السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني
المحقق: مؤسسة إحياء الكتب الإسلامية
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ١٤١
ولكنَّ الكوفيِّين ـ يا للأسف ـ غَرّوا مسلماً واغترّوا ، ولم يغتنموا صَفاء جَوّهم ، وتواني عَدوّهم إلى أنْ دَهمهم ابن زياد ، وفرّق جمعهم بالوعد والوعيد ، وسكَّن فورتهم بالطَّمع والتهديد ، حتَّى إذا سكت الضجيج مِن حول مسلم ، نَفى الرجال العاملين لمعونة مسلم مِن بلده ، وزجَّ في السجن مِن وجوه الشيعة : أمثال المُختار الثقفي ، والمُسيَّب بن نجيبة ، وسُليمان ، ورفاعة وغيرهم ، مِمَّن لم تؤثِّر عليهم التضييقات ، ولا اغترّوا بباطل الوعد ، واستوظف آخرين ، واختفى بعد ذلك أكثر المُتهوِّسين في زوايا البيوت.
مَقتل مُسلم وهاني
إنَّ مُسلماً ـ وهو الذي بايعه أكثر مِن ثلاثين ألف مسلم ـ بقي وحيداً فريد ، بعد القبض على الوجوه مِن أوليائه : كالمُختار الثقفي ، وسُليمان الخزاعي ، فلاذَ بصَديقه هاني ، أكبر مشايخ الكوفة سِناً ، وشأناً ، وبصيرة ، وعِشرة ؛ إذ كان مُعمِّراً فوق الثمانين ، وشيخ كِندة ، أعظم أرباع الكوفة ، وكان إذا صرخ لبَّاه ثلاثون ألف سيفٍ ، وكان هو وأبوه مِن أحبَّة عليٍّ وأنصاره في حروبه العراقيَّة.
فهنأ هاني مسلماً بالرحب والسعة والحفاظ ، حتَّى يُفرِّج الله عنه ، والتزم هاني بالتمارض مُجاملة مع ابن زياد في عدم إجابته لدعوته ، لكنَّ ابن زياد يَطمع في هاني وسابقته معه ، ويرى في جَذب أمثاله مِن المُتنفِّذين الحقيقيِّين معونة كُبرى لإنفاذ مقاصده.
ويروى أنَّ هاني ، أو شُريك ، أقترح على عميد آل عقيل ، ومندوب الحسين (مسلم) الفتك بابن زياد غِيلةً وغَفلةً ، لكنَّ مسلماً لم يجب بسِوى كلمة : إنِّا أهل بيت نَكْرَه الغَدر.
هذا كلمة كبيرة المَغزى ، بعيدة المَرمى ؛ فإنَّ آل علي
(عليه السّلام) مِن قوَّة تَمسُّكهم بالحَقِّ والصدق ، نبذوا الغَدر والمَكر ، حتَّى لدى الضرورة ، واختاروا النصر الآجل بقوَّة الحَقِّ على النصر العاجل بالخديعة ، شِنْشِنة فيهم معروفة عن أسلافهم ، ومَوروثة في أخلافهم ، كأنَّّهم مَخلوقون لإقامة حكومة الحَقِّ والفضيلة في قلوب العُرفاء الأصفياء ، وقد حَفِظ التاريخ لهم الكراسي في القلوب.
وبالجملة : فقد دبَّر ابن مرجانه حيلة الفتك بهاني ، فأحضره لديه بحُجَّة مُداولة الرأي معه في الشؤون الداخليَّة ، غير إنَّ هانياً بعدما حضر لديه ، غَدر به ابن زياد ، وشَتم عرضه ، وهَشم أنفه ، وقطع رأسه.
وكان لهذه الحادثة دويٌّ في الرؤوس وفي النفوس ، واستولت بذلك دهشة على الجمهور ، أدّت إلى تفرُّق الناس مِن حول مسلم ، فأمسى وحيداً ، حائراً بنفسه ومَبيته ، وأشرف في طريقه على امرأة صالحة في كِِندة (١) جالسة على باب دارها ، فاستسقاها ماءً ، فجائته به وشرب ، ثمَّ وقف يُطيل النظر الى مَبدء الشارع تارةً ، وإلى مَنفذه أُخرى ، كأنَّه يتوقَّع مَن يتطلَّبه ، فتوسَّمت المرأة فيه غُربته وسألته.
فقال : نَعَم ، أنا مسلم بن عقيل ، خذلني هؤلاء.
فاستعظمت طوعة ذلك ، ودعته إلى بيتها ؛ لتُخفيه حتَّى الصباح ، وفرشت له في بيتٍ ، وعرضت عليه العِشاء ، فلم يتعشَ ، ولم يَكُن بأسرع مِن أنْ جاء ابنها ، وقد كان مع الغوغاء ، فأوهمه تَردُّد أُمِّه إلى البيت ، وقال لأُمِّه : والله لتُريبني كَثرة دخولك هذا البيت ، ثمَّ ألحّ عليها ، فأخذت عليه العهود ؛ كي لا يُفشي سِرَّها وسِرَّ مَندوب الحسين ،
__________________
(١) تُسمَّى طوعة ، وهي أُمّ ولد ، حازت شرف التاريخ ؛ إذ عرفت قيمة الفضيلة ، بينما قومها ضيَّعوا هذا الشرف الخالد وغرَّتهم المطامع.
(عليه السّلام) وأخبرته بالأمر بعد الأيمان.
ثمَّ إنَّ الغُلام غَدا عند الصباح إلى ابن الأشعث ، وأفشى له سِرَّ مسلم ومَبيته ، فأبلغ بذلك ابن زياد ، فأرسل الجموع للقبض عليه.
بَلى ، أنّ أبطالاً صادقين ، كبني هاشم ، لو تأخَّروا في ميدان السياسة والخُداع ، فلهم قصب السَّبق في ميادين العلم ، والدِّين ، والجود ، والشرف ، ومُقارعة الكتائب.
وكان نَدب بني هاشم ، يتلو القرآن دُبُر صلاته ، إذ سمع وقع حوافر الخيل ، وهَمهمة الفُرسان ، فأوحت إليه نفسه بدنوِّ الأجل ، فبرز ليث بني عقيل مِن عَرينه مُستقبلاً باب الدار والعسكر ، وعليهم محمّد بن الأشعث ، وانتهى أمر المُتقابلين إلى النِّزال ، ونزيل الكوفة راجل وهم فُرسان ، لكنَّ فَحل بني عقيل شَدَّ عليهم شَدّ الضُّرغام على الأنعام ، وهم يولّونه الأدبار ، ويستنجدون بالحاميات ، وقذائف النار تُرمى عليه مِن السطوح.
إضطرَّ ابن الأشعث إلى وعده مُسلماً بالأمان ، إذا ألقى سلاحه فقال : لا أمان لكم.
وبعد ما كرّروا عليه رأي التسليم فريضة مُحافضة للنفس ، وحِقناً للدماء ، فسلَّم إليهم نفسه وسلاحه ، ثمَّ استولوا عليه ، فعَرِف أنَّه مَخدوع ، فنَدِم ولاتَ حينَ مَندم.
ولمَّا أدخلوه على ابن زياد ، لم يُسلِّم عليه بالإمرة ، فقال له الحرسي : ألاْ تُسلِّم على الأمير؟
فقال : إنْ كان يُريد قتلي ، فما سلامي عليه؟
فقال له ابن زياد : لَعمري لتُقتلَنَّ.
قال : فدعني أوصي بعض قومي.
قال : افعل.
فنظر مسلم إلى جلساء عبيد الله ، وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقَّاص ، فقال : يا عمر ، إنَّ بيني وبينك قَرابة ، ولي إليك حاجة ، وهي سِرٌّ.
فامتنع عمر أنْ يَسمع منه ، فقال له عبيد الله : لِمَ تمتنع أنْ تَنظر في حاجة ابن عمّك؟
فقام معه ، فجلس حيثُ ينظر إليهما ابن زياد ، فقال له مسلم : إنّ عليَّ بالكوفة دَيناً ، استدنته مُنذ قَدِمت الكوفة سبع مئة دِرهَم ، فبع سيفي ودِرعي ، فاقضها عنِّي ، وإذا قُتلت فاستوهب جُثَّتي مِن ابن زياد فوارها ، وابعث إلى الحسين (عليه السّلام) مَن يَردُّه ؛ فإنِّي قد كتبت إليه وأعلمته أنَّ الناس معه ، ولا أراه إلاِّ مُقبلاً ، ومعه تسعون إنساناً بين رجُل وامرأة وطفل.
فقال عمر لابن زياد : أتدري أيُّها الأمير ما قال لي؟
فقال له ابن زياد ـ على ما رواه في الفريد ـ : اكِتم على ابن عَمّك.
قال : هو أعظم مِن ذلك ، إنَّه ذكر كذا وكذا.
فقال له ابن زياد : لا يَخونك الأمين ، ولكنْ قد ائتمن الخائن ، أمّا ماله فهو له ، ولسنا نَمنعك أنْ تَصنع به ما أحببت ، وأمّا جُثَّته ، فإنَّا لا نُبالي إذا قتلناه ما صُنع بها ، وأمّا الحسين (عليه السّلام) ، فإنْ هو لم يُردِنا لم نُردِه.
ثمَّ قال لعمر بن سعد : أما والله ، إذ دَللت عليه لا يُقاتله أحد غيرك.
ثمَّ أقبل ابن زياد على مسلم يَشتمه ، ويَشتم الحسين وعليَّاً وعقيلاً ، ومسلم لا يُكلِّمه ، ثمَّ قال ابن زياد : اصعدوا فوق القَصر ، واضربوا عُنقه ، ثمَّ أتبعوه جسده.
فصعدوا به ، وهو يُكبِّر ويَستغفر الله ، ويُصلِّي على رسوله ، ويقول :
«اللَّهمَّ أحكم بيننا وبين قوم غرُّونا ، وكذَّبونا ، وخذلونا».
فضُرِبت عُنقه ، وأُتبع جسدُه ، وكان هذا مَقتل مسلم يوم الأربعاء ، لستعٍ مَضين مِن ذي الحِجَّة (يوم عرفة) سنة ستِّين مِن الهِجرة ، وقد كان خروجه في الكوفة ، يوم الثلاثاء ثامن ذي الحِجَّة (يوم التروية) ، وهو اليوم الذي قُتل فيه هاني ، ويوم خرج فيه الحسين (عليه السّلام) مِن مَكَّة يَقصد الكوفة مُلبِّياً دعوتها.
أجلْ ، قُتِل مسلم ، وقُتل به أمل كلِّ مُسلمٍ ، وأسقطوا بجسمه مِن أعلام القصر. وسقوط الجسم ليس بسقوط الاسم.
هذا ، وعيون النّاس ترى هانئاً في السوق ، وابن عقيل ، وما جُثَّة الرجليَن بذلك المَنظر الفظيع ، إلاّ آية انحراف الحِزب السُّفياني ، عن سُنَن الدين ومَوعظة مُوقِظة للغافلين ، وفي ذلك عِبرةٌ لمَن يَعتبر ، وفي كوفة الخُذلان ، ما أكثر العِبر ، وأقل المُعتبِر؟
الإمام ونَعْيُ مُسلم
روى عبد الله بن سليمان ، والمُنذر بن المشمعل الأسديَّان ، قالا : لمَّا قضينا حَجَّنا ، لم تَكُن لنا هِمَّة إلاَّ اللحاق بالحسين (عليه السّلام) في الطريق ؛ لننظُر ما يكون مِن أمره ، فأقبلنا تَرقل بنا ناقتانا مُسرعَين ، حتَّى لحقناه بزرود ، فلمَّا دَنونا منه ، إذا نحن برجُلٍ مِن أهل الكوفة ، قد عدل عن الطريق ، حتَّى رأى الحسين ، فوقف الحسين (عليه السّلام) كأنَّه يُريده ، ثمَّ تركه ومضى.
فقال أحدنا لصاحبه : اذهب بنا إلى هذا لنسأله ، فإنَّ عنده خبر الكوفة. فمضينا حتَّى انتهينا إليه. فقلنا : السّلام عليك. فقال (ع) : وعليكم السّلام.
قلنا : مَن الرجُل؟
قال : أسديٌّ.
قلنا له : ونحن أسديَّان ، فمَن أنت؟
قال : أنا بكر بن فلان.
وانتسب وانتسبنا ، ثمَّ قلنا له : أخبرنا عن النّاس ورائك.
قال : نَعمْ ، لم أخرج مِن الكوفة حتَّى قُتِل مسلم بن عقيل وهاني بن
عُروة ، ورأيتهما يُجرَّان بأرجلهما في السّوق.
فأقبلنا حتَّى لحِقنا بالحسين (عليه السّلام) ، فسايرناه ، حتَّى نزل الثعلبيَّة مُمسياً ، فجئناه حين نزل ، فسلَّمنا عليه ، فرَدَّ علينا السّلام ، فقلنا له : رحمك الله ، إنَّ عندنا خبراً ، إنْ شِئت حدّثناك عَلانية ، وإنْ شِئت سِرَّاً. فنظر إلينا ، وإلى أصحابه ، ثمَّ قال : «ما دون هؤلاء سِرٌّ».
فقلنا له : أرأيت الراكب الذي استقبلته عشيَّة أمس؟
قال : «نَعمْ ، وقد أردت مسألته».
فقلنا : والله قد استبرأنا لك خبره ، وكفيناك مسألته ، وهو أمرؤ مِنَّا ، ذو رأي وصِدق وعَقل ، وإنَّه حدَّثنا إنَّه لم يخرج مِن الكوفة ، حتَّى قُتِل مسلمٌ وهاني ، ورآهما يُجرَّان في السوق بأرجُلهما.
فقال : «إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون ، رحمة الله عليهما». يُردِّد ذلك مِراراً.
فقلنا له : نَنشدك الله في نفسك وأهل بيتك إلاَّ انصرفت مِن مَكانك هذا ؛ فإنَّه ليس لك بالكوفة ناصرٌ ، ولا شيعة ، بلْ نتخوَّف أنْ يكونوا عليك.
فنظر إلى بَني عقيل ، فقال : «ما تَرون؟ فقد قُتِل مسلم».
فقالوا : والله ، لا نَرجع حتَّى نُصيب ثأرنا ، أو نَذوق ما ذاق.
فأقبل علينا الحسين (عليه السّلام) ، وقال : «لا خيرَ في العَيش بعد هؤلاء». فعلِمنا أنَّه قد عَزم رأيه على المسير.
سَمع الحسين (عليه السّلام) حوالي (زرود) نَعي عَميد بيته ، ولكنَّه لم يتحوَّل عن نيَّته ، ولا غيَّر وضيَّعته مع صحبه وأهله ، ولا أبدى مِن مَظاهر الحُزن ، سِوى الاسترجاع ، وأخفى كلَّ حُزنه في أعماق قلبه ؛ لأنَّ العيون لدى الشدائد شاخصة إلى الزعيم ، فإنْ بدا عليه لائحة حُزن ، عمّ الغَمُّ أحبّائه ، وتوهّم كلٌّ منهم ما شاء الله أنْ يتوهَّم ، وارتبك
على الزعيم أمر نَظمه وحُكمه. غير أنَّ حسيناً دخل خِبآءً ، وطلب طفلة مسلم ، وأجلسها في حِجرة يَمسح على رأسها بيده ، يُسلِّي بها نفسه ، ويُسلِّيها بذلك.
نعمْ ، حسّ الجميع ـ وفي مُقدِّمتهم الحسين (عليه السّلام) ـ بالانكسار النهائي ، بعدما جرى على مسلم ، وتبدُّل حالة الكوفة ، وكانت هي المَطمع الوحيد لصَحب الحسين (عليه السلام) ، والمَلجأ الحصين لرحله وأهله ، فإذا كانت آمال الحسين (عليه السّلام) معقودة على الكوفة ، وقد انقلبت هي عليه ، وقتلت مُعتمده ، فما معنى التوجُّه إليها؟ ، وأيُّ اعتمادٍ بقي عليها؟
لكنَّ ثَبات الحسين (عليه السّلام) على سيرته ومَسراه ، ضرب على هذه الأوهام ، وصانها مِن التفرُّق ، وشِبل عليٍّ (عليه السّلام) يرى في توجُّهه إلى الكوفة بعد كلِّ ذلك ، إبلاغ الحُجَّة ، والإعلام بأنَّه أجاب دعوتهم ، ولبَّى صرختهم ، وأنَّه لم ينحرف عن نُصرتهم ، حتَّى بعد انحرافهم عن نُصرته ، وقتلهم مبعوثه مع شيعته ؛ فإنَّ الإمام يُعامل المِلَّة دون الأشخاص والشخصيَّات ، وهو يأمل مع ذلك في مَسلكه التحاق الأنصار ، وتلبية الأمصار ، وانقلاب حالة الكوفة كَرَّة أُخرى.
ولمَّا شاع نَعي مسلم في رَكب الحسين (عليه السّلام) ، وانقلاب الكوفة ضِدَّه ، بعد أنْ كانت المَطمع الوحيد لتحقيق آمال أهله وصَحبه ، صار كثير مِن ذوي الطمع ، وذباب المُجتمع يتفرَّقون عنه سِرّاً وجِهاراً ، ليلاً ونهاراً ، وسلَّموا وليَّ نِعمتهم حين الوثبة ، وخذلوه عند النَّكبة ، بعدما كانوا يُضيِّقون فسيح خوانه ، حتَّى على إخوانه.
لا ضَيَرَ ، فإنْ خَفَّ رحل الحسين (عليه السّلام) مِن القَشِّ وذوي
الغِشّ ، فقد ملأ فراغهم أبطال صِدق مِمَّن عَشِقوا الحسين (عليه السّلام) ، لا خَوفاً مِن رجاله ، ولا طَمعاً في ماله ، بلْ وجدوا مَن اختار نفسه ونفيسه فداءً للإسلام ، ففدَّوه بكلِّ ما أعزَّ وهان.
استعداد ابن زياد
بعدما تَمكَّن ابن زياد ، مِن إبطال الحركة الحسينيَّة في داخليَّة الكوفة ، واستأصل جذوره ، وأباد بذوره ، بالوعد والوعيد ، والسجن والتبعيد ، والفَتك والهَتك ، والتخويف والتوظيف ، واستعماله السيف والرغيف ، ومزاج الضرب بالضرب ، واطمأنّ مِن داخليَّة الكوفة ، وكسب الأمنيَّة التامَّة ، عَمد إلى الخارج ، وتَمسَّك بالوسائل الفعّالة ضِدَّ الحسين (عليه السّلام) ، حينما أُستخبر نزوله في ذات عِرق ، ودخوله العِراق ، وبابه القادسيَّة (الرحبة) ، فأرسل إليها جيشاً ، عليه الحُصين بن نُمير ، صاحب شرطة عبيد الله في الكوفة ؛ ليقطع على القادمين مِن الحِجاز طريقهم ؛ ويؤمِّن الضواحي والنواحي مِن الغارات والثورات ؛ ويَحفظ خطوط المواصلات بين الكوفة والشام ؛ فأمر أنْ تؤخَذ الطرق بينها وبين واقصة إلى البصرة ، فلا يدعون أحداً يَلِج ، ولا أحداً يخرُج ، ومَدَّ نِطاق جيشه إلى جذعان (خفَّان) مِن جِهة ، وإلى (القَطقطانيَّة) مِن الأُخرى ؛ فأحتلها حُصين بجيشه ، وحصّنها ، ثمَّ أرسل إلى العيون والآبار ، التي على طول طريق الحِجاز ، مَفارز مِن عسكره ؛ إذ القوافل
مَهْما حادت في مسيرها عن الطُّرق المعروفة ، فهي مُضطرَّة إلى النزول على الآبار والعيون ، سَقياً للراحلة ، أو ترويحاً للسابلة ، وكان مِمَّن أرسله إلى حراسة البَرّ ، الحُرّ بن يزيد الرياحي ، ومعه ألف فارس.
الرياحي يَمنع الحسين (عليه السّلام)
النياق في بادية الحِجاز نقليَّته الوحيدة ، والإبل تطيق الظمأ أيّام ، وتقنع بالقوت الزهيد ، مع تحمُّلها ما لا يُطاق مِن الأثقال والمَشاقِّ ، ولكنَّها في ثالث يوم مِن ظمئها تُشرِف على العَطب ، سيَّما في الحَرِّ ، فلابُدَّ مِن تنشيطها بالنغمات الخاصَّة (الحَدْي) ، أو التزوُّد مِن الماء ، ومياه الآبار والعيون نزرة وقليلة ، في مَفاوز الحِجاز ، وبَرِّ الشام ؛ فتبعُد الواحدة عن الأُخرى مرحلة ، أو مراحل على خطوط الطُّرق المألوفة ، أمَّا مَن حاد عنها ، فقد لا يَجد الماء مَهْما هام بوجهه في المَهامة والقِفار ، فلا مَنهل يُرويه ، ولا مأهل يؤويه.
وقد تلقّى ركب الحسين (عليه السّلام) ، بعد وصوله إلى (شَراف) ، أمرهم بالتزوُّد مِن مائها فوق قَدَر الحاجة بكثير ، ولم يعرفوا سِرّ ذلك ، حتَّى إذا بلغوا (ذا حُسم) كبَّر رجُل مِن أصحابه تكبيرة الإعجاب ، وزعم أنَّه رأى نخيل الكوفة ، وبعد أنْ أجمعوا على استبعاد رأيه وتحقَّقوا ، علموا أنَّها رؤوس رماح ، وطالعة كِفاح ؛ فتحيَّز الحسين (عليه السّلام) رحله إلى هضاب (ذا حُسم) ، وأخذ التحوّطات الحربيَّة ؛ ليلوذ رحله
بالهضاب ؛ فيُدافع الرمات مِن فوقها ؛ تأميناً لخُطَّة الدفاع عن النواميس بكلِّ معانيها.
وما لبِثوا حتَّى أسفرت الآثار عن الحُرِّ بن يزيد الرياحي ، ومعه ألف فارس ، أرسلته القيادة العامَّة الأُمويَّة لحراسة البَرّ ؛ ولكي يَقطع على الحسين (عليه السلام) طريقه أينما صادفوه ، ثمَّ لا يُفارقونه إلى أنْ يأتوا به إلى أقرب مركز للحكومة ، حتَّى إذا اطمأنّوا مِن مُسالمته ومُبايعته ، أدخلوه على ابن زياد.
أمّا الحُرّ وأصحابه ، فقبل أنْ يُظهِروا مُهمَّتهم ، أظهروا بلسان الحال والمَقال عطشهم المُفرِط ، وأنَّهم مِن طول جولاتهم في البَرِّ وفي الحَرِّ ؛ حيث لا ماء ولا مأوى ، قد أشرفوا على العطب ، فأمر حسينُ الفضيلة (عليه السّلام) فِتيانه وغُلمانه ، بسقاية الأعداء ، وإرواء خيلهم.
فعرف عندئذٍ صَحب الحسين (عليه السّلام) سِرّ استعداده بالماء ليوم سَماح أو كفاح ، ولمَّا استعبد الحسينُ الحُرَّ بالبِرّ (وبالبِرِّ يُستعبَد الحُرُّ) ، سأله عن غايته ، فأجاب على استحياء ، بأنَّه مرسول إليه ؛ ليوفده على ابن زياد ، ولمَّا قال له الحسين (عليه السّلام) : «قُمْ إلى أصحابك فصَلِّ بهم ، ونحن نُصلِّي مع أصحابنا». أجابه الحُرُّ : بلْ تَقدَّم إلى الصلاة ، يابن رسول الله ، ونحن نُصلِّي بصلاتك ، كأنّه يُذكِّر الحاضرين أنَّ الحسين (عليه السّلام) إمام حَقٍّ ، وابن إمام ، وأنَّ صلاة غيره بصلاته تَصحُّ ، وبصلاته تُقام.
ثمّ إنَّ الحسين (عليه السّلام) لم يَسعه ـ بعد أنْ رأى مَنْ كتبوا إليه كتائب عليه ـ إلاَّ الذِّكرى والاحتجاج ، فقال :
«يا أهل الكوفة ، إنَّكم كتبتم إليَّ ، ودعوتموني إلى العراق ؛ لإنقاذكم مِن
سُلطة الجَور والفجور ؛ فجئتكم مُلبِّياً دعوتكم ، فإنْ كُنتم قد تغيّرتم عَمَّا كنتم عليه ، فاتركوني أرجع مِن حيث أتيت».
قال هذا ، وأخرج لهم الكُتب اعتماداً على شَهامة الحُرِّ ، وصُدور الأحرار قبور الأسرار ؛ ولإتمام الحُجَّة على الناظرين مِن أصحابه ، فاعتذر الحُرُّ بأنَّه ليس مِمَّن كتب إليه.
ولا نَنسى أنَّ الحُرَّ قد هاجت عليه في ذلك الموقف الرهيب أفكار مُتضاربة ، لم تُطاوعه الحالة الحاضرة أنْ يختار منها ، سِوى طريقة مُتوسِّطة عرَضها على الإمام ، وهي : أنْ يَسلُك مِن فِجاج البَرّ سَبيلاً وسطاً ، لا يؤدِّي به إلى الشام ، ولا يُدخله الكوفة ؛ حتَّى يكون بذلك نَجات الطرفين ، واستحسنه الحسين (عليه السّلام) ؛ لأنَّه يُريد الاتِّقاء مِن شَرِّ الأشرار ، دون أنْ يَبلغ أحداً بسوء ؛ وظَنّ الحُرّ لنفسه في ذلك مَناصاً ، مِن مظلمة إيذاء العِترة النبويَّة ، ومُقنِعاً لأُمراء أُميَّة ؛ إذ دفع عن عِراقهم نَهضة الحسين (عليه السّلام) ، وأراحهم عنه ، بدون سَفك مُهج ، ولا خوض لُجَج ؛ فكتب بعد نزوله (أقساس مالك) كتاباً إلى ابن زياد يتضمَّن الرأي والرواية.
الكوفة تُقاد إلى الحرب
خضعت الكوفة لدَهاء ابن زياد بعد مَقتل مسلم ، وانقادت إليه أحياؤها ورؤساؤها ، وذُلّلِت صِعابها تَذليلاً ، لكنَّه لم يَزل قَلِق البال ، غير مُستريح الخَيال ؛ لعلمه بمبلغ تأثير الدعوة الحسينيَّة في المَجامع والمَسامع ، وما له في العِراق من سابقة ولاء وأولياء ، وكان ابن زياد مُحنَّكاً ، قد درس هو وأبوه حالة العراق الروحيَّة ، وسرعة انقلاب هوائه وأهوائه ، وأنَّ لأبنائه نائمة وقائمة ، كمْ اغترَّت بهما أولياء الأُمور والسياسة! فجائز أنْ يأتيها الحسين (عليه السّلام) بجنود لا قِبَل له بها ، أو يتَمرْكز بالقادسيَّة ؛ فتلتفّ حوله قبائل بادية الشام ، وعشائر الفرات ، مِمَّا بين الكوفة والبصرة ، أو يَحدث مِن اقترابه دويٌّ ينعكس صَداه في داخل الكوفة ؛ فيَستفِّز الحِسِّيَّات والنفسيَّات ؛ فيثورون عليه ؛ ويستخرجون مِن سجونه وجوه الشيعة ، ورؤوس القبائل ، فلا يُمسي ابن زياد إلاّ قتيلاً ، أو أسيراً ، وعلى أيٍّ ، يتهدّم كلُّ ما بناه ، ولا يعود عليه التسامح إلاّ بالخُسران ؛ وعليه اندفع ابن زياد بجميع قِواه إلى تأمين الخارج ، بعد تعزيز الأمن في الداخل ، وتحشيده الكوفيِّين ؛ لمُحاربة
الحسين (عليه السّلام) ، فبادر إلى احتلال القادسيَّة ، قبل أنْ يَسبقه إليها الحسين (عليه السّلام) ، والنقاط المُهمَّة في الحدود على خطوط سابلة الحِجاز ، وما لبث أنْ ورد عليه كتاب الحُرِّ الرياحي ، وأتته البشائر تَترى ، على أنّ الحسين (عليه السلام) ورَدَ وأُبعِد عن حدود الكوفة ، إلى جِهة الشمال الغربي مسافة قاصية ، هو ونفر قليل مِن خاصَّته ، بحيث لا يعود مِن المُمكن أنْ يُهيمن على ضواحي الكوفة ، فَضلاً عَمَّا بينها وبين البصرة ، وأنَّ جيش الحُرّ الرياحي ، أصبح يُراقبه في المسير ، وهو كافٍ لصَدِّه أو رَدِّه.
بات ابن زياد ليلته هادئ البال ، مُستقرَّ الخيال ، وكتب بذلك كلِّه إلى يزيد ؛ لتأمين خواطر الهيئة المركزيَّة ، والمُبادرة بتسجيل خدماته عند سلطانه ، وكأنّي به قد نبَّه على مَيلان الحُرّ ، وصلاته بجيشه مع الحسين (عليه السّلام) ، وأنّ ابن رسول الله جذَّاب النفوس بهديه ، ومُستملِك القلوب بحديثه ، فلا يَبعُد أنْ يُعلِن الحُرّ في صحبته ولاءه وانضمامه إليه ، ويَسري نبأ تمرُّده في أمثاله مِن أركان القيادة العسكريَّة ، ويتَّسع الخَرق على الراقع ، أو يتَمرْكز الحسين (عليه السّلام) في الأنبار ؛ فيحصر على ابن زياد المِيرة والذخيرة ، ولا يسع ابن زياد أنْ يُحاصره ؛ بسبب وضعيَّة النهر وموالاة عشائر البَرِّ ، وقربه مِن مدائن كِسرى ، وأينما حَلَّ سبط الرسول (صلَّى الله عليه وآله) ، ناشراً دعوته الصالحة سواء العراق وإيران ؛ فإنَّها تُصادف انتشاراً ، ولا تُعدَم أنصاراً ، فوثب ابن زياد يبثُّ المواعيد ثانية ، ويوزِّع الأموال بين العشائر والأكابر ؛ ليؤلِّف منها أجناداً وقوَّاداً.
وِلاية ابن سعد وقيادته
كان التخوّف مِن تسرُّب الدعوة الحسينيَّة ، إلى ما وراء الفرات وحدود العَجم ، لا يقتصر عن التخوُّف مِن قدومه الكوفة ؛ لأنّ القِطريَن العراقي والفارسي ، بينهما عَلائق مُتواصلة ، ومصالح مُتبادلة ، حتَّى لقد كان إعزام عمر بن سعد ، إلى حرب الحسين (عليه السّلام) ، مع ترشُّحه لولاية الري ، بعض فصول هذه الرواية المُحزِنة ؛ فإنَّ ولاية إيران لا تكاد تَستقرُّ لابن سعد ، والحسين (عليه السّلام) مُتوجِّه إليها بدعوة نافعة ، وحُجَّة بالغة ، وعائلة مِن لُحمة النبي (صلَّى الله عليه وآله) ، وبين الحسين (عليه السّلام) ، وبين الفرس مُصاهَرة في العائلة المالكة المُنقرضة ، وكلّ هذه عوامل قويَّة ، لنفوذ الدعوة الحسينيَّة في بلاد كِسرى ؛ فلم يَجِد والي العِراقين سبيلاً إلى إماتة هذا الشِعار ، وإيقاف هذا التيَّار ، خَيراً مِن ترشيح عمر بن سعد لولاية الري ، وقد كان أبوه سعد بن أبي وقَّاص مِن قوَّاد جيشها الفاتح ، فلهم مِن شهرته كلُّ الرعب ، وله تمام الرغبة فيهم ؛ إذ كانت ولاية الري مُمتازة المَنافع ، مُتنوِّعة المَطامع ، وظاهر أنَّ ولايتها يومئذ كانت ذات صلة قويّة ، بإضعاف
الحركة الحسينيَّة ؛ ليتسنَّى لواليها حُرّية الإدارة والإرادة ، مِن مُزاحمٍ مِثل الحسين (عليه السّلام) ؛ لذلك أقنع ابن زياد عمراً ، بأخذ التدابير اللازمة لإخضاع حسين الشرف (عليه السّلام) ، قبل التوجُّه إلى مُهمَّته الأصليَّة في إيران.
نعمْ ، وجد ابن زياد عمراً أصلح الناس ، لإخضاع الحسين (عليه السّلام) سواء بغرض الإخضاع ، أم الإقناع ؛ إذ كان يومئذٍ أمسَّ الكوفييِّن رَحماً بالحسين (عليه السّلام) ، وعليه مَسحة شرف مِن قريش ، ونسبة إلى الحَرمين ؛ فسرَّحه لمُقابلة الإمام خِداعاً وإطماعاً (وأكثر مَصارع العقول تحت بروق المَطامع).
أمّا ابن سعد ، فقد استمهل ابن زياد ليلته ؛ ليُفكِّر مُستعظِماً إقدامه إلى مُقابلة الحسين (عليه السّلام) ؛ لعلمه أنَّ الحسين (عليه السّلام) داعية حَقٍّ ، وأنَّه كأبيه علي (عليه السّلام) أفضل مِن أنْ يُخدَع ، وأعقل مِن أنْ يَنخدع ، ولا يسع ابن سعد إذا قابله أنْ يُقاتله ، بلْ يَقضي عليه واجبه الديني والرحمي أنْ يَنضمَّ إليه ، ويُقاتل خصومه بين يديه ، غير إنَّ له في مُلك الري قُرَّة عين ، وبَهجة نفس ، وراحة عائلة ، وتأمين مُستقبَل مَديد ؛ فبات ليلته قَلقاً أرقاً بين جاذب ودافع ، يُجيل فكرته بين المَضارِّ والمَنافع ، ويُردِّد أبياته المعروفة :
فو الله ما أدري وإنِّي لحائر |
|
أُفكِّر في أمري على خَطرين |
أأترك مُلك الرَّيِّ والرَّيُّ مُنيتي |
|
أمْ أرجِع مأثومَاً بقتل حسين |
إلى آخره.
وكأنَّ خاطره الأخير حدَّثه بأنَّه إنْ ظَهر على الحسين
(عليه السّلام) فبها ، وإلاَّ فحسين الفتوَّة ، أكرم مِن أنْ يُعاقبه ، أو يَنتقم!!
وبالجُملة : فلم يَشعر بنفسه ، إلاَّ قائدَ جيش كثيف ، إلى حرب الحسين (عليه السّلام) في نَينوى ؛ إذ بها يلتقي الخطَّ العراقيِّ الإيرانيِّ ، بالخَطِّ العراقي الحِجازي ، وهي المرحلة المُشرفة على نقطة الأنبار ، فبلغه نزول الحسين (عليه السّلام) بكربلاء قبله بيوم واحد ، مع قائد المَفرزة الحُرِّ الرياحي.