أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء

المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء

المؤلف:

المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: ليلى
الطبعة: ١
ISBN: 964-5688-21-3
الصفحات: ٢٤٤

٧ ـ فرض البيعة بالقوّة ليزيد الفاجر :

لقد كانت الخلافة أيام أبي بكر وعمر وعثمان ذات مسحة إسلاميّة ، وكانوا يحكمون تحت شعار خلافة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

على أنّ معاوية حينما بدأ بالسّيطرة على زمام السّلطة فإنّه ـ رغم الخداع والتضليل الذي عرفنا شيئاً عنه ـ لم يجترئ على تحدّي الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ورسالته بشكل علني وصريح في بداية حكمه ؛ إذ كان يستغلّ المظاهر الإسلاميّة لإحكام القبضة ، ولتحقيق مزيد من السيطرة على رقاب أبناء الاُمّة الإسلاميّة ؛ ومن هنا وصف معاوية بالدهاء والذكاء المفرط ، لأنّه كان يُلبس باطله لباساً إسلامياً.

ولكنّ تحميله ليزيد الفاجر ، المعلن بفسقه على الاُمّة جاء هتكاً صريحاً للقيم الإسلاميّة ، واستهتاراً واضحاً لعرف المسلمين ؛ وذلك لما عرفه المسلمون جميعاً من أنّ الخلافة الإسلاميّة ليست حكماً قيصرياً ولا كسروياً لينتقل بالوراثة ، ولا يستحق هذا المنصب إلاّ العالم بالكتاب والسنّة ، العامل بهما والقادر على تحقيق أهداف الرسالة الإسلاميّة وتطبيق أحكامها.

هذا مضافاً إلى أنّ فرض البيعة ليزيد على المسلمين كان جريمة كبرى ذات أبعاد اجتماعية وسياسية خطيرة تنتهي بتصفية الإسلام ومحوه من على وجه الأرض ، لولا ثورة الإمام الحسين عليه‌السلام سبط الرّسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الحافظ لدين جدّه من الضّياع والدمار.

ولأجل الوقوف على عظمة هذه الجريمة لا بدّ أن نعرف أوّلاً مَنْ هو يزيد؟ وما هو السّبب الذي جعله غير صالح للخلافة؟ ولماذا يكون فرض بيعته عدواناً صريحاً على الإسلام ، وارتداداً عنه وعودة إلى الجاهليّة التي ناهضها الإسلام؟

١٠١

البحث الثاني : من هو يزيد بن معاوية؟

قبل الحديث عن تولّي يزيد للحكم وموقف الإمام الحسين عليه‌السلام من ذلك لا بدّ وأن نعرف مَنْ هو يزيد في منظار الإسلام والمسلمين ، وما هو رأي الإسلام في البيت الاُموي بصورة عامّة.

لا يشك أحد من الباحثين والمؤرّخين في أنّ الاُمويّين كانوا من ألدّ أعداء الإسلام وأنكد خصومه منذ أن بزغ فجره وحتى آخر مرحلة من مراحل حكمهم ، وأنّهم لم يدخلوا فيه إلاّ بعد أن استنفدوا جميع إمكاناتهم في محاربته حتّى باؤوا بالفشل. ولمّا دخلوا فيه مرغمين أخذوا يخطّطون لتشويه معالمه ، وإعادة مظاهر الجاهليّة بكلّ أشكالها باُسلوب جديد وتحت ستار الإسلام.

وكان معاوية يرتعش جزعاً ويضجر عندما كان يسمع النداء باسم النبيّ محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويشعر بانطلاق هذا الاسم المبارك في أجواء العالم الإسلامي من أعلى المآذن في كلّ يوم.

وهكذا كان غيره من حكّام ذلك البيت الذين حكموا باسم الإسلام وهم يعملون على تقويضه ، وإبرازه على غير واقعه ، وتشويه قوانينه وتشريعاته ومُثله.

ويزيد بن معاوية ـ الذي وقف الإمام الحسين عليه‌السلام منه ذلك الموقف الخالد ـ كان كما يصفه المؤرّخون والمحدّثون ، مستهتراً إلى حدّ الإسراف في الاستهتار ، وممعناً في الفحشاء والمنكرات إلى حدّ الغلوّ في ذلك (١).

__________________

(١) سيرة الأئمّة الاثني عشر ٢ / ٤١.

١٠٢

ولادة يزيد ونشأته وصفاته :

ولد يزيد سنة (٢٥ أو ٢٦ هـ) (١) ، واُمّه ميسون بنت بجدل الكلبية ، وقد ذكر المؤرّخون أنّ ميسون بنت بجدل الكلبية أمكنت عبد أبيها من نفسها ، فحملت بيزيد (لعنه الله) ، وإلى هذا أشار النسّابة الكلبي بقوله :

فإن يكن الزمان أتى علينا

بقتل الترك والموت الوحيِّ

فقد قَتل الدعيُّ وعبدُ كلبٍ

بأرض الطفّ أولادَ النبيِّ

أراد بالدعيّ عبيد الله بن زياد (لعنه الله) ، ومراده بعبد كلب يزيد بن معاوية ؛ لأنّه من عبد بجدل الكلبي (٢).

وفيما يتّصل بصفاته الجسميّة : فقد وصفه ابن كثير ـ في بدايته ـ بأنّه كان كثير اللحم ، عظيم الجسم ، وكثير الشعر مجدوراً (٣).

أمّا صفاته النفسية : فقد ورث صفات الغدر والنّفاق ، والطيش والاستهتار من سلفه ، حتّى قال المؤرّخون : وكان يزيد قاسياً غدّاراً كأبيه ، (إن كان من معاوية طبعاً) ، ولكنّه ليس داهيةً مثله. كانت تنقصه القدرة على تغليف تصرّفاته القاسية بستار من اللباقة الدبلوماسية الناعمة ، وكانت طبيعته المنحلّة وخُلقه المنحطّ لا تتسرّب إليها شفقة ولا عدل. كان يقتل ويعذّب نشواناً للمتعة واللّذة التي يشعر بها ، وهو ينظر إلى آلام الآخرين ، وكان بؤرة لأبشع الرذائل ، وها هم ندماؤه من الجنسين خير شاهد على ذلك ، لقد كانوا من حثالة المجتمع (٤).

__________________

(١) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ١٧٩.

(٢) بحار الأنوار ٤٤ / ٣٠٩.

(٣) سيرة الأئمّة الاثني عشر ٢ / ٤٢.

(٤) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ١٨١ ـ ١٨٢.

١٠٣

وقد نشأ يزيد عند أخواله في البادية من بني كلاب الذين كانوا يعتنقون المسيحية قبل الإسلام ، وكان مرسل العنان مع شبابهم الماجنين فتأثّر بسلوكهم إلى حدّ بعيد ، فكان يشرب معهم الخمر ويلعب معهم بالكلاب.

ولع يزيد بالصيد :

ومن مظاهر صفات يزيد ولعه بالصيد ، فكان يقضي أغلب أوقاته فيه. قال المؤرّخون : كان يزيد بن معاوية كلفاً بالصيد ، لاهياً به ، وكان يُلبِسُ كلابَ الصيد الأساورَ من الذهب ، والجلال المنسوجة منه ، ويهب لكلّ كلب عبداً يخدمه (١).

شغفه بالقرود :

وكان يزيد ـ فيما أجمع عليه المؤرّخون ـ ولعاً بالقرود ، وكان له قرد يجعله بين يديه ويُكنّيه بأبي قيس ، ويسقيه فضل كأسه ، ويقول : هذا شيخ من بني إسرائيل أصابته خطيئة فمُسخ ، وكان يحمله على أتان وحشية ويرسله مع الخيل في حلبة السّباق ، فحمله يوماً فسبق الخيل فسُرّ بذلك ، وجعل يقول :

تمسّك أبا قيس بفضل زمامها

فليس عليها إن سقطتَ ضمانُ

فقد سبقتْ خيلَ الجماعة كلّها

وخيلَ أمير المؤمنين أتانُ

وأرسله مرّةً في حلبة السّباق فطرحته الريح فمات ، فحزن عليه حزناً شديداً ، وأمر بتكفينه ودفنه ، كما أمر أهل الشام أن يعزّوه بمصابه الأليم ، وأنشأ راثياً له :

كم من كرام وقوم ذوو محافظةٍ

جاؤوا لنا ليعزّوا في أبي قيسِ

__________________

(١) راجع الفخري ـ لابن الطقطقي / ٤٥ ، وتاريخ اليعقوبي ٢ / ٢٣٠ ، وتاريخ الطبري ٤ / ٣٦٨ ، والبداية والنهاية ٨ / ٢٣٦ ـ ٢٣٩.

١٠٤

شيخ العشيرة أمضاها وأجملها

على الرؤوس وفي الأعناق والريسِ

لا يُبعد الله قبراً أنت ساكنه

فيه جمالٌ وفيه لحية التيسِ (١)

وذاع بين النّاس هيامه وشغفه بالقرود حتّى لقّبوه بها ، ويقول رجل من تنوخ هاجياً له :

يزيد صديق القرد ملّ جوارَنا

فحنّ إلى أرض القرود يزيدُ

فتبّاً لمَنْ أمسى علينا خليفةً

صحابتُه الأدنون منه قرودُ (٢)

إدمانه على الخمر :

والظاهرة البارزة من صفات يزيد إدمانه على الخمر حتّى أسرف في ذلك إلى حدٍ كبيرٍ ، فلم يُرَ في وقت إلاّ وهو ثمل لا يعي من فرط السُكر ، ومن شعره في الخمر :

أقول لصحبٍ ضمّت الخمرُ شملهمْ

وداعي صبابات الهوى يترنّمُ

خذوا بنصيبٍ من نعيم ولذّةٍ

فكلّ وإن طال المدى يتصرّمُ (٣)

وينقل المؤرّخون عن عبد الله بن حنظلة ـ الذي خرج على يزيد بعد أن اصطحب وفداً من أهل المدينة إلى الشّام في أعقاب استشهاد الإمام الحسين عليه‌السلام ـ وصفه ليزيد بقوله : والله ، ما خرجنا على يزيد حتّى خفنا أن نُرمى بالحجارة من السّماء ؛ إنّه رجل ينكح الاُمهات والبنات والأخوات ، ويشرب الخمر ويدع الصّلاة. والله ، لو لم يكن معي أحد من النّاس لأبليت لله بلاءً حسناً (٤).

__________________

(١) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ١٨٢ ، نقلاً عن جواهر المطالب / ١٤٣.

(٢) أنساب الأشراف ٢ / ٢.

(٣) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ١٨٣ ، نقلاً عن تأريخ المظفّري.

(٤) تأريخ ابن عساكر ٧ / ٣٧٢ ، وتأريخ الخلفاء ـ للسيوطي / ٨١.

١٠٥

وقال أعضاء الوفد : قدمنا من عند رجل ليس له دين ؛ يشرب الخمر ، ويعزف بالطنابير ، ويلعب بالكلاب (١).

ونقل عن المنذر بن الزبير قوله في وصفه : والله إنّه ليشرب الخمر ، والله إنّه ليسكر حتّى يدع الصّلاة (٢).

ووصفه أبو عمر بن حفص بقوله : والله ، رأيت يزيد بن معاوية يترك الصّلاة مسكراً ... (٣).

ويتبدّى الكفر في وصفه للخمر في الأبيات الآتية :

شميسة كرم برجها قعر دنِّها

ومشرقها الساقي ومغربها فمي

إذا اُنزلت من دنِّها في زجاجةٍ

حكت نفراً بين الحطيم وزمزمِ

فإن حَرُمَتْ يوماً على دين أحمدٍ

فخذها على دين المسيح بن مريمِ(٤)

وعنه قال المسعودي : وكان يزيد صاحب طرب وجوارح وكلاب ، وقرود وفهود ومنادمة على الشّراب ، وجلس ذات يوم على شرابه وعن يمينه ابن زياد ، وذلك بعد قتل الحسين ، فأقبل على ساقيه فقال :

اسقني شربةً تُروّي مُشاشي

ثمّ مِلْ فاسقِ مثلها ابن زيادِ

صاحبَ السرّ والأمانة عندي

ولتسديد مغنمي وجهادي

ثمّ أمر المغنّين فغنّوا. وغلب على أصحاب يزيد وعمّاله ما كان يفعله من الفسوق ، وفي أيامه ظهر الغناء بمكة والمدينة ، واستُعملت الملاهي ، وأظهر النّاس شرب الشّراب (٥).

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) البداية والنهاية ٨ / ٢١٦ ، الكامل لابن الأثير ٤ / ٤٥.

(٣) المصدر السابق.

(٤) تتمة المنتهى / ٤٣.

(٥) مروج الذهب ٢ / ٩٤.

١٠٦

ويؤكّد في مكان آخر : وكان يسمّى يزيد السكران الخمّير (١).

وكان ليزيد جماعة من الندماء الخليعين والماجنين يقضي معهم لياليه الحمراء بين الشّراب والغناء ، «وفي طليعة ندمائه الأخطل الشّاعر المسيحي الخليع ، فكانا يشربان ويسمعان الغناء ، وإذا أراد السّفر صحبه معه ، ولمّا هلك يزيد وآل أمر الخلافة إلى عبد الملك بن مروان قرّبه ، فكان يدخل عليه بغير استئذان ، وعليه جبّة خزّ ، وفي عنقه سلسلة ذهب ، والخمر يقطر من لحيته» (٢).

إنّ مطالعة الحياة الماجنة ليزيد في حياة أبيه تكفي لفهم دليل امتناع عامّة الصّحابة والتابعين من الرضوخ لبيعة يزيد بالخلافة.

إنّ نوايا يزيد ونزعاته المنحرفة قد تجلّت بشكل واضح خلال فترة حكمه القصيرة ، حتّى أنّه لم يبالِ بإظهار ما كان يضمره من حقد للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما كان ينطوي عليه من إلحاد برسالته صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن دنّس يديه بقتل سبط الرّسول وريحانته أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام ، وهو متسلّط ـ بالقهر ـ على رقاب المسلمين باسم الرّسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

إلحاد يزيد وحقده على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

لقد أترعت نفس يزيد بالحقد على الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والبغض له ؛ لأنّه وتره باُسرته يوم بدر ، ولمّا أباد العترة الطاهرة جلس على أريكة الملك جذلان مسروراً ، فقد استوفى ثأره من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتمنّى حضور أشياخه ؛ ليروا كيف أخذ بثأرهم ، وجعل يترنّم بأبيات عبد الله بن الزبعرى :

ليتَ أشياخي ببدرٍ شهدوا

جزعَ الخزرج من وقع الأسلْ

__________________

(١) مروج الذهب ٢ / ٩٤.

(٢) الأغاني ـ لأبي الفرج الأصفهاني ٧ / ١٧٠.

١٠٧

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً

ثمّ قالوا يا يزيد لا تُشلْ

قد قتلنا القرمَ من أشياخهمْ

وعدلناه ببدرٍ فاعتدلْ

لعبت هاشمُ بالملك فلا

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزلْ

لستُ من خندف إنْ لم أنتقمْ

من بني أحمد ما كان فعلْ (١)

بل إنّ يزيدَ جاهر بإلحاده وكفره عندما تحرّك عبد الله بن الزبير ضدّه في مكة ؛ فقد وجّه جيشاً لإجهاض تحرّك ابن الزبير وزوّده برسالة إليه ، وردّ فيها البيت الآتي :

ادع إلهك في السّماء فإنّني

أدعو عليك رجال عكٍّ وأشعرا (٢)

جرائم حكم يزيد :

ذكر المؤرّخون أنّ يزيد ارتكب خلال فترة حكمه القصيرة التي لم تتجاوز ثلاث سنين ونصف ثلاث جرائم مروّعة لم يشهد لها التأريخ نظيراً ، بحيث لم تسوّد تأريخ الاُمويّين إلى الأبد فحسب ، وإنّما شوّهت تأريخ العالم الإسلامي كذلك.

ومن هذه الجرائم :

١ ـ انتهاك حرمة أهل بيت الوحي بقتل الإمام الحسين السّبط عليه‌السلام ، ومَنْ معه من اُسرته وأصحابه ، وسبي نسائه وأطفاله ، وعرضهم على الجماهير من بلد إلى بلد سنة (٦١ هـ) وهم ذرية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وملايين المسلمين تقدّسهم ، وتذكر فيهم الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وكلّ ما في الإسلام من حقّ وخير.

٢ ـ إقدامه بعد ملحمة عاشوراء على انتهاك حرمة مدينة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقتل أهلها وإباحة أعراضهم لجيش الشّام ؛ لأنّهم استعظموا قتل الإمام

__________________

(١) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ١٨٧ ، نقلاً عن البداية والنهاية ٨ / ١٩٢.

(٢) مروج الذهب ٢ / ٩٥.

١٠٨

الحسين عليه‌السلام وأنكروه عليه.

٣ ـ إقدامه على حصار مكّة وتدمير الكعبة ، وقتل آلاف الأبرياء في الحرم الذي جعله الله حراماً وآمناً.

السرّ الكامن وراء نزعات يزيد الشرّيرة :

رجّح بعض المؤرّخين أنّ بعض نساطرة النّصارى تولّى تربية يزيد وتعليمه ، فنشأ نشأةً سيّئة ممزوجةً بخشونة البادية وجفاء الطبع ، وقالوا : إنّه كان من آثار تربيته المسيحية أنّه كان يقرّب المسيحيين ويكثر منهم في بطانته الخاصّة ، وبلغ من اطمئنانه إليهم أن عهد بتربية ولده إلى مسيحي كما اتّفق على ذلك المؤرّخون (١).

ولا يمكن أن تعلّل هذه الصّلة الوثيقة وتعلّقه الشّديد بالأخطل وغيره إلاّ بتربيته ذات الصّبغة المسيحية. هكذا حاول بعض المؤرّخين والكتّاب أن يعلّل استهتار يزيد بالإسلام ومقدّساته وحرماته.

وهذا التعليل يمكن أن يكون له ما يسوّغه لو كانت لحياة البادية وللتربية المسيحية تلك الصّبغة الشاذّة التي برزت في سلوك يزيد من مطلع شبابه إلى أن أصبح وليّاً لعهد أبيه وحاكماً من بعده.

في حين أنّ العرب في حاضرتهم وباديتهم كانت لهم عادات وأعراف كريمة قد أقرّها الإسلام ؛ كالوفاء وحسن الجوار ، والكرم والنجدة وصون الأعراض وغير ذلك ممّا تحدّث به التأريخ عنهم ، ولم يُعرف عن يزيد شيء من ذلك، كما وإنّ التأريخ لم يحدّث عنهم بأنّهم استحلّوا نكاح الأخوات والعمّات كما حدّث التأريخ عنه ، والذين ولِدوا في البادية على النّصرانية طيلة

__________________

(١) سيرة الأئمّة الاثني عشر ٢ / ٤٢ ، وراجع أيضاً حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ١٨٠ عن المناقب ـ للقاضي نعمان المصري / ٧١ ، وسمو المعنى في سموّ الذات ـ العلائلي / ٥٩.

١٠٩

حياتهم قبل الفتح الإسلامي ، وعاشوا في ظلّ أعرافها وعاداتها حينما دخلوا في الإسلام تغلّبوا على كلّ ما اعتادوه وألفوه عن الآباء والأجداد.

فلا بدّ إذن من القول : بأنّ لذلك الانحراف الشّديد والوبيء في شخصية يزيد وسلوكه سبباً وراء التربية والحضانة المسيحية.

إلى هنا نكون قد وقفنا على صورة واضحة عن واقع شخصية يزيد المنحرفة عن خطّ الإسلام انحرافاً لا يسوغ لأيّ مسلم الانقياد لها والسكوت عليها ما دام الإسلام يمنع الإباحية والفسق ويدعو إلى العدل والتقوى ، ويحاول تحقيق مجتمع عامر بالتقوى ، ويريد للمسلمين قيادة تحرص على تحقيق أهداف الإسلام المُثلى.

ومن هنا كان علينا أن نطالع بدقّة كلّ مواقف الإمام الحسين عليه‌السلام ؛ باعتباره القائد الرسالي ، الحريص على مصالح الرسالة والاُمّة الإسلاميّة ، وندرس تخطيطه الرسالي ؛ للوقوف أمام الانحراف الهائل الذي كان يمتدّ بسرعة في أعماق المجتمع الإسلامي آنذاك.

١١٠

الفصل الثاني

مواقف الإمام الحسين عليه‌السلام وإنجازاته

البحث الأوّل : موقفه عليه‌السلام من البيعة ليزيد

١ ـ دعوة انتهازية وخطّة شيطانية :

عندما ارتفعت راية الحقّ مرفرفةً فوق ربوع مكّة ، ومعلنةً عن انتصارها دخل أبو سفيان ومعاوية في الإسلام ونار الحقد تستعر في قلبيهما ، ونزعة الثأر من الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام تكمن في صدريهما ، فتحوّلا من كونهما كافرين إلى كونهما مستسلِمَين طليقين من طلقاء الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله. ولم يطل العهد حتّى حكم عثمان بن عفان فتسرّب ما كان مختبئاً في القلب وظهر على لسان أبي سفيان ، وهو يخاطب عثمان بقوله : صارت إليك بعد تيمٍ وعديّ فأدرها كالكرة ؛ فإنّما هو الملك ولا أدري ما جنّة ولا نار (١).

وخاطب أبو سفيان بني اُميّة ثانيةً : يا بني اُميّة ، تلقّفوها تلقّف الكرة ، فو الذي يحلف به أبو سفيان مازلت أرجوها لكم ، ولتصيرنّ إلى صبيانكم ورثة (٢).

وحين أطلّ معاوية من نافذة السّقيفة على كرسيّ الحكم بانت نتائج

__________________

(١) الاستيعاب ٢ / ٦٩٠.

(٢) مروج الذهب ١ / ٤٤٠ ، تأريخ ابن عساكر ٦ / ٤٠٧.

١١١

الانحراف واتّضحت خطورته ؛ فإنّه قد لاحظ أنّ أبا بكر وعمر وعثمان قد ملكوا قبله ولم تسمح لهم الظّروف بإعادة صرح الجاهليّة من جديد ، ولا زال صوت الحقّ هادراً كلّ يوم بالتوحيد وبالرسالة لمحمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

كما إنّ الانحراف السّياسي الذي ولّدته السّقيفة وتربّت عليه فئات من الاُمّة استثمره معاوية أيّما استثمار ، فقد احتجّ على النّاس بأنّ أبا بكر بويع بدون نصّ سماويّ ، أو أمر من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّه خالف سيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إذ جعل عمر خليفةً من بعده ، وصنع عمر ما لم يصنعه قبله وخالف بذلك الله ورسوله وأبا بكر. ووفق هذا المنطق فإنّ الاُمّة ومصير الرسالة الإسلاميّة تكون اُلعوبة بيد معاوية يسوسها كيف يشاء ؛ من هنا قرّر أن يبايع بالخلافة ليزيد (٢) من بعده.

وقد خلت السّاحة السّياسية للزمرة الاُمويّة بعد فتن ومصاعب أشعلها معاوية مستغلاًّ جهالة طبقات من الاُمّة ، وموظّفاً كلّ الطّاقات التي وقفت ضدّ الإمام عليّ عليه‌السلام لصالحه في مواجهة تيار الحقّ بقيادة الإمام الحسن عليه‌السلام ، واستأثر بالحكم بعد قتله للإمام الحسن عليه‌السلام واستهتاره بقيم الإسلام وتعاليمه ، وكان حاذقاً في إحكام سيطرته وملكه ، ولكنّه لم يجرؤ لإعلان خطّته تثبيتاً لملك بني اُميّة باستخلاف يزيد من بعده وفي الاُمّة مَنْ هو صاحب الخلافة الشّرعية وهو الإمام الحسن عليه‌السلام ، ومن بعده أخوه الإمام الحسين عليه‌السلام الذي كان على الاُمّة أن تعود لقيادته بعد افتقادها للحسن عليه‌السلام.

يُضاف إلى ذلك أنّ أحداً من الخلفاء الثلاثة لم يوصِ بالخلافة لولده من بعده. ونظراً لما كان ينطوي عليه يزيد من ضعف واستهتار ومجون

__________________

(١) مروج الذهب ٢ / ٣٤٣ ، وشرح النهج ٢ / ٣٥٧.

(٢) الإمامة والسّياسة ١ / ١٨٩.

١١٢

فقد مضى معاوية بكلّ جدٍّ ليحبك الأمر ويدبّره بطريقة يخدع بها الاُمّة ، بل يقهرها على قبول البيعة ليزيد ؛ من هنا بادر إلى قتل الإمام الحسن السّبط عليه‌السلام وخيار المؤمنين في خطوة اُولى ، ليرفع بذلك أهمّ الموانع التي كانت تحول بينه وبين تنفيذ خطّته.

على أنّ أصحاب النفوس الرذيلة والمطامع الدنيوية على استعداد تام لبلوغ أتفه المطامع من أيّ طريق كان. فقد روي أنّ المغيرة بن شعبة ـ الذي كان والياً من قبل معاوية على الكوفة ـ علم بأنّ معاوية ينوي عزله ، فأسرع إلى نسج خيوط مؤامرة جلبت الويلات على الاُمّة الإسلاميّة ، وليكون بذلك سمساراً يصافق على ما لا يملك ؛ إذ همس في أذن يزيد يمنّيه بخلافة أبيه ، ويزيّن له الأمر ويسهّله. ووجد معاوية أنّ خطّة شيطانية يمكن أن يكون المغيرة عاملاً لتنفيذها (١) ، فسأله مخادعاً : ومَنْ لي بهذا؟ فردّ عليه المغيرة : أكفيك أهل الكوفة ، ويكفيك زياد أهل البصرة ، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك. وهكذا قبض المغيرة على ربح عاجل لصفقة مؤجّلة ، ورجع إلى الكوفة بكلّ قوّة لينفّذ الخطّة ، وهو يقول : لقد وضعت رِجل معاوية في غرز بعيد الغاية على اُمّة محمّد (٢).

ورفض زياد بن أبيه هذه الخطّة الخبيثة ؛ ولعلّه لما كان يلمسه من رذائل في شخصية يزيد بحيث تجعله غير صالح لزعامة الاُمّة. وقد أثارت هذه الخطّة مطامع أطراف اُخرى من بني اُميّة ، فمدّ كلّ من مروان بن الحكم وسعيد بن عثمان بن عفان عنقه لذلك (٣).

__________________

(١) الكامل في التأريخ ٣ / ٢٤٩ ، وتأريخ اليعقوبي ٢ / ١٩٥ ، والإمامة والسّياسة ٢ / ٢٦٢.

(٢) الكامل في التأريخ ٣ / ٢٤٩.

(٣) وفيات الأعيان ٥ / ٣٨٩ ، والإمامة والسّياسة ١ / ١٨٢ ، وتأريخ اليعقوبي ٢ / ١٩٦.

١١٣

وجمّد معاوية رسمياً وبشكل مؤقّت خطّته لأخذ البيعة ليزيد ؛ وذلك ليتّخذ إجراءات اُخرى تمهّد للإعلان الرسمي وفي الفرصة المناسبة لذلك.

٢ ـ أساليب معاوية لإعلان بيعة يزيد :

لمس معاوية رفض العائلة الاُموية المنحرفة لحكم يزيد من بعده ، فكيف بصاحب الحقّ الشّرعي الإمام الحسن عليه‌السلام ، ومن بعده الإمام الحسين عليه‌السلام ، وعدد من أبناء الصحابة؟!

من هنا مضى جادّاً باتّخاذ سبل اُخرى تتراوح بين مخادعة الاُمّة وبين قهرها بالقوّة على بيعة الخليع يزيد ، ومن تلك السبل :

أ ـ استخدام الشّعراء لإسباغ فضائل على يزيد ، ولبيان مقدرته وإشاعة أمره ؛ لكي تخضع الاُمّة لولايته (١) ، وأوعز إلى ولاته والخطباء في الأمصار لنشر تلك الفضائل المفتعلة.

ب ـ بذل الأموال الطائلة وشراء ذمم المعارضين ممّن كان يقف ضدّ يزيد ، لا بدافع العقيدة والحرص على الإسلام وإنّما بدوافع شخصية وذاتية (٢).

ج ـ استقدام وفود من وجهاء الأنصار (٣) ومناقشة قضية يزيد معهم ؛ لمعرفة الرافض والمؤيّد منهم ، ومعرفة نقاط الضّعف لكي ينفذ منها إليهم.

د ـ إيقاع الخلاف بين عناصر بني اُميّة الطّامعين في الحكم ؛ كي يضعف منافستهم ليزيد ، فقد عزل عامله على يثرب سعيد بن العاص واستعمل مروان ابن الحكم مكانه ، ثمّ عزل مروان واستعمل سعيداً (٤).

هـ ـ اغتيال الشّخصيات الإسلاميّة البارزة ، والتي كانت تحظى باحترام

__________________

(١) الأغاني ٨ / ٧١ ، وشعراء النصرانية بعد الإسلام ـ للويس شيخو اليسوعي / ٢٣٤.

(٢ و٣) الكامل في التأريخ ٣ / ٢٥٠.

(٤) تأريخ الطبري ٤ / ١٨.

١١٤

كبير في نفوس الجماهير ، فاغتال الإمام الحسن عليه‌السلام ، وسعد بن أبي وقّاص ، وعبد الرحمن بن خالد ، وعبد الرحمن بن أبي بكر (١).

و ـ استخدام سلاح الحرمان الاقتصادي ضدّ بني هاشم ؛ للضغط عليهم وإضعاف دورهم ، فقد حبس عنهم العطاء سنة كاملة (٢) ؛ إذ وقفوا مع الإمام الحسين عليه‌السلام يرفضون البيعة ليزيد.

٣ ـ محاولات الإمام الحسين عليه‌السلام لإيقاظ الاُمّة :

لم يخلد الإمام الحسين عليه‌السلام إلى السّكون والخمول حتّى عند إقراره الصّلح مع معاوية ، فقد تحرّك انطلاقاً من مسؤوليّته تجاه الشّريعة والاُمّة الإسلاميّة ، وبصفته وريث النبوّة ـ بعد أخيه الإمام الحسن عليه‌السلام ـ مراعياً ظروف الاُمّة ، وساعياً إلى المحافظة عليها.

وقد عمل الإمام عليه‌السلام في فترة حكم معاوية على تحصين الاُمّة ضدّ الانهيار التام ، فأعطاها من المقوّمات المعنوية القدرَ الكافي كي تتمكّن من البقاء صامدةً في مواجهة المحن.

وإليك جملة من هذه المواقف :

١ ـ مواجهة معاوية وبيعةِ يزيد.

٢ ـ محاولة جمع كلمة الاُمّة.

٣ ـ فضح جرائم معاوية.

٤ ـ استعادة حقّ مضيّع.

٥ ـ تذكير الاُمّة بمسؤوليّاتها.

__________________

(١) مقاتل الطالبيّين / ٢٩ ، وتأريخ الطبري ٥ / ٢٥٣ ، والكامل في التأريخ ٣ / ٣٥٢.

(٢) الكامل في التأريخ ٣ / ٢٥٢ ، والإمامة والسّياسة ١ / ٢٠٠.

١١٥

مواجهةُ معاوية وبيعة يزيد :

أعلن الإمام الحسين عليه‌السلام رفضه القاطع لبيعة يزيد وكذا زعماء يثرب ؛ فقرّر معاوية أن يسافر إلى يثرب ليتولّى بنفسه إقناع المعارضين ، فاجتمع بالإمام وعبد الله بن عباس ، فأشاد بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأثنى عليه ، وعرض بيعة ابنه ومنحه الألقاب الفخمة ، ودعاهما إلى بيعته، فانبرى الإمام عليه‌السلام فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال :

«أمّا بعد يا معاوية ، فلن يؤدّي المادح وإن أطنب في صفة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد فهمتُ ما لبست به الخلف بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من إيجاز الصّفة ، والتنكّب عن استبلاغ النّعت ، وهيهات هيهات يا معاوية! فضح الصبحُ فحمةَ الدُّجى ، وبهرت الشمسُ أنوار السّرج ، ولقد فضّلت حتّى أفرطت ، واستأثرت حتّى أجحفت ، ومنعت حتّى بخلت ، وجُرت حتّى تجاوزت ، ما بذلت لذي حقّ من اسم حقّه من نصيب حتّى أخذ الشّيطان حظّه الأوفر ونصيبه الأكمل.

وفهمتُ ما ذكرته عن يزيد من اكتماله ، وسياسته لاُمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، تريد أن توهم النّاس في يزيد ، كأنّك تصفُ محجوباً ، أو تنعت غائباً ، أو تخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاصّ ، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استفرائه الكلاب المهارشة عند التحارش ، والحمام السّبق لأترابهنّ ، والقيان ذوات المعازف ، وضروب الملاهي ، تجده ناصراً.

ودع عنك ما تحاول ، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه! فوالله ما برحتَ تقدح باطلاً في جور ، وحنقاً في ظلم حتّى ملأتَ الأسقية ، وما بينك وبين الموت إلاّ غمضة ، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود ، ولات حين مناص، ورأيتك

١١٦

عرّضت بنا بعد هذا الأمر ، ومنعتنا عن آبائنا تراثاً ، ولعمر الله لقد أورثنا الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ولادة ، وجئت لنا بما حججتم به القائم عند موت الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأذْعنَ للحجّة بذلك ، وردّه الإيمان إلى النّصف ؛ فركبتم الأعاليل ، وفعلتم الأفاعيل ، وقلتم كان ويكون حتّى أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك ، فهناك فاعتبروا يا اُولي الأبصار.

وذكرتَ قيادةَ الرجلِ القومَ بعهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتأميرَه له ، وقد كان ذلك لعمرو ابن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرّسول وببعثه له ، وما صار لعمرو يومئذ حتّى أنف القوم إمرته ، وكرهوا تقديمه ، وعدّوا عليه أفعاله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا جَرَمَ يا معشرَ المهاجرين ، لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري ، فكيف تحتجُّ بالمنسوخ من فعل الرّسول في أوكد الأحكام وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب؟ أم كيف ضاهيتَ بصاحب تابعاً وحولك من يُؤمن في صحبته ، ويُعتمد في دينه وقرابته ، وتتخطّاهم إلى مسرف مفتون ، تريد أن تُلبس النّاس شبهةً يسعد بها الباقي في دنياه ، وتشقى بها في آخرتك؟! إنّ هذا لهو الخسران المبين ، واستغفر الله لي ولكم.

وذهل معاوية من خطاب الإمام عليه‌السلام ، وضاقت عليه جميع السبل ، فقال لابن عباس : ما هذا يابن عباس؟ فقال ابن عباس : لعمر الله! إنّها لذرّية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأحد أصحاب الكساء ، ومِنَ البيت المطهّر ، فاسأله عمّا تريد ؛ فإنّ لك في النّاس مقنعاً حتّى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين (١).

وقد اتّسم موقف الإمام الحسين عليه‌السلام مع معاوية بالشدّة والصّرامة ، وأخذ يدعو المسلمين علناً إلى مقاومة معاوية ، ويحذّرهم من سياسته الهدّامة التي تحمل الدمار إلى الإسلام.

__________________

(١) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ٢١٩ ـ ٢٢٠.

١١٧

محاولة جمع كلمة الاُمّة والاستجابة لحركة الجماهير :

وأخذت الوفود تترى على الإمام من جميع الأقطار الإسلاميّة وهي تعجّ بالشكوى وتستغيث به ؛ نتيجة الظلم والجور الذي حلّ بها ، وتطلب منه القيام بإنقاذها من الاضطهاد ، ونقلت العيون في يثرب إلى السّلطة المحلّية أنباء تجمّع النّاس واختلافهم إلى الإمام عليه‌السلام ، وكان الوالي مروان بن الحكم ؛ ففزع من ذلك وخاف من عواقبه جدّاً ، فرفع مذكّرة إلى معاوية جاء فيها : أمّا بعد ، فقد كثر اختلاف النّاس إلى الحسين. والله ، إنّي لأرى لكم منه يوماً عصيباً (١).

واضطرب معاوية من تحرّك الإمام الحسين عليه‌السلام ؛ فكتب إليه رسالةً جاء فيها : أمّا بعد ، فقد اُنهيت إليّ عنك اُمور ، إن كانت حقّاً فإنّي لم أظنّها بك رغبة عنها ، وإن كانت باطلة فأنت أسعد النّاس بمجانبتها ، وبحظّ نفسك تبدأ ، وبعهد الله توفي ، فلا تحملني على قطيعتك والإساءة إليك ؛ فإنّك متى تنكرني أنكرك ، ومتى تكدني أكدك ، فاتّق الله يا حسين في شقّ عصا الاُمّة ، وأن تردّهم في فتنة (٢).

فضح جرائم معاوية :

كتب الإمام عليه‌السلام إلى معاوية مذكّرةً خطيرةً كانت ردّاً على رسالته ، يحمّله فيها مسؤوليّات جميع ما وقع في البلاد من سفك الدماء ، وفقدان الأمن ، وتعريض الاُمّة للأزمات. وتعدّ من أروع الوثائق الرسمية التي حفلت بذكر الأحداث التي صدرت من معاوية ، وهذا نصّها : «أمّا بعد ، بلغني كتابك تذكر فيه أنّه انتهت إليك عنّي اُمور أنت عنها راغب ، وأنا بغيرها عندك جدير ، وأنّ الحسنات لا يهدي لها

__________________

(١) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ٢٢٣.

(٢) المصدر السابق : ٢ / ٢٢٤.

١١٨

ولا يسدّد إليها إلاّ الله تعالى. أمّا ما ذكرت أنّه رقى إليك عنّي فإنّه إنّما رقاه إليك الملاّقون المشّاؤون بالنميمة ، المفرّقون بين الجمع ، وكذب الغاوون ، ما أردت لك حرباً ولا عليك خلافاً ، وإنّي لأخشى الله في ترك ذلك منك ، ومن الإعذار فيه إليك وإلى أوليائك القاسطين حزب الظلمة.

ألستَ القاتل حجر بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلّين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ، ويستعظمون البدع ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ولا يخافون في الله لومة لائم؟! قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما أعطيتهم الأيْمان المغلّظة ، والمواثيق المؤكّدة ؛ جرأةً على الله واستخفافاً بعهده.

أوَ لست قاتل عمرو بن الحمق الخزاعي صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، العبد الصالح الذي أبلتْه العبادة فنحل جسمُه واصفرّ لونُه؟! فقتلته بعد ما أمّنته وأعطيته ما لو فهمته العصم لنزلت من رؤوس الجبال.

أوَ لستَ بمدّعي زياد بن سُميّة المولود على فراش عبيد ثقيف ، فزعمَت أنّه ابن أبيك ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الولدُ للفراش وللعاهر الحجر. فتركت سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تعمّداً ، وتبعت هواك بغير هدىً من الله ، ثمّ سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم ، ويسملُ أعينهم ، ويصلبهم على جذوع النخل ، كأنّك لست من هذه الاُمّة وليسوا منك؟!

أوَ لستَ قاتل الحضرمي الذي كتب فيه إليك زياد أنّه على دين عليّ (كرّم الله وجهه) ، فكتبتَ إليه أن اقتل كلّ مَنْ كان على دين عليّ. فقتلهم ومثّل بهم بأمرك ، ودين عليّ هو دين ابن عمّه صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه ، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين ؛ رحلة الشتاء ، ورحلة الصّيف؟!

وقلت فيما قلت : انظر لنفسك ودينك ولاُمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واتّق شقّ عصا هذه الاُمّة

١١٩

وأن تردّهم إلى فتنة. وإنّي لا أعلم فتنةً أعظم على هذه الاُمّة من ولايتك عليها ، ولا أعظم لنفسي ولديني ولاُمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل من أن اُجاهرك ؛ فإنْ فعلتُ فإنّه قربة إلى الله ، وإن تركتُه فإنّي استغفر الله لديني ، وأسأله توفيقه لإرشاد أمري.

وقلت فيما قلت : إنّي إن أنكرتك تنكرني ، وإن أكدك تكدني ، فكدني ما بدا لك ؛ فإنّي أرجو أن لا يضرّني كيدك ، وأن لا يكون على أحد أضرّ منه على نفسك ؛ لأنّك قد ركبت جهلك ، وتحرّصت على نقض عهدك. ولعمري ، ما وفيتَ بشرط ، ولقد نقضتَ عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان ، والعهود والمواثيق ، فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا أو قُتلوا ، ولم تفعل ذلك بهم إلاّ لذكرهم فضلَنا ، وتعظيمهم حقَّنا ، مخافة أمر لعلّك إن لم تقتلهم مُتّ قبل أن يفعلوا ، أو ماتوا قبل أن يدركوا.

فأبشر يا معاوية بالقصاص ، واستيقن بالحساب ، واعلم أنّ لله تعالى كتاباً لا يُغادر

صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها ، وليس الله بناسٍ لأخذك بالظنّة ، وقتلك أولياءه على التُّهم ، ونفيك إيّاهم من دورهم إلى دار الغربة ، وأخذك النّاس ببيعة ابنك الغلام الحدث ، يشرب الشّراب ، ويلعب بالكلاب ، ما أراك إلاّ قد خسرت نفسك ، وبترت دينك ، وغَشَشْتَ رعيّتك ، وسمعت مقالة السّفيه الجاهل ، وأخفت الورع التقيّ» (١).

ولا توجد وثيقة سياسية في ذلك العهد عرضت لعبث السّلطة ، وسجّلت الجرائم التي ارتكبها معاوية غير هذه الوثيقة ، وهي صرخة في وجه الظلم والاستبداد.

استعادة حقّ مضيّع :

وكان معاوية ينفق أكثر أموال الدولة ؛ لتدعيم ملكه ، كما كان يهب

__________________

(١) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ٢٣٥ عن الإمامة والسياسة ١ / ٢٨٤ ، والدرجات الرفيعة / ٣٣٤ ، وراجع الغدير ١٠ / ١٦١.

١٢٠