه ، ويرموا جسده إلى النّاس ، ويسحبوه في شوارع الكوفة ، ثمّ يصلبوه إلى جانب هانئ بن عروة. هذا وأهل الكوفة وقوف في الشّوارع لا يحرّكون ساكناً وكأنّهم لا يعرفون من أمره شيئاً.

وكان مسلم قد طلب من ابن الأشعث أن يكتب إلى الحسين عليه‌السلام يخبره بما جرى في الكوفة ، وينصحه بعدم الشّخوص إليهم ، فوعده ابن الأشعث بذلك ، ولكنّه لم يفِ بوعده (١).

__________________

(١) يراجع في تفصيلاته أعيان الشّيعة ١ / ٥٩٢ ، إعلام الورى ١ / ٤٤٢ ، والكامل في التأريخ ٤ / ٣٢ ، والفتوح ٥ / ٨٨ ، وتأريخ الطبري ٤ / ٢٨٠ ، ومقاتل الطالبيّين / ٩٢.

١٦٩

المبحث الخامس : حركة الإمام الحسين عليه‌السلام إلى العراق

ونترك الكوفة يعبثُ بها ابن زياد ويتتبّع شيعة الإمام الحسين عليه‌السلام ويطاردهم ، ونعود إلى مكة لنتابع السّير مع ركب الحسين عليه‌السلام حتّى الطفّ حيث المأساة الكبرى. قال المؤرّخون : كان خروج مسلم بن عقيل (رحمة الله عليه) بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة سنة ستين ، وقتلُه يوم الأربعاء لتسع خلون منه يوم عرفة ، وكان توجّه الحسين (صلوات الله عليه) من مكة إلى العراق في يوم خروج مسلم بالكوفة ـ وهو يوم التروية ـ بعد مُقامه بمكة بقيّة شعبان وشهر رمضان وشوّالاً وذي القعدة ، وثماني ليال خلون من ذي الحجّة سنة ستين. وكان عليه‌السلام قد اجتمع إليه مدةَ مُقامه بمكة نَفَرٌ من أهل الحجاز ، ونفر من أهل البصرة انضمّوا إلى أهل بيته ومواليه.

ولمّا أراد الحسين عليه‌السلام التوجّه إلى العراق طاف بالبيت ، وسعى بين الصّفا والمروة ، وأحلّ من إحرامه وجعلها عمرةً ؛ لأَنّه لم يتمكّن من تمام الحجّ مخافة أن يُقْبَضَ عليه بمكة فيُنْفَذ به إلى يزيد بن معاوية ، فخرج عليه‌السلام مبادراً بأهله وولده ومَنْ انضمّ إليه من شيعته ، ولم يكن خبر مسلم قد بلغه (١).

لماذا اختار الإمام الحسين عليه‌السلام الهجرة إلى العراق؟

رغم كلّ ما قيل من تحليل ودراسة لوضع المجتمع الكوفي ، وما ينطوي عليه من إثارة سلبيات يتكهّن بأغلبها المحلّلون من دون جزم ، فإنّنا نرى أنّ اختيار الإمام الحسين عليه‌السلام الهجرة إلى العراق كان لأسباب منها :

١ ـ إنّ التكليف الإلهي برفع الظلم والفساد والأمر بالمعروف والنهي عن

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٦٧.

١٧٠

المنكر يشمل جميع المسلمين بلا استثناء ، إذ إنّنا لا نجد في النصوص التأريخية ما يدلّل على قيام قطر من الأقطار الإسلاميّة بمحاولة لمواجهة الحكم الأموي سوى العراق الذي وقف ضدّهم منذ أن ظهر الأمويّون في السّاحة السّياسية وحتى سقوطهم.

٢ ـ إنّ الإمام الحسين عليه‌السلام لم يعلن دعوته لمواجهة ظلم الأمويّين وفسادهم ، والنهوض لإحياء الرسالة يوم طُلب منه مبايعة يزيد ، بل كانت تمتدّ دعوته في العمق الزمني إلى أبعد من ذلك ، ولكن لم نرَ نصوصاً تأريخية تدلّل على استجابة شعب من شعوب العالم الإسلامي لنداء الإمام الحسين عليه‌السلام ونهضته غير العراق ، فكانت الدعوات الكثيرة والملحّة موجّهة إليه تعلن الولاء والاستعداد لتأييد النهضة ومواجهة الحكم الاُموي الفاسد.

٣ ـ لم يكن أمام الحسين عليه‌السلام من خيار لاختيار بلد آخر غير العراق ؛ لأنّ بقيّة الأقطار إمّا إنّها كانت مؤيّدة للاُمويين في توجّهاتهم وسياساتهم ، أو خاضعة مقهورة ، أو إنّها كانت غير متحضّرة وغير مستعدّة للاستجابة للنهضة الحسينيّة. على أنّ كثيراً من شعوب العالم الإسلامي كانت في ذلك الحين إمّا كافرة أو حديثة عهد بالإسلام ، أو غير عربية بحيث يصعب التعايش والتعامل معها ؛ ممّا كان سبباً لتضييع ثورة الإمام وجهوده.

٤ ـ كانت الكوفة تضمّ الجماعة الصّالحة التي بناها الإمام عليّ عليه‌السلام ، والقاعدة الجماهيرية التي تتعاطف مع أهل البيت عليهم‌السلام ؛ فأراد الإمام الحسين عليه‌السلام أن لا يضيع دمه وهو مقتول لا محالة ، كما أراد أن يعمّق الإيمان في النفوس ويجذّر الولاء لأهل البيت عليهم‌السلام ، وكان العراق أخصب أرض تستجيب لذلك ، وسرعان ما بدأت الثورات في العراق بعد استشهاد

١٧١

الإمام الحسين عليه‌السلام ، وأصبح العراق القاعدة العريضة لنشر مبادئ وفضائل أهل البيت عليهم‌السلام إلى العالم الإسلامي في السّنين اللاحقة.

٥ ـ إنّ اختيار أيّ بلد غير العراق سيكون له أثره السّلبي ، إذ يتّخذه أعداء الإسلام وأهل البيت عليهم‌السلام أداة عار وشنار للنيل من مقام الإمام وأهدافه السّامية ، ويفسّر خروجه إليه على أنّه هروب من المواجهة الحتمية ، في الوقت الذي كان يهدف الإمام عليه‌السلام إلى إحياء حركة الرسالة والمُثل الأخلاقية ، وتأجيج روح المواجهة والتصدّي للظلم والظالمين. وحتى على فرض اختياره عليه‌السلام بلداً آخر فإنّ سلطة الاُمويّين ستنال منه وتقضي عليه دون أن يحقّق أهداف رسالته التي جاء من أجلها.

٦ ـ لمّا كان العراق يُصارع الاُمويّين كانت أجواؤه مهيّئة لنشر الإعلام الثوري لنهضة الحسين عليه‌السلام وأفكاره ، ومن ثمّ فضح بني اُميّة وتستّرهم بالشّرعية وغطاء الدين ، وحتى النزعة العاطفية المزعومة في العراقيّين فقد كانت سبباً في ديمومة وهج الثورة وأفكارها كما نرى ذلك حتّى عصرنا هذا.

ولعلّ هناك أسباباً لا ندركها ، لاسيما ونحن نرى أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام كان على بيّنة واطلاع من نتيجة الصّراع ، وكان على معرفة بالظروف الموضوعية المحيطة بمسيرته ، وعلى علم بطبيعة التكوين الاجتماعي والسّياسي للمجتمع الذي كان يتوجّه إليه من خلال وعيه السّياسي الحاذق ، والنّصائح التي قدّمها إليه عدد من الشّخصيات فضلاً عن عصمته عن الزلل والأهواء ، كما نعتقد ؛ فلم يكن اختياره العراق منطلقاً لثورته العظيمة إلاّ عن دراية وتخطيط رغم الجريمة النكراء التي نتجت عن تخاذل النّاس ، وتركهم نصرة إمامهم ، ولحوق العار بهم في الدنيا والآخرة.

١٧٢

تصريحات الإمام عليه‌السلام عند وداعه مكة

صدرت عن الإمام الحسين عليه‌السلام عدّة تصريحات عند ما كان يعتزم مغادرة مكة والتوجّه إلى العراق ، وكانت بعض هذه التصريحات تمثّل أجوبته عليه‌السلام على مَنْ أشفق عليه أو مَنْ ندّد بخروجه ، وقد تمثّل خطابه للناس بصورة عامة ، فنذكرُ منها هنا :

١ ـ روى عبد الله بن عباس عن الإمام الحسين بشأن حركته نحو العراق قوله عليه‌السلام : «والله ، لا يَدَعُونَنِي حتّى يستخرجوا هذه العَلْقَةَ من جوفي ، فإذا فعلوا سُلِّط عليهم مَنْ يذلّهم حتّى يكونوا أذلَّ من فَرْم المرأة» (١).

٢ ـ كان محمّد بن الحنفيّة في يثرب فلمّا علم بعزم الإمام عليه‌السلام على الخروج إلى العراق توجّه إلى مكة ، وقد وصل إليها في الليلة التي أراد عليه‌السلام الخروج في صبيحتها إلى العراق ، وقصده فور وصوله فبادره قائلاً : «يا أخي ، إنّ أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك ، ويساورني خوف أن يكون حالك حال مَنْ مضى ، فإن أردت أن تقيم في الحرم فإنّك أعزّ مَنْ بالحرم وأمنعهم».

فأجابه الإمام عليه‌السلام : «خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية ، فأكون الذي تُستباح به حرمةُ هذا البيت». فقال محمّد : «فإنْ خفت ذلك فسر إلى اليمن ، أو بعض نواحي البرّ فإنّك أمنع النّاس به ، ولا يقدر عليك أحد». قال الحسين عليه‌السلام : «أنظر فيما قلت».

ولمّا كان وقت السَحَر بلغه شخوصُه إلى العراق وكان يتوضّأ فبكى ،

__________________

(١) الكامل في التأريخ ٤ / ٣٩.

١٧٣

وأسرع محمّد إلى أخيه فأخذ بزمام ناقته وقال له : «يا أخي ، ألم تعدني فيما سألتك؟». قال الإمام عليه‌السلام : «بلى ، ولكنّي أتاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ما فارَقْتُك وقال لي : يا حسين ، اخرج فإنّ الله شاء أن يراك قتيلاً». فقال محمّد : فما معنى حملِ هؤلاء النساء والأطفال وأنت خارج على مثل هذا الحال؟ فأجابه الإمام عليه‌السلام : «قد شاء الله أن يراهن سبايا» (١).

ولم يكن اصطحاب الحسين عليه‌السلام لعيالاته حالة غريبة على المجتمع العربي والإسلامي ، فقد كان العرب يصطحبون نساءَهم في الحروب ، وكذا فعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في غزواته فقد كان يقرع بين نسائه ، أمّا بالنسبة إلى الإمام الحسين عليه‌السلام فإنّ اصطحابه لعائلته في حركته إنّما كان لأجل أن يكون وجودها معه بمثابة حجّة قويّة على المسلمين لنصرته ، فمَنْ تولّى الحسين عليه‌السلام ويسعى لنصرته والدفاع عنه فأولى له أن يدافع عنه وهو بين أهله. وإن اختلف مع الحسين عليه‌السلام فما ذنب عيالاته وهنّ بنات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، خاصّة إنّ الخلاف بزعم الاُمويّين إنّما هو لأجل الخلافة؟

٣ ـ ذكر المؤرخون أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام لمّا أراد الخروج من مكة ألقى خطاباً فيها ، جاء فيه : «خُطَّ الْمَوْتُ على وُلْدِ آدم مَخَطّ الْقِلادة على جيدِ الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اِشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخُيّر لي مصرعٌ أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تقطّعها عُسْلانُ الفلواتِ بينَ النواويس وكربلاء ، فيملأنَّ منّي أكراشاً جوفاً وأجربةً سُغباً ، لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم ، رضا الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ويوفّينا أُجور الصابرين. لن تشذّ عن رسول الله عليهم‌السلام لُحْمَتُه ، وهي مجموعة له في حظيرة القدس ؛ تَقِرُّ بهم عينُه ، ويُنْجَزُ بهم وعدُه. مَنْ كان باذلاً فينا مهجتَه ، وموطِّناً على لقاء الله نَفْسَه فَلْيَرْحَلْ معنا ،

__________________

(١) اللهوف على قتلى الطفوف / ٢٧ ، وأعيان الشّيعة ١ / ٥٩٢ ، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٦٤.

١٧٤

فإنّي راحل مُصبحاً إن شاء الله تعالى» (١).

يُبَيِّنُ الإمام الحسين عليه‌السلام في هذه التصريحات أنّه مصمّم على عدم مبايعة يزيد ؛ قياماً بتكليفه الإلهي ، موضحاً سبب خروجِه من مكة ، مخبراً عن المصير الذي ينتظره وأهل بيته جميعاً ، داعياً إلى الالتحاق به مَنْ كان مُوَطِّناً على لقاء الله نفسه ، معلِناً أنّ الله تعالى قرن رضاه برضا أهلِ البيت عليهم‌السلام.

خلاصة الثورة في رسالة

بوعي القائد الرسالي والفدائي العظيم والثائر من أجل العقيدة صمّم الإمام الحسين عليه‌السلام بحنكة ودراية المسير من مكة إلى العراق ، بعد أن أوضح جانباً كبيراً من أهدافه وأسباب نهضته ، وقد تطايرت أخباره إلى أرجاء العالم الإسلامي.

وكتب الإمام عليه‌السلام إلى بني هاشم في يثرب رسالةً يدعوهم فيها إلى الفرصة الأخيرة لنصرة الإسلام ، والمبادئ والقيم الإلهية ، والتألّق في سماء التضحية في الدنيا ، وخلود الذكر الطيّب ، والبقاء عنواناً للحقّ والعدل والإباء ، والفوز في أعلا درجات الجّنة في الآخرة. فقد جاء فيها بعد البسملة :

«من الحسين بن عليّ إلى أخيه محمّد ومن قبله من بني هاشم. أمّا بعد ، فإنّه مَنْ لحق بي منكم استشهد ، ومَنْ لم يلحق بي لم يدرك الفتح. والسّلام» (٢).

ولمّا وردت رسالة الإمام عليه‌السلام إلى بني هاشم في يثرب ، بادرت طائفة منهم إلى الالتحاق به ؛ ليفوزوا بالفتح والشهادة بين يدي ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣).

__________________

(١) إحقاق الحق ١١ / ٥٩٨ ، وكشف الغمة ٢ / ٢٠٤.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ / ٧٦ ، وبصائر الدرجات / ٤٨١ ، ودلائل الإمامة / ٧٧.

(٣) راجع تأريخ ابن عساكر / ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام.

١٧٥

ملاحقة السلطة للإمام عليه‌السلام

ولم يبعُد الإمام عليه‌السلام كثيراً عن مكة حتّى لاحقته مفرزة من الشّرطة بقيادة يحيى بن سعيد ، فقد بعثها والي مكة عمرو بن سعيد لصدّ الإمام عليه‌السلام عن السّفر ، وجرت بينهما مناوشات حتّى تدافع الفريقان ، واضطربوا بالسّياط ، وامتنع الحسين وأصحابه منهم امتناعاً قويّاً (١).

في التنعيم

ومضى ركب الإمام الحسين عليه‌السلام لا يلوي على شيء ، وفي طريقهم بمنطقة التنعيم (٢) صادفوا إبلاً قد يَمَّمت وَجْهَها شطرَ الشّام ، وهي تحمل الهدايا ليزيد بن معاوية قادمةً من اليمن ، فاستأجر من أهلها جِمالاً لرحله وأصحابه ، وقال لأصحابها : «مَنْ أحبّ أن ينطلق معنا إلى العراق وفيناه كِراءه وأحسنّا صحبته ، وَمَنْ أحبّ أن يفارقنا في بعض الطريق أعطيناه كراءه على ما قطع من الطريق». فمضى معه قوم وامتنع آخرون (٣).

في الصّفاح

وواصل الإمام مسيره حتّى وصل الصّفاح (٤) فالتقى الفرزدق الشاعر فسأله عن خبر النّاس خلفه ، فقال الفرزدق : قلوبُهم معك والسّيوف مع بني اُميّة ،

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٦٨.

(٢) التنعيم : موضع بمكة في الحلّ يقع بين مكة وسرف على فرسخين من مكة ، جاء ذلك في معجم البلدان ٢ / ٤٩.

(٣) الإرشاد ٢ / ٦٨.

(٤) الصّفاح : موضع بين حنين وأنصاب الحرم على يسرة الداخل إلى مكة من مشاش ... جاء ذلك في معجم البلدان ٣ / ٤١٢.

١٧٦

والقضاء ينزل من السّماء. فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «صدقت ، للهِ الأمر ، واللهُ يفعل ما يشاء ، وكلّ يوم ربّنا هو في شأن ، إن نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشّكر ، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يتعدَّ مَنْ كان الحقُّ نيّتَه والتقوى سريرَتَه» (١).

ثمّ واصل الإمام عليه‌السلام مسيرته بعزم وثبات ، ولم يثنه عن عزيمته قول الفرزدق في تخاذل النّاس عنه وتجاوبهم مع الاُمويّين.

كتاب الإمام عليه‌السلام لأهل الكوفة

ولمّا وافى الإمام الحسين عليه‌السلام الحاجر من بطن ذي الرُّمّة ـ وهو أحد منازل الحجّ من طريق البادية ـ كتب كتاباً لشيعته من أهل الكوفة يعلمهم بالقدوم إليهم ، ولم يكن عليه‌السلام قد وصله خبر ابن عقيل ، هذا نصّه :

بسم الله الرحمن الرحيم

من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين :

سلام عليكم. فإنّي أحْمَدُ إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو.

أمّا بعد ، فإنّ كتاب مسلم بن عقيل جاءني يُخبرني فيه بحسن رأيكم واجتماع مَلَئكم على نصرنا والطلب بحقّنا ، فسألت الله أن يُحسن لنا الصّنيع ، وأن يُثيبكم على ذلك أعظم الأجر ، وقد شَخَصْتُ إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة يوم التروية ،

__________________

(١) مقتل الحسين ـ للمقرّم / ٢٠٣ ، البداية والنهاية ـ ابن كثير ٨ / ١٨٠ ، صفة مخرج الحسين عليه‌السلام إلى العراق.

١٧٧

فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا (١) في أمركم وجِدّوا ؛ فإنّي قادم عليكم في أيّامي هذه ، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته» (٢).

وقد بعث عليه‌السلام الكتاب بيد قيس بن مُسهر الصيداوي.

إجراءات الاُمويّين

سرى نبأ مسير الإمام عليه‌السلام نحو الكوفة بين النّاس فاضطرب الموقف الاُموي ، وشعرت السّلطات بالخوف والحرج ، وتحدّثت الركبان بأنباء الثائر العظيم ، فتناهى الخبر إلى عبيد الله بن زياد ، فأعدّ رجاله وجنده ، ووضع خطّة لقطع الطريق أمام الحسين عليه‌السلام ، والحيلولة دون وصوله إلى الكوفة ، فبعث مدير شرطته الحصين بن نمير التميمي ، مكلّفاً إيّاه بتنفيذ المهمّة ، فاختار الحصين موقعاً استراتيجياً يسيطر من خلاله على طريق مرور الإمام عليه‌السلام ، فنزل بالقادسية واتّخذها مقرّاً لقيادته.

اعتقال الصيداوي وقتله

انطلق قيس بن مُسهر الصيداوي برسالة الإمام نحو الكوفة ، وحينما وصل القادسية اعتقله الحصين بن نمير فبعث به إلى عبيد الله بن زياد ، فقال له عبيد الله : اصعد فسبّ الكذّاب الحسين بن عليّ.

فصعد قيس ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أيّها النّاس ، إنَّ هذا الحسين بن عليّ خير خلق الله ، ابن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنا رسوله إليكم ، وقد فارقته في الحاجر فأجيبوه. ثمّ لعن عبيد الله بن زياد وأباه ، واستغفر لعليّ بن أبي طالب وصلّى عليه ، فأمر عبيد الله

__________________

(١) انكمشوا : بمعنى أسرعوا.

(٢) الإرشاد ٢ / ٧٠ ، والبداية والنهاية ٨ / ١٨١ ، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٦٩.

١٧٨

أن يُرمى به من فوق القصر ، فرموا به فتقطّع (١).

وروي أنّه وقع على الأرض مكتوفاً فتكسّرت عظامه وبقي به رمق ، فجاء رجل يُقال له : عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه ، فقيل له في ذلك وعِيبَ عليه ، فقال : أردتُ أن اُريحه.

مع زهير بن القين

وانتهت قافلة الإمام إلى «زرود» فأقام عليه‌السلام فيها بعض الوقت ، وقد نزل بالقرب منه زهير بن القين البجلي وكان عثمانيّ الهوى ، وقد حجّ بيت الله في تلك السّنة ، وكان يُساير الإمام في طريقه ولا يُحبّ أن ينزل معه ؛ مخافةَ الاجتماع به إلاّ إنّه اضطرّ إلى النزول قريباً منه ، فبعث الإمام عليه‌السلام إليه رسولاً يدعوه إليه ، وكان زهير مع جماعته يتناولون الطعام ، فأبلغه الرّسول مقالة الحسين فذُعر القوم وطرحوا ما في أيديهم من طعام ، وكأنَّ على رؤوسهم الطير. فقالت له امرأته : سبحانَ الله! أيبعث إليك ابنُ بنت رسول الله ثمّ لا تأتيه؟ لو أتيته فسمعتَ من كلامه ثمّ انصرفتَ. فأتاه زهير بن القين ، فما لبث أن جاء مستبشراً قد أشرق وجهُه ، فأمر بفسطاطه وثقله وراحلته ومتاعه فقُوِّضَ وحُمِل إلى الحسين عليه‌السلام ، ثمّ قال لامرأته : أنتِ طالق ، الحقي بأهلك ؛ فإنّي لا اُحبّ أن يُصيبَكِ بسببي إلاّ خير. وقال لأصحابه : مَنْ أحبّ منكم أن يتبعني وإلاّ فهو آخر العهد. إنّي سأحدّثكم حديثاً : إنّا غزونا البحر ففتح الله علينا وأصبنا غنايم ، فقال لنا سلمان الفارسي (رحمة الله عليه) : أَفَرِحْتُم بما فتح الله عليكم وأصبتم من الغنائم؟ قلنا : نعم. فقال : إذا أدركتم سيّد شباب آل محمّد فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معه ممّا أصبتم اليوم من الغنائم. فأمّا

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٧١ ، ومثير الأحزان / ٤٢ ، والبداية والنهاية ٨ / ١٨١.

١٧٩

أنا فأستودعكم الله. قالوا : ثمّ ـ والله ـ ما زال في القوم مع الحسين عليه‌السلام حتّى قُتل (رحمة الله عليه) (١).

أنباء الانتكاسة تتوارد على الإمام عليه‌السلام

ها هي الكوفة تضطرب وتموج ، والانتكاسة الخطيرة قد لاحت ملامحها ، وبدأ ميزان القوى يميل لصالح السّلطة الاُمويّة ، والوهن بدأ يدبّ والانحلال يسري في أوساط المعارضة ، وبدأ الإرهاب والتجسس والرشوة تفعل فعلتها ، فتلاشت المعارضة ونكص المبايعون ، وقُتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وقيس بن مُسهر الصيداوي ، وسُجِنَ المختار بن عبيدة الثقفي ، وانقلبت أوضاع الكوفة على أعقابها.

وواصل الإمام الحسين عليه‌السلام المسير ، وليس لديه معلومات جديدة عن تطوّر الأحداث ، فأرسل عبد الله بن يقطر إلى مسلم بن عقيل ؛ ليستجلي الموقف ، إلاّ إنّ الحسين اُخبرَ في الطريق في موضع يُدعى «الثعلبية» بانتكاسة الثورة واستشهاد مسلم بن عقيل ، أمّا رسوله الثاني هذا إلى مسلم فقد وقع أسيراً أيضاً بيد جنود الحصين فنُقل إلى ابن زياد في الكوفة ، وكان كرسول الحسين عليه‌السلام السّابق مثالاً للصلابة والجرأة والإخلاص.

ووصل خبر أسر الرّسول واستشهاده إلى الإمام عليه‌السلام في موضع يُدعى «زُبالة» ، وهكذا راحت تتوارد على الإمام أنباء الانتكاسة ، ولاحت له بوادر النكوص الخطير ، وشعر بالخذلان ونقض العهد ، فوقف في أصحابه وأهل بيته يبلغهم بما استجدّ من الحوادث ، ويضع أمامهم الحقائق ؛ ليكونوا على بصيرة من الأمر ، فقال لهم : «بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعد ، فإنَّه قد أتانا خبر فظيع

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٧٢ ـ ٧٣ ، والكامل في التأريخ ٣ / ١٧٧ ، والأخبار الطوال / ٢٤٦.

١٨٠