مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

الجماع ، إذ يكفي قليل انتشار. وفي قصة عبد الرحمن بن الزبير نزل قوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) والحكمة في التحليل الردع عن المسارعة إلى الطلاق والعودة إلى المطلقة ثلاثا (فَإِنْ طَلَّقَها) أي طلق الزوج الثاني المطلقة ثلاثا (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) أي المرأة والزوج الأول (أَنْ يَتَراجَعا) بنكاح جديد ومهر (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ) أي أحكام الله فيما بين المرأة والزوج (وَتِلْكَ) أي الأحكام (حُدُودَ اللهِ) أي فرائض الله (يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٢٣٠) أنه من الله ويصدقون بذلك (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) أي آخر عدتهن ولم تنقض (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي فراجعوهن بغير ضرار بل بحسن الصحبة والمعاشرة (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي أو خلوهن حتى ينقضي أجلهن بغير تطويل (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً) أي لا تراجعوهن بسوء العشرة وتضييق النفقة (لِتَعْتَدُوا) أي لتظلموهن بالإلجاء إلى الافتداء ولتطيلوا عليهن العدة. نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار ـ يدعى ثابت بن يسار ـ طلق امرأته حتى إذا قرب انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها بقصد مضارتها حتى تبقى في العدة تسعة أشهر أو أكثر (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي الإمساك المؤدي إلى الظلم (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) أي أضر بنفسه بتعريضها إلى عذاب الله (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ) أي أمر الله ونهيه (هُزُواً) بأن تعرضوا عنها (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) حيث هداكم إلى ما فيه سعادتكم الدينية والدنيوية ، أي فاشكروها واحفظوها. (وَما أَنْزَلَ) الله (عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ) أي القرآن (وَالْحِكْمَةِ) أي السنة (يَعِظُكُمْ بِهِ) أي يأمركم وينهاكم بما أنزل عليكم (وَاتَّقُوا اللهَ) في أوامره كلها ولا تخالفوه في نواهيه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٣١) فلا يخفى عليه شيء مما تأتون وتذرون (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ) والخطاب إما للأزواج والمعنى حينئذ : وإذا طلقتم النساء فانقضت عدتهن فلا تمنعوهن من أن ينكحن من يريدون أن يتزوجوهن فإن الأزواج قد يعضلون مطلقاتهم أن يتزوجن ظلما ، وإما للأولياء فنسبة الطلاق إليهم باعتبار تسببهم فيه كما يقع كثيرا أن الولي يطلب من الزوج طلاقها. والمعنى حينئذ وإذا خلصتم النساء من أزواجهن بتطليقهن فانقضت عدتهن فلا تمنعوهن من أن ينكحن الرجال الذين كانوا أزواجا لهن.

روي أن معقل بن يسار زوج أخته جميلة عبد الله بن عاصم فطلقها وتركها حتى انقضت

__________________

غيره فلم يمسها ، وأبو داود في كتاب الطلاق ، باب : في المبتوتة لا يرجع إليها زوجها حتى تنكح زوجا غيره ، والنسائي في كتاب الطلاق ، باب : الطلاق للتي تنكح زوجا ثم لا يدخل بها ، وابن ماجة في كتاب النكاح ، باب : الرجل يطلق امرأته ثلاثا فتزوج فيطلقها قبل أن يدخل بها إلخ ، والموطأ في كتاب النكاح ، باب : نكاح المحلل وما أشبه ، وأحمد في (م ١ / ص ٢١٤).

٨١

عدتها ، ثم ندم ، فجاء يخطبها لنفسه ورضيت المرأة بذلك ، فقال لها معقل : إنه طلقك ثم تريدين مراجعته! وجهي من وجهك حرام إن راجعتيه. فأنزل الله تعالى هذه الآية فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معقلا وتلا عليه هذه الآية فقال معقل : رغم أنفي لأمر ربي اللهم رضيت وسلمت لأمرك ، ثم أنكح أخته زوجها الأول عبد الله بن عاصم (إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ) أي بأن يرضى كل واحد منهما ما لزمه في هذا العقد لصاحبه (بِالْمَعْرُوفِ) أي بالجميل عند الشرع المستحسن عند الناس (ذلِكَ) أي تفصيل الأحكام (يُوعَظُ بِهِ) أي يأمر به (مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) لأنه المتعظ (ذلِكُمْ) أي العمل بالوعظ (أَزْكى لَكُمْ) أي أصلح وأنفع لكم (وَأَطْهَرُ) للقلوب من العداوة والتهمة بسبب المحبة بينهما (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما فيه صلاح أموركم (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٢٣٢) ذلك فدعوا رأيكم. (وَالْوالِداتُ) ولو مطلقات (يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) من الأبوين وليس فيما دون ذلك حد وإنما هو على مقدار إصلاح المولود وما يعيش به (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) أي على الأب (رِزْقُهُنَ) أي نفقتهن (وَكِسْوَتُهُنَ) لأجل الإرضاع إذا كن مطلقات من الأب طلاقا بائنا لعدم بقاء علقة النكاح الموجبة لذلك فلو لم ترضعهم الوالدات لم يجب فإن كن زوجات أو رجعيات فالرزق والكسوة لحق الزوجية ولهن أجرة الرضاع إن امتنعن منه وطلبن ما ذكر (بِالْمَعْرُوفِ) أي بغير إسراف وتقتير (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ) بالنفقة على الرضاع (إِلَّا وُسْعَها) أي إلا بقدر ما أعطاها الله من المال (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) أي بأخذ ولدها منها بعد ما رضيت بما أعطى غيرها على الرضاع مع شدة محبتها له (وَلا مَوْلُودٌ لَهُ) أي لا يضار أب (بِوَلَدِهِ) بطرح الولد عليه بعد ما عرف أمه ، ولا يقبل ثدي غيرها مع أن الأب لا يمتنع عليها من الرزق والكسوة (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) أي على الصبي نفسه الذي هو وارث أبيه المتوفى مثل ما على الأب من النفقة والكسوة ، فإنه إن كان له مال وجب أجر الرضاعة في ماله ، وإن لم يكن له مال أجبرت أمه على الرضاعة ولا يجبر على نفقة الصبي إلا الولدان وهو قول مالك والشافعي. وقيل : المراد من الوارث الباقي من الأبوين أخذا من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا واجعلهما الوارث منا» (١) (فَإِنْ أَرادا) أي الوالدان (فِصالاً) أي فطام الصبي عن اللبن قبل تمام الحولين (عَنْ تَراضٍ) أي باتفاق (مِنْهُما) لا من أحدهما فقط (وَتَشاوُرٍ) أي تدقيق النظر فيما يصلح الولد (فَلا

__________________

(١) رواه الحاكم في المستدرك (١ : ٥٢٣) ، والبخاري في الأدب المفرد (٦٥٠) ، والطبراني في المعجم الكبير (٢ : ١٠٨) ، وابن السني في عمل اليوم والليلة (٥٥٩) ، وعبد الرزاق في المصنف (١٩٦٦٠) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (١٠ : ١٧٨) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٣٦٢١) ، والسيوطي في جمع الجوامع (٩٨٢١) ، وأبي نعيم في حلية الأولياء (٢ : ١٨٢) ، وابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (٩٣).

٨٢

جُناحَ عَلَيْهِما) في ذلك وكما يجوز عن النقص عن الحولين عند اتفاق الأبوين عليه كذلك تجوز الزيادة عليهما فاتفاقهما (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) أي إن أردتم أن تطلبوا مراضع لأولادكم (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) في الاسترضاع (إِذا سَلَّمْتُمْ) إلى المراضع (ما آتَيْتُمْ) أي ما آتيتموهن إياه ، أي ما أردتم إيتاءه لهن من الأجرة.

وقرأ ابن كثير وحده ما أتيتم مقصورة الألف أي «ما أتيتم» به أي ما أردتم إتيانه (بِالْمَعْرُوفِ) أي بالموافقة وليس تسليم الأجرة شرطا لصحة الإجارة بل لتكون المرضعة طيبة النفس راضية فيصير ذلك سببا لصلاح حال الصبي وللاحتياط في مصالحه (وَاتَّقُوا اللهَ) في الضرار والمخالفة (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٢٣٣) فيجازيكم على ذلك (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) أي والذين تقبض أرواحهم من رجالكم ويتركون أزواجا ينتظرن بعدهم بأنفسهن في العدة أربعة أشهر وعشرة أيام. وهذه العدة سببها الوفاة عند الأكثرين لا العلم بالوفاة كما قال به بعضهم ، فلو انقضت المدة أو أكثرها ثم بلغ المرأة خبر وفاة زوجها وجب أن تعتد بما انقضى والدليل على ذلك أن الصغيرة التي لا علم لها يكفي في انقضاء عدتها انقضاء هذه المدة (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) أي انقضت عدتهن (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) يا أولياء الميت في تركهن (فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ) من التزين وغيره من كل ما حرم عليهن في زمن العدة لأجل وجوب الإحداد عليهن (بِالْمَعْرُوفِ) أي بما يحسن عقلا وشرعا. وقيل : المخاطب بهذا الخطاب جميع المسلمين ، وذلك لأنهن إن تزوجن في مدة العدة وجب على كل واحد منعهن عن ذلك إن قدر على المنع ، فإن عجز وجب عليه أن يستعين بالسلطان (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من الخير والشر (خَبِيرٌ) (٢٣٤) فيجازيكم عليه (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) أي ولا حرج عليكم فيما طلبتم النكاح من النساء المعتدات للوفاة وللطلاق الثلاث بطريق التعريض ، وهو ذكر كلام محتمل مؤكد بدلالة الحال على المقصود كأن يقول : إن جمع الله بيننا بالحلال يعجبني ذلك أو فيما أضمرتم في قلوبكم من قصد نكاحهن (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) أي إنما أباح لكم التعريض لعلمه بأنكم لا تصبرون على السكوت عنهن لأن شهوة النفس إذا حصلت في باب النكاح لا يكاد يخلو ذلك المشتهى من العزم والتمني ، وبأنه لا بدّ من كونكم ستذكرونهن بالخطبة فاذكروهن ولكن لا تواعدون بذكر الجماع وهو كما قال ابن عباس بأن لا يصف الخاطب نفسه لها بكثرة الجماع كأن يقول لها : آتيك الأربعة والخمسة إلا أن تساررونهن بالقول غير المنكر شرعا كأن يعدها الخاطب في السر بالإحسان إليها ، والاهتمام بشأنها ، والتكفل بمصالحها حتى يصير ذكر هذه الأشياء الجميلة مؤكدا لذلك التعريض (وَلا تَعْزِمُوا) أي لا تحققوا (عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) أي حتى تبلغ العدة المفروضة آخرها وصارت منقضية (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي

٨٣

أَنْفُسِكُمْ) من العزم على ما نهيتم عنه (فَاحْذَرُوهُ) بالاجتناب عن العزم على ذلك (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ) لمن يقلع عن عزمه خشية منه تعالى (حَلِيمٌ) (٢٣٥) لا يعاجلكم بالعقوبة عن ذنوبكم (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً).

وقرأ حمزة والكسائي «تماسوهن» بضم التاء وبالألف بعد الميم ، أي لا ثقل عليكم بلزوم المهر إن طلقتم النساء ما لم تجامعوهن أو ما لم تبينوا لهن مهرا فلا تعطوهن المهر. (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) (٢٣٦) أي أعطوهن متعة الطلاق جبرا لا يحاش الطلاق على الغني قدر ماله وإمكانه وعلى ضيق الرزق قدر ماله وطاقته تمتيعا بالوجه الذي تستحسنه الشريعة والمروءة واجبا على المؤمنين الذين يحسنون إلى أنفسهم بالمسارعة إلى طاعة الله تعالى ، لأن المتعة بدل المهر. نزلت هذه الآية في شأن رجل من الأنصار تزوج امرأة ولم يسم لها صداقا ثم طلقها قبل أن يمسها فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمتعها». قال : لم يكن عندي شيء ، قال : «متعها بقلنسوتك» (١). (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) أي تجامعوهن (وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) أي وقد بينتم مهورهن (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) أي فنصف ما بينتم ساقط (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) إلا أن تسهل الزوجات بإبراء حقها فيسقط كل المهر (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) أي أو يسهل الزوج ببعث كل الصداق فيثبت الكل إليها. (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) أي عفو بعضكم أيها الرجال والنساء أقرب للألفة وطيب النفس من عدم العفو الذي فيه التنصيف. (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) أي ولا تتركوا أن يتفضل بعضهم على بعض بأن يسلم الزوج المهر إليها بالكلية ، أو تترك المرأة المهر بالكلية (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ) من الفضل والإحسان (بَصِيرٌ) (٢٣٧) لا يضيع فضلكم وإحسانكم بل يجازيكم عليه. (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) الخمس بأدائها في أوقاتها كاملة الأركان والشروط. وهذه المحافظة تكون بين العبد والرب كأنه قيل له : احفظ الصلاة ليحفظك الإله الذي أمرك بالصلاة وتكون بين المصلي والصلاة فكأنه قيل : احفظ الصلاة حتى تحفظك الصلاة. (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) أي الفضلى. قيل : هي صلاة الصبح ، وهو قول علي وعمر ، وابن عباس وجابر ، وأبي أمامة والباهلي ـ وهم من الصحابة ـ وطاوس وعطاء وعكرمة ومجاهد ـ وهم من التابعين ـ وهو مذهب الشافعي. فإن أولها يقع في الظلام فأشبهت صلاة الليل ، وآخرها يقع في الضوء فأشبهت صلاة النهار. ولأنها منفردة في وقت واحد لا تجمع مع غيرها ، ولأنها مشهودة لأنها تؤدي بحضرة ملائكة الليل وملائكة النهار وقيل : هي صلاة العصر وهو مروي عن علي وابن مسعود ، وابن عباس وأبي هريرة فإنها متوسطة بين صلاة شفع وصلاة وتر ، ولأن وقت صلاة العصر أخفى الأوقات فلا يظهر دخول وقتها إلا بنظر دقيق وتأمل عظيم في حال الظل ، فلما كانت معرفته أشق كانت الفضيلة فيها أكثر.

__________________

(١) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (٢٧٩٢٣) ، وفيه «ولو بصاع»

٨٤

وقال بعض الفقهاء : العصر وسط ولكن ليس هي المذكورة في القرآن ، فههنا صلاتان وسطيان الصبح والعصر ، أحدهما ثبتت بالقرآن والأخرى بالسنة ، كما أن الحرم حرمان حرم مكة بالقرآن ، وحرم المدينة بالسنة. واختار جمع من العلماء أنها إحدى الصلوات الخمس لا بعينها فأبهمها الله تعالى تحريضا للعباد في المحافظة على أداء جميعها ، كما أخفى ليلة القدر في شهر رمضان وأخفى ساعة إجابة الدعوة في يوم الجمعة ، وأخفى اسمه الأعظم في جميع الأسماء ليحافظوا على جميعها ، وأخفى وقت الموت في الأوقات ليكون المكلف خائفا من الموت في كل الأوقات فيكون آتيا بالتوبة في كل الأوقات. (وَقُومُوا لِلَّهِ) في الصلاة (قانِتِينَ) (٢٣٨) أي ذاكرين داعين مواظبين على خدمة الله تعالى (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) أي فإن خفتم من عدو وغيره فصلوا مشاة على أرجلكم بالإيماء في الركوع والسجود ، أو راكبين على الدواب حيثما توجهتم. والخوف الذي يفيد هذه الرخصة ، إما أن يكون في القتال أو في غير القتال. فالخوف في القتال : إما أن يكون في قتال واجب أو مباح فالقتال الواجب هو كالقتال مع الكفار وهو الأصل في صلاة الخوف ويلتحق به قتال أهل البغي. وكما إذا قصد الكافر نفسه فإنه يجب الدفع عنه لئلا يكون إخلالا بحق الإسلام. وقد جوّز الشافعي أداء الصلاة حال المسايفة. والقتال المباح : هو أن يدفع الإنسان عن نفسه وعن كل حيوان محترم فيجوز في ذلك هذه الصلاة ، أما إذا قصده إنسان بأخذ المال فالأصح أنه تجوز هذه الصلاة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قتل دون ماله فهو شهيد» (١) فالدفع عن المال كالدفع عن النفس.

وقيل : لا تجوز لأن حرمة الروح أعظم ، والخوف الحاصل في غير القتال كالهارب من الحرق والغرق والسبع ، والمطالب بالدين إذا كان معسرا خائفا من الحبس عاجزا عن بينة الإعسار فلهم أن يصلوا هذه الصلاة. (فَإِذا أَمِنْتُمْ) بزوال الخوف الذي هو سبب الرخصة (فَاذْكُرُوا اللهَ) أي فافعلوا الصلاة (كَما عَلَّمَكُمْ) بقوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) لأن سبب الرخصة إذا زال عاد الوجوب فيه. والصلاة تسمى ذكرا كما في قوله تعالى : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) [الجمعة : ٩] (ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (٢٣٩) قبل بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فـ «ما» مفعول لعلمكم إن جعلت «ما» الأولى مصدرية ، أما إن جعلت موصولة فما هذه بدل من الأولى أو من العائد المحذوف (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب الديات ، باب : ٢١ ، ومسلم في كتاب الإيمان ، باب : ٢٢٦ ، والبخاري في كتاب المظالم ، باب : من قاتل دون ماله ، وأبو داود في كتاب السنّة ، باب : في قتال اللصوص ، والنسائي في كتاب التحريم ، باب : من قتل دون ماله ، وابن ماجة في كتاب الحدود ، باب : من قتل دون ماله فهو شهيد ، وأحمد في (م ١ / ص ٧٩).

٨٥

لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) أي والذين يقربون من الوفاة من رجالكم ويتركون أزواجا ، عليهم أن يوصوا وصية لزوجاتهم في أموالهم بثلاثة أشياء : النفقة ، والكسوة ، والسكنى ، إلى تمام الحول من موتهم غير مخرجات من مسكنهن.

وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم «وصية» بالرفع أي عليهم وصية. أو المعنى والذين يقبضون من رجالكم ويتركون أزواجا بعد الموت وصية من الله لأزواجهم فـ «وصية» مبتدأ و «لأزواجهم» خبر أي أمره وتكليفه لهن (فَإِنْ خَرَجْنَ) عن منزل الأزواج باختيارهن قبل الحول (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) يا أولياء الميت (فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) أي غير منكر في الشرع. أي فلا جناح على ورثة الميت في قطع النفقة والكسوة عنهن إذا خرجن من بيت زوجهن بما فعلن في أنفسهن من معروف من التزين ومن الإقدام على النكاح. أو المعنى لا جناح عليكم في ترك منعهن من الخروج ، لأن مقامها حولا في بيت زوجها ليس بواجب عليها في الذي فعلن في أنفسهن من معروف من تزين وتشوف للتزويج (وَاللهُ عَزِيزٌ) أي غالب على أمره يعاقب من خالفه (حَكِيمٌ) (٢٤٠) يراعي في أحكامه مصالح عباده واختيار جمهور من المفسرين أن هذه الآية منسوخة ، قالوا : كان الحكم في ابتداء الإسلام أنه إذا مات الرجل لم يكن لامرأته من ميراثه شيء إلا النفقة والسكنى سنة ، ولكنها كانت مخيرة بين أن تعتد في بيت الزوج وأن تخرج منه قبل الحول ، لكن متى خرجت نفقتها فهذه الوصية صارت مفسرة بالنفقة والكسوة والسكنى إلى الحول ، فثبت أن هذه الآية توجب أمرين : النفقة والسكنى من مال الزوج سنة والاعتداد سنة ، لأن وجوب السكنى والنفقة من مال الميت سنّة توجب المنع من التزويج بزوج آخر في هذه السنة ، ثم إن الله تعالى نسخ هذين الحكمين وقد دل القرآن على ثبوت الميراث لها بتعيين الرابع أو الثمن ، ودلت السنّة على أنه «لا وصية لوارث» فصار مجموع القرآن والسنّة ناسخا للوصية للزوجة بالنفقة والسكنى في الحول ، ووجوب العدة في الحول منسوخ بقوله تعالى : (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة : ٢٣٤]. (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ) أي متعة (بِالْمَعْرُوفِ) أي بقدر حال الزوجين وما يليق بهما (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (٢٤١) قال الشافعي رحمه‌الله : لكل مطلقة متعة ، إلا المطلقة التي فرض لها مهر ولم يوجد في حقها المسيس. روي أنه لما نزل قوله تعالى : (وَمَتِّعُوهُنَ) إلى قوله تعالى : (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) قال رجل من المسلمين : إن أردت فعلت ، وإن لم أرد لم أفعل. فقال تعالى : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) أي على كل من كان متقيا عن الكفر (كَذلِكَ) أي مثل ذلك البيان الواضح (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) هذا وعد من الله تعالى بأنه سيبين لعباده من الأحكام ما يحتاجون إليه معاشا ومعادا (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٢٤٢) أي لكي تفهموا ما فيها وتعلموا بموجبها ثم ذكر خبر غزاة بني إسرائيل فقال : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ

٨٦

مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ) أي لم يصل علمك إلى الذين خرجوا من منازلهم لقتال عدوهم وهم ثمانية آلاف أو أربعون ألفا ـ كل ذلك عن ابن عباس على اختلاف الرواة ـ فجبنوا عن القتال مخافة القتل فأماتهم الله مكانهم ثم أحياهم بعد ثمانية أيام.

قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : إن ملكا من ملوك بني إسرائيل أمر عسكره بالقتال فخافوا القتال وقالوا لملكهم : إن الأرض التي تذهب إليها فيها الوباء فنحن لا نذهب إليها حتى يزول ذلك الوباء ، فأماتهم الله تعالى بأسرهم وبقوا ثمانية أيام حتى انتفخوا وبلغ بني إسرائيل موتهم فخرجوا لدفنهم ، فعجزوا من كثرتهم فحظروا عليهم حظائر ، فأحياهم الله بعد الثمانية ، وبقي فيهم شيء من ذلك النتن وبقي ذلك في أولادهم إلى هذا اليوم (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) أي على أولئك القوم بسبب أنه أحياهم ومكّنهم من التوبة وعلى العرب الذين أنكروا المعاد الذين تمسكوا بقول اليهود في كثير من الأمور فيرجعون من الإنكار إلى الإقرار بالبعث بسبب إخبار اليهود لهم بهذه الواقعة. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) (٢٤٣) فضله تعالى كما ينبغي أما الكفار فلم يشكروا وأما المؤمنون فلم يبلغوا غاية شكره. وهذه القصة تدل على أن الحذر من الموت لا يفيد ، فهذه القصة تشجع الإنسان على الإقدام على طاعة الله تعالى كيف كان وتزيل عن قلبه الخوف من الموت ، فكان ذكر هذه القصة فضلا وإحسانا من الله تعالى على عبيده لأن ذكر هذه القصة سبب لبعد العبد عن المعصية وقربه من الطاعة. ثم قال الله لهم بعد ما أحياهم : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في طاعة الله مع عدوكم وسميت العبادات سبيلا إلى الله تعالى من حيث إن الإنسان يسلكها ويتوصل إلى الله بها ، ومعلوم أن الجهاد تقوية للدين فكان طاعة فلا شك أن المجاهد مقاتل في سبيل الله. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لكلامكم في ترغيب الغير في الجهاد وفي تنفير الغير عنه (عَلِيمٌ) (٢٤٤) بما في صدوركم من البواعث والأغراض وأن ذلك الجهاد لغرض الدين أو لغرض الدنيا (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً).

قرأ أبو عمرو ونافع وحمزة والكسائي «فيضاعفه» بالألف والرفع. وقرأ عاصم «فيضاعفه» بالألف والنصب. وقرأ ابن كثير «فيضعفه» بالتشديد والرفع بلا ألف. وقرأ ابن عامر «فيضعفه» بالتشديد والنصب. والمعنى من ذا الذي يعامل الله بإنفاق ماله في طاعته سواء كان الإنفاق واجبا أو متطوعا به معاملة جامعة للحلال الذي لا يختلط بالحرام للخالص من المن والأذى ، ولنية التقرب إلى الله تعالى لا لرياء وسمعة فيضاعف الله جزاءه له في الدنيا والآخرة أضعافا كثيرة لا يعلمها إلا الله تعالى. وقد روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من لم يكن عنده ما يتصدق به فليلعن اليهود فإنه له صدقة». ويروى أنه لما نزلت هذه الآية قالت اليهود : إن الله فقير ونحن أغنياء فهو يطلب منا القرض (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) أي يقبض الرزق عمن يشاء ولو أمسكه عن الإنفاق ويبسطه على من يشاء ولو أنفق منه كثيرا ، أو المعنى والله يفيض بعض القلوب حتى لا تقدم على هذه الطاعة

٨٧

ويبسط بعضها حتى يقدم على هذه الطاعة (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٤٥) فلا مدبر ولا حاكم سواه.

قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في شأن أبي الدحداح ـ رجل من الأنصار ـ قال : يا رسول الله إن لي حديقتين ، فإن تصدقت بإحداهما فهل لي مثلاها في الجنة؟ قال : «نعم» وأم الدحداح معي؟ قال : «نعم». قال والصبية معي؟ قال : «نعم». فتصدق بأفضل حديقتيه وكانت تسمى الجنينية فرجع أبو الدحداح إلى أهله وكانوا في الحديقة التي تصدق بها ، فقام على باب الحديقة وذكر ذلك لامرأته أم الدحداح : بارك الله لك في ما اشتريت. فخرجوا منها وسلموها فكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «كم من نخلة رداح تدلي عروقها في الجنة لأبي الدحداح» (١). (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً) أي ألم تخبر يا أشرف الخلق عن قصة الرؤساء من بني إسرائيل من بعد وفاة موسى حين قالوا لنبيهم شمويل كما قاله وهب بن منبه أو سمعون ، أو يوشع بن نون كما قاله قتادة ، أو حزقيل كما حكاه الكرماني أو أسماويل بن حلفا ـ واسم أمه حسنة ـ كما قاله مجاهد. وسبب سؤال بني إسرائيل نبيهم ذلك أنه لما مات موسى وعظمت الخطايا ، سلط الله عليهم قوم جالوت ، وكانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين وغلبوا على كثير من أرضهم ، وسبوا كثيرا من ذراريهم وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين غلاما وضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم ولم يكن لهم حينئذ نبي يدبر أمرهم ، وكان سبط النبوة قد هلكوا فلم يبق منهم إلا امرأة حبلى فحبسوها في بيت ، فولدت غلاما فلما كبر كفله شيخ من علمائهم في بيت المقدس ، فلما بلغ الغلام أتاه جبريل فقال له : اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك فإن الله قد بعثك فيهم نبيا ، فلما أتاهم كذبوه وقالوا : استعجلت بالنبوة فإن كنت صادقا فبيّن لنا ملك الجيش (نُقاتِلْ) بأمره عدونا (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في طاعة الله وإنما كان صلاح أمر بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك وبطاعة الملوك أنبياءهم فكان الملك هو الذي يسير بالجموع ، والنبي هو الذي يقيم أمره ويشير عليه برشده. (قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا) أي قال نبيهم : هل قاربتم أن لا تقاتلوا عدوكم إن فرض عليكم القتال مع ذلك الملك (قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا) أي أيّ شيء ثبت لنا في ترك القتال الذي في طاعة الله ، والحال أنه قد أبعد بعضنا من المنازل والأولاد والقائلون لنبيهم بما ذكر كانوا في ديارهم فسأل الله تعالى ذلك النبي فأوجب عليهم القتال وعين لهم ملكا ليقاتل بهم (فَلَمَّا كُتِبَ) أي أوجب (عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن قتال عدوهم لما شاهدوا كثرة العدو وشوكته (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) ثلاثمائة وثلاثة

__________________

(١) رواه أحمد في (م ٥ / ص ٩٥) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (٩ : ٣٢٤) ، والطبراني في المعجم الكبير (٢ : ٢٤٢).

٨٨

عشر على عدد أهل بدر (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (٢٤٦) أي هو عالم بمن ظلم نفسه حين خالف ربه ولم يف بما قبل من ربه (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ) أي لأجل سؤالكم (طالُوتَ مَلِكاً) أي لما سأل الله تعالى أن يبين لهم ملكا أرسل الله له عصا وقرنا فيه دهن القدس وقيل له : إن صاحبك الذي يكون ملكا هو من يكون طوله طول هذه العصا ، وانظر إلى القرن الذي فيه الدهن فإذا دخل عليك رجل فانتشر الدهن في القرن فهو ملك بني إسرائيل فادهن رأسه بالدهن وملّكه عليهم واسمه طالوت. فدخل عليه رجل فانتشر الدهن في القرن فقام شمويل فقاسه بالعصا فكان على طولها وقال له : قرّب رأسك ، فقربه فدهنه النبي بدهن القدس وقال له : «أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله أن أملكك عليهم». فقال طالوت : أما علمت أن سبطي أدنى من سبط ملوك بني إسرائيل؟ قال : بلى. فقال شمويل الله يؤتي ملكه من يشاء كما قال الله تعالى : (قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) أي قالوا : من أين يكون له الملك علينا والحال نحن أولى بالملك منه ، وليس له سعة المال لينفق على الجيش؟. وإنما قالوا ذلك لأنه كان في بني إسرائيل سبطان : سبط نبوة وسبط مملكة. فكان سبط النبوة سبط لاوى بن يعقوب ومنه موسى وهارون عليهما‌السلام. وسبط المملكة سبط يهوذا بن يعقوب ومنه داود وسليمان عليهما‌السلام. ولم يكن طالوت من أحدهما وإنما كان من سبط بنيامين بن يعقوب ، فلما قال لهم نبيهم ذلك أنكروا وقالوا : هو دبّاغ ، أو راع ، أو سقّاء يستقي الماء على حمار له وإنما نزع الملك والنبوة منهم لأنهم عملوا ذنبا عظيما كانوا ينكحون النساء على ظهر الطريق جهارا فغضب الله عليهم بنزع ذلك منهم وكانوا يسمون سبط الإثم. (قالَ) أي نبيهم (إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ) أي اختاره بالملك (عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً) أي سعة (فِي الْعِلْمِ) أي علم الحرب وعلم الديانات حتى قيل : إنه نبي أوحي إليه (وَالْجِسْمِ) بالقوة على مبارزة العدو ، وبالجمال وبطول القامة فإنه أطول من غيره برأسه ومنكبيه فكان أعلم بني إسرائيل يومئذ وأجملهم وأتمهم خلقا (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) في الدنيا (وَاللهُ واسِعٌ) بالعطية (عَلِيمٌ) (٢٤٧) بمن يليق بالملك (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) لما قالوا : ليس ملكه من الله بل أنت ملّكته علينا : (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ) أي إن علامة صحة ملكه من الله (أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) أي الصندوق الذي أخذ منكم وهو صندوق التوراة وكانوا يعرفونه ، وكان قد رفعه الله تعالى بعد وفاة موسى عليه‌السلام لسخطه على بني إسرائيل لما عصوا وفسدوا ، فلما طلب القوم من نبيهم آية تدل على ملك طالوت قال نبي ذلك القوم : إن آية ملك طالوت أن يأتيكم التابوت من السماء إلى الأرض والملائكة يحفظونه فأتاهم والقوم ينظرون إليه حتى نزل عند طالوت. (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي كان في التابوت بشارات من كتب الله تعالى المنزلة على موسى وهارون ومن بعدهما من الأنبياء عليهم‌السلام بأن الله ينصر طالوت وجنوده ويزيل عنهم الخوف من العدو

٨٩

(وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) وهي رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه ونعلاه وشيء من التوراة ورداء هارون وعمامته (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) أي تسوقه الملائكة إليكم (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في رد التابوت إليكم (لَآيَةً لَكُمْ) أي علامة لكم دالة على أن ملكه من الله (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٢٤٨) أي مصدقين بتمليكه عليكم. أو المعنى أن في هذه الآية من نقل القصة معجزة باهرة دالة على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث أخبر بهذه التفاصيل من غير سماع من البشر إن كنتم ممن يؤمن بدلالة المعجزة على صدق مدعي النبوة والرسالة. فلما رد عليهم التابوت قبلوا وخرجوا معه وهم ثمانون ألفا من الشبان الفارغين من جميع الأشغال (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ) أي خرج من بيت المقدس (بِالْجُنُودِ) أي بالجيش التي اختارها وكان الوقت قيظا وسلك بهم في أرض قفرة فأصابهم حر وعطش شديد فطلبوا منه الماء (قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) أي مختبركم بنهر جار ليظهر منكم المطيع والعاصي ـ وهو بين الأردن وفلسطين ـ أي والمقصود من هذا الابتلاء أن يميز الصدّيق عن الزنديق والموافق عن المخالف (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ) أي من ماء النهر (فَلَيْسَ مِنِّي) أي من أتباعي المؤمنين فلا يكون مأذونا في هذا القتال (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ) أي من لم يذقه (فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) فإنه مني ويكون أهلا لهذا القتال.

قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «غرفة» بفتح الغين ، وكذلك يعقوب وخلف. وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بالضم. فالغرفة بالضم : الشيء القليل الذي يحصل في الكف. والغرفة بالفتح : الفعل وهو الاغتراف مرة واحدة. فكانت تكفيهم هذه الغرفة لشربهم ودوابهم وحملهم. (فَشَرِبُوا مِنْهُ) أي فلما وصلوا إلى النهر وقفوا فيه وشربوا منه بالكرع بالفهم كيف شاءوا (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا فلم يشربوا إلا قليلا وهو الغرفة.

روي أن من اغترف غرفة كما أمر الله قوي قلبه ، وصحّ إيمانه ، وعبر النهر سالما ، وكفته تلك الغرفة الواحدة لشربه ودوابه وخدمه وحمله مع نفسه ، إما لأنه كان مأذونا أي في أخذ ذلك المقدار ، وإما لأن الله تعالى يجعل البركة في ذلك الماء حتى يكفي لكل هؤلاء وذلك معجزة لنبي الزمان. وأما الذين شربوا منه وخالفوا أمر الله تعالى فقد اسودت شفاههم وغلبهم العطش فلم يرووا وبقوا على شط النهر وجبنوا عن لقاء العدو. (فَلَمَّا جاوَزَهُ) أي النهر (هُوَ) أي طالوت (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) وهم أولئك القليل (قالُوا) أي بعض من معه من المؤمنين لبعض (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) أي بمحاربتهم وكانوا مائة ألف رجل شاكي السلاح (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ) أي ملاقو ثواب الله بسبب هذه الطاعة : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) أي كم من جماعة قليلة من المؤمنين غلبت جماعة كثيرة من الكافرين بنصر الله (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٢٤٩) أي معين الصابرين في الحرب بالنصرة يحتمل أن

٩٠

يقال : المؤمنين الذين عبروا النهر كانوا فريقين بعضهم ممن يحب الحياة ويكره الموت فيخاف ويجزع ، ومنهم من كان شجاعا قوي القلب لا يبالي بالموت في طاعة الله تعالى. فالأول : هم الذين (قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ). والثاني : هم الذين أجابوا بقولهم : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً) ويحتمل أن يقال القسم الأول من المؤمنين لما شاهدوا قلة عسكرهم (قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) فلا بد أن نوطن على القتل لأنه لا سبيل إلى القرار من أمر الله. والقسم الثاني قالوا : لا نوطن أنفسنا بل نرجو من الله الفتح والظفر ، فكان غرض الأولين الترغيب في الشهادة والفوز بالجنة ، وغرض الفريق الثاني الترغيب في طلب الفتح والنصرة (وَلَمَّا بَرَزُوا) أي ظهر طالوت ومن معه من المؤمنين وصافوا (لِجالُوتَ) اسم ملك من ملوك الكنعانيين بالشام (وَجُنُودِهِ قالُوا) جميعا متضرعين إلى الله تعالى مستعينين به تعالى (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) على مشاهدة المخاوف والأمور الهائلة (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) في مداحض القتال بكمال القوة عند المقارعة وعدم التزلزل وقت المقاومة (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٢٥٠) بقهرهم وهزمهم (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ) أي كسروهم بنصرة الله إجابة لدعائهم (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ).

قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : إن داود عليه‌السلام كان راعيا وله سبعة أخوة مع طالوت ، فلما أبطأ خبر إخوته على أبيهم أيشا أرسل ابنه داود إليهم ليأتيه بخبرهم ، فأتاهم وهم في المصاف ، وبادر جالوت الجبار وهو من قوم عاد إلى البراز فلم يخرج إليه أحد. فقال : يا بني إسرائيل لو كنتم على حق لبارزني بعضكم ، فقال داود لأخوته : أما فيكم من يخرج إلى هذا الأقلف؟ فسكتوا. فذهب إلى ناحية من الصف ليس فيها أخوته ، فمرّ به طالوت وهو يحرض الناس ، فقال له داود : ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف؟ فقال طالوت : أنكحه ابنتي وأعطيه نصف ملكي. فقال داود : فأنا خارج إليه. وكان عادته أن يقاتل بالمقلاع الذئب والأسد في المرعى. وكان طالوت عارفا بجلادته. فلما همّ داود بأن يخرج إلى جالوت مرّ بثلاثة أحجار فقلن : يا داود خذنا معك ففينا ميتة جالوت. فلما خرج إلى جالوت الكافر رماه فأصابه في صدره ، ونفذ الحجر فيه وقتل بعده ثلاثين رجلا ، فهزم الله تعالى جنود جالوت ، وخرّ جالوت قتيلا ، فأخذه داود يجره حتى ألقاه بين يدي طالوت ، ففرح بنو إسرائيل وانصرفوا إلى البلاد سالمين غانمين. فجاء داود إلى طالوت وقال : أنجزني ما وعدتني ، فزوجه ابنته وأعطاه نصف الملك كما وعده. فمكث معه كذلك أربعين سنة ، فمات طالوت وأتى بنو إسرائيل بداود وأعطوه خزائن طالوت واستقل داود بالملك سبع سنين ، ثم انتقل إلى رحمة الله تعالى كما قال تعالى : (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) أي الكامل سبع سنين بعد موت طالوت ، أي ملك بني إسرائيل في مشارق الأرض المقدسة ومغاربها (وَالْحِكْمَةَ) أي النبوة بعد موت شمويل. وكان موته قبل

٩١

موت طالوت ، ولم يجتمع في بني إسرائيل الملك والنبوة لأحد قبله الإله ، بل كان الملك في سبط ، والنبوة في سبط آخر. ومع ذلك جمع الله تعالى له ولابنه سليمان بين الملك والنبوة (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) كصنعه الدروع من الحديد ـ وكان يلين في يده وينسجه ـ وفهم كلام الطير والنمل وكيفية القضاء وما يتعلق بمصالح الدنيا ومعرفة الألحان الطيبة. ولم يعط الله تعالى أحدا من خلقه مثل صوته ، كان إذا قرأ الزبور تدنو الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها وتظله الطير ويركد الماء الجاري ويسكن الريح. (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) بأهلها.

قال ابن عباس : ولو لا دفع الله بجنود المسلمين لغلب المشركون على الأرض فقتلوا المؤمنين وخربوا المساجد والبلاد. وقيل المعنى : ولو لا دفع الله بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار لفسدت الأرض بما فيها ، ولكن الله يدفع بالمؤمن عن الكافر وبالصالح عن الفاجر.

روى أحمد بن حنبل عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه والبلاء». ثم قرأ : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) (وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (٢٥١) كافة بسبب ذلك الدفع. (تِلْكَ) أي القصص بأخبار الأمم الماضية (آياتُ اللهِ) المنزّلة من عنده تعالى (نَتْلُوها عَلَيْكَ) أي بواسطة جبريل (بِالْحَقِ) أي ملتبسة باليقين الذي لا يشك فيه أحد من أهل الكتاب لما يجدونها موافقة لما في كتبهم (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٢٥٢) إلى الجن والإنس كافة بشهادة إخبارك عن الأمم الماضية من غير مطالعة كتاب ولا اجتماع على أحد يخبرك بذلك. (تِلْكَ الرُّسُلُ) أي جماعة الرسل (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) في مراتب الكمال بأن خصصناه بمنقبة ليست لغيره (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) بلا واسطة ـ وهو موسى ـ حيث كلمه ليلة الحيرة وهي تحيره في معرفة طريقه من مسيره من مدين إلى مصر ، وفي الطور. ومحمد حيث كلمه ليلة المعراج (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) أي فضائل وهو إبراهيم لأنه تعالى اتخذه خليلا ولم يؤت أحدا مثله هذه الفضيلة. وإدريس فإنه تعالى رفعه مكانا عاليا ، وداود فإنه تعالى جمع له الملك والنبوة ولم يحصل هذا لغيره ، وسليمان فإنه تعالى سخّر له الإنس والجن والطير والريح ولم يكن هذا حاصلا لأبيه داود عليه‌السلام.

ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه تعالى خصّه بأنه مبعوث إلى الجن والإنس وبأن شرعه ناسخ لكل الشرائع (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) أي العجائب من إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص والإخبار بالمغيبات (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ) أي أعنّاه بجبريل في أول أمره وفي وسطه وفي آخره ـ وهو نفخ جبريل في عيسى وتعليمه العلوم وحفظه من الأعداء ، وإعانته ، ورفعه إلى السماء حين أرادت اليهود قتله ـ (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) أي الذين جاءوا

٩٢

من بعد الرسل من الأمم المختلفة بأن جعلهم متفقين على اتباع الرسل المتفقة على كلمة الحق (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا) في الدين. (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ) بما جاءت به أولئك الرسل من كل كتاب وعملوا به. (وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) بذلك فإن اختلافهم في الدين يدعوهم إلى المقاتلة. (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) وهذا التكرير ليس للتأكيد بل للتنبيه ، على أن اختلافهم ذلك ليس موجبا لعدم مشيئته تعالى لعدم اقتتالهم ، بل الله تعالى مختار في ذلك حتى لو شاء بعد ذلك عدم اقتتالهم ما اقتتلوا (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) (٢٥٣) فيوفق من يشاء ويخذل من يشاء لا اعتراض عليه في فعله. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) أي تصدقوا بشيء مما أعطيناكم من الأموال في طاعة الله (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ) أي فداء (فِيهِ وَلا خُلَّةٌ) أي مودة (وَلا شَفاعَةٌ) للكافرين.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالفتح في «بيع» «خلة» و «شفاعة». والباقون جميعا بالرفع (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢٥٤) حيث تركوا تقديم الخيرات ليوم حاجتهم وأنتم أيها الحاضرون لا تقتدوا بهم ولكن قدموا لأنفسكم ما تجعلونه يوم القيامة فدية لأنفسكم من عذاب الله تعالى.

وقيل : المعنى : والتاركون للزكاة هم الذين ظلموا أنفسهم بتعريضها للعقاب. (اللهُ لا إِلهَ) أي لا معبود بحق موجود (إِلَّا هُوَ الْحَيُ) أي الباقي الذي لا سبيل عليه للموت والفناء (الْقَيُّومُ) أي دائم القيام بتدبير الخلق وحفظه في الإيجاد والأرزاق (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ) أي نعاس (وَلا نَوْمٌ) ثقيل فيشغله عن تدبيره وأمره أي لا يأخذه نعاس فضلا عن أن يأخذه نوم. (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) وهذا رد على المشركين العابدين لبعض الكواكب التي في السماء وللأصنام التي في الأرض ، أي فلا تصلح أن تكون معبودة لأنها مملوكة لله مخلوقة له. (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي لا يشفع عنده أحد من أهل السموات والأرض يوم القيامة إلا بأمره. وهذا رد على المشركين حيث زعموا أن الأصنام تشفع لهم فإنه تعالى لا يأذن في الشفاعة لغير المطيعين. (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي يعلم ما قبلهم وما بعدهم أو ما فعلوه من خير وشر وما يفعلونه بعد ذلك. (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) أي بقليل من معلوماته (إِلَّا بِما شاءَ) أن يعلموه أي أن أحدا لا يحيط بمعلومات الله تعالى إلا ما شاء هو أن يعلمهم. أو المعنى أنهم لا يعلمون الغيب إلا عند إطلاع الله بعض أنبيائه على بعض الغيب. (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) فالكرسي جسم عظيم تحت العرش وفوق السماء السابعة. وهو أوسع من السموات والأرض.

(وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) أي لا يثقل عليه تعالى حفظ السموات والأرض بغير الملائكة. (وَهُوَ الْعَلِيُ) أي المتعالي بذاته عن الأشباه والأنظار. (الْعَظِيمُ) (٢٥٥) أي الذي يستحقر كل ما سواه بالنسبة إليه. فهو تعالى أعلى وأعظم من كل شيء.

روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما قرئت هذه الآية في دار إلا هجرتها الشياطين ثلاثين

٩٣

يوما ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة». وعن علي أنه قال : سمعت نبيكم على أعواد المنبر وهو يقول : «من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت» أي فإذا مات دخل الجنة. ولا يواظب عليها إلا صدّيق أو عابد. ومن قرأها إذا أخذ مضجعه أمنه الله على نفسه وجاره ، وجار جاره ، والأبيات التي حوله (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) أي لا إكراه على الدخول في دين الله (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) أي قد تميز الحق من الباطل والإيمان من الكفر والهدى من الضلالة بكثرة الدلائل. وروي أنه كان لأبي الحصين الأنصاري من بني سالم بن عوف ابنان قد تنصّرا قبل مبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال : والله لا أدعكما حتى تسلما. فأبيا ، فاختصموا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت هذه الآية ، فخلى سبيلهما ، ثم نزل في شأن منذر بن ساوى التميمي قوله تعالى : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) أي بالشيطان وبكل ما عبد من دون الله (وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها) أي فقد تمسك بالعقدة المحكمة لا انقطاع لها ، أي فقد أخذ بالثقة لا انقطاع لصاحبها عن نعيم الجنة ، ولا زوال عن الجنة ولا هلاك بالبقاء في النار (وَاللهُ سَمِيعٌ) لقول من يتكلم بالشهادتين وقول من يتكلم بالكفر. (عَلِيمٌ) (٢٥٦) بما في قلب المؤمن من الاعتقاد الطاهر وما في قلب الكافر من الاعتقاد الخبيث ، أو يقال : والله سميع عليم لدعائك يا محمد بحرصك على إسلام أهل الكتاب ، وذلك لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحب إسلام أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا حول المدينة. وكان يسأل الله تعالى ذلك سرا وعلانية. (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي الله ناصر الذين آمنوا ، كعبد الله بن سلام وأصحابه (يُخْرِجُهُمْ) بلطفه وتوفيقه (مِنَ الظُّلُماتِ) أي الكفر (إِلَى النُّورِ) أي الإيمان (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) ككعب بن الأشرف وأصحابه (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) أي الشياطين وسائر المضلين عن طريق الحق (يُخْرِجُونَهُمْ) بالوساوس وغيرها من طرق الإضلال (مِنَ النُّورِ) الفطري أي الذي جبل عليه الناس كافة أو من نور البينات التي يشاهدونها من جهة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِلَى الظُّلُماتِ) أي ظلمات الكفر والانهماك في الضلال. (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٥٧) أي ماكثون أبدا (أَلَمْ تَرَ) أي ألم تنظر (إِلَى) هذا الطاغوت كيف تصدى لإضلال الناس وإخراجهم من النور إلى الظلمات. (الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) أي إلى قصة الذي خاصم إبراهيم في دين رب إبراهيم وهو نمروذ بن كنعان (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) أي فطغى وادعى الربوبية فحاج لأن أعطاه الله الملك. (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي يخلق الحياة والموت في الأجساد.

وقرأ حمزة «ربي» بسكون الياء. وهذه المحاجة مع إبراهيم بعد إلقائه في النار وخروجه منها سالما ، وذلك أن الناس قحطوا على عهد نمروذ ، وكان الناس يمتارون من عنده ، فكان إذا أتاه الرجل في طلب الطعام سأله من ربك؟ فإن قال : أنت باع منه الطعام فأتاه إبراهيم فقال له : من

٩٤

ربك؟ فقال له ذلك. (قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ) له ائتني ببيان ذلك فدعا نمروذ برجلين من السجن ، فقتل واحدا وترك واحدا قال : هذا بيان ذلك. قال إبراهيم : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ) في كل يوم (فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) ولو يوما واحدا إن كنت صادقا فيما تدّعيه من الربوبية (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) أي سكت بغير حجة أي فيبقى مغلوبا لا يجد للحجة مقالا ولا للمسألة جوابا (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٢٥٨) بالكفر إلى طريق الحجة (أَوْ كَالَّذِي) أي أرأيت مثل الذي (مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) هي بيت المقدس. كما أخرجه ابن جرير عن وهب عن قتادة ، والضحاك وعكرمة والربيع. أو القرية التي أهلك الله فيها الذين خرجوا من ديارهم ـ وهم ألوف حذر الموت ـ كما نقل عن ابن زيد أي قد رأيت الذي مر على قرية كيف هداه الله وأخرجه من ظلمة الاشتباه إلى نور العيان ، والمار هو عزير بن سروحا. كما روي عن علي بن أبي طالب ، وعن عبد الله بن سلام وعن ابن عباس. (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) أي ساقطة على سقوفها بأن سقطت السقوف أولا ثم الأبنية. (قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) أي كيف يحيي الله أهل هذه القرية بعد موتهم تعجبا من قدرة الله تعالى على إحيائها (فَأَماتَهُ اللهُ) مكانه فكان ميتا (مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) أي أحياه في آخر النهار. (قالَ) تعالى له : (كَمْ لَبِثْتَ) أي مكثت هنا يا عزير بعد الموت؟ ـ والقائل هو الله تعالى ، أو ملك مأمور بذلك القول من قبله تعالى ـ (قالَ لَبِثْتُ يَوْماً) ثم نظر إلى الشمس وقد بقي منها شيء فقال : (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ) أي الله له أو الملك (بَلْ لَبِثْتَ) ميتا (مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ) أي التعين والعنب (وَشَرابِكَ) أي العصير (لَمْ يَتَسَنَّهْ) أي لم يتغير ولم ينصب في هذه المدة المتطاولة فكان التين ، والعنب كأنه قد قطف من ساعته ، والعصير كأنه قد عصر من ساعته ، واللبن قد حلب من ساعته (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) كيف تقطعت أوصاله ، وكيف تلوح عظامه بيضاء. فعلنا ذلك الإحياء لتعاين ما استبعدته من الإحياء بعد دهر طويل (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) أي لكي نجعلك علامة للناس في إحياء الموتى أنهم يحيون على ما يموتون لأنه مات شابا ، وبعث شابا وعبرة للناس لأنه كان ابن أربعين سنة وابنه ابن مائة وعشرين سنة (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ) أي عظام الحمار (كَيْفَ نُنْشِزُها).

قرأ نافع وابن كثير وأبو عمر بالراء أي كيف نحييها ونخلقها. وقرأ حمزة والكسائي «ننشزها» بالزاي المنقوطة أي كيف نرفع بعضها على بعض (ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) أي ننبت عليها العصب والعروق ، واللحم والجلد والشعر ونجعل فيه الروح بعد ذلك (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) وقوع ما كان يستبعد وقوعه (قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الحياة والموت (قَدِيرٌ) (٢٥٩).

روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في سبب نزول هذه الآية قال : إن بختنصر البابلي غزا بني إسرائيل وهو في ستمائة ألف راية ، فسبى من بني إسرائيل الكثير ومنهم عزير ـ وكان من

٩٥

علمائهم ـ فجاء بهم إلى بابل ، فدخل عزير تلك القرية التي انهدمت حيطانها ، ونزل تحت شجرة وهو على حمار ، فربط حماره وطاف في القرية ، فلم ير فيها أحدا فعجب من ذلك وقال : أنى يحيي هذه الله بعد موتها ـ وذلك على سبيل الاستبعاد بحسب العادة لا على سبيل الشك في قدرة الله ـ وكانت الأشجار مثمرة فتناول من الفاكهة والتين والعنب وشرب من عصير العنب ، وجعل فضل الفاكهة في سلة ، وفضل العصير في زق ، ونام. فأماته الله تعالى في منامه مائة عام وهو شاب ، ثم أعمى عن موته أيضا الإنس والسباع والطير ، ثم أحياه الله تعالى بعد مائة ونودي من السماء يا عزير كم لبثت بعد الموت؟ فقال : يوما ، فأبصر من الشمس بقية ، فقال : أو بعض يوم. فقال الله تعالى : (بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ) من التين والعنب (وَشَرابِكَ) من العصير لم يتغير طعمها فنظر فإذا التين والعنب كما شاهدهما ، ثم قال تعالى : (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) فنظر فإذا هو عظام بيض تلوح وقد تفرقت أوصاله ، وسمع صوتا : «أيتها العظام البالية إني جاعل فيك روحا» ، فانضم أجزاء العظام بعضها إلى بعض ، ثم التصق كل عضو بما يليق به إلى مكانه ثم جاء الرأس إلى مكانه ، ثم العصب والعروق ، ثم أنبت طراء اللحم عليه ، ثم انبسط الجلد عليه ، ثم خرجت الشعور من الجلد ، ثم نفخ فيه الروح فإذا هو قائم ينهق ، فخرّ عزير ساجدا وقال : أعلم أن الله على كل شيء قدير ، ثم إنه دخل بيت المقدس ، لما روي أنه لما مضى من وقت موته سبعون سنة سلط الله ملكا من ملوك فارس فسار بجنوده حتى أتى بيت المقدس فعمروه وصار أحسن مما كان ، ورد الله تعالى من بقي من بني إسرائيل إلى بيت المقدس ونواحيه ، فعمروها ثلاثين سنة ، وكثروا كأحسن ما كانوا ، وأعمى الله العيون عن العزير هذه المدة فلم يره أحد ، فلما مضت المائة أحيا الله تعالى منه عينيه وسائر جسده ميت ، ثم أحيا الله تعالى جسده وهو ينظر ، ثم نظر إلى حماره ـ كما سبق ـ فلما دخل بيت المقدس قال القوم : حدثنا آباؤنا أن عزير بن سروحا أو ابن شرخيا مات ببابل ، وقد كان بختنصر قتل في بيت المقدس أربعين ألفا ممن قرأ التوراة وكان فيهم عزير والقوم ما عرفوا أنه يقرأ التوراة ، فلما أتاهم بعد مائة عام جدد لهم التوراة وأملاها عليهم عن ظهر قلبه لم يخرم منها حرفا ، وكانت التوراة قد دفنت في موضع فأخرجت عورضت بما أملاه ، فما اختلفا في حرف. فعند ذلك قالوا عزير ابن الله (وَ) ألم تر (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) هذا دليل آخر على ولايته تعالى للمؤمنين وإخراجه لهم من الظلمات إلى النور (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى).

قال الحسن والضحّاك وقتادة وعطاء وابن جريح : إنه رأى جيفة مطروحة في شط النهر فإذا مدّ البحر أكل منها دواب البحر ، وإذا جزر البحر جاءت السباع فأكلت ، وإذا ذهبت السباع جاءت الطيور فأكلت وطارت. فقال إبراهيم : رب أرني كيف تجمع أجزاء الحيوان من بطوع السباع والطيور ودواب البحر (قالَ) تعالى : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) أي أتسأل ولم توقن بقدرتي عن الإحياء (قالَ بَلى) أنا موقن بذلك (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) أي ولكن سألت ما سألت لتسكن حرارة قلبي ،

٩٦

وأعلم بأني خليلك مستجاب الدعوة ، والمطلوب من السؤال أن يصير العلم بالاستدلال ضروريا (قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) أشتاتا : وزا ، وديكا ، وطاوسا ، ورألا (وهو فرخ النعام) ـ كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس من طريق الضحاك ـ أو طاوسا وديكا وحمامة وغرنوقا (وهو الكركي) ـ كما أخرجه عنه من طريق حنش ـ (فَصُرْهُنَ).

قرأه حمزة بكسر الصاد. والباقون بضمها وتخفيف الراء أي قطعن وأملهن (إِلَيْكَ) فقطع إبراهيم أعضاءها ولحومها وريشها ودماءها وخلط بعضها ببعض (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) أي ثم ضع على كل جبل من أربعة أجبل منهن جزءهن أي على حسب الطيور الأربعة ، وعلى حسب الجهات الأربعة أيضا ، (ثُمَّ ادْعُهُنَ) بأسمائهن أي قل لهن : تعالين يا وز ، ويا ديك ويا طاوس ، ويا رأل بإذن الله تعالى (يَأْتِينَكَ سَعْياً) أي مشيا سريعا ولم تأت طائرة ليتحقق أن أرجلها سليمة في هذه الحالة (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) أي غالب على جميع الممكنات (حَكِيمٌ) (٢٦٠) أي عليم بعواقب الأمور وغايات الأشياء.

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بذبحها ونتف ريشها ، وتقطيعها جزءا جزءا ، وخلط دمائها ولحومها. وأن يمسك رؤوسها بيده ، ثم أمر بأن يجعل أجزاءها على الجبال ، على كل جبل ربعا من كل طائر ، ثم يصيح بها : تعالين بإذن الله تعالى ، ثم أخذ كل جزء يطير إلى الآخر حتى تكاملت الجثث ، ثم أقبلت كل جثة إلى رأسها سعيا على أرجلها ، وانضم كل رأس إلى جثته وصار الكل أحياء بإذن الله تعالى. (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) أي صفة صدقات الذين ينفقون أموالهم في دين الله كصفة حبة أخرجت سبع سنابل. أو المعنى مثل الذين ينفقون أموالهم في وجوه الخيرات من الواجب والنفل كمثل زارع حبة أخرجت ساقا تشعب منه سبع شعب ، في كل واحدة منها سنبلة (فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) كما يشاهد ذلك في الذرة والدخن بل فيهما أكثر من ذلك (وَاللهُ يُضاعِفُ) فوق ذلك (لِمَنْ يَشاءُ) على حسب المنفق من إخلاصه وتعبه. ولذلك تفاوتت مراتب الأعمال في مقادير الثواب. (وَاللهُ واسِعٌ) أي لا يضيق عليه ما يتفضل به من التضعيف (عَلِيمٌ) (٢٦١) بنية المنفق وبمن يستحق المضاعفة. (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً) والمن : هو الاعتداد بالنعمة واستعظامها على المنفق عليه. والأذى : بأن يؤذى المنفق عليه بالقول أو العبوس في وجهه أو الدعاء عليه. وقيل : المراد هو المن على الله وهو العجب ، والأذى لصاحب النفقة. (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) أي ثواب إنفاقهم (عِنْدَ رَبِّهِمْ) في الجنة (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أي فلا يخافون فقد أجورهم ولا يخافون العذاب ألبتة (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢٦٢) على ما خلفوا من خلفهم نزلت هذه الآية في حق عثمان بن عفان ، وعبد الرحمن بن عوف. أما عثمان فجهز جيش العسرة في غزوة تبوك بألف بعير بأقتابها وألف

٩٧

دينار ، فرفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يديه يقول : «يا رب عثمان رضيت عنه فارض عنه» (١). وأما عبد الرحمن بن عوف فإنه تصدق بنصف ماله أربعة آلاف دينار وقال : كان عندي ثمانية آلاف فأمسكت لنفسي وعيالي أربعة آلاف ، وأخرجت أربعة آلاف لربي عزوجل فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت» (٢). والمعنى الذين يعينون المجاهدين في سبيل الله بالإنفاق عليهم في حوائجهم ومؤنتهم ولم يخطر ببالهم شيء من المن والأذى (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) أي كلام جميل يرد به السائل من غير إعطاء شيء (وَمَغْفِرَةٌ) من المسؤول عن بذاءة لسان الفقير (خَيْرٌ) للسائل (مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) لكونها مشوبة بضرر التعيير له بالسؤال (وَاللهُ غَنِيٌ) عن صدقة العبادة ، فإنما أمركم بالصدقة لينبئكم عليها. (حَلِيمٌ) (٢٦٣) إذ لم يعجل بالعقوبة على من يمن ويؤذي بصدقته (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ) أي أجرصدقاتكم(بِالْمَنِّ وَالْأَذى).

قال ابن عباس : أي بالمن على الله معناه العجب بسبب صدقتكم ، وبالأذى للسائل.

وقال الباقون : بالمن على الفقير وبالأذى للفقير (كَالَّذِي) أي كإبطال أجر نفقة الذي (يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ) أي سمعة الناس ولطلب المدحة والشهرة (وَ) كالذي (وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وهو المنافق. فإن المنافق والمرائي يأتيان بالصدقة لا لوجه الله تعالى ، ومن يقرن الصدقة بالمن والأذى فقد أتى بتلك الصدقة لا لوجه الله أيضا. إذ لو كان غرضه من تلك الصدقة مرضاة الله تعالى لما منّ على الفقير ولا آذاه. فالمقصود من الإبطال ، الإتيان بالإنفاق باطلا ، لأن المقصود الإتيان به صحيحا ، ثم إحباطه بسبب المن والأذى والأوجه كما قال بعضهم : إذا فعل ذلك فله أجر الصدقة ولكن ذهبت مضاعفته وعليه الوزر بالمن (فَمَثَلُهُ) أي فحالة المرائي في الإنفاق (كَمَثَلِ صَفْوانٍ). وقيل : الضمير عائد على المنافق ، فيكون المعنى إن الله تعالى شبّه المانّ والمؤذي بالمنافق ، ثم شبه المنافق بالحجر الكبير الأملس (عَلَيْهِ تُرابٌ) أي شي من التراب (فَأَصابَهُ وابِلٌ) أي مطر شديد (فَتَرَكَهُ صَلْداً) أي فجعل المطر ذلك الحجر أملس نقيا من التراب (لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) أي لا يقدرون على ثواب شيء في الآخرة مما أنفقوا في الدنيا رثاء ، أو المعنى لا يجد المان والمؤذي ثواب صدقته ، كما لا يوجد على الصفوان التراب بعد ما أصابه المطر الشديد (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٢٦٤) إلى الخير والرشاد. وفي هذه الآية تعريض بأن كلا من الرياء والمن والأذى ـ على الإنفاق ـ من خصائص الكفار فلا بدّ للمؤمنين أن يجتنبوها. (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ) أي مثل أموال الذين ينفقون أموالهم طلب رضاء الله تعالى ويقينا

__________________

(١) رواه القرطبي في التفسير (٣ : ٣٠٦).

(٢) رواه ابن حجر في فتح الباري (٨ : ٣٣٢).

٩٨

من قلوبهم بالثواب من الله تعالى ، وتصديقا بوعده يعلمون أن ما أنفقوا خير لهم مما تركوا كمثل بستان في مكان مرتفع مستو أصابه مطر شديد كثير (فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ) أي فأخرجت ثمرها مضاعفا مثلي ما يثمر غيرها ـ بسبب الوابل ـ فتحمل من الريع في سنة ما يحمل غيرها في سنتين (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ) أي رش مثل الرذاذ يكفيها لجودتها ولطافة هوائها. والمعنى أن نفقات هؤلاء زاكية عند الله تعالى لا تضيع بحال وإن كانت تتفاوت باعتبار ما يقارنها من الأحوال. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) عملا ظاهرا أو قلبيا (بَصِيرٌ) (٢٦٥) لا يخفى عليه شيء منه (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) أي أيحب حبا شديدا أو يتمنى (أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ) أي بستان (مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي تطرد (الْأَنْهارُ) من تحت شجر تلك الجنة ومساكنها. (لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي لذلك الأحد ـ حال كونه في الجنة ـ رزق من كل الثمرات (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ) أي وقد أصابه كبر السن فلا يقدر على الكسب. والحال أن له أولادا صغارا لا يقدرون على الكسب (فَأَصابَها) أي الجنة (إِعْصارٌ) أي ريح ترتفع إلى السماء كأنها عمود (فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ) أي تلك الجنة. والمقصود من هذا المثل بيان أنه يحصل في قلب هذا الإنسان من الغم والحسرة والحيرة ما لا يعلمه إلا الله ، فكذلك من أتى بالأعمال الحسنة. إلا أنه لا يقصد بها وجه الله بل يقرن بها أمورا تخرجها عن كونها موجبة للثواب. فحين يقدم يوم القيامة وهو حينئذ في غاية الحاجة ونهاية العجز عن الاكتساب عظمت حسرته وتناهت حيرته. (كَذلِكَ) أي مثل هذا البيان في أمر النفقة المقبولة وغيرها (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي الدلائل في سائر أمور الدين (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (٢٦٦) أي لكي تتفكروا في أمثال القرآن (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) أي زكوا من جياد ما جمعتم من الذهب والفضة وعروض التجارة والمواشي (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) من الحبوب والثمار والمعادن. (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ) أي ولا تقصدوا الرديء من أموالكم (مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ) فقوله «منه» استفهام على سبيل الإنكار ، وهو متعلق بالفعل بعده. والمعنى أمن الخبيث تنفقون في الزكاة والحال أنكم لستم قابلي الخبيث إذا كان لكم حق على صاحبكم؟ (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) أي إلا بأن تساهلوا في الخبيث وتتركوا بعض حقكم كذلك لا يقبل الله الرديء منكم (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌ) عن إنفاقكم ، وإنما يأمركم به لمنفعتكم. (حَمِيدٌ) (٢٦٧) أي مستحق للحمد على نعمه العظام. وقيل : حامد بقبول الجيد وبالإثابة عليه. (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) أي إبليس يخوفكم بالفقر عند الصدقة ويقول لكم : أمسكوا أموالكم فإنكم إذا تصدقتم صرتم فقراء. أو المعنى النفس الأمارة بالسوء توسوس لكم بالفقر. (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) أي بالبخل ومنع الزكاة والصدقة (وَاللهُ يَعِدُكُمْ) يسبب الإنفاق (مَغْفِرَةً مِنْهُ) عزوجل (وَفَضْلاً) أي خلفا في الدنيا وثوابا في الآخرة (وَاللهُ واسِعٌ) بالمغفرة للذنوب وبإغنائكم وإخلاف ما تنفقونه (عَلِيمٌ) (٢٦٨) بنياتكم وصدقاتكم

٩٩

(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) فالحكمة هي العلم النافع وفعل الصواب. فقيل في حد الحكمة : هي التخلق بأخلاق الله بقدر الطاقة البشرية كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تخلّقوا بأخلاق الله تعالى». (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ) أي إصابة القول والفعل والرأي (فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) أي أعطي خير الدارين (وَما يَذَّكَّرُ) أي ما يتفكر في الحكمة (إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢٦٩) أي إلا أصحاب العقول السليمة من الركون إلى متابعة الهوى. (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) أي أيّ نفقة كانت في حق أو باطل ، في سر أو علانية قليلة أو كثيرة. (أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ) أي أيّ نذر كان في طاعة أو معصية ، بشرط أو بغير شرط ، متعلق بالمال أو بالأفعال كالصيام (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) أي ما أنفقتموه فيجاز بكم عليه (وَما لِلظَّالِمِينَ) بالإنفاق والنذر في المعاصي أو بمنع الزكاة وعدم الوفاء بالنذور ، أو بالإنفاق بالخبيث أو بالرياء والمن والأذى (مِنْ أَنْصارٍ) (٢٧٠) أي أعوان ينصرونهم من عقاب الله (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) أي إن تظهروا الصدقات فنعم شيئا إظهارها بعد أن لم يكن رياء وسمعة (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي أفضل من إيذائها وإيتائها الأغنياء.

روي أنهم سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل صدقة السر أفضل أم صدقة العلانية؟ فنزلت هذه الآية. وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفا. وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ).

قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر «نكفر» بالنون ورفع الراء. وقرأ نافع وحمزة والكسائي بالنون والجزم أي و «نكفر» عنكم شيئا من ذنوبكم بقدر صدقاتكم. وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم «يكفر» بالياء والرفع. والمعنى يكفر الله أو يكفر الإخفاء. وقرئ قراءة شاذة «تكفر» بالتاء وبالرفع والجزم والفاعل راجع للصدقات. وقرأ الحسن بالتاء والنصب بإضمار أن. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من الصدقة في السر والعلانية (خَبِيرٌ) (٢٧١) لا يخفى عليه شيء منه (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) أي ليس عليك هدي من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل أن يدخلوا في الإسلام ، فتصدق عليهم لوجه الله ولا توقف ذلك على إسلامهم (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) هدايته إلى الدخول في الإسلام.

روي أن نبيلة أم أسماء بنت أبي بكر وجدتها وهما مشركتان جاءتا أسماء تسألانها شيئا. فقالت : لا أعطيكما حتى أستأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنكما لستما على ديني. فسألته عن الصدقة على الكفار فقالت : هل يجوز لنا يا رسول الله أن نتصدق على ذوي قرابتنا من غير أهل ديننا؟ فأنزل الله هذه الآية. فأمرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تتصدق عليهما ، (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) أي وكل نفقة تنفقونها من نفقات الخير ولو على كافر فإنما هو يحصل لأنفسكم ثوابه فلا يضركم كفرهم (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) أي ولستم في صدقتكم على أقاربكم من

١٠٠