السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني
المحقق: مؤسسة إحياء الكتب الإسلامية
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ١٤١
الطفل الذبيح
إذا وصف القرآن قُربان إبراهيم بالذَّبْح العظيم ؛ نَظراً لآثاره الباقية في الحَجِّ والإسلام ؛ فإنَّ المُظاهرة الأخيرة ، التي قام بها الحسين (عليه السّلام) ، أثَّرت تأثيراً عظيماً ، مِن بين مُجاهداته الأدبيَّة في كَشف حقائق النزعة الأُمويَّة ، وهذه الحادثة الأليمة ، بالرغم مِن استحقاقها التوسُّع ، فإنَّني لا أستطيع فيها سِوى الإيجاز.
والحسين (عليه السّلام) بعدما خَلا رحله مِن الماء ، وطال على أهله الضماء ، حتَّى جَفَّت المَراضع ، وشَحَّت المدامع ، تناول طفله الرضيع واسمه علي أو عبد الله ليُقدِّمه إلى العدوِّ ، وسيلة لرفع الحَجْر عن الماء ، فأشرف على الأعداء بتلك البيِّنة ، المعصومة مِن أيَّة جانحة أو جارحة ، قائلاً :
«يا قوم ، إنْ كنَّا في زعمكم مُذنبين ، فما ذنب هذا الرضيع؟! وقد ترونه يتلظَّى عَطشاً ، وهو طفل لا يعرف الغاية ، ولم يأت بجِناية ، ويلَكم اسقوه شِربة ماء ، فقد جَفّت مَحالب أُمِّه».
فتلاوم القوم بينهم : بين قائل ، لابُدَّ مِن إجابة الحسين (عليه
السلام) ؛ فإنَّ أوامر ابن زياد ، بمنع الماء خصوص الكبار دون الصغار ، والصغير تستثنيه الشرائع والعواطف ، مِن كلِّ جريمة وانتقام ، حتَّى لو كان الأطفال مِن ذراري الكفَّار ، وقائل ، إنَّ الحسين قد بلغ الغاية مِن الضمأ والضرورة ، فإنْ صبرتم عن سقايته سويعَة ؛ أسلم أمره إليكم وتنازل لكم.
فخشي ابن سعد مِن طول المَقام والمقال أنْ يَتمرَّد عليه جيشه المُطيع ، فقال لحرملة : اقطع نزاع القوم ، وكان مِن الرماة ، فعَرف غرض ابن سعد ، فرمى الرضيع بسهم نَحَرَه به ، وصار الحسين (عليه السّلام) يأخذ دَمَه بكَفِّه ، وكلَّما امتلأت كَفُّه دَماً ، رمى به إلى السماء ، قائلاً : «اللَّهمَّ ، لا يكونَنَّ أهون عليك مِن فصيل». يعني فصيل ناقة صالح.
ولمَّا أحسَّ الرضيع بحَرارة الحديد وألمه ، فتح عينيه في وجه أبيه ، وصار يُرفرف كالطير المذبوح ، وطارت روحه رافعة ، شكاية الحال إلى العَدل المُتعال ، وترك القلوب دامية مِن مُصيبَته المُفتِّتة للأكباد ، وقد بلغ أمر الرضيع الذبيح ، مَبلغاً مِن قوّة الدلالة على انحراف قلوب القوم ، عن سُنَن الإنسانيَّة ، وعلى سَفالة أخلاقهم ، بحيث يَئس الحسين (عليه السّلام) ـ عند ذلك ـ مِن رُشدهم ، وعاد عنهم خائباً ، وربَّما كانت مُصيبته في خيبته أعظم عليه مِن مُصيبته في الرضيع ، فاستقبلته صَبيَّة قائلة : يا أباه ، لعلَّك سَقيت أخي ماءً.
فأجابها : هاكِ أخاك ذبيحاً ، ثمَّ حفر الأرض بسيفه ، ودفن الرضيع ، ودفن معه كلَّ آماله.
وكان حسين الحَقِّ ، لم يَدَّخر في وسعه أيَّ قوَّة ، ولم يُضيِّع أيَّ فرصة ، في إفشاء سرائر الحزب السُّفياني ؛ فإنَّ قتل الذراري ، وذبح
الأطفال كانت الشرائع والعادات تَمنع عنه أشَدَّ المَنع.
وقد روى المُحدِّثون : أنَّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) بعث سريَّة ، فقتلوا النساء والصبيان ، فأنكر النبي (صلَّى الله عليه وآله) ذلك عليهم إنكاراً شديداً ، فقالوا : يا رسول ، الله إنَّهم ذراري المُشركين.
فقال : «أوليس خيارُكم ذراري المُشركين؟!» ، وإنَّ خالد بن الوليد ، لمَّا قتل بالغميصا الأطفال ، رفع النبي (صلَّى الله عليه وآله) يديه ، حتَّى رأى المسلمون بياض أُبطيه ، وقال : «اللَّهمَّ إنِّي أبرء إليك مِمَّا صنع خالد». ثمَّ بعث عليَّاً (عليه السّلام) فودَّاهم.
فلم يَعهد ذبح الأطفال بعد ذلك ، إلاَّ ما كان مِن مُعاوية في قتله أطفال المسلمين في الأنبار ، وفي اليمن على يدي عامله بِسر بن أرطاة ، وكان فيمن قتلهم وَلَدان لعبيد الله بن عبّاس (رضي الله عنه) ، وكرَّرت ذلك أشياعه في الطفِّ ، فذبحوا مِن الصِبيَة والأطفال ما ظهروا عليهم ، وظفروا بهم ، بغير رحمة منهم ، ودون أدنى رِقَّة أو رأفة ، والأمر الذي برهن على غُلوِّهم ، في القسوة والفسوق عن الدين ، وأوضح بلا مرآء ولا خفاء ، أنَّ قصد التشفّي والانتقام ، بلغ بهم إلى العزم على استئصال ذُرَّية الرسول (صلَّى الله عليه وآله) ، وقطع نسله ، ومَحو أصله.
أمّا عليُّ بن الحسين العَليل ، فلم يَفز بالنجاة مِن أيديهم العادية بصغر سنِّه ، ولا بتعلُّق عمَّته به قائلة : «لا يُقتَل إلاَّ وأُقتل» ، ولا بشفاعة حميد بن مسلم وإضرابه فيه ، بلْ إنَّما نَجا مِن حَدِّ الحديد ، بشِدَّة مرضه ، وقوَّة عِلَّته ، وضعف أملهم بحياته ، ونجا الحسن بن الحسن باختفائه ، وهو جريح طريح ؛ وفاءً مِن الله بوعده ، وحِفظه لنَسل نبيِّ الرحمة ، بإكثار المُصلحين في الأُمَّة ، وهدايتها بعلوم الأئمَّة.
العَطش ومَقتل العبَّاس
يقفُ العقل حائراً ، كلَّما فَكَّر في النظام العائلي ، أو الداخلي ، سواء لأُسرة الحسين (عليه السلام) ، أم لصحبه وحسن تربيته لآله وعياله ؛ فكانوا حتَّى في الشدائد أتبع له مِن ظِلاله ، وأطوع مِن خَياله ، ولا ينهض بأمر الجماعة مِثل حُسن الطاعة ، ولستُ مُغالياً في قولي : طاعة أميركم فيما تكرهون ، ولا عُصيانه فيما تُحبِّون. فالانكسار كان أبعد شيءٍ مِن مِثل هذه الجماعة ، لو لم تُصبهم فاقة جوع أو عَطش ، فلا نرى شِمراً مُبالغاً في قوله لقومه ، عن الحسين (عليه السّلام) وأهله : إنَّهم إذا وصلهم الماء ، أبادوكم عن آخركم.
وكان إحصار جيش الحسين (عليه السّلام) عن الماء ، أقوى أسلحة عدوِّه عليه ، ومَن عَدَّ الصبر على الجوع مُتعسِّر ، يَعدُّ الصبر على العَطش مُتعذِّر ، سيَّما مِن فحولة هاشم وسيوفهم في أيمانهم ، والماء بين أعينهم ، ويَسمعون بآذانهم ضَجَّة صِبيَتهم ، عُطاشى ومرضى ، ونَخصُّ مِن بينهم الفتى الباسِل ، أبا الفضل العبّاس (رضوان الله عليه) ، فقد أثَّرت عليه الوضعيَّة ، وأثارت عواطفه ؛ فتقدّم
إلى أخيه الحسين (عليه السّلام) ؛ يستميحه رُخصة الدفاع مُعتذراً بأنَّ صدره قد ضاق مِن الحياة ، ويكره البقاء.
نعم لا شيء أشهى مِن الحياة وأطيب ، لكنَّما الحيَّ إنَّما يُحبُّها ما دامت مُنطوية على مَسرَّات ولذَّات ، أمَّا إذا خَلت مِن تِلكُما الحُسنيَين ، وأمْسَتْ ظرف آلام لا تُطاق ؛ استحالت الحياة الحُلوة ، كأساً مُصبَّرة غير أنَّ أقوياء النفوس ، لو أفضى الزمان بهم ، إلى مِثل هذه الحالة العَصيبة ، وعجزوا عن سلوان أنفسهم بمَهلِّ التاريخ ؛ فإنَّهم يَختارون الموت ، في سبيل دفع الموت ، ويفضلونه على الموت ، في سبيل انتظار الموت.
أجلْ ، إنَّ الموت في سبيل دفاعه أفضل وأحوط مِن الموت في سبيل انتظاره ، وقد كان الحسين (عليه السّلام) مُستميتاً ، ومستميتاً كلُّ مَن كان معه ، وكانت أنفسهم الشريفة مُتشرِّبة مِن كأس التضحية ، وريَّانة مِن مَعين التفادي ؛ وفي مُقدِّمة هؤلاء أبو الفضل العبّاس (رضوان الله عليه) ، أكبر إخوة الحسين (عليه السّلام) المُمتاز في الكمال والجَمال ، وقَمر بني هاشم ، وحامل راية الحسين (عليه السّلام) ، وعقيد آماله في المُحافظة على رَحله وعياله.
لذلك شَقَّ على الحسين (عليه السّلام) ، أنْ يأذن له بالبِراز إلى الأعداء ، غير أنَّه يأمَل في مُبارزته القوم إبلاغ الحُجَّة ، وإحياء الذُّرَّيـَّة ، وأنْ يُعين على حياة العائلة بالسقاية والرواية ، كما سبق منه ذلك ، سِيَّما وإنَّ أخبث رؤساء جيش العدوِّ شِمر الكِلابي ، وهو على شَقائه آمن العبَّاس (رضوان الله عليه) وأشقائه ؛ لنسبة بينه وبين أُمِّ العبَّاس (أُمِّ البنين) ؛ ولأنَّ عبَّاس الفتوَّة إذا عهدت إليه السقاية ، يعود مُهتمَّاً بعودته إلى الحسين (عليه السّلام) ، فكأنَّ مِن هذا وذاك وذياك كان جوابه
لأخيه العبَّاس : «إذنْ ، فاطلب مِن القوم لهؤلاء الأطفال جُرعةً مِن الماء».
فتوجَّه العبَّاس بن علي (عليه السّلام) ، نحو الجيوش المُرابطة حول الشرائع ، فأخذوا يمانعونه عن الماء ، ويَستنهض بعضهم بعضاً ، على مُعارضته ومُقاتلته ، خَشية أنْ يَصل الماء إلى عِترة النبي (صلَّى الله عليه وآله) ، ولم يَزل العبّاس (رضوان الله عليه) يُقارعهم ويُقاتلهم ، ويُقلِّب فِئةً على فِئةٍ ، ويَفلُّ العِصابَة تِلو العِصابَة ، حتَّى كمنوا له وراء نَخله مِن نُخيلات الغاضريَّة ، فقطعوا يُمناه ، فتلقَّى السيف بيُسراه ، مُثابِراً على الدفاع غير مُكترث بما أصابه ، وهو يتلو الأراجيز تِلو الأراجيز ، ويُذكِّر القوم بمآثر أهل البيت ، وحَسَبهم ، ونَسبهم مِن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ، يُدافع عن نفسه ، وهو مقطوع اليدين ، وكأنَّ القوم قطعوا بيديه ، يدي الحسين (عليه السلام).
فعند ذلك تَقدَّم إليه دارميٌّ غير هيَّاب له ، وضربه بعمود مِن حديد ، فَخرَّ صريعاً وصارخاً : يا أخاه ، أدرِك أخاك.
ولم يُدرك الحسين (عليه السّلام) ظَهيره ونَصيره ، إلاَّ بعد اختراق الجموع والجنود ، وفي آخر لحَظة منه ، نادِباً له ، وقائلاً : «الآنْ انكسر ظهري ، وقَلَّت حيلتي ، وشَمُت بي عدوِّي».
الشجاعة الحُسينيَّة
إنَّ وضعيَّة الحسين (عليه السّلام) تِجاه عِداه ، كانت دفاعيَّة وسِلسلة تَحفُّظات وتَحوُّطات ، عن سَفك الدم ، أو هَتك الحُرَم : مِثل هِجرته عن حَرم الله ورسوله (صلَّى الله عليه وآله) ، ثمُّ مُصافاته مع الحُرِّ ، والمُحايدة عن طرق الكوفة ، ثمَّ تقديمه ابن سعد لدى ابن زياد ، للكَفاف عنه ؛ حتَّى يعود مِن حيث أتى ، أو يُغادر إلى ثغور العَجم والدَّيلم ، ثمَّ طلبه الإفراج عن حِصاره ؛ ليَذهب بنفسه إلى يزيد ؛ يُذاكره في مَصيره ومَسيره ، ثمَّ تَحصُّنه خَلْفَ الروابي والهِضاب ؛ سِتراً على العائلة مِن العادية ، ثمَّ مُطالبته السقاية والرواية بواسطة رجاله ، والتَشفُّع لديهم بأطفاله ، وإيفاد رُسل النصح والسلام إليهم ، وإلقاء الخُطب عليهم ، وإلى غيرها مِن شواهد مَسلكه الدفاعي الشريف.
لكنَّ عِداه ، تناهوا في خُطط الاعتداء عليه ، في جميع المَشاهد والمَواقف ، وبرهنوا للمَلأ الإسلامي ، أنَّهم لا يَقصدون به سِوى التَشفِّي والانتقام ، بكلِّ قَسوة وفظاعة ، وكانت خاتِمة مُدافعته عند الذَّود عن حياض شرفه بالسلاح ، حينما يَئس ، ولم يَبقَ له في هدايتهم مَطمع ،
وغدت أبواب رجاء الحياة وآمالها موصَدة في وجهه ، ورأى بعينيه مَصارع صَحبه وآله مِن جِهة ، ومِن الأُخرى مَصرع العبَّاس (رضوان الله عليه) ، أخيه وذخيرته الوحيدة لنائبات الزمان ، وأيقن بتصميم القوم على مُمانعة الماء عنه ، وعن صِبيَته بكلِّ جَهد وجَدٍّ ؛ حتَّى يُميتوها ويُميتوه عطشاً ؛ فجاهد جهاد الأبطال ، ونَكَّس فُرساناً على رجال ، عندما عاد مِن مَصرع أخيه ، وحال القوم بينه وبين مُخيَّمه ، ولم يُرَ مَكثوراً قط ، قُتِل وِلده ، وإخوانه ، ومَن معه أربط جأشاً ، وأمضى جِناناً مِن الحسين (عليه السّلام) ، وإنَّه كانت الرجال لتَشدُّ عليه ؛ فيَشدُّ عليها ، ثمَّ تَنكشف عنه انكشاف المَعزى إذا شَدَّ عليها الليث ، ويَفرُّون مِن بين يديه ، كأنَّهم الجُراد المُنتشر وهو يقول :
أنا الحسينُ بنُ علي |
|
آليتُ أنْ لا انثني |
فذكَّرهم أيّام أبيه في صِفِّين ، والجَمل ، وردَّدت أندية الأخبار ، ذِكرى الشجاعة الحُسينيَّة ، بكلِّ إعجاب واستغراب ؛ إذ حفَّت بحالته حالات شَذَّ ما يُصادف بطلٌ واحدةً منها ، مِن عَطش مُفرِط ، وحَرَم مُهدَّد ، وافتجاع بجمهور الأحبَّة والأرحام ، وتَفردُّه غريباً بين أُلوف المُقاتلين؛ ولكنَّ شِبل علي (عليه السّلام) ، لم يَحسب لجمهرتهم أيَّ حِساب ، ولم تَبدُ منه في مِثل هذه الحالة الرهيبة العَصيبة ما يُنافي الشرف ، ولا ما يُخالِف الدين ، ولا ما يُحاشي الإنسانيَّة ؛ وهي والله مُعجزِة البشر ، وإنَّها لإحدى الكِبر ، ويُنشد في كَرَّاته :
إذا كانت الأبدانُ للموت أُنشِئتْ |
|
فقتل امرءٍ في الله أولى وأفضل |
ولم يَزل يُدافعهم في مُتَّسع مِن الأرض ، فِئةً بعد فِئة ، حتَّى أدَّت الأفكار والأحوال ، إلى فِكرة حِصاره أثناء الكَرِّ والفَرِّ في دائرة تلال
الحائر ، وسَدُّوا في وجهه مَنافذ خروجه ، وافترقوا عليه أربع فِرَق ، مِن جهاته الأربع : فِرقة بالسيوف ، وهم الأدنون منه. وفِرقة بالرماح ، وهم الجَوّالة حوله. وفِرقة بالنِّبال ، وهم الرماة مِن أعالي التِّلال. وفِرقة بالحِجارة ، وهم الرَجَّالة المُنبثَّة حوالي الخَيَّالة.
وأثخنوا جثمان سِبط النبي (صلَّى الله عليه وآله) بالجروح الدامية ، وأكثرها في مَقاديمه ، وأضحى جِلده كالقُنفذ ، وكلَّما تمايل ليهوي إلى الأرض توازن معه فرسه ، وكانت مِن الجياد الأصائل حتَّى إذا ضَعف الفرس أيضاً ، بما أصابها مِن الجروح خَرَّ مِن سَرجه على وجهه ، وأقبل فرسه نحو مُخيَّمه يَصهل ويُحمحِم ، فخرجت زينب مِن فِسطاطها ، واضعة عشرة أصابعها على رأسها ، قائلة : ليتَ السماء أطبقتْ على الأرض ، وليتَ الجبال تَدكدكت على السهل.
ثمَّ صاحت بابن سعد ، قائلة : يا عمر ، أُيقتَل أبو عبد الله ، وأنت تَنظر إليه؟! فدَمِعت عينا عمر ، وسالت دموعه على لِحيته ، لكنَّه صرف بوجهه عنها.
ثمّ أقبل شِمر على الحسين (عليه السّلام) يُحرِّض الجيش عليه ، والحسين يَحمِل عليهم ؛ فينكشفون عنه ، وهو يقول :
«أعلى قتلي تجتمعون؟! وأيْمَ الله ، إنِّي أرجو أنْ يُكرِمني الله بهوانكم ، ثمَّ يَنتقِم لي منكم ، مِن حيث لا تَشعرون ، أما والله ، لو قتلتموني ؛ لألقى الله بأسَكم بينكم ، ثمَّ لا يرضى بذلك حتَّى يُضاعِف لكم العذاب الأليم».
ولم يَزل يُدافِع عن نفسه ، وقد قاتلهم راجِلاً قتال الفارس المِغوار ، يتَّقي الرَّمية ، ويفترص العَوار ، لكنَّه يقوم ويكبو والرَجَّالة تَفرُّ مِن بين يديه ، ثمَّ تَكرُّ عليه.
مَصرع الإمام ومَقتله
لقد توالت على ابن النبي (صلَّى الله عليه وآله) جروح دامية ، مِن مُطارَدة الأبطال ، ومُضارَبة الفُرسان ، وأثناء مُناصرته لأنصاره ، وكاشفة الجيش عن أهل بيته ، وعندما بلغ المُسنَّاة ، رماه ابن نُمير بسهمٍ ؛ فجرح ما بين فَمِه وحِنكه ، وملأ كَفَّيه دَماً ، فحمد الله وقال :
«اللَّهمَّ احصِهم عدداً ، واقتلهم بدداً ، ولا تُبقِ منهم أحداً».
ثمَّ ضربه كندي على رأسه بالسيف ؛ فقطع البرنس وأدمى رأسه ، وامتلأ البرنس دَماً ، فقال الحسين (عليه السّلام) : «لا أكلتَ بيمينك ، وحَشرك الله مع الظالمين». وألقى البرنس ، ولبس القُلنسوة ، ثمَّ شجَّ جبينه أبو الحتوف الجُعفي بالحِجارة ؛ فسالت الدماء على وجهه.
وأفضت الإصابات والعصابات ، إلى هواه نحو مَصرعه ، وأقبل شِمر برجاله يحول بين الحسين (عليه السّلام) ورِحاله ، واغتنمت رَجَّالة الجيش عندئذٍ فُرصة مَصرعه ، لاغتنام ما في رَحله ، وما على أهله ، أولئك الذين فقدوا ـ في تلك الساعة الرهيبة ـ حامي حماهم ؛ فاستفزَّت ضجَّتهم مَشاعر الحسين الهادئة ؛ فرفع رأسه وبصره ، وإذا
بأجلاف القوم ، زاحفون مِن سَفح التِّلال ، نحو مُخيَّمه للسَّلب والنَّهب ؛ فأثارت الغيرة في حسين المَجد روحاً جديدة ؛ فنهض زاحفاً على رُكبتيه قائلاً :
«يا شيعة آل أبي سفيان ، إنْ لم يَكُن لكم دين ، وكُنتم لا تَخافون يوم المَعاد ، فكونوا أحراراً في دُنياكم ، وراجعوا أحسابكم وأنسابكم إنْ كُنتم عُرباً».
فصاح شِمر : ما تقول يا بن فاطمة؟
قال الإمام : «أقول : أنا الذي أقاتلكم وتُقاتلونني ، والنساء ليس عليهنَّ جِناح ؛ فارجعوا بطُغاتكم وجُهَّالكم عن التعرُّض لحُرمي».
فقالوا : ذلك لك ؛ ورجعوا.
ومَكث الإمام (عليه السّلام) صريعاً ، يُعالج جروحه الدامية ، والنّاس يتَّقون قتله ، وكلٌّ يَرغب في أنْ يَكفيه غيره ، فصرخ بهم شمر قائلاً : ويَحكم! ماذا تنتظرون بالرجل؟! أقتلوه ثَكلتْكم أُمَّهاتُكم.
فهاجوا على الحسين (عليه السّلام) واحتوشوه ، فضربه زُرعة على عاتقه بالسيف ، وأقبل عندئذٍ غُلامٌ مِن أهله ، وقام إلى جنبه ، وقد هوى ابن كعب بسيفه ، فصاح به الغُلام : يابن الخبيثة ، أتقتل عَمِّي؟! واتَّقى السيف بيده ، فأطنَّها وتعلَّقت بالجِلدة ؛ فنادى الغُلام : يا أُمَّاه! فاعتنقه الحسين (عليه السّلام) ، قائلاً :
«صَبراً يابن أخي على ما نزل بك ، فإنَّ الله سيُلحقك بآبائك الطاهرين الصالحين ، برسول الله ، وبعليٍّ ، وبالحسن».
ثمَّ قال : «اللَّهمَّ امسك عنهم قَطر السماء ، وأمنعهم بركات الأرض ، اللَّهمَّ إنْ متَّعتهم إلى حين ، ففرِّقهم فرقاً ، واجعلهم قِدداً ، ولا تُرضِ عنهم الولاة أبداً ؛ فإنَّهم دعونا لينصرونا ، فعدوا علينا يقتلونا».
ثمَّ تضاعفت الرَجَّالة والخيَّالة على الحسين (عليه السّلام). وطعنه سِنان برمحه. وقال لخولِّي احتزَّ الرأس. فضعُف هذا وأرعد. فقال له سِنان : فَتَّ الله عَضدك ، ونزل وذبح الإمام ، ودفع رأسه إلى خولِّي.
وسَلبوا ما على الحسين (عليه السّلام) ، حتَّى سراويله ونَعليه ، ثمَّ تمايل الناس إلى رحله وثقله ، وما على أهله ، حتى أنَّ الحُرَّة كانت لتُجاذِب على قناعها وخِمارها ، والمرأة تُنتزَع ثوبها مِن ظهرها فيؤخَذ منها ، والفَتاة تُعالَج على سَلب قِرطها وسوارها ، والمريض يُجتَذب الأديم مِن تَحته.
ثمَّ نادى ابن سعد في أصحابه : مَن يَنتدب إلى الحسين ؛ فيوطئ الخيل صدره وظهره؟
فانتدب عشرة فوارس ، وداسوا بحوافر خيلهم جَنازة الإمام ، ورضُّوا جَناجِن صدره. وصلَّى ابن سعد على قتلى جيشه ، ودفنهم ، وترك الشهداء الصالحين على العَراء ، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).
بعد مَقتل الحسين (عليه السّلام)
قتل الظالمون حسين الفَضيلة ، وفرِحوا بمَقتله فَرحاً عظيماً ؛ إذ حَسِبوا أنَّهم قتلوا به شخصيَّته ودعوته ، وصرعوا به كلمته ، وحَسِبوا أنَّهم أخذوا به ثار أسلافهم ، وانتقام أشياخهم ، داسوا بخيلهم جَناجِن صدر الحسين (عليه السّلام) ، وسَحقوا جُثمانه ، وزعموا أنَّهم سَحقوا به كلمة الحسين (عليه السّلام) ، ومَحقوا دعوته.
تركوا جَسد الحسين (عليه السّلام) وأجساد مَن معه ، عُراة على العَراء ، بلا غُسلٍ ، ولا كَفن ، ولا صلاة عليه ، ولا دفن. زاعمين أنَّهم أهملوا بذلك شخصيَّة الحسين (عليه السّلام) وأهميَّة الحَقِّ والإيمان ، مثَّلوا بجُثَّة الحسين (عليه السّلام) ـ وقد مَنع الإسلام عن المُثلَة ـ زاعمين أنَّهم جعلوا داعية العَدل ، وآية الحَقِّ ، أُمثولَة الخيبة والفَشل ، وأنَّه سيُضرَب به المَثل.
لعبوا برأسه على القَنا ، وبرؤوس آله وصَحبه ، أمام العِباد والبلاد ، زاعمين أنَّهم سيَلعبون بعده بعقائد العِباد ، ومصالح البلاد ما داموا ودامتْ.
سلبوه وسلبوا أهله ، ونَهبوا رَحله ، وأحرقوا خِيَمه ، وأبادوا
حُرمه ، زاعمين أنَّها هي الضربة القاضية ، فلن ترى بعدئذٍ مِن باقية.
ظنَّ ذلك القوم ، وأيَّدتهم كلُّ شواهد الأحوال يومئذٍ ، حتَّى دفن ابن سعد جميع قتلى جُنده ، في يومه وغده ، ودفن معهم كلَّ خَشيةٍ أو خَيبةٍ ، كانت تجول في واهمته ، ورَحَلَ عن كربلاء برَحْل الحسين (عليه السّلام) ، وأهله ، والرؤوس إلى ابن زياد الجَور ، وترك أشلاء حامية الحَقِّ ، وداعية العَدل ، جَرداء في العَراء ، بين لَهيب الشمس والرمضاء ، وعُرضةً للنسور والعقبان.
ومِمَّا يُثير الشجون والأحزان ، أنَّ علي الإيمان (عليه السّلام) ، حارب البُغاة مِن أقطاب الحركة الأُمويَّة في صِفِّين والجَمل ، وبعد قتلهم أجرى عليهم سُنَن التجهيز والدفن ، مُراعياً حُرمة الإسلام وحِشمَة الشهادتين.
أمَّا المُنتقمون مِن حسين الحَقِّ وصَحبه ، فلم يَحترموا فيه أيَّ شِعار ديني ، أو أدب قومي ، قَنعوا منهم بدمائهم عن التغسيل ، وبالتُّرب عن التحنيط ، وبنسج الرياح عن التجهيز.
وليتَ شعري ، ماذا يصنع أولياء الحَقِّ بصَلاة أولياء الشيطان؟! وحَسْبُهم منهم أنْ صَلَّت على جُسومهم سيوفهم ، وشيَّعت أجسادهم نِبالهم ، وألحدت أشلاءهم العَوادي والعاديات ، عليهم وإليهم صلوات الله والصالحين ، ودعوات طُلاَّب العَدل وعُشَّاق الحَقِّ ما لاحت الأصباح ، وروَّحت الرياح.
هذا ، وما عتَّمت عشيَّة الثاني عشر مِن مُحرَّم ، إلاّ وعادت إلى أرياف كربلاء عشائرها ، الضاعنة عنها بمُناسبة القتال ، وقُطَّان نينوى والغاضريَّات مِن بَني أسد ، وفيهم كثير مِن أولياء الحسين (عليه
السلام) ، وقليل مَن اختلطوا برَجَّالة جيش الكوفة ، فتأمَّلوا في أجساد زكيَّة ، تَرَكَها ابن سعد في السُّفوح ، وعلى البطاح ، تَسفي عليها الرياح ، وتساءلوا عن أخبارها العُرفاء ، فما مَرَّت الأيّام والأعوام ، إلاَّ والمَزارات قائمة عليها ، والخيرات جارية ، والمَدائح تُتلى ، والحَفلات تتوالى ، ووجوه العُظماء على أبوابها ، وتيجان المُلوك على أعتابها ، وامتدَّت جاذبيَّة الحسين (عليه السّلام) وصَحبه ، مِن حَضرة الحائر ، إلى تُخوم الهند والصين ، وأعماق العَجم ، وما وراء التُّرك والدَّيلم ، يُردِّدون ذِكرى فاجعته ، بمَمرِّ الساعات والأيَّام ، ويُقيمون مأتمه في رِثائه ومواكب عزائه ، ويُجدِّون في إحياء قضيَّته في عامَّة الأنام ، ويُمثِّلون واقعته في مَمرِّ الأعوام.
هذا بعض ما فاز به حسين النّهضة ، مِن النَّصر الآجل ، والمُظفَّريَّة في المُستقبل (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ).
أمَّا الحزب السُّفياني ، فقد خاب فيما خاله ، وخَسرت صَفقته ، وذاق الأمرَّين بعد مَقتل الحسين (عليه السّلام) ، في سبيل تهدئة الخَواطر ، وإخماد النوائر ، حتَّى صار يُعالج الفاسد بالأفسد ، ويَستجير مِن الرمضاء بالنار ، كقيامه باستباحة مدينة الرسول (صلَّى الله عليه وآله) وإخافة أهلها ، وقتاله ابن الزبير في مَكَّة حَرم الله والبلد الأمين ، حتَّى حاصروه ورموه بالمَنجنيق ، وقطعوا سُبُل الحَجِّ على المسلمين ، وهَتكوا مُعظم شعائر الدين.
وبعد أوانٍ نهض المُختار الثقفي ، وزعماء التوَّابين العِراقيِّين ، طالبين ثار الحسين (عليه السّلام). فقتلوا ابن زياد ، وابن سعد وأشياعهما شَرَّ قتلة ، وأهلكوا شِمراً بكلِّ عَذاب ، وأحرقوا حرملة
حيَّاً ، وتتبَّعوا قَتَلَة الحسين (عليه السّلام) ومُحاربيه ، في كلِّ دَيْر ودار ، وقتلوهم تحت كلِّ حَجر ومَدر ، وأصلوهم الحَميم والجَحيم ، واستجاب الله دعوة الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء ؛ إذ قال : «وسَلِّط عليهم غُلام ثَقيف ، يَسقيهم كأساً مُصبَّرة» إلى آخره.
ولم تَزل عليهم ثائرةٌ أثر ثائرة ، ونَائرة حرب تِلو نائرة ، حتَّى أذِن الله سبحانه بزوال مُلك أُميَّة ، وسقوط دولة بَني مروان ، على يدي السفَّاح الهاشمي العبَّاسي ، أحمد وأخيه محمّد ابني عبد الله ، والقائد الباسل أبي مُسلم الخُراساني ، وثِلَّة مِن فُحولة هاشم ؛ فثَلَّت عُروش تلك الدولة الجائرة ، ودَكَّت أركان حكومتها الغَدَّارة ، واستأصلوا شأفتهم ، وأبادوهم رِجالاً ونِساءً ، حتَّى لم يَبقَ منهم آخذ ثارٍ ، ولا نافخ نارٍ ، وأحرقوا مِن آثارهم حتَّى الرَّميم المَنبوش ، ولُعنوا حيثما ذكروا ، وقُتِّلوا أينَما ثُقِّفوا ؛ فتَجِد حتَّى اليوم قبر يزيد الجَور في عاصمة مُلكِه ، كومَة أحجار ، ومَسبَّة المارَّة ، لا يُذكَر في شرق الأرض وغربها ، إلاَّ بكلِّ خِزيٍ وعار ، هذه عاقبة الجائِر الفاجِر ، وتلك عُقبى المُجاهد الناصح.
(إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)
مَصادر التصنيف
١ ـ مُروج الذهب ، علي بن الحسين المَسعودي ، المُتوفَّى سنة ٣٣٥ هِجريَّة.
٢ ـ مَقاتل الطالبيِّين ، أبي الفرج علي بن الحسين الأُمَويُّ المَرواني الأصفهاني ، المُتوفَّى سنة ٣٣٦ هِجريَّة.
٣ ـ الإرشاد ، الشيخ المُفيد محمّد ، المُتوفَّى سنة ٤١٣ هِجريَّة.
٤ ـ تاريخ الطبري ، أبي جعفر محمّد بن جُرير الطبري ، المُتوفَّى سنة ٣١٠ هِجريَّة.
٥ ـ العقد الفريد ، ابن عبد ربَّه المغربي ، المُتوفَّى قبل سنة ٣٢٨ هِجريَّة.
٦ ـ وغير ذلك مِن الكُتب المُؤلَّفة قبل سنة ٤٠٠ للهِجرَة.
الفهرس
تَرجمة المؤلِّف.................................................................... ٣
مقدمة المصنف.................................................................. ٧
النهضة الحسينية................................................................. ٩
الحسين رَمز الحَقِّ والفَضيلة...................................................... ١٢
الحركات الإصلاحيَّة الضروريَّة.................................................. ١٤
آثار الحَركة الحسينيَّة........................................................... ١٦
الفَضيلة....................................................................... ١٩
مبادئ قضيَّة الحسين (عليه السّلام).............................................. ٢٠
حركات أبي سُفيان............................................................. ٢٢
مُعاوية وتعقيباته................................................................ ٢٥
تأثُّرات الحسين الروحيَّة......................................................... ٢٧
كيف يُبايع الحسين (عليه السّلام)................................................ ٢٩
البيعة ليزيد.................................................................... ٣٢
نَظرة في هِجرة الحسين (عليه السّلام)............................................. ٣٦
هِجرة الإمام مِن مدينة جَدِّه..................................................... ٤٠
الهِجرة الحسينيَّة وانقلابات حَول الستِّين........................................... ٤١
الحسين (ع) وابن الزبير......................................................... ٤٤
وضعيَّة الإمام في مَكَّة........................................................... ٤٦
الحسين (عليه السّلام) يَختار الكوفة.............................................. ٤٨
بنو أُميّة والخطر الحسيني......................................................... ٥٠
الكوفة في نَظر الحسين (عليه السّلام)............................................. ٥٣
خُروج الحسين (عليه السّلام) مِن مَكَّة............................................ ٥٥
ابن زياد على الكوفة........................................................... ٥٩
مَقتل مُسلم وهاني.............................................................. ٦٢
الإمام ونَعْيُ مُسلم.............................................................. ٦٧
استعداد ابن زياد............................................................... ٧١
الرياحي يَمنع الحسين (عليه السّلام).............................................. ٧٣
الكوفة تُقاد إلى الحرب.......................................................... ٧٦
وِلاية ابن سعد وقيادته.......................................................... ٧٨
منزل الحسين (عليه السّلام) بكربلاء............................................. ٨١
جُغرافيَّة كربلاء القديمة......................................................... ٨٣
الإمام مَصدود مَحصور......................................................... ٨٥
الحسين (ع) مُستميت ومُستميتٌ مَن معه......................................... ٨٩
رُسُل السلام ونَذير الحرب...................................................... ٩٣
حَول مُعسكر الحسين (عليه السّلام).............................................. ٩٥
عُطاشى الحرب في الشريعة...................................................... ٩٧