أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء

المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء

المؤلف:

المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: ليلى
الطبعة: ١
ISBN: 964-5688-21-3
الصفحات: ٢٤٤

الأموال الطائلة لبني اُميّة ؛ لتقوية مركزهم السّياسي والاجتماعي ، وكان الإمام الحسين عليه‌السلام يشجب هذه السّياسة ، ويرى ضرورة إنقاذ الأموال من معاوية الذي يفتقد حكمه لأيّ أساس شرعي ، ولا يقوم إلاّ على القمع والتزييف والإغراء.

وقد اجتازت على يثرب أموال من اليمن مرسولةً إلى خزينة دمشق ، فعمد الإمام عليه‌السلام إلى الاستيلاء عليها ووزّعها على المحتاجين ، وكتب إلى معاوية : «من الحسين بن عليّ إلى معاوية بن أبي سفيان. أمّا بعد ، فإنّ عيراً مرّت بنا من اليمن تحمل مالاً وحُللاً ، وعنبراً وطيباً إليك ؛ لتودعها خزائن دمشق ، وتعلّ بها بعد النّهْل بني أبيك ، وإنّي احتجت إليها فأخذتها. والسّلام» (١).

فأجاب معاوية : من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى الحسين بن عليّ. سلام عليك. أمّا بعد ، فإنّ كتابك ورد عليّ تذكر أنّ عيراً مرّت بك من اليمن تحمل مالاً وحُللاً ، وعنبراً وطيباً إليّ ؛ لأودعها خزائن دمشق ، وأعُلّ بها بعد النهل بني أبي ، وإنّك احتجت إليها فأخذتها ، ولم تكن جديراً بأخذها إذ نسبتها إليّ ؛ لأنّ الوالي أحقّ بالمال ، ثمّ عليه المخرج منه. وأيم الله ، لو تركت ذلك حتّى صار إليّ لم أبخسك حظّك منه ، ولكنّي قد ظننت يابن أخي أنّ في رأسك نزوةً ، وبودّي أن يكون ذلك في زماني ، فأعرف لك قدرك وأتجاوز عن ذلك ، ولكنّي والله أتخوّف أن تبتلي بمَنْ لا ينظرك فواق ناقة (٢).

إنّ الإمام الحسين عليه‌السلام دلّل بعمله على أن ليس من حقّ الخليفة غير الشّرعي أن يتصرّف في أموال المسلمين ، وأنّ ذلك من حقوق الحاكم الشّرعي ، والحاكم الشّرعي هو الإمام الحسين عليه‌السلام نفسه الذي ينفق أموال بيت

__________________

(١) نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ٤ / ٣٢٧ ، الطبعة الاُولى ، وناسخ التواريخ ١ / ١٩٥.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ٤ / ٣٢٧ ، وناسخ التواريخ ١ / ١٩٥.

١٢١

المال وفق المعايير الإسلاميّة. وقد أكّد عليه‌السلام في رسالته على أنّه لا يعترف رسميّاً بخلافة معاوية ؛ إذ لم يصفه بأمير المؤمنين كما كان يصفه الآخرون ؛ ومن هنا حاول معاوية الالتفاف على موقف الإمام عليه‌السلام فوصف نفسه في رسالته الجوابية بأمير المؤمنين ووالي المسلمين ، ولكنّه فشل في محاولته تلك ، فقد بات موقف الإمام الحسين عليه‌السلام معياراً إسلامياً ، وملاكاً فارقاً وفاصلاً بين الصواب والخطأ للمسلمين جميعاً على مدى التأريخ ، في حين لم يعرِ المسلمون لموقف معاوية أيّ اهتمام ، ولم يعتبروه سوى أنّه تشويه للحقيقة وتضليل للرأي العام.

لقد كان موقف الإمام عليه‌السلام هذا إشارة واضحة للاعتراض على تصرّفات وحكم معاوية ، والمطالبة بسيادة الحقّ والعدل الإلهي.

تذكير الاُمّة بمسؤوليّتها :

عقد الإمام عليه‌السلام في مكة مؤتمراً سياسيّاً عامّاً دعا فيه جمهوراً غفيراً ممّن شهد موسم الحجّ من المهاجرين والأنصار والتابعين وغيرهم من سائر المسلمين ، فانبرى عليه‌السلام خطيباً فيهم ، وتحدّث عمّا ألمّ بعترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وشيعتهم من المحن والإحن التي صبّها عليهم معاوية ، وما اتّخذه من الإجراءات المشدّدة في إخفاء فضائلهم ، وستر ما اُثر عن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّهم ، وألزم الحاضرين بإذاعة ذلك بين المسلمين، وفيما يلي ما رواه سليم بن قيس عن هذا المؤتمر ، ونصّ خطاب الإمام عليه‌السلام ، حيث قال : ولمّا كان قبل موت معاوية بسنة حجّ الحسين بن عليّ ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، فجمع الحسين بني هاشم ونساءهم ومواليهم ومَنْ حجّ من الأنصار ممّن

١٢٢

يعرفهم الحسين وأهل بيته ، ثمّ أرسل رُسلاً ، وقال لهم : «لا تدعوا أحداً حجّ العام من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المعروفين بالصّلاح والنّسك إلاّ اجمعوهم لي».

فاجتمع إليه بمنى أكثر من سبعمئة رجل وهم في سرادق ، عامّتهم من التابعين ، ونحو من مئتي رجل من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقام فيهم خطيباً ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : «أمّا بعد ، فإنّ هذا الطاغية ـ يعني معاوية ـ قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم ، وإنّي اُريد أن أسألكم عن شيء ، فإن صدقت فصدّقوني ، وإن كذبتُ فكذّبوني. اسمعوا مقالتي واكتموا قولي ، ثمّ ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم ؛ فمَنْ أمنتم من النّاس ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون ؛ فإنّي أخاف أن يندرس هذا الحقّ ويذهب ، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون».

قال الراوي : فما ترك الحسين شيئاً ممّا أنزل الله فيهم إلاّ تلاه وفسّره ، ولا شيئاً ممّا قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أبيه وأخيه واُمّه وفي نفسه وأهل بيته إلاّ رواه ، وفي كلّ ذلك يقول أصحابه : اللّهمّ نعم ، قد سمعنا وشهدنا. وممّا ناشدهم عليه‌السلام أن قال :

«اُنشدكم الله ، أتعلمون أنّ عليّ بن أبي طالب كان أخا رسول الله حين آخى بين أصحابه فآخى بينه وبين نفسه ، وقال : أنت أخي وأنا أخوك في الدنيا والآخرة؟ قالوا : اللّهمّ نعم. قال : اُنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ رسول الله اشترى موضع مسجده ومنازله فابتناه ، ثمّ ابتنى فيه عشرة منازل تسعة له ، وجعل عاشرها في وسطها لأبي ، ثمّ سدّ كلّ باب شارع إلى المسجد غير بابه ، فتكلّم في ذلك مَنْ تكلّم ، فقال : ما أنا سددتُ أبوابكم وفتحت بابه ، ولكنّ الله أمرني بسدّ أبوابكم وفتح بابه ، ثمّ نهى النّاس أن يناموا في المسجد غيره ، وكان يجنب في المسجد ومنزله في منزل رسول الله ، فولد لرسول الله وله فيه أولاد؟ قالوا : اللّهمّ نعم. قال : أفتعلمون أنّ عمر بن الخطاب حرص على كوة قدر عينه يدعها في منزله إلى المسجد فأبى

١٢٣

عليه ، ثمّ خطب فقال : إنّ الله أمرني أن أبني مسجداً طاهراً لا يسكنه غيري وغير أخي وبنيه؟ قالوا : اللّهمّ نعم. قال : اُنشدكم الله ، أتعلمون أنّ رسول الله قال في غزوة تبوك : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، وأنت وليّ كلّ مؤمن بعدي؟ قالوا : اللّهمّ نعم، قال : اُنشدكم الله ، أتعلمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين دعا النّصارى من أهل نجران إلى المباهلة لم يأتِ إلاّ به وبصاحبته وابنيه؟ قالوا : اللّهمّ نعم، قال : اُنشدكم الله ، أتعلمون أنّ رسول الله دفع إليه اللواء يوم خيبر ، ثمّ قال : لأدفعه إلى رجل يحبّه الله ورسوله ويحبّ الله ورسوله كرّار غير فرّار ، يفتحها الله على يديه؟ قالوا : اللّهمّ نعم. قال : أتعلمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعثه ببراءة ، وقال : لا يبلّغ عنّي إلاّ أنا أو رجل منّي؟ قالوا : اللّهمّ نعم. قال :

أتعلمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم تنزلْ به شدّة قطّ إلاّ قدّمه لها ثقةً به ، وأنّه لم يدعه باسمه قطّ ، إلاّ يقول يا أخي؟ قالوا : اللّهمّ نعم. قال :

أتعلمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قضى بينه وبين جعفر وزيد ، فقال : يا عليّ أنت منّي وأنا منك ، وأنت وليّ كلّ مؤمن بعدي؟ قالوا : اللّهمّ نعم. قال :

أتعلمون أنّه كانت له من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّ يوم خلوة ، وكلّ ليلة دخلة ، إذا سأله أعطاه ، وإذا سكت أبداه؟ قالوا : اللّهمّ نعم. قال :

أتعلمون أنّ رسول الله فضّله على جعفر وحمزة حين قال لفاطمة عليها‌السلام : زوّجتك خير أهل بيتي ؛ أقدمهم سلماً ، وأعظمهم حلماً ، وأكثرهم علماً؟ قالوا : اللّهمّ نعم. قال :

أتعلمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : أنا سيّد ولد آدم ، وأخي عليّ سيّد العرب ، وفاطمة سيّدة نساء أهل الجّنة ، والحسن والحسين ابناي سيّدا شباب أهل الجّنة، قالوا : اللّهمّ نعم. قال :

أتعلمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمره بغسله ، وأخبره أنّ جبرئيل يعينه عليه؟ قالوا : اللّهمّ نعم. قال :

١٢٤

أتعلمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال في آخر خطبة خطبها : أيّها النّاس ، إنّي تركتُ فيكم الثقلين ؛ كتاب الله وأهل بيتي ، فتمسّكوا بهما لن تضلّوا؟ قالوا : اللّهمّ نعم.

فلم يدع صلى‌الله‌عليه‌وآله شيئاً أنزله الله في عليّ بن أبي طالب خاصّة وفي أهل بيته من القرآن ولا على لسان نبيّه إلاّ ناشدهم فيه ، فيقول الصحابة : اللّهمّ نعم قد سمعناه ، ويقول التابعي : اللّهم قد حدّثنيه مَنْ أثق به فلان وفلان.

ثمّ ناشدهم أنّهم قد سمعوه يقول : مَنْ زعم أنّه يُحبّني ويُبغض عليّاً فقد كذب ، ليس يُحبّني وهو يُبغض عليّاً. فقال له قائل : يا رسول الله ، وكيف ذلك؟ قال : لأنّه منّي وأنا منه ؛ مَنْ أحبّه فقد أحبّني ، ومَنْ أحبّني فقد أحبّ الله ، ومَنْ أبغضه فقد أبغضني ، ومَنْ أبغضني فقد أبغض الله؟ فقالوا : اللّهمّ نعم ، قد سمعناه. وتفرّقوا على ذلك (١).

موت معاوية :

لقد كان موت معاوية بن أبي سفيان في سنة ستّين من الهجرة (٢).

واستقبل معاوية الموت غير مطمئن ، فكان يتوجّع ويظهر الجزع على ما اقترفه من الإسراف في سفك دماء المسلمين ونهب أموالهم ، وقد وافاه الأجل في دمشق محروماً عن رؤية ولده الذي اغتصب له الخلافة وحمله على رقاب المسلمين ، وكان يزيد فيما يقول المؤرّخون مشغولاً عن أبيه ـ في أثناء وفاته ـ برحلات الصيد ، وغارقاً في عربدات السكر ونغمة العيدان (٣).

__________________

(١) كتاب سُليم بن قيس / ٣٢٣ ، تحقيق محمّد باقر الأنصاري.

(٢) سيرة الأئمّة الاثني عشر ٢ / ٥٤.

(٣) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ٢٣٩ ـ ٢٤٠.

١٢٥

البحث الثاني : حكومة يزيد ونهضة الإمام الحسين عليه‌السلام

بدايات النهضة :

ذكرنا أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام وبالرغم من معارضته الشديدة لحكم معاوية بن أبي سفيان ـ والتي نقلنا صوراً عديدةً منها ـ رفض التحرّك لخلع معاوية ؛ التزاماً منه بالعهد الذي وقّعه أخوه الإمام الحسن عليه‌السلام مع معاوية.

وقد سجّل المؤرّخون هذا الموقف المبدئي للإمام الحسين عليه‌السلام ، فقالوا : لمّا مات الحسن عليه‌السلام تحرّكت الشّيعة بالعراق ، وكتبوا إلى الحسين عليه‌السلام في خلع معاوية والبيعة له فامتنع عليهم ، وذكر أنّ بينه وبين معاوية عهداً وعقداً لا يجوز له نقضه حتّى تمضي المدّة ، فإذا مات معاوية نظر في ذلك (١).

من هنا كان معلوماً لشيعته وللجهاز الحاكم أيضاً أنّ موت معاوية يعني بالنسبة للإمام الحسين عليه‌السلام أنّه في حلّ من أيّ التزام ، ومن ثمّ فإنّه سيطلق ثورته على نظام الحكم الغاشم الذي استلمه يزيد الفاسق ؛ لذلك كان الإمام الحسين عليه‌السلام يمثّل الهاجس الأكبر للطغمة الحاكمة.

رسالة يزيد إلى حاكم المدينة :

قال المؤرّخون : إنّ يزيد كتب فور موت أبيه إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ـ وكان والياً على المدينة من قِبَل معاوية ـ أن يأخذ على الحسين عليه‌السلام بالبيعة له ، ولا يرخّص له في التأخّر عن ذلك (٢). وذكرت مصادر

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٣٢.

(٢) المصدر السابق.

١٢٦

تأريخية اُخرى أنّه جاء في الرسالة : إذا أتاك كتابي هذا فاحضر الحسين بن عليّ ، وعبد الله بن الزبير فخذهما بالبيعة ، فإن امتنعا فاضرب أعناقهما وابعث إليّ برأسيهما ، وخذ النّاس بالبيعة ، فمَنْ امتنع فأنفذ فيه الحكم (١).

الوليد يستشير مروان بن الحكم :

حار الوليد في أمره ؛ إذ يعرف أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام لا يُبايع ليزيد مهما كانت النتائج ، فرأى أنّه في حاجة إلى مشورة مروان بن الحكم عميد الاُسرة الاُموية فبعث إليه ، فأشار مروان على الوليد قائلاً له : ابعث إليهم (٢) في هذه السّاعة فتدعوهم إلى البيعة والدخول في طاعة يزيد ، فإن فعلوا قبلت ذلك منهم ، وإن أبوا قدّمهم واضرب أعناقهم قبل أن يدروا بموت معاوية ؛ فإنّهم إن علموا ذلك وثب كلّ رجل منهم فأظهر الخلاف ودعا إلى نفسه ، فعند ذلك أخاف أن يأتيك من قبلهم ما لا قبل لك به ، إلاّ عبد الله بن عمر ؛ فإنّه لا ينازعُ في هذا الأمر أحداً ، مع أنّني أعلم أنّ الحسين بن علي لا يجيبك إلى بيعة يزيد ، ولا يرى له عليه طاعةً. ووالله لو كنت في موضعك لم اُراجع الحسين بكلمة واحدة حتّى أضرب رقبته كائناً في ذلك ما كان (٣).

وعظم ذلك على الوليد ، وهو أكثر بني اُميّة حنكةً ، فقال لمروان : يا ليت الوليد لم يولد ، ولم يك شيئاً مذكوراً (٤).

فسخر منه مروان وراح يندّد به ، قائلاً : لا تجزع ممّا قلتُ لك ؛ فإنّ

__________________

(١) تأريخ اليعقوبي ٢ / ٢١٥.

(٢) المقصود هنا الإمام الحسين عليه‌السلام ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمر ، باعتبار أنّ بعض المصادر التأريخية أفادت بأنّ رسالة يزيد تضمّنت أسماءهم جميعاً ، مثل تأريخ الطبري ٦ / ٨٤.

(٣) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ٢٥.

(٤) المصدر السابق ٢ / ٢٥١.

١٢٧

آل أبي تراب هم الأعداء من قديم الدهر (١). ونهره الوليد فقال له : ويحك يا مروان! اعزب عن كلامك هذا ، وأحسن القول في ابن فاطمة ؛ فإنّه بقيّة النبوّة (٢).

واتّفق رأيهما على استدعاء الإمام عليه‌السلام وعرض الأمر عليه لمعرفة موقفه من السّلطة.

الإمام عليه‌السلام في مجلس الوليد :

أرسل الوليد إلى الحسين عليه‌السلام يدعوه إليه ليلاً ، فجاءه الرّسول وهو في المسجد ، ولم يكن قد شاع موت معاوية بين النّاس ، وجال في خاطر الحسين عليه‌السلام أنّ الوليد قد استدعاه ليخبره بذلك ، ويأخذ منه البيعة إلى الحاكم الجديد بناءً على الأوامر التي جاءته من الشّام ، فاستدعى الحسين عليه‌السلام مواليه وإخوته وبني عمومته وأخبرهم بأنّ الوالي قد استدعاه إليه ، وأضاف : «إنّي لا آمن أن يكلّفني بأمر لا اُجيبه عليه» (٣).

وقال الإمام عليه‌السلام لمواليه بعد أن أمرهم بحمل السّلاح : «كونوا معي ، فإذا دخلت إليه فاجلسوا على الباب ، فإن سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه» (٤).

ودخل الإمام عليه‌السلام على الوليد فرأى مروان عنده وكانت بينهما قطيعة ، فقال عليه‌السلام : «الصلةُ خير من القطيعة ، والصلح خير من الفساد ، وقد آن لكما أن تجتمعا ، أصلح الله ذات بينكما» (٥). ثمّ نعى إليه الوليد معاوية ، فاسترجع الإمام الحسين عليه‌السلام ،

__________________

(١) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ٢٥١.

(٢) المصدر السابق.

(٣) إعلام الورى ١ / ٤٣٤ ، وروضة الواعظين / ١٧١ ، ومقتل أبي مخنف / ٢٧ ، وتذكرة الخواص / ٢١٣.

(٤) الإرشاد ٢ / ٣٣.

(٥) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ٢٥٤.

١٢٨

ثمّ قرأ عليه كتاب يزيد وما أمره فيه من أخذ البيعة منه له. فقال الحسين عليه‌السلام : «إنّي لا أراك تقنع ببيعتي ليزيد سرّاً حتّى اُبايعه جهراً».

فقال الوليد : أجل، فقال الحسين عليه‌السلام : «فتصبح وترى رأيك في ذلك»، فقال له الوليد : انصرف على اسم الله تعالى حتّى تأتينا مع جماعة النّاس. فقال له مروان : والله لئن فارقك الحسين السّاعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتّى تكثر القتلى بينكم وبينه ، احبس الرجل فلا يخرج من عندك حتّى يبايع أو تضرب عنقه. فوثب الحسين عليه‌السلام عند ذلك وقال : «أنت يابن الزرقاء تقتلني أم هو؟! كذبت والله وأثمت». وخرج يمشي ومعه مواليه حتّى أتى منزله.

فقال مروان للوليد : عصيتني! لا والله لا يمكّنك مثلها من نفسه أبداً. فقال له الوليد : ويح غيرك يا مروان! إنّك اخترت لي التي فيها هلاك ديني. والله ، ما اُحبّ أنّ لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وإنّي قتلت حسيناً. سبحان الله! أقتل حسيناً لمّا أن قال : لا اُبايع؟ والله ، إنّي لأظنّ امرأً يحاسبُ بدم الحسين خفيف الميزان عند الله يوم القيامة (١).

وثمّة روايات أفادت بأنّ النقاش قد احتدم بين الإمام عليه‌السلام وبين مروان حتّى أعلن عليه‌السلام رأيه لمروان بصراحة ، قائلاً : «إنّا أهل بيت النبوّة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومحلّ الرحمة ، بنا فتح الله وبنا ختم ، ويزيد رجل فاسق ، شارب الخمر ، قاتل النفس المحترمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله ، ولكن نصبح وتصبحون ، وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة» (٢).

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٣٣ ـ ٣٤.

(٢) مقتل الحسين ـ للمقرّم / ١٤٤ ، وإعلام الورى ١ / ٤٣٥.

١٢٩

الإمام عليه‌السلام مع مروان :

والتقى الإمام الحسين عليه‌السلام في أثناء الطريق بمروان بن الحكم في صبيحة تلك الليلة التي أعلن فيها رفضه لبيعة يزيد ، فبادره مروان قائلاً : إنّي ناصح فأطعني ترشد وتسدّد.

فقال الإمام عليه‌السلام : «وما ذاك يا مروان؟».

قال مروان : إنّي آمرك ببيعة أمير المؤمنين يزيد ؛ فإنّه خير لك في دينك ودنياك.

فردّ عليه الإمام عليه‌السلام ببليغ منطقه ، قائلاً : «على الإسلام السّلام إذ قد بليت الاُمّة براع مثل يزيد! ... سمعت جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان ، وعلى الطلقاء وأبناء الطلقاء ، فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه. فوالله ، لقد رآه أهل المدينة على منبر جدّي فلم يفعلوا ما اُمروا به» (١).

حركة الإمام عليه‌السلام في الليلة الثانية :

ذكر المؤرّخون أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام أقام في منزله تلك الليلة ، وهي ليلة السبت لثلاث بقين من رجب سنة ستين من الهجرة ، واشتغل الوليد بن عتبة بمراسلة ابن الزبير في البيعة ليزيد وامتناعه عليهم ، وخرج ابن الزبير من ليلته عن المدينة متوجّهاً إلى مكة ، فلمّا أصبح الوليد سرّح في أثره الرجال فبعث راكباً من موالي بني اُميّة في ثمانين راكباً ، فطلبوه ولم يدركوه فرجعوا ، فلمّا كان آخر نهار يوم السبت بعث الرجال إلى الحسين عليه‌السلام ليحضر فيبايع الوليد ليزيد بن معاوية ، فقال لهم الحسين عليه‌السلام : «اصبحوا ثمّ ترون ونرى». فكَفّوا تلك الليلة عنه ولم يلحّوا عليه.

__________________

(١) الفتوح ـ لابن أعثم ٥ / ١٧ ، ومقتل الحسين ـ للخوارزمي ١ / ١٨٤.

١٣٠

فخرج عليه‌السلام من تحت ليلته ـ وهي ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب ـ متوجّهاً نحو مكة ومعه بنوه وبنو أخيه وإخوته وجلّ أهل بيته إلاّ محمّد بن الحنفيّة (رحمة الله عليه) فإنّه لمّا علم عزمه على الخروج عن المدينة لم يدرِ أين يتوجّه ، فقال له : يا أخي أنت أحبّ النّاس إليّ وأعزّهم عليّ ، ولست أدّخر النصيحة لأحد من الخلق إلاّ لك وأنت أحقّ بها ، تنحّ ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت ، ثمّ ابعث رسلك إلى النّاس فادعهم إلى نفسك ، فإن بايعك النّاس وبايعوا لك حمدت الله على ذلك ، وإن اجتمع النّاس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك ، ولا تذهب به مروّتك ولا فضلك ، إنّي أخاف عليك أن تدخل مصراً من هذه الأمصار فيختلف الناس بينهم ، فمنهم طائفة معك واُخرى عليك ، فيقتتلوا فتكون لأوّل الأسنّة غرضاً ، فإذا خير هذه الاُمّة كلّها نفساً وأباً واُمّاً أضيعها دماً وأذلّها أهلاً.

فقال له الحسين عليه‌السلام : فأين أذهب يا أخي؟ قال : انزل مكة ، فإن اطمأنت بك الدار بها فسبيل ذلك ، وإن (نَبَتَ بك) (١) لحقت بالرمال وشعف الجبال ، وخرجت من بلد إلى بلد حتّى تنظر إلى ما يصير أمر النّاس إليه ؛ فإنّك أصوب ما تكون رأياً حين تستقبل الأمر استقبالاً.

فقال الإمام عليه‌السلام : «يا أخي ، قد نصحتَ وأشفقتَ ، وأرجو أن يكون رأيك سديداً موفّقاً» (٢). فسار الحسين عليه‌السلام إلى مكة وهو يقرأ : (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٣).

__________________

(١) أي لم تجد بها قراراً ولم تطمئن عليها. انظر لسان العرب ١٥ / ٣٠٢ مادة نبأ.

(٢) الإرشاد ٢ / ٣٥.

(٣) سورة القصص / ٢١.

١٣١

وصايا الإمام الحسين عليه‌السلام

لقد كتب الإمام عليه‌السلام قبل خروجه من المدينة عدّة وصايا ، منها : وصية لأخيه هذا نصّها : «هذا ما أوصى به الحسين بن عليّ إلي أخيه محمّد بن الحنفيّة ، أنّ الحسين يشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمداً عبده ورسوله جاء بالحق من عنده ، وأنّ الجّنة حق والنار حق ، والساعة آتية لا ريب فيها ، وأنّ الله يبعث مَنْ في القبور ، وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً ، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي ؛ اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب ، فمَنْ قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ ، ومَنْ ردّ عليّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين» (١).

ومنها : وصيّته لاُم المؤمنين اُمّ سلمة حيث أوصاها بما يرتبط بإمامة الإمام من بعده. روي أنّه لمّا عزم على الخروج من المدينة أتته اُمّ سلمة رضي‌الله‌عنها فقالت : يا بُني لا تحزنّي بخروجك إلى العراق ؛ فإنّي سمعت جدّك يقول : «يُقتل ولدي الحسين عليه‌السلام بأرض العراق في أرض يُقال لها : كربلا». فقال لها : «يا اُماه ، وأنا والله أعلم ذلك ، وإنّي مقتول لا محالة ، وليس لي من هذا بدّ ، وإنّي والله لأعرف اليوم الذي اُقتل فيه ، وأعرف مَنْ يقتلني ، وأعرف البقعة التي اُدفن فيها ، وإنّي أعرف مَنْ يُقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي ، وإن أردت يا اُمّاه اُريك حفرتي ومضجعي».

ثمّ أشار إلى جهة كربلاء ، فانخفضت الأرض حتّى أراها مضجعه ومدفنه وموضع عسكره وموقفه ومشهده ، فعند ذلك بكت اُمّ سلمة بكاءً شديداً

__________________

(١) مقتل الحسين ـ للمقرّم / ١٥٦.

١٣٢

وسلّمت أمره إلى الله.

فقال لها : «يا اُمّاه ، قد شاء الله (عزّ وجلّ) أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً ، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشرّدين ، وأطفالي مذبوحين مظلومين مأسورين مقيّدين ، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولا معيناً».

وفي رواية اُخرى : قالت اُمّ سلمة : وعندي تربة دفعها إليَّ جدّك في قارورة ، فقال : «والله إنّي مقتول كذلك ، وإن لم أخرج إلى العراق يقتلوني أيضاً». ثمّ أخذ تربةً فجعلها في قارورة وأعطاها إيّاها ، وقال : «اجعليها مع قارورة جدّي فإذا فاضتا دماً فاعلمي أنّي قد قتلت» (١).

وروى الطوسي عن الحسين بن سعيد ، عن حمّاد بن عيسى ، عن ربعي بن عبد الله ، عن الفضيل بن يسار قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : «لمّا توجه الحسين عليه‌السلام إلى العراق ، ودفع إلى اُمّ سلمة زوجة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الوصية والكتب وغير ذلك قال لها : إذا أتاك أكبر ولدي فادفعي إليه ما قد دفعت إليك. فلمّا قُتل الحسين عليه‌السلام أتى عليّ بن الحسين عليه‌السلام اُمّ سلمة فدفعت إليه كلّ شيء أعطاها الحسين عليه‌السلام» (٢).

وروى عليّ بن يونس العاملي في كتاب الصراط المستقيم النصّ على عليّ بن الحسين عليه‌السلام في حديث ، ثمّ قال : وكتب الحسين عليه‌السلام وصيّته وأودعها اُمّ سلمة ، وجعل طلبها منها علامة على إمامة الطالب لها من الأنام ، فطلبها الإمام زين العابدين عليه‌السلام (٣).

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٤ / ٣٣١ ، والعوالم ١٧ / ١٨٠ ، وينابيع المودّة / ٤٠٥ ... إلى قوله : بكت اُمّ سلمة بكاءً شديداً.

(٢) الغيبة ـ للطوسي / ١١٨ ح ١٤٨ ، وإثبات الهداة ٥ / ٢١٤.

(٣) إثبات الهداة ٥ / ٢١٦ ح ٨.

١٣٣

توجّه الإمام إلى مكة

قال المؤرّخون : إنّ الإمام الحسين عليه‌السلام عندما توجّه إلى مكة لزم الطريق الأعظم ، فقال له أهل بيته : لو تنكبت الطريق الأعظم كما فعل ابن الزبير ؛ كي لا يلحقك الطلب. فقال : «لا والله ، لا اُفارقه حتّى يقضي الله ما هو قاض» (١). ولمّا دخل الإمام الحسين عليه‌السلام مكة كان دخوله إيّاها ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان ، دخلها وهو يقرأ : (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) (٢).

ثمّ نزلها فأقبل أهلها يختلفون إليه ومَنْ كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق ، وابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة وهو قائم يصلّي عندها ويطوف ، ويأتي الحسين عليه‌السلام فيمَنْ يأتيه ، فيأتيه اليومين المتواليين ويأتيه بين كلّ يومين مرّة ، وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير ، قد عرف أنّ أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسين عليه‌السلام في البلد ، وأنّ الحسين عليه‌السلام أطوع في النّاس منه وأجلّ (٣).

__________________

(١) الفتوح ٥ / ٢٤ ، وينابيع المودّة / ٤٠٢ ، الإرشاد ـ للمفيد ٢ / ٣٥.

(٢) سورة القصص / ٢٢.

(٣) الإرشاد ٢ / ٣٦ ، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٣٢.

١٣٤

البحث الثالث : أسباب ودوافع الثورة

إنّه من الصعب أن نقف على جميع الأسباب لثورة امتدّت في عمق الزمن ، ولا زالت تنبض بالدفق والحيويّة ، مثيرة في النفوس روح الإباء والتضحية ، وتأخذ بيد الثائرين على مرّ الزمن بالاستمرار في طريق الحقّ وبذل النفس والنفيس لبلوغ الأهداف السّامية ، إنّها الثورة التي أحيت الرسالة الإسلاميّة بعد أن كادت تضيع وسط أهواء ورغبات الحكّام الفاسدين ، وأثارت في الاُمّة الإسلاميّة الوعي حتّى صارت تطالب بإعادة الحقّ إلى أهله وموضعه.

إنّ أفضل ما نستخلص منه أسباب ودوافع الثورة الحسينيّة هي النصوص المأثورة عن الحسين الثائر عليه‌السلام وكذا آثار الثورة ، إلى جانب معرفتنا بشخصيّته عليه‌السلام ، فها هو الحسين عليه‌السلام يخاطب جيش الحرّ بن يزيد الرياحي الذي تعجّل لمحاصرته ، ولم يسمح له بتغيير مساره قائلاً :

«أيّها النّاس ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : مَنْ رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أنْ يدخله مدخله. ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشّيطان وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله وأنا أحقّ مَنْ غَيّر ، وقد أتتني كتبكم ، وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم ، وإنّكم لا تسلموني ولا تخذلوني ، فإن تمّمتم عليّ بيعتكم تصيبوا رشدكم ، فأنا الحسين بن عليّ وابن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، نفسي مع أنفسكم ، وأهلي

١٣٥

مع أهليكم ، فلكم فيّ أُسوة» (١).

وفي خطاب آخر بعد أن توضّحت نوايا الغدر والخذلان ، والإصرار على محاربة الإمام عليه‌السلام وطاعة يزيد الفاسق ، قال عليه‌السلام : «فسحقاً لكم يا عبيد الأمة ، وشذّاذ الأحزاب ، ونَبَذَة الكتاب ، ونفثة الشّيطان ، وعصبة الآثام ، ومحرّفي الكتاب ، ومطفئي السُّنن ، وقتلة أولاد الأنبياء ، ومبيدي عترة الأوصياء ، وملحقي العهار بالنّسب ، ومؤذي المؤمنين ، وصُراخ أئمّة المستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين ، ولبئس ما قدّمت لهم أنفسهم وفي العذاب هم خالدون!».

ثمّ قال عليه‌السلام : «ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين ؛ بين السلّة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ، وجدود طابت ، وحجور طهرت ، واُنوف حميّة ، ونفوس أبيّة لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام ...» (٢).

من هنا يمكن أن نخلص إلى أسباب ثورة الإمام الحسين عليه‌السلام كما يلي :

١ ـ فساد الحاكم وانحراف جهاز الحكومة

لم يعد في مقدور الإمام الحسين عليه‌السلام أن يتوقّف عن الحركة ؛ وهو يرى الانحراف الشّامل في زعامة الاُمّة الإسلاميّة ، فإذا كانت السّقيفة قد زحزحت الخلافة عن صاحبها الشّرعي وهو الإمام عليّ عليه‌السلام ، وتذرّع أتباعها بدعوى حرمة نقض البيعة ولزوم الجماعة ، وحرمة تفريق كلمة الاُمّة ووجوب إطاعة الإمام المنتخب بزعمهم ، فقد كان الإمام عليّ عليه‌السلام يسعى بنحو أو بآخر لإصلاح ما فسد من جرّاء فعل الخليفة غير المعصوم ، وقد شهد الإمام الحسين عليه‌السلام جانباً من ذلك بوضوح خلال فترة حكم عثمان.

ولقد كانت بنود الصلح تضع قيوداً على تصرّفات معاوية الذي اتّخذ

__________________

(١) تأريخ الطبري ٤ / ٣٠٤ ، والكامل في التأريخ ٣ / ٢٨٠.

(٢) أعيان الشّيعة ١ / ٦٠٣.

١٣٦

اُسلوب الخداع والتستّر بالدين سبيلاً لتمرير مخطّطاته ، أمّا الآن فإنّ الأمر يختلف ؛ إذ بعد موت معاوية لم يبقَ أيّ علاج إلاّ الصدام المباشر في نظر الإمام المعصوم ، وصاحب الحقّ الشّرعي ـ الحسين عليه‌السلام ـ فلم يعد في الإمكان ـ ولو نظرياً ـ القبول بصلاحيّة يزيد وبني اُميّة للحكم.

على أنّ نتائج انحراف السّقيفة كانت تنذر بالخطر الماحق للدين ، فقد قال الإمام عليه‌السلام : «أيّها النّاس ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : مَنْ رأى منكم سلطاناً جائراً ، مستحلاًّ لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بقول ولا بفعل كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله».

وقد كان يزيد يتّصف بكلّ ما حذّر منه الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان الحسين عليه‌السلام وهو الوريث للنبيّ ، وحامل مشعل الرسالة أحقّ من غيره بالمواجهة والتغيير.

٢ ـ مسؤولية الإمام تجاه الاُمّة

كان الإمام الحسين عليه‌السلام يمثّل القائد الرسالي الشّرعي الذي يجسّد كلّ القيم الخيّرة والأخلاق السّامية.

وبحكم مركزه الاجتماعي ـ حيث إنّه هو سبط الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ووريثه ـ فإنّه مسؤول عن هذه الاُمّة ، وقد وقف عليه‌السلام في عهد معاوية محاولاً إصلاح الاُمور بطريقة سلمية ، فحاجج معاوية وفضح مخطّطاته (١) ، ونبّه الاُمّة إلى مسؤولياتها ودورها (٢) ، بل خطا خطوةً كبيرة لتحفيز الاُمّة على رفض الظلم (٣) ،

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ٢٨٤.

(٢) كتاب سُليم بن قيس / ١٦٦.

(٣) شرح نهج البلاغة ٤ / ٣٢٧.

١٣٧

وحاول جمع كلمة الاُمّة في وجه الظالمين (١).

ولمّا استنفد كلّ الإجراءات الممكنة لتغيير الأوضاع الاجتماعية في الاُمّة تحرّك بثقله وأهل بيته للقيام بعمل قويّ في مضمونه ودلالته وأثره وعطائه ؛ لينهض بالاُمّة لتغيير واقعها الفاسد.

٣ ـ الاستجابة لرأي الجماهير الثائرة

لم يكن بوسع الإمام الحسين عليه‌السلام أن يقف دون أن يقوم بحركة قوية ، وقد تكاثرت عليه كتب الرافضين لبيعة يزيد بن معاوية تطلب منه قيادة زمام اُمورها والنهوض بها ، وقد حمّلته المسؤولية أمام الله إذا لم يستجب لدعواتهم ، وكانت دعوة أهل الكوفة للإمام الحسين عليه‌السلام بمثابة الغطاء السّياسي الذي يُعطي الصّفة الشّرعية لحركته ، فلم تكن حركته بوازع ذاتي ، ولا مطمع شخصي ، لاسيّما بعد إتمام الحجّة عليه من قبل هؤلاء المسلمين.

٤ ـ محاولة إرغامه عليه‌السلام على الذلّ والمساومة

لقد كان الإمام الحسين عليه‌السلام يحمل روحاً صاغها الله بالمُثل العليا والقيم الرفيعة ، ففاضت إباءً وعزّةً وكرامةً ، وفي المقابل تدنّت نفسيّة يزيد الشّريرة ونفسيات أزلامه ، فأرادوا من الإمام الحسين عليه‌السلام أن يعيش ذليلاً في ظلّ حكم فاسد ، وقد صرّح عليه‌السلام قائلاً : «ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين ؛ بين السلّة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله ، ونفوس أبيّة ، واُنوف حميّة من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام».

وفي موقف آخر قال عليه‌السلام : «لا أرى الموت إلاّ سعادةً ، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً».

__________________

(١) أنساب الأشراف ق ١ ج ١ ، وتأريخ ابن كثير ٨ / ١٦٢.

١٣٨

بهذه الصّورة الرائعة سنّ الإمام الحسين عليه‌السلام سنّة الإباء لكلّ مَنْ يدين بقيم السّماء وينتمي إليها ويدافع عنها ، وانطلق من هذه القاعدة ليغيّر الواقع الفاسد.

٥ ـ نوايا الغدر الاُموي والتخطيط لقتل الحسين عليه‌السلام

استشفّ الإمام الحسين عليه‌السلام ـ وهو الخبير الضليع بكلّ ما كان يمرّ في معترك السّاحة السّياسية ، والمتغيّرات الاجتماعية التي كانت تتفاعل في الاُمّة ـ نوايا الغدر والحقد الاُموي على الإسلام وأهل البيت عليهم‌السلام ، وتجارب السنين الاُولى من الدعوة الإسلاميّة ، ثمّ ما كان لمعاوية من مواقف مع الإمام علي عليه‌السلام ومن بعده مع الإمام الحسن عليه‌السلام.

وأيقن الحسين عليه‌السلام أنّهم لا يكفّون عنه وعن الفتك به حتّى لو سالمهم ، فقد كان يمثّل بقيّة النبوّة ، والشّخصية الرسالية التي تدفع الحركة الإسلاميّة في نهجها الحقيقي وطريقها الصّحيح.

ولم يستطع يزيد أن يخفي نزعة الشرّ في نفسه ، فقد روي أنّه صرّح قائلاً في وقاحة :

لستُ من خندف إن لم انتقمْ

من بني أحمدَ ما كان فعلْ

وقد أعلن الإمام الحسين عليه‌السلام أنّ بني اُميّة لا يتركونه بحال من الأحوال ، فقد صرّح لأخيه محمّد بن الحنفيّة قائلاً : «لو دخلت في جُحْر هامّة من هذه الهوامّ لاستخرجوني حتّى يقتلوني».

وقال عليه‌السلام لجعفر بن سليمان الضّبعي : «والله ، لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة ـ يعني قلبه الشّريف ـ من جوفي».

١٣٩

فتحرّك الإمام عليه‌السلام من مكة مبكّراً ؛ ليقوم بالثورة قبل أن تتمكّن يد الغدر من قتله وتصفيته ، وهو بعد لم يتمكّن من أداء دوره المفروض له في الاُمّة آنذاك ، وسعى لتفويت أيّة فرصة يمكن أن يستغلّها الاُمويّون للغدر به ، والظهور بمظهر المدافع عن أهل بيت النبوّة.

٦ ـ انتشار الظلم وفقدان الأمن

قام الحكم الاُموي على أساس الظلم والقهر والعدوان ، فمنذ أن برز معاوية وزمرته كقوّة في العالم الإسلامي برز وهو باغ على خليفة المسلمين وإمام الاُمّة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأسرف في ممارساته الظالمة التي جلبت الويل للاُمّة ، فقد سفك الدماء الكثيرة ، واستعمل شرار الخلق لإدارة الاُمور يوم تفرّد بالحكم ، بل وقبل أن يتسلّط على الاُمّة كانت كلّ العناصر الموالية له تشيع الخوف والقتل حتّى قال النّاس في ولاية زياد بن أبيه : «انج سعد ، فقد هلك سعيد» ؛ للتدليل على ضياع الأمن في جميع أنحاء البلاد (١).

ومن جانب آخر أمعنت السّلطة الاُموية في احتقار فئات وقطاعات كبيرة من الاُمّة بنظرة استعلائية قبلية (٢) ، كما مارس معاوية في سياسته التي ورثها يزيد أنواع الفتك والتعذيب والتهجير للمسلمين ، وبالأخص مَنْ عرف منه ولاء أهل البيت عليهم‌السلام (٣).

وبكلّ جرأة على الحقّ واستهتار بالقيم يقول معاوية للإمام الحسين عليه‌السلام : يا أبا عبد الله ، علمت أنّا قتلنا شيعة أبيك ، فحنّطناهم وكفّناهم

__________________

(١) تأريخ الطبري ٦ / ٧٧ ، وتأريخ ابن عساكر ٣ / ٢٢٢ ، والاستيعاب ١ / ٦٠ ، وتأريخ ابن كثير ٧ / ٣١٩.

(٢) العقد الفريد ٢ / ٢٥٨ ، وطبقات ابن سعد ٦ / ١٧٥ ، ونهاية الإرب ٦ / ٨٦.

(٣) شرح النهج ١١ / ٤٤ ، وتأريخ الطبري ٤ / ١٩٨.

١٤٠