نهضة الحسين (ع)

السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني

نهضة الحسين (ع)

المؤلف:

السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني


المحقق: مؤسسة إحياء الكتب الإسلامية
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ١٤١

ورداءه ، وتقلَّد بسيف جَدِّه النبي ، وركب ناقته أو فرسه المَعروفة ، وخرج إلى العدوِّ بهيئة جَدِّه النبي (صلَّى الله عليه وآله) وزيِّه ، وقد كان هو في مَلامحه شَبيه جَدِّه ، وكانت هذه الهيئة وحدها ، كافية لإظهار أولويَّته بخِلافة جَدِّه مِن طاغية الشام ، لو كانوا يعقلون.

وعَرف شياطين القوم ، أنّ هذه المُظاهرة تعود على الحسين (عليه السّلام) بفائدة ، سيَّما لو وجد مجالاً للكلام ، وذكَّر السامعين بآيات مِن وحي جَدِّه ، فولولوا بلَغطٍ وضَجيج ؛ ليُضيِّعوا على السامعين كلام الله ، مِن فَم وليِّ الله ، بهيئة نبيِّ الله ، وهو ابن بنت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ، غير إنَّ حسين المَجد ، لم يُضيِّع فُرصته ، فاستنصتهم فأبوا أنْ يُنصتوا له ؛ لجُاجاً وعِناداً ، فنادى فيهم : أيُّها الناس ، اسمعوا قولي ، ولا تَعجلوا ، حتَّى أعِظكم بواحدة ، وحتَّى أُعذر إليكم ، فإنْ أعطيتموني النَّصف كُنتم بذلك سعداء ، وإلاّ فاجمعوا رأيكم ، ثمَّ لا يَكُن أمركم عليكم غُمَّة ، ثمَّ اقضوا إليَّ ولا تُنظرون ، (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ).

فلمَّا ساد الصَّمت ، وهدأ الضجيج خَطبهم ، فحمد الله وأثنى عليه ، ونعت النبي ، فصلَّى عليه ، فلم يَسمع أبلغ مَنطقاً منه.

ثمَّ قال : «أمَّا بعد ، فانسبوني مَن أنا ، ثمَّ راجعوا أنفسكم وعاتبوها ، فانظروا هلْ يَحلُّ لكم قتلي وانتهاك حُرمتي؟ ألستْ ابن بنت نبيِّكم ، وابن وصيِّه ، وابن عمِّه ، وأوَّل المؤمنين المُصدِّق لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ، وبما جاء مِن عند ربِّه؟ أوليس حمزة سيِّد الشهداء عَمِّى؟ أوليس جعفر الطيار في الجَنَّة بجَناحين عَمِّي؟

١٠١

أولم يَبلغكم ما قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) لي ولأخي : هذان سيِّدا شباب أهل الجَنَّة ، فإنْ صدَّقتموني فيما أقول وهو الحَقُّ ، والله ما تعمَّدت الكذب مُنذ علمت أنَّ الله يَمقت أهله ، وإنْ كذَّبتموني فإنَّ فيكم مَن إنْ سألتموه عن ذلك أخبركم ، سَلوا جابر الأنصاري ، وأبا سعيد الخِدري ، وسهل الساعدي ، وزيد بن أرقم ، وأنس بن مالك يخبروكم أنَّهم سمعوا هذه المَقالة ، مِن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ، أما في هذا حاجز لكم عن سَفك دمي؟ إلى أنْ قال ـ فإنْ كنتم في شَكٍّ مِن ذلك ، أو تَشكُّون في أنِّي ابن بنت نبيِّكم ، فو الله لا يوجد بين المشرق والمغرب ، ابن بنت نَبيٍّ غيري ، ويَحكم ، أتطلبوني بقتيل منكم قتلته ، أو مال لكم استهلكته؟

ثمَّ نادى : يا شَبث بن ربعي ، ويا حجَّار بن أبجر ، ويا قيس بن الأشعث ، ويا يزيد بن الحارث ، ويا عمرو بن الحجَّاج ، ألم تكتبوا إليَّ أنْ قد أينعت الثمار ، واخضرَّت الجِنان ، وإنَّما تُقدِم على جُند لك مُجنَّد».

لقد أسمعهم شِبل علي (عليه السّلام) خِطاباً قويم اللَّهجة ، قويَّ الحُجَّة ، لو كان ثَمَّة مُنصِفٌ ؛ لكنَّما القوم لم يُقابلوه إلاَّ بكلمة : إنَّا لا ندري ما تقول! انزل على حُكم بَني عَمِّك ، وإلاِّ فلسنا تاركيك.

كلمة مُرَّة طُليت بالقحة ، وتُبطُّنِت بالعَجرفة والانحراف ، نحو الزور والغُرور ، فأجابهم حسين العُلا : «لا والله ، لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أقرُّ لكم إقرار العبيد ، يأبى الله ذلك لنا ورسوله (صلَّى الله عليه وآله) ، وحُجور طابت وطَهُرت ، فلا نؤثِر طاعة اللئام على مَصارع الكرام».

لكنَّما المُظاهرة باحتجاجه ، لم تَذهب سُدى وعَبثاً ، فما مَدَّ الظلام رواقه ، حتَّى انجذب إلى الحسين (عليه السّلام) ، عديد مِن فرسان ابن سعد ، مِن ذوي المروءة والفتوَّة ، ثائبين تائبين عند المُخيَّم الحسيني.

١٠٢

الحسين (عليه السّلام) يَنعى نفسه لاُخته

لزينب (١) شأن مُهمٌّ ، ودور كبير النطاق في قضيَّة الحسين (عليه السّلام) ، وفي نساء العرب نوادر أمثالها مِمَّن قُمْنَ في مُساعدة الرجال ، وشاركْنَهم في تاريخهم المَجيد ، وقد صحُبت زينب أخاها في سفره الخطير ، صُحبة مَن تَقصد أنْ تُشاطره في خدمة الدين ، وترويج أمره ؛ فكانت تُدير بيمناها ضيافة الرجال ، وباليُسرى حوائج الأطفال ، وذاك بنشاط لا يُوصَف ، والمرأة قد تقوم بأعمال يَعجز عنها الرجُل ، ولكنْ مادام منها القلب في ارتياح ونشاط.

وأمّا لو تَصدَّع قلبه ، أو جرحت منها العواطف ، فتراها زُجاجة أوراق ، وكسرها لا يُجبر ؛ ولذلك أوصى بهنَّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) ، إذ قال : «رفقاً بالقَوارير». فجَعلهنَّ كزجاج القوارير ، تحتاج إلى لُطف المُداراة.

فكانت ابنة علي (عليه السّلام) قائمة بمُهمَّات رحل الحسين

__________________

(١) هي (أخت الحسين (عليه السّلام) ، وزوجة ابن عَمِّها عبد الله بن جعفر الطيَّار).

١٠٣

(عليه السلام) وأهله ، غير مُبالية بما هنالك مِن ضائقة عدوٍّ ، أو حصار ، أو عُطاش ؛ إذ كانت تنظر في وجه الحسين (عليه السّلام) تراه هشاً بشَّاً ، فتزداد به أملاً.

وكلَّما ازداد الإنسان أملاً ، ازداد نشاطاً وعملاً ، وفي بَشاشة وجه الرئيس أثراً كبيراً ، في قوَّة آمال الأتباع ، ونشاط أعصابهم ، غير إنَّ زينب باغتت أخاها الحسين (عليه السّلام) في خبائه ليلة مَقتله ؛ فوجدته يَصقل سيفاً له ، ويقول :

يا دهرُ أُفٍّ لك مِن خَليل

كمْ لك بالإشراق والأصيل

مِن صاحبٍ وطالبٍ قتيلِ

والأمر في ذاك إلى الجَليل

إلى آخره.

والمَعنى : يا دهرُ ، كمْ لك مِن صاحب قَتيلٍ في مَمَرِّ الإشراق والأصيل ، فأُفٍّ لك مِن خَليل.

ذُعِرت زينب ، عند تَمثُّل أخيها بهذه الأبيات ، وعَرفت أنَّ أخاها قد يَئس مِن الحياة ، ومِن الصُّلح مع الأعداء ، وأنَّه قَتيل لا مَحالة ، وإذا قُتِل فمَن يكون لها؟ والعيال والصِبيَة في عَراء وغُربة ، وألدُّ الأعداء مُحيط بهم ، ومُتربِّص لهم الدوائر ؛ لهذه ولتلك ، صرخت أخت الحسين (عليه السّلام) نادبة أخاها ، وتمثَّل لديها ما يَجيء عليها ، وعلى أهله ورحله بعد قتله ، وقالت : اليوم مات جَدِّي ، وأبي ، وأُمِّي ، وأخي ؛ ثمَّ خَرَّت مَغشيَّاً عليها ، إذ غابت عن نفسها ، ولم تَعد تَملك اختيارها ، فأخذ أخوها الحسين (عليه السّلام) رأسها في حِجره يَرشُّ على وجهها مِن مَدامعه ، حتَّى أفاقت وسَعد بصرها بنظرةٍ مِن شَقيقها ، وأخذ يُسلِّيها ، وبعض التسلية تورية.

١٠٤

فقال (ع) : «يا أُختاه ، إنَّ أهل الأرض يموتون ، وأهل السماء لا يَبقون ، فلا يبقى إلاَّ وجهه ، وقد مات جَدِّي وأبي وأُمِّي وأخي ، وهم خيرٌ مِنِّي ، فلا يَذهبنَّ بحِلمك الشيطان».

ولم يَزل بها ، حتَّى أسكن بروحه روعها ، ونشَّف بطْيب حديثه دمعها ، ولكنْ في المَقام سرٌّ مَكتوم.

فإنَّ زينب ، تلك التي لم تَستطع أنْ تَسمع إشارة مِن نَعي أخيها وهو حَيٌّ ، كيف تَجلَّدت في مَذبح أخيها وأهلها بمشهد منها ، ورأت رأسه ورؤوسهم مرفوعة على القَنا ، وتلعب بها صبيان كالأُكر ، وينكت ابن زياد ويزيد بثنايا أخيها ، بين المَلأ بالقضيب ، إلى غير ذلك مِن مَصائب ، لا تُطيق رؤيتها الأجانب ، فَضلاً عن أمسِّ الأقارب.

فليتَ شِعري ، ما الذي حَوَّل ذلك القلب الرقيق ، إلى قَلبٍ أصلد وأصلب مٍن الصخر الأصمِّ؟ نعمْ ، كانت شَقيقة الحسين (عليه السّلام) أُخته بتمام معاني الكلمة ، فلا غَرو إنْ شاطرت سيَّدة الطفِّ زينب ، أخاها الحسين (عليه السّلام) في الكوارث وآلام الحوادث ، فقد شاطرته في شرف الأبوين ، ومواريث الوالدين خَلقاً وخُلقاً ومَنطقاً.

وعليه ، فإنَّها على رِقَّة عواطفها ، وسرعة تأثُّرها ، تَمكَّنت مِن تبديل حالتها ، والاستيلاء على نفسها بنفسها مِن حين ، ما أوحى إليها الحسين (عليه السّلام) بأسرار نهضته ، وآثار حركته ، وإنَّه لابُدَّ أنْ يَتحمَّل أعباء الشهادة ، وما يتبعها مِن مَصائب ومَصاعب ، في سبيل نُصرة المِلَّة ، وإحياء شريعة جَدِّه ، وشعائر مَجده.

لكنَّه سيَّار يَطوي السُّرى ، إلى حَدّ مَصرعه في كربلاء ، ثمَّ لابُدَّ وأنْ تنوب هي عن أخيها ، في تَحمُّل المَشاقِّ ، ومُكابَدة الآلام ، مِن كربلاء إلى

١٠٥

الشام ، قائمة بوظائفه المُهمَّة ، مُحافظة على أسرار نَهضته ، ناشرة لدعوته وحُجَّته ، في كلِّ أينٍ وآنٍ ، مُنتهزة لسوانح الفُرص ، وهو معها أينما كانت يُباريها ، لكنَّه على عوالي الرماح ، خَطيباً بلسان الحال ، كما هي الخطيبة بلسان المَقال.

١٠٦

السّباق إلى الجَنَّة

التسابُق إلى النَّفع غريزة في الأحياء ، لا يَحيدون عنها ، ولا يُلامون عليها ، وقد يَؤول إلى النزاع بين الأشخاص والأنواع ، ولكنَّ التسابُق إلى الموت ، لا يُرى في العقلاء إلاَّ لغايات شريفة ، تبلغ في مُعتقدهم مِن الأهميَّة مَبلغاً قَصيَّاً ، أسمى مِن الحياة الحاضرة ، كما إذا اعتقد الإنسان في تسابقه إلى الموت ، نيل سعادات ولذَّات ، هي أرقى وأبقى مِن جميع ماله في الحياة الحاضرة.

ولهذه نظائر في تواريخ الغُزاة والمُجاهدين ؛ فإنَّ في صحابة النبي (صلَّى الله عليه وآله) (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) ، وتسابقوا إلى القتال بين يديه ، مُعتقدين أنَّ ليس بينهم وبين جِنان الخُلد والفِردوس الأعلى ، سِوى سويعات ، أو تُميرات يأكلونها ، أو حَملات يحملونها.

وهذا مِن أشرف السِّباق ، وموته أهنأ موت ، وشعاره أقوى دليل على الفضيلة والإيمان ، ولم يَعهد التاريخ لجماعة بِداراً نحو الموت ، وسباقاً إلى الجَنَّة والأسنَّة مِثل ما عهدناه في صَحب الحسين (عليه

١٠٧

السلام) ، وقد عَجِم الحسين (عليه السّلام) عْودَهم ، واختبر حُدودهم ، وكسب منهم الثقة البليغة ، وأسفرت امتحاناته كلُّها عن فوزه بصحب أصفياء ، وإخوان صِدق عند اللقاء ، قلَّ ما فاز أو يفوز بأمثالهما ناهض ، فلا نَجِد أدنى مُبالغة في وصفه لهما عندما قال : «أمّا بعد ، فإنِّي لا أعلم أصحاباً خيراً مِن أصحابي ، ولا أهل بيت أبرَّ وأوفى مِن أهل بيتي».

وكان الفضل الأكبر في هذا الانتقاء ، يعود إلى حُسْن انتخاب الحسين (عليه السّلام) ، وقيامه بكلِّ وجائب الزعامة والإمامة ، وقيام الرئيس بالواجب يقود المرؤوسين إلى أداء الوجائب ، واعتصام الزعيم بمبدأه القويم ، يسوق الأتباع بالطبع إلى شِدَّة التمسُّك ، بالمبدأ ، والمَسلك ، والغاية.

فكان سُرادق الحسين (عليه السّلام) ـ بما فيه مِن صَحبٍ وآلٍ ، ونساءٍ وأطفالٍ ، كالماء الواحد ، لا يفترق بعضه عن بعض ؛ فكان كلٌّ منهم مُرآة سيِّده الحسين (عليه السّلام) بحاله ، وفِعاله ، وأقواله ، وكانوا يفتدونه بأنفسهم ، كما كان يتمنَّى القتل لنفسه قبلهم ودونهم ، وأخيراً توفَّقوا إلى إرضاء سيِّدهم بأنْ يتقدّموا إلى جهاد أدبيٍّ ، في زيِّ دفاعٍ حربيٍّ ، واحداً بعد واحد ، فيُعلنوا بالمبادئ العلويَّة ، وينشروا الدعوة الحسينيَّة ، إرشاداً للجاهلين ، وعِظةً للجاحدين ، وإيقاظاً للغافلين (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ). حتَّى لو أثَّرت عِظاتُهم المُتواترة (كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ). وإنْ قُتلوا ، فسبيلهم سبيل مَن قبلهم مِن الأنبياء والمُصلحين إلى رَوحٍ وريحان ، وجَنَّةٍ ورضوان ؛ فيستريحون مِن آلام الحياة الدنيا الفانية ، ويَسعدون بحياة راقيةٍ باقية ، فإذا كانت هذه

١٠٨

الدنيا غير باقية لحيٍّ ، ولا حيَّ عليها بباقٍ ، فالأحرى أنْ يكون الهيكل الفاني قُربان خير خالد ، ومَهراً لحياة الأُمَّة.

أجلْ ، كانت جماعة الحسين (عليه السّلام) كؤوس رؤوسها مُفعمَة بشعور التضحية ، حتَّى إذا أذِنَ لهم بذلك ، لبسوا القلوب على الدروع ، وأقبلوا يتهافتون كالفراش على المُصباح ، لتضحية الأرواح ، فكلَّما أذِنَ حُجَّة الله لأحدهم ، وادعه وداع مَن لا يعود ، وهم يتطايرون مِن مُخيَّمه إلى خصومه تطايُر السهام ، لإنفاذ الغرض المُقدَّس بأراجيز بَليغة ، وحُجَج بالغةٍ ، مِن شأنها إزاحة الشبهات عن البعيد والقريب ، وعن الشاهد والغائب ، لكنَّ المُستمعين (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ). قد غَشيت الأطماع أبصارهم ، وغَشت المخاوف بصائرهم ؛ فلا يُفكِّرون بسِوى دنانير ابن زياد وعصاه ، ومَن لا يهتمُّ إلاّ بالسيف والرغيف ؛ فلا نَصح تفيده ، ولا دليل يَحيده.

بلى ، إنَّما تُجدي العِظات في ظلِّ المطامع ، والحُجَّة تَهدي تحت بارقة السلاح ؛ لذلك لم يَجِد رُسل الحسين (عليه السّلام) مِن عِداهم الجواب ، إلاَّ على ألْسنة الأسنَّة والحِراب ، وقُتِّلوا تقتيلاً ، (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ). أحياءٌ بأرواحهم ، أحياءٌ بتاريخهم المَجيد ، ولهم لسان صدق في الآخرين ، وأُسوة بالأوَّلين.

١٠٩

مَقتل عليٍّ شِبْه النبي (صلَّى الله عليه وآله)

لم يَزل ، ولا يزال عُرفاء الأُمَم ، مِن عربٍ وعجمٍ ، يعتقدون توارث السَجايا والمَزايا ، بالتناسل والتناسب ، وأنَّ الولد يرث مِن أبويه ووالديهم ، مَواهبهم العقلية ، أو سَجاياهم الأخلاقيَّة ، كما يَرثهم أشكال الخُلقة وطبائع الجِسم ، وأمراض الأعضاء ، وقد أكَّد الفَنُّ الحديث ذلك ، وأنَّ التشابُه في الخِلقة ، لا ينفكُّ عن التشابُه الأخلاقي ؛ فنَجِد العائلة بعد فُقدان أكبرها ، تَجمع توجُّهاتها في أشبه أفرادها بالفقيد ، توسَّماً بقيام الشبيه مَقام الفقيد ، في إعادة آثاره وأدواره لإجماع الغرائز ، على أنَّ الأعمال نتائج الأخلاق ، وأنَّ الطفل الشبيه بآبائه خَلقاً وخُلقاً ، يَغلب أنْ يُجدِّد مآثرهم ومَفاخرهم.

وكان آل محمّد (صلَّى الله عليه وآله) في أسفٍ مُستمرٍّ على فُقدان النبي (صلَّى الله عليه وآله) ، وخَسارة كلِّ مَجدٍ في فَقده ، حتَّى ولِد للحسين بن علي (عليه السّلام) ولدٌ ، أشبه الناس بجَدِّه محمّد (صلَّى الله عليه وآله) خَلقاً وخُلقاً ومَنطقاً ، فتَمرْكزت فيه كلُّ آمالهم وأمانيِّهم ، وصاروا كلَّما اشتاقوا إلى زيارة النبي (صلّى

١١٠

الله عليه وآله) شَهِدوا مَحضرة ، وشاهدوا مَنظره ، وسُمِّي شبيه النبي ، فترَعْرَعَ الصبيُّ ، وترَعْرَع معه جَمال النبي (صلَّى الله عليه وآله) ، ونَمَا فيه الكمال ، وأزهرت حوله الآمال ، وبلغ تصابي آل النبي (صلَّى الله عليه وآله) فيه مَبلغ الولَه والعِشق ، فكان إذا تلا آية ، أو روى رواية مَثَّل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في كلامه ومَقامه ، وأضاف على شَبَه النبي (صلَّى الله عليه وآله) في الجِسم ، شَبَهاً بجَدِّه عليٍّ (عليه السّلام) في الاسم ، كما شابَهه في الشجاعة ، وفي تَعصُّبه للحَقِّ ؛ حتَّى أنَّه يوم قال الحسين (عليه السّلام) أثناء ميسره : «كأنِّي بفارس ، قد خَطر علينا قائلاً : القوم يسيرون والمنايا تسير بهم». أتاه قائلاً :

«يا أبتِ ، أوَلسنا على الحَقِّ؟».

فقال له الحسين (عليه السّلام) : «إي والذي إليه مَرجع العِباد».

قال عليٌّ هذا : إذنْ ، لا نٌبالي بالموت.

فكان في موكب الحسين (عليه السّلام) مِثل كوكب الفَجر يزهو بجَماله ، وأنظار أهله دائرة حوله ، غير إنَّ الحصار والحُزن ضيَّقا على نفسه مَجرى النفس ، فلم يَجِد مَظنَّة للخلاص منهم ، إلاَّ في الموت ؛ فجاء لَيستأذن أباه ، لكنَّه مُنكسِر الطرف ؛ إذ يعلم مَبلغ تأثُّر الوالد مِن هذا الكلام.

وقد شوهد سيِّد الطفِّ ، في أقواله وأحواله على جانب عظيم مِن التَجلُّد ، لكنَّ قيام هذا الفتى ضَيَّع جانباً مِن تَجلُّده ؛ فصار كغيره لا يَملك مِن التَجلُّد شيئاً ، فيما يقول في ولده ، أو عن ولده.

وأيْمَ الله ، إنَّه أذِنَ له كمَن يُريد أنْ لا يُجرح عاطِفة فتاه ، فأسرع

١١١

عليٌّ نحو الأعداء ، وعين أبيه تُشيِّعه ، وتُرسِل دموعها الحارَّة مصحوبة بالزفرات ، والنساء على أثره تولوِل ، وتُعوِل أُمُّه بشَجو فاقدة الاصطبار ؛ إذ فقدت مركز آمالها ، والإمام يٌنادي بأعلى صوته : «يابن سعد ، قطع الله رَحمك ، كما قَطعت رَحمي ، ولم تَحفظ قَرابتي مِن رسول الله».

أمَّا الغُلام ، فقد تَجلَّى على القوم بوجه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ، وعِمامة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ، وأسلحة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ، وعلى فَرس رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ، ونَطَقَ بمَنطق رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) قائلاً :

أنا عليُّ بنُ الحسينِ بنِ عليِّ

نحنُ وبيتِ الله أولى بالنبي

والله لا يَحكم فينا ابنُ الدعي

أيْ : أنا المَثل الأعلى لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فيكم ، بصورتي وسيرتي ، وحَسَبي ونَسَبي ؛ فأنا تِذكار جَدِّي عليٍّ (عليه السّلام) ، وأنا شبيه النبي (صلَّى الله عليه وآله) ، وإنَّ أبي الحسين (عليه السّلام) سِبط النبي (صلَّى الله عليه وآله) ، وإنَّ جَدِّي عليَّاً أخو النبي (صلَّى الله عليه وآله) ووصيُّه ؛ فنحن جميعاً أُولو قُرباه ، وأهل بيته ، الذين أذهبَ الله عنهم الرِّجس وطَهَّرهم تطهيراً ؛ فـ (أُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ). فنحن أولى بخِلافة جَدِّنا النبي (صلَّى الله عليه وآله) مِن الأجنبي.

وبعد هذا البرهان الجَليّ ، لا يَسوغ أنْ نُسلِّم أزِمَّة دين جَدِّنا النبي (صلَّى الله عليه وآله) إلى ابن الدعي ـ والدعي هو المنسوب

١١٢

إلى غير أبيه الشرعي ـ وقد كان عبيد الله بن مَرجانة ، مُستلحَقاً بزياد ، كما أنَّ زياداً صار مُستلحَقاً بأبي سفيان ، بخِلاف حكم النبي (صلَّى الله عليه وآله) القائل : «الوَلد للفِراش ، وللعاهِر الحَجر». فهل يُسوَّغ في شرع الشرف ، ودين العَدل ، أنْ يَخضع مَن يُمثِّل النبي (صلَّى الله عليه وآله) لدعيٍّ وابن دعيٍّ؟

بارز الغُلام جيش الكوفة ، وشَدَّ عليهم شَدَّة الليث بالأغنام ، وكلَّما كَرَّ عليهم ، رجع إلى أبيه قائلا : العَطش قد قتلني ، فيقول له أبوه : «اصبِر يا حبيبي ، فإنَّك لا تُمسي حتَّى يَسقيك رسول الله بكأسه». والغلام يَكرُّ الكَرَّة بعد الكَرَّة ؛ فنظر إليه ابن مُرَّة العبديّ ، فقال : عليَّ آثامُ العرب ، إنْ كَرَّ ومَرَّ بي لو لمْ أثكُل أُمَّه.

فبينا هو يَشدُّ على الجيش ويرتجز ، إذ ضربه العبديُّ وصرعه ، فنادى : يا أبتاه ، عليك مِنِّي السّلام ، هذا جَدِّي قد سقاني بكأسه الأوفى ، وهو يُقرِئك السّلام ، ويقول لك : العَجل العَجل.

ثمَّ شَهَقَ شَهقةً كانت فيها نفسه ، فانقضَّ إليه الحسين (عليه السّلام) قائلاً : «يا بُنَي ، قَتل الله قَوماً قتلوك ، ما أجرأهم على الله ، وعلى انتهاك حُرمَة الرسول! يا بُنَي ، على الدنيا بعدك العَفا». ثمَّ قال لفُتيانه : «احملوا أخاكم إلى المُخيَّم».

إذ كان أوَّل قتيلٍ مِن جيش الحسين (عليه السّلام) ، وحاذر على النساء وعقائل الرسالة أنْ يَخرجُن إلى مَصرعه حاسرات ، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.

١١٣

توبة الحُرِّ وشهادته

مَن يدرس أحوال البشر مِن وِجهتها النفسيَّة ، ويَسبر غَوره ، يَجد الأخيار صِنفين : صِنفٌ يَتطلَّب مصالحه الشخصيَّة في ظِلّ إحياء عقيدته واحترامه ، وهؤلاء أكثر الأخيار ، ثمَّ أرقى منه صِنفٌ يُقدِّم إحياء عقيدته ، حتَّى على حياته الشخصية ، وقد كانت وضعيَّة الحُرِّ الرياحي ، بادئ بدء تُنزَّل مَنزلة مَن يُحبُّ الجَمع بين احترام مصالحه الذاتيَّة ، في ضِمن احترامه لعقيدته في الحسين بن فاطمة (عليه السّلام) ، زعماً منه أنَّ الحسين (عليه السّلام) لابُدَّ وأنْ سيصالح أُميَّة القويَّة ، أو يُسامحونه بمغادرته بلادهم ؛ فيكون الحُرّ حينئذ غيرَ آثمٍ بقتال الحسين (عليه السّلام) ، وغير خَاسر جوائز الوِلاة وترفيعاتهم.

وعليه ، فقد كان يُساير الحسين (عليه السّلام) بالسَّماح والتساهل ، ويُصاحبه بتأدُّب واحترام ، غير إنَّ المُظاهرات القاسية ، التي قام بها جيش الكوفة مِن جِهة ، والمُظاهرات الدينيَّة الأخلاقيَّة ، التي قام بها حسين الفضيلة مِن جِهة أُخرى ، أنارتا فِكرته ، وأثارتا عاطفته ، فارتقى في استكمال نفسه إلى العُلوِّ ، أو الغلوِّ في حُبِّ السعادة والشهادة ؛

١١٤

فجاء إلى ابن سعد قائلاً :

أمُقاتل أنت هذا الرجل؟

فأجابه : نعمْ ، قتالاً أيسره أنْ تَسقط الرؤوس ، وتطيح الأيدي.

فقال الحُرّ : أفما لكم فيما عرضه عليكم رضا؟

فأجابه : أما لو كان الأمر إليَّ لفعلت ، ولكنَّ أميرك قد أبى.

فرجع الحُرُّ وهو يتمايل ويَرتعد ، وأخذه مِثل الأفْكَل ؛ إذ شعر بأنَّه كان السبب لحصر الإمام.

فقال له مَن يُجاوره ، وهو يُحاوره : إنَّ أمرك لمُريب ، فوالله ، لو سُئلتُ عن أشجع أهل العراق لمَا عدوتك ، فماذا أصابك يا بن يزيد؟ فأجابه الحُرّ : ويحَك ، إنِّي أُخيِّر نفسي بين الجَنَّة والنار ، ووالله لا أختار على الجَنَّة شيئاً ، وإنْ قُطِّعت وحُرِّقت. قال هذا ، وضرب بجَواده إلى الحسين (عليه السّلام).

وصادف قُرَّة بن قيس ، فقال له : يا قرة هل سَقيت فرسك؟

قال قُرَّة : قلت له : لا ، وظننتُ أنَّه يُريد أنْ يتنحَّى القتال كراهة أنْ يَشهده ، فوالله لو أطلعني على الذي يُريد ؛ لخرجت معه إلى الحسين.

أخذ يَدنو الحُرّ مِن الحسين رويداً رويداً ، وكان ذلك منه خَجلاً لا وَجلاً ، حتَّى وقف قريباً منه ، فقال : جُعلتُ فِداك يابن رسول الله ، أنا صاحبك الذي حَبستك عن الرجوع ، وجَعْجَعْت بك في هذا المكان ، وما ظَننتُ أنَّ القوم يَردُّون عليك ما عرضته عليهم ، ووالله لو علمت أنَّهم ينتهون بك إلى ما أرى ، ما رَكبت مِثل الذي رَكبت ، وإنِّي تائب إلى الله مِمَّا صَنعت ، فهل ترى لي مِن توبة؟

فأجابه الحسين (عليه السّلام) : «نعمْ ، يتوب الله عليك ، فانزل».

١١٥

فقال الحُرُّ : أنا لك فارس ، خيرٌ مِنِّي راجل ، أُقاتلهم لك على فرسي ساعة ، ويصير النزول آخِر أمري.

فقال له الحسين (عليه السّلام) : «فاصنع ـ يَرحمك الله ـ ما بدا لك».

قابل الحُرّ بعدئذٍ جيش ابن سعد ، وصاح بهم : يا أهل الكوفة ، لأُمِّكم الهَبَل (١) ؛ دعوتم هذا العبد الصالح لتنصروه ، حتَّى إذا جاءكم أسلمتموه ، وكتبتم إليه أنَّكم قاتلوأنفسكم دونه ، ثمَّ عدوتم عليه تقاتلونه ، وأمسكتم بنفسه ، وأخذتم بكَظمه ، وأحطتم به مِن كلِّ جانب ؛ لتمنعوه التوجُّه في بلاد الله العريضة ؛ فصار كالأسير في أيديكم ، لا يَملك لنفسه نَفعاً ولا يَدفع عنها ضرَّاً ، وحلأتموه ونساءه وصِبيَته عن ماء الفرات الجاري ، تَشربه اليهود والنصارى والمَجوس ، وتَمرغ فيه خنازير السواد وكلابه ، فها هم قد صرعهم العطش ، بِئسَ ما خَلَّفتم محمّداً في ذُريَّته ، لا سقاكم الله يوم الظمأ).

فساد القوم سُكوت ، كأنَّ على رؤوسهم الطير ، ثمَّ لم يُجيبوه بسِوى النِّبال ، فحمل عليهم ، وهو يَرتجز ويقول :

إنِّي أنا الحُرُّ ومأوى الضيف

أضربكم ولا أرى مِن حَيف

وقاتلهم قتالاً شَديد ، حتَّى عقروا فرسه ، وتكاثروا عليه ، فلم يزل يُحاربهم ، وهو راجل ، حتَّى أثخنوه بالجراح وصرعوه ، فنادى :

«السّلام عليك يا أبا عبد الله».

وقد أبَّنه الإمام (عليه السّلام) بقوله : «أنت ـ كما سمَّتك أُمُّك ـ حُرٌّ في الدنيا وسعيدٌ في الآخرة» ؛ فطوبى له وحسن مآب.

١١٦

أصدق المَظاهر الدينيَّة

ليس في التعبير عن الحسين (عليه السّلام) بآية الحَقِّ ، أو رمز السّلام ، أو نحوهما مُبالغة ما ؛ إذ كان ـ والحَقُّ يُقال ـ مِثال الحَقِّ والإسلام ، في كلِّ أحواله وأقواله وأعماله ، فلمْ تَكن المُرآة المواجهة للشمس ، أصدق حكاية عنها ، مِن الإمام (عليه السّلام) عن الإسلام.

ولا بُدع ، فإنَّ الناهض حَقَّاً بحقيقة ، يجب أنْ يُمثِّلها بكلِّ أطواره في كلِّ أدواره ، والحسين بن علي (عليه السّلام) غَدا في نهضته ، أُمثولة الحَقِّ الصرَّاح ، وحاكياً عنه حكاية الزجاجة عن المِصباح ؛ فأظهر الحقيقة في : كُتبه ، وخُطبه ، وأقواله ، وأحواله ، فقدَّم خُطورة الدين على خُطورة السكن والوطن ، وقَدَّم حُرمة حرم الله وحرم رسوله (صلَّى الله عليه وآله) على حُرمة نفسه ، وأجاب دعوة مَن لا يُوثَق بولائهم ودعائهم ، وخَسر في سبيل أُمَّته ، صَفوة أحبَّته ونُخبَة عشريته ، وضايق نفسه حِفظاً لظواهر الدين ، واستفرغ وِسعه وقواه في نصيحة أعداء الدين ، وبذل النفس والنفيس في سبيل مَصلحة الدين.

كلُّ ذلك ، وغير ذلك ؛ ليذُكِّرهم الله ، ويستهديهم بكتاب الله ،

١١٧

حتَّى حانت ساعة القيام بأصدق المُظاهرات الدينيَّة ، وهي ساعة الصلاة الشمس ، في الهاجِرة مِن ظهيرة اليوم العاشر مِن مُحرَّم ، ولم يَكُ الحسين (عليه السّلام) مِمَّن ينسى ، أو يَتناسى الصلاة المَوقوتة ، ولو في أحرج ساعاته ، قدوةً بأبيه عليٍّ (عليه السّلام) رجُل الإيمان ؛ فإنَّه لم يؤخِّر صلاته ، في أحرج ساعات الوغى ليلة الهَرير في صِفِّين ، فصَفّ قدميه لوجه الله مُصلِّياً ، والحرب ثائرة مِن حوله ، ودائرة ، ولمّا لاموه عليها أجاب : «ألسنا نُحارب لإقامة الصلاة؟».

كذلك ابنه الحسين (عليه السّلام) ـ والشبل مِن ذاك الأسد ـ فاهتمَّ بها عندما صاح مُؤذِّنه أبو ثمامة الصائدي ، وصلَّى بأصحابه ، ولكنْ صلاة الخوف ، وسهام الأعداء تَتْرى عليه ، بالرغم مِن استمهالهم.

أيخشى الإمام (عليه السّلام) قتله في الصلاة ، وقد مضى أبوه قَتيلاً في مِحرابه؟! أمْ يَخشى الموت صحبه ، وهم يتسابقون إليه تسابق الجياع إلى القِصاع؟! ويُحبِّذون الموت بوجه الله ، وفي سبيله مع ابن رسول (صلَّى الله عليه وآله)؟!

ولقد كانت صلاة الحسين (عليه السّلام) مِن أصدق مَظاهر إخلاصه لله ، وتمسُّكه بالشريعة ، وبَعيدةً عن كلِّ شُبهة أو شائبة.

وإذا كانت المُظاهرات الحسينيَّة ، تكشف مساوئ أخلاق أعدائه ، ومبلغ حِرمانهم مِن الإنسانيَّة ، فإنَّ مُظاهرة صلاة الخوف بين أولئك المُعارضين ، برهنت على سوء نيَّة العدوِّ ، واستهانته بشريعة الإسلام ، فهي إنْ لم تُبطِل سِحر العدوِّ في أعيُن الناظرين ، فقد أبلغت حُجَّة الحسين (عليه السّلام) إلى مسامع الغائبين ؛ حيث إنَّ العدوّ كان مُتذرِّعاً بحبائل الدين ضِدَّ الدعوة الحسينيَّة ، يوهم البسطاء والحُمقاء

١١٨

أنَّ يزيد ، خليفة النبيّ ، بمُبايعةٍ مِن أكثر المسلمين ، وأنَّ حسيناً خارج على إمام زمانه لغايات دنيويّة ، فيجب إعدامه أو إرغامه. واسم الدين قد يغشُّ العامَّة ، ولو كان بقصد مَحو الدين.

ولَكَمْ تذرّع المُبطلون بأسحلة الحَقِّ ضِدَّ أهل الحَقِّ ؛ فخدعوا بذلك العامّة ، كما انخدع الخوارج ضِدَّ أمير المؤمنين بشُبهة مُخالفته للدّين ، وأيُّ دين؟ أهو ذلك الدين الذي قام واستقام ، بخَدمات علي (عليه السّلام) ، ومَعاركه ومَعارفه؟ وكان شمر الفاشِل الخارجي وأشباهه ، مِن بقايا الخوارج ، قائمين بحَركات أسلافهم ، في تمويه حقائق الدين ، بالظواهر الخداعة ، مُستعملين اسم الإسلام آلةً لإجراء مَنْويَّاتهم في الحسين (عليه السّلام) ، ولكنَّ إقامة الإمام (عليه السّلام) صلاة الخوف ، في أحرج المواقف والمواقيت بين الأسنَّة والحِراب ، بين العدى والردى ، كانت أقوى آلةً فَعَّالة في إبطال سِحرهم ومَكرهم ؛ فإنَّهم لم يُمهِلوا الحسين (عليه السّلام) وصحبه أنْ يتعبَّدوا لله ، في حين أنَّ الدّين يفرض إمهال المُتعبِّدين ، والعبادة شعار الموحِّدين ، فما عُذرهم عند رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في مَوقفه بعد موقفهم هذا؟!

أفلم يروا ريحانته ، يُصلِّي إلى قبلة الإسلام ، مع صَحبه المسلمين؟!

أفلا تُحتَرم الصلاة ، وهي حَرم الله؟!

أولم يسمعوا كلام الله : (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً). وصَحب الحسين (عليه السّلام) ألقوا السلاح ، واظهروا السّلام والإسلام ، واستمهلوا للصلاة ، واستأمنوهم لذِكر الله ، فهل ترى مَظهراً للدين والحَقِّ أصدق مِن هذا؟

١١٩

لكنَّ أعداء الحسين (عليه السّلام) ، (قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) ، فلم تَعُدْ تؤثِّر فيهم مَظاهر إسلاميَّة ، أو عواطف إنسانيَّة سِوى السيف المُخيف ، أو الرغيف ، وقد كانا يومئذٍ في أيدي أعداء الهدى (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ).

١٢٠