مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المقدمة

الحمد لله رب العالمين ، الذي أنزل كتابه المبين على رسوله محمد الأمين صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فشرح به الصدور وأمّن به القلوب من الخوف إلا من غضبه عزوجل ، ونوّر به بصائر الصالحين والعارفين وجعله هداية للعالمين.

أما بعد

فالعلم نور والجهل ضلالة ، وخير العلوم علم الدين والتفسير ، فهو يبيّن ما اشتملت عليه الأحكام الإلهية من الأسرار والبدائع ، لذا علينا إخواني أن نأتمر بما أمرنا الله به من تعلّم قراءة وتفسير وفهم كتاب الله المنزّل إلينا وتعليمه وتفهيمه ، وهو القائل سبحانه وتعالى : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (١٧) [الحديد : ١٦ ، ١٧] ، ففي هذه الآيات الكريمة تنبيه من الله عزوجل على أنه كما يحيي الأرض بعد موتها كذلك يليّن القلوب ويذهب قسوتها ويبعدها عن المعاصي والذنوب بالإيمان الحقّ ، والله خير المرتجى أن يفعل بنا ما يريد إنه عزيز كريم.

فقد عملت على ضبط نص هذا الكتاب «مراح لبيد» ، المؤلّف من جزءين ، الذي أتمنّى أن أكون بعملي هذا قد وفّقت إلى ما أصبو إليه من إيضاح وضبط وتعميم للفائدة المرتجاة. راجيا من المولى عزوجل العفو والمغفرة عمّا به قد أكون قصّرت ، ومنك عزيزي القارئ التّفهّم الكامل وجبر العثرات ، إذ إن الكمال لله وحده ، والعصمة للأنبياء.

محمد أمين الضنّاوي

٣

ترجمة المؤلّف (١)

هو محمد بن عمر نووي الجاوي البنتني إقليما ، التناري بلدا ، مفسّر ، متصوّف ، من فقهاء الشافعية. هاجر إلى مكّة المكرّمة وتوفي بها سنة ١٣١٦ ه‍ ، عرّفه «تيمور» بـ «عالم الحجاز» ، له مصنّفات كثيرة منها :

ـ «مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد» مجلدان ، وهو تفسيره.

ـ «مراقي العبودية» ، شرح لبداية الهداية للغزالي ، فرغ من تأليفه سنة ١٢٨٩ ه‍.

ـ «وقائع الطغيان على منظومة شعب الإيمان».

ـ «قطر الغيث في شرح مسائل أبي الليث».

ـ «عقود اللّجين في بيان حقوق الزوجين».

ـ «نهاية الزين بشرح قرّة العين» ، فقه.

ـ «شرح فتح الرحمن» ، تجويد.

ـ «نور الظلام» في شرح قصيدة «عقيدة العوام» لأحمد المرزوقي.

ـ «مرقاة صعود التصديق» ، تصوّف ، في شرح «سلّم التوفيق» لابن طاهر المتوفى سنة ١٢٧٢ ه‍.

ـ «كاشفة السجا ، في شرح سفينة النجا» ، في أصول الدين والفقه.

__________________

(١) الأعلام ، خير الدين الزركلي / ج ٦ ص ٣١٨.

٤

خطبة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي تواضع كل شيء لعظمته ، وذلّ كل شيء لعزّته ، واستسلم كل شيء لقدرته ، وخضع كل شيء لملكه ، فسبحان الله شارع الأحكام ، المميز بين الحلال والحرام ، أحمده على ما فتح من غوامض العلوم بإخراج الأفهام ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أزال بيانه كل إبهام ، وعلى آله وأصحابه أولي المناقب والأحلام صلاة وسلاما دائمين ما دامت الأيام.

أما بعد ، فيقول أحقر الورى محمد نووي : قد أمرني بعض الأعزة عندي أن أكتب تفسيرا للقرآن المجيد فترددت في ذلك زمانا طويلا خوفا من الدخول في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ». (١) وفي قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» (٢). فأجبتهم إلى ذلك للاقتداء بالسلف في تدوين العلم إبقاء على الخلق وليس على فعلي مزيد ولكن لكل زمان تجديد ، وليكون ذلك عونا لي وللقاصرين مثلي وأخذته من الفتوحات الإلهية ومن مفاتيح الغيب ومن السراج المنير ، ومن تنوير المقباس ، ومن تفسير أبي السعود.

وسميته مع الموافقة لتاريخه «مراح لبيد لكشف معنى قرآن مجيد» ، وعلى الكريم الفتّاح اعتمادي ، وإليه تفويضي واستنادي. والآن أشرع بحسن توفيقه وهو المعين لكل من لجأ به.

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب العلم ، باب : الكلام في كتاب الله بغير علم ، والترمذي في كتاب التفسير ، باب : ١. وعند أبي داود بلفظ «كتاب الله عزوجل» بدل «القرآن».

(٢) رواه الترمذي في كتاب التفسير ، ترجمة ، وأحمد في (م ١ / ص ٢٣٣).

٥
٦

سورة الفاتحة

مكية ، سبع آيات ، تسع وعشرون كلمة ، مائة وثلاثة وأربعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

والسابعة : (صِراطَ الَّذِينَ) إلى آخرها إن كانت البسملة منها وإن لم تكن منها فالسابعة : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) إلى آخرها ، وهي مشتملة على أربعة أنواع من العلوم

أحدها : علم الأصول وقد جمعت الإلهيات في : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) والنبوات في : (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) والدار الآخرة في (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)

وثانيها : علم الفروع وأعظمه العبادات ، وهي مالية وبدنية وهما مفتقرتان إلى أمور المعاش من المعاملات والمناكحات ، ولا بدّ لها من الأحكام التي تقتضيها الأوامر والنواهي.

وثالثها : علم تحصيل الكمالات وهو علم الأخلاق ومنه الاستقامة في الطريقة ، وإلى ذلك الإشارة بقوله : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). وقد جمعت الشريعة كلها في (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ).

ورابعها : علم القصص والأخبار عن الأمم الخالية وقد جمعت السعداء من الأنبياء وغيرهم في : (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) والأشقياء من الكفار في : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ).

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١) الباء : بهاء الله والسين سناؤه فلا شيء أعلى منه ، والميم : ملكه وهو على كل شيء قدير. والباء : ابتداء اسمه بارئ بصير. والسين : ابتداء اسمه سميع. والميم : ابتداء اسمه مجيد مليك. والألف : ابتداء اسمه الله. واللام : ابتداء اسمه لطيف. والهاء : ابتداء اسمه هادي. والراء : ابتداء اسمه رزاق. والحاء : ابتداء اسمه حليم. والنون : ابتداء اسمه نافع ونور. (الْحَمْدُ لِلَّهِ) والشكر لله بنعمه السوابغ على عباده الذين هداهم للإيمان. (رَبِّ الْعالَمِينَ) (٢) أي خالق الخلق ورازقهم ومحوّلهم من حال إلى حال. (الرَّحْمنِ) أي العاطف على البار والفاجر بالرزق ودفع الآفات عنهم. (الرَّحِيمِ) (٣) أي الذي يستر عليهم الذنوب في الدنيا ويرحمهم في الآخرة فيدخلهم الجنة. (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (٤) بإثبات الألف عند عاصم والكسائي ويعقوب أي متصرف في الأمر كله يوم القيامة

٧

كما قال تعالى : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار : ١٩] وعند الباقين بحذف الألف والمعنى أي المتصرف في أمر القيامة بالأمر والنهي. (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) أي لا نعبد أحدا سواك. (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (٥) أي بك نستعين على عبادتك فلا حول عن المعصية إلا بعصمتك ولا قوة على الطاعة إلا بتوفيقك. (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (٦) أي زدنا هداية إلى دين الإسلام ، أو المعنى أدمنا مهديين إليه. (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) أي دين الذين مننت عليهم بالدين من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين. (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ) أي غير دين اليهود الذي غضبت (عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (٧) أي غير دين النصارى الذين ضلوا عن الإسلام ويقال : المغضوب عليهم هم الكفار ، والضالون هم المنافقون لأن الله تعالى ذكر المؤمنين في أول البقرة في أربع آيات ثم ثنّى بذكر الكفار في آيتين ، ثم ثلّث بذكر المنافقين في ثلاث عشرة آية. ويسنّ للقارئ بعد فراغه من الفاتحة أن يقول : آمين وهو اسم بمعنى فعل أمر ، وهو استجب.

٨

سورة البقرة

مدنية ، مائتان وست وثمانون آية ، ستة آلاف ومائة وأربع وأربعون كلمة ،

ستة وعشرون ألفا ومائتان وواحد وخمسون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(الم) (١) قال الشعبي وجماعة : الم وسائر حروف الهجاء في أوائل السور من المتشابه الذي انفرد الله بعلمه ، وهي سر القرآن فنحن نؤمن بظاهرها ونفوّض العلم فيها إلى الله تعالى ، وفائدة ذكرها طلب الإيمان بها ، والله تعالى اختص بعلم لا تقدر عليه عقول الأنبياء ، والأنبياء اختصوا بعلم لا تقدر عليه عقول العلماء ، والعلماء اختصوا بعلم لا تقدر عليه عقول العامة. وقال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : في كل كتاب سر ، وسر الله في القرآن أوائل السور. (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) أي هذا الكتاب الذي يقرؤه عليكم رسولي محمد لا شك في أنه من عندي ، فإن آمنتم به هديتكم ، وإن لم تؤمنوا به عذبتكم. (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (٢) أي رحمة لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) أي يصدقون بما غاب عنهم من الجنة والنار ، والصراط والميزان ، والبعث والحساب وغير ذلك.

وقيل : المراد بالغيب القلب. والمعنى يؤمنون بقلوبهم لا كالذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي يتمون الصلوات الخمس بالشروط والأركان والهيئات. (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٣) أي مما أعطيناهم من الأموال يتصدقون لطاعة الله تعالى وهو أبو بكر الصديق وأصحابه. (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من القرآن (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) على سائر الأنبياء من التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من سائر الكتب السابقة على القرآن (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (٤) أي وهم يصدقون بما في الآخرة من البعث بعد الموت والحساب ونعيم الجنة وهو عبد الله بن سلام وأصحابه. (أُولئِكَ) أي أهل هذه الصفة (عَلى هُدىً) أي كرامة نزل (مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٥) أي الناجون من السخط والعذاب وهم أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٦) أي الذين كفروا في علم الله متساو لديهم إنذارك إياهم بالقرآن وعدمه وهم لا يريدون أن يؤمنوا بما جئت به فلا تطمع يا أشرف الخلق في إيمانهم ، ثم ذكر الله سبب تركهم الإيمان بقوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) أي طبع الله على قلوبهم فلا يدخلها إيمان وعلى سمعهم فلا ينتفعون بما يسمعونه

٩

من الحق ووحّد السمع لوحدة المسموع وهو الصوت. (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) مبتدأ وخبر أي على أعينهم غطاء من عند الله تعالى فلا ينصرون الحق. (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٧) أي شديد في الآخرة وهم رؤساء اليهود الذين وصفهم الله بأنهم يكتمون الحق وهم يعلمون ، وهم كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وجدي بن أخطب ، ويقال : هم مشركو أهل مكة عتبة وشيبة والوليد بن المغيرة وأبو جهل. (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا) في السر (بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي بالبعث بعد الموت الذي فيه جزاء الأعمال. (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (٨) في السر (يُخادِعُونَ اللهَ) أي يكذبونه في السر (وَالَّذِينَ آمَنُوا) أبا بكر وسائر أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَما يَخْدَعُونَ) أي يكذبون (إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) وهذه الجملة حال من ضمير يخادعون أي يفعلون ذلك ، والحال أنهم ما يضرون بذلك إلا أنفسهم فإن دائرة فعلهم مقصورة عليهم.

وقرأ عاصم وابن عامر ، وحمزة والكسائي «وما يخدعون» بفتح الياء وسكون الخاء وفتح الدال ، وقرأ الباقون بضم الياء وفتح الخاء مع المد وكسر الدال ، ولا خلاف في قوله : «يخادعون الله» فالجميع قرءوا بضم الياء وفتح الخاء وبالألف بعدها وكسر الدال ، وأما الرسم فبغير ألف في الموضعين (وَما يَشْعُرُونَ) (٩) أن الله يطلع نبيه على كذبهم. (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شك وظلمة (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) مرضا أي شكا وظلمة بما أنزله من القرآن لأنه كلما أنزل آية كفروا بها فازدادوا شكا وخلافا. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي وجيع في الآخرة يخلص وجعه إلى قلوبهم (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) (١٠).

قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بالتشديد ، أي بتكذيبهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرأ الباقون بتخفيف الذال أي بكذبهم في قولهم : آمنا في السر وهم المنافقون عبد الله بن أبي وجد بن قيس ومعتب ابن قشير. (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أي لهؤلاء المنافقين : (لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بتعويق الناس عن دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) (١١) وإنما قالوا ذلك لأنهم تصوّروا الفساد بصورة الصلاح لما في قلوبهم من المرض قال الله تعالى ردا عليهم أبلغ رد (أَلا) أي بلى (إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) لها بالتعويق (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) (١٢) أن الله تعالى يطلع نبيه على فسادهم. (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن أي إن المؤمنين نصحوا المنافقون من وجهين :

أحدهما : النهي عن الإفساد وهو التخلي عن الرذائل.

وثانيهما : الأمر بالإيمان وهو التحلي بالفضائل (كَما آمَنَ النَّاسُ) أي الكاملون في الإنسانية ، العاملون بقضية العقل كأصحاب النبي أو كعبد الله بن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب. والمعنى آمنوا إيمانا مقرونا بالإخلاص متمحضا عن شوائب النفاق مماثلا لإيمانهم (قالُوا) فيما بينهم لا بحضرة المسلمين (أَنُؤْمِنُ) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) أي الجهال

١٠

وإنما سفّهوا المؤمنين لتحقير شأنهم ، لأن أكثرهم فقراء وبعضهم موال كصهيب وبلال أو لعدم المبالاة بمن آمن منهم إن فسر الناس بعبد الله بن سلام وأصحابه قال الله تعالى ردا عليهم أبلغ رد (أَلا) أي بلى (إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ) أي الجهال الخرقى (وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) (١٣) أنهم سفهاء (وَإِذا لَقُوا) أي المنافقون (الَّذِينَ آمَنُوا) أبا بكر وأصحابه (قالُوا آمَنَّا) في السر كإيمانكم (وَإِذا خَلَوْا) أي عادوا (إِلى شَياطِينِهِمْ) أي أكابرهم الذين يقدرون على الإفساد في الأرض وهم خمسة نفر : كعب بن الأشرف من اليهود بالمدينة ، وأبو بردة في بني أسلم ، وعبد الدار في جهينة ، وعوف بن عامر في بني أسد ، وعبد الله بن الأسود بالشام. (قالُوا) لهم لئلا يتوهموا فيهم المباينة (إِنَّا مَعَكُمْ) أي على دينكم في السر (إِنَّما نَحْنُ) في إظهار الإيمان عند المؤمنين (مُسْتَهْزِؤُنَ) (١٤) بهم من غير أن يخطر ببالنا الإيمان حقيقة (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) أي الله يعاملهم معاملة المستهزئ في الدنيا وفي الآخرة ، أما في الدنيا فلأنه تعالى أطلع الرسول على أسرارهم مع أنهم كانوا يبالغون في إخفائها عنه ، وأما في الآخرة فقال ابن عباس : إذا دخل المؤمنون الجنة والكافرون النار فتح الله من الجنة بابا على الجحيم في الموضع الذي هو مسكن المنافقين ، فإذا رأى المنافقون الباب مفتوحا خرجوا من الجحيم ويتوجهون إلى الجنة ، وأهل الجنة ينظرون إليهم فإذا وصلوا إلى باب الجنة سدّ عليهم الباب ، وذلك قوله تعالى : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) [المطففين : ٢٩] (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ) أي يزيدهم في ضلالتهم (يَعْمَهُونَ) (١٥) أي يترددون في الكفر وتركه متحيّرين (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) أي أولئك الموصوفون بالصفات السابقة من قوله : ومن النّاس اختاروا الكفر على الإيمان (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) أي فلم يربحوا في تجارتهم بل خسروا (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (١٦) إلى طرق التجارة ، فإن المقصود منها سلامة رأس المال والربح ، وهؤلاء قد أضاعوهما. فرأس مالهم العقل الصرف ، وربحه الهدى (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) أي صفة المنافقين في حال نفاقهم كصفة الذي أوقد نارا في ظلمة لكي يأمن بها على نفسه وأهله وماله ، (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) أي فلما أضاءت النار المكان الذي حول المستوقد فأبصر وأمن مما يخافه (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) أي أطفأ الله النور المقصود بالإيقاد فبقي المستوقدون في ظلمة وخوف ، (وَتَرَكَهُمْ) أي المستوقدين (فِي ظُلُماتٍ) ظلمة الليل ، وظلمة تراكم الغمام فيه ، وظلمة انطفاء النار (لا يُبْصِرُونَ) (١٧) ما حولهم ، فكذلك هؤلاء المنافقون أمنوا على أنفسهم وأولادهم وأموالهم بسبب إظهار كلمة الإيمان ، فإذا ماتوا جاءهم الخوف والعذاب وهم في القبر وما بعده (صُمٌ) عن الحق فلا يسمعونه سماع قبول (بُكْمٌ) عن الخير فلا يقولونه قولا مطابقا للواقع لما سبق أنهم مؤمنون ظاهرا (عُمْيٌ) عن طريق الهدى فلا يرونه رؤية نافعة (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (١٨) عن كفرهم وضلالتهم (أَوْ كَصَيِّبٍ) أو صفة المنافقين كصفة أصحاب مطر نازل (مِنَ السَّماءِ) أي السحاب ليلا وهم

١١

في مفازة (فِيهِ) أي الصيب (ظُلُماتٌ) ظلمة تكاثفه بتتابع القطر ، وظلمة إظلال الغمامة مع ظلمة الليل. (وَرَعْدٌ) وهو صوت يسمع من السحاب كأن أجرام السحاب تضطرب إذا أخذتها الريح فتصوت عند ذلك من الارتعاد (وَبَرْقٌ) وهو ما يلمع من السحاب. (يَجْعَلُونَ) أي أصحاب الصيب (أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ) أي من أجل الصيحة الشديدة من صوت الرعد يكون معها قطعة نار (حَذَرَ الْمَوْتِ) من سماعها فكذلك هؤلاء المنافقون إذا نزل القرآن المشبّه بالمطر في أن كلا سبب الحياة ، وفيه ذكر الكفر المشبّه بالظلمات وعدم الاهتداء ، وذكر الوعيد على الكفر المشبه بالرعد في إزعاجه وإرهابه ، وذكر الحجج البيّنة المشبّهة بالبرق في ظهوره. يسدون آذانهم من سماع القرآن حذر الميل إلى الإيمان الذي هو بمنزلة الموت عندهم ، فإن ترك الدين موت (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) (١٩) علما وقدرة فلا يفوتونه تعالى لأن المحاط لا يفوت المحيط (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ) أي البرق (لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) أي في ضوء البرق (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) أي بقوا في الظلمة ، وهذا تمثيل لإزعاج ما في القرآن قلوبهم باختطاف البرق بأبصارهم ولتصديقهم لما يحبونه من تحصيل الغنيمة وعصمة الدماء والأموال بمشيهم في البرق ، ولوقوفهم لما يكرهون من التكاليف الشاقة عليهم كالصلاة والصوم بوقوفهم في الظلمة. (وَلَوْ شاءَ اللهُ) أن يذهب بسمعهم وأبصارهم (لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ) بقصيف الرعد (وَأَبْصارِهِمْ) بوميض البرق ، كذلك لو شاء الله لذهب بسمع المنافقين بزجر ما في القرآن ووعيد ما فيه وأبصارهم بالبيان (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) أي ممكن من ذهاب السمع والبصر (قَدِيرٌ) (٢٠).

قال الفخر الرازي : وأضاء إما متعد بمعنى كلما نور لهم مسلكا أخذوه ، وإما غير متعد بمعنى كلما لمع لهم مشوا فيه بطرح نوره ويقويه قراءة ابن أبي عبلة كلما ضاء. (يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي يا أهل مكة أو يا أيها اليهود (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) أي وحّدوه بالعبادة. (الَّذِي خَلَقَكُمْ) نسما من النطفة (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي أنشأهم ولم يكونوا شيئا (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (٢١) أي لكي تتقوا السخط والعذاب بعبادته ، ولعل للأطماع ، لكن الكريم الرحيم إذا أطمع أجرى أطماعه مجرى وعده المحتوم ، فلهذا السبب قيل : لعل في كلام الله تعالى بمعنى كي (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) أي بساطا (وَالسَّماءَ بِناءً) أي سقفا مرفوعا وعبّر عنه بالبناء لأحكامه (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) وعن خالد بن معدان قال : المطر ماء يخرج من تحت العرش ، فينزل من سماء إلى سماء حتى يجتمع في سماء الدنيا ، فيجتمع في موضع ، فتجيء السحاب السود فتدخله ، فتشربه ، فيسوقها الله حيث شاء. (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) أي أنبت الله بالمطر من ألوان الثمرات طعاما لكم ولسائر الخلق (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) أي شركاء في العبادة (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢٢) أن الأنداد لا تماثله ولا تقدر على مثل ما يفعله أو يقال : وأنتم تعلمون أنه ليس في التوراة والإنجيل جواز اتخاذ الأنداد (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) محمد من القرآن في أنه من

١٢

عند نفسه (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) أي مما هو على صفة ما نزلنا في الفصاحة وحسن النظم والإخبار بالغيوب. (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي ادعوا أكابركم من غيره تعالى ممن يوافقكم في إنكار أمر محمد ليعينوكم على المعارضة وليحكموا لكم وعليكم فيما يمكن ويتعذر ، وقد كان في العرب أكابر يشهدون على المتنازعين في الفصاحة بأن أحدهما أعلى درجة من الآخر (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٣) في مقالتكم أن محمدا يقول من تلقاء نفسه (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) أي لم تأتوا بسورة من مثل المنزل (وَلَنْ تَفْعَلُوا) أي لن تقدروا أن تجيئوا بمثله (فَاتَّقُوا النَّارَ) والمعنى إذا ظهر عجزكم عن المعارضة صحّ عندكم صدق محمد عليه‌السلام ، وإذا صح ذلك فاتركوا العناد ، وإذا لزمتم العناد استوجبتم العقاب بالنار (الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ) أي حطبها الكفار (وَالْحِجارَةُ) المعبودة لهم. قال تعالى : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم. (أُعِدَّتْ) أي هيئت تلك النار (لِلْكافِرِينَ) (٢٤) بما نزّلناه وجعلت عدة لعذابهم (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الطاعات (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) أي بساتين ذات شجر ومساكن والمأمور بالبشارة إما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإما كل أحد يقدر على البشارة ، وهذا أحسن كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بشّر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة» (١) ولم يأمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك واحدا بعينه.

وقرأ زيد بن علي «وبشّر» بلفظ المبني للمفعول عطفا على «أعدت». (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي من تحت شجرها ومساكنها (الْأَنْهارُ) أي أنهار الخمر واللبن والعسل والماء وعن مسروق أنهار الجنة تجري في غير أخدود (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً) أي كل حين رزقوا مرزوقا من الجنات من نوع ثمرة (قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) أي هذا مثل الذي أطعمنا في الجنة من قبل هذا الذي أحضر إلينا قال تعالى تصديقا في تلك الدعوى : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) أي أتتهم الملائكة والولدان برزق الجنة متشابها بعضه بعضا في اللون مختلفا في الطعم (وَلَهُمْ فِيها) أي الجنات (أَزْواجٌ) من الحور والآدميات (مُطَهَّرَةٌ) من الحيض وجميع الأقذار ، ومن دنس الطبع وسوء الخلق (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٥) أي دائمون لا يموتون ولا يخرجون (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما) أي إن الله لا يترك أن يبين للخلق مثلا أيّ مثل كان (بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) في الذات كالذباب والعنكبوت أو في الغرض المقصود من التمثيل كجناح البعوضة ، وكيف يستحي الله من ذكر شيء لو اجتمع الخلائق كلهم على تخليقه وما قدروا عليه. والمراد بالبعوضة هنا : «الناموس» وهو من عجيب خلق الله تعالى فإنه في غاية الصغر ، وله ستة أرجل وأربعة أجنحة ، وذنب وخرطوم مجوف ، وهو مع صغره يغوص خرطومه في جلد الفيل والجاموس ، والجمل فيبلغ منه الغاية ، حتى إن الجمل يموت من قرصته. (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ) أي

__________________

(١) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (٢ : ٣٠) ، والطبراني في المعجم الكبير (١٢ : ٣٥٨).

١٣

ضرب المثل (الْحَقُ) أي الثابت (مِنْ رَبِّهِمْ) فلا يسوغ إنكاره لأنه ليس عبثا بل هو مشتمل على الأسرار والفوائد (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) من اليهود (فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) تمييز نسبة من اسم الإشارة. أي أيّ فائدة في هذا المثل قال الله تعالى في جوابهم : (يُضِلُّ بِهِ) أي بهذا المثل عن الدين (كَثِيراً) من اليهود (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) من المؤمنين (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) (٢٦) أي الخارجين عن حد الإيمان. (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) هو الحجة القائمة على عباده الدالة على وجوب وجوده ووحدانيته وعلى وجوب صدق رسله (مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) أي توكيده (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) فالله أمرهم أن يصلوا حبلهم بحبل المؤمنين فهم انقطعوا عن المؤمنين واتصلوا بالكفار (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن. (أُولئِكَ) الموصوفون بنقض العهد وما بعده (هُمُ الْخاسِرُونَ) (٢٧) أي المغبونون بذهاب حسناتهم التي عملوها ، وبذهاب نعيم الجنة الذي لو أطاعوا الله لوجوده. (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَ) الحال أنكم (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) أجساما لا حياة لها ، نطفا وعلقا ، ومضغا (فَأَحْياكُمْ) بنفخ الأرواح فيكم (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انقضاء آجالكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) بالنشور (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٨) بعد الحشر فيجازيكم على أعمالكم إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر. والمعنى ثم إليه تنشرون من قبوركم للحساب (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ) أي لأجل انتفاعكم في الدين والدنيا بالاستدلال على موجدكم ، وإصلاح الأبدان (ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى) أي قصد (إِلَى) خلق (السَّماءِ) أي تعلقت إرادته تعلقا حادثا بترجيح وجود السماء على عدمها ، فتعلقت القدرة بإيجادها ، (فَسَوَّاهُنَ) أي فجعل السماء (سَبْعَ سَماواتٍ) والحاصل أن الله تعالى خلق الأرض من غير بسط في يومين ، ثم خلق السموات السبع مبسوطة في يومين ، ثم خلق ما في الأرض مما ينتفع به في يومين. وعن ابن مسعود قال : إن الله تعالى كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئا قبل الماء ، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء فسماه سماء ، ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين في الأحد والإثنين ، فجعل الأرض على حوت ، والحوت في الماء على صفاة ، والصفاة على ظهر ملك ، والملك على الصخرة ، والصخرة على الريح فتحرك الحوت ، فتزلزلت الأرض ، فأرسى عليها الجبال ، فقرت. فالجبال تفتخر على الأرض. (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٩) فلا يمكن أن يكون خالقا للأرض وما فيها ، وللسموات وما فيها من العجائب والغرائب إلا إذا كان عالما بها محيطا بجزئياتها وكلياتها. (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) فإذا نصب بإضمار اذكر. وقيل : زائدة. وقيل : بمعنى قد. ويجوز أن ينتصب بقالوا : أتجعل أي قالوا ذلك القول وقت قول الله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣].

روى الضحاك عن ابن عباس : إنه تعالى إنما قال هذا القول للملائكة الذين كانوا في

١٤

الأرض محاربين مع إبليس ، لأن الله تعالى لما أسكن الجن الأرض فأفسدوا فيها ، وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضا بعث الله إبليس في جند من الملائكة فقتلهم إبليس بعسكره حتى أخرجوهم من الأرض وألحقوهم بجزائر البحر. وهؤلاء خزّان الجنان أنزلهم الله من السماء إلى الأرض لطرد الجن إلى الجزائر والجبال وسكنوا الأرض فخفّف الله عنهم العبادة وكان إبليس يعبد الله تارة في الأرض وتارة في السماء ، وتارة في الجنة فدخله العجب وقال في نفسه : ما أعطاني الله هذا الملك إلا لأني أكرم الملائكة عليه. فقال تعالى له ولجنده : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) أي بدلا منكم ورافعكم إليّ فكرهوا ذلك لأنهم كانوا أهون الملائكة عبادة. والمراد به آدم عليه‌السلام (قالُوا) استكشافا عمّا خفي عليهم من الحكمة لا اعتراضا على الله تعالى ولا طعنا في بني آدم على طريق الغيبة : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) بالمعاصي بمقتضى القوة الشهوانية (وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) بالظلم بمقتضى القوة الغضبية ـ فغفلوا عن مقتضى القوة العقلية التي بها يحصل الكمال والفضل ـ (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ) أي ننزهك عن كل ما لا يليق بشأنك ملتبسين (بِحَمْدِكَ) على ما أنعمت به علينا من فنون النعم ، التي من جملتها توفيقنا لهذه العبادة. فالتسبيح لإظهار صفات الجلال ، والحمد لتذكير صفات الأنعام (وَنُقَدِّسُ لَكَ) أي نصفك بما يليق بك من العلو والعزّة ، وننزهك عما لا يليق بك. وقيل : المعنى نطهّر نفوسنا عن الذنوب لأجلك ، أي فنحن أحق بالاستخلاف (قالَ) تعالى : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٣٠) من مصلحة استخلاف آدم عليه‌السلام. (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) أي أسماء كل ما خلق الله من أجناس المحدثات من جميع اللغات المختلفة التي يتكلم بها ولد آدم اليوم (ثُمَّ عَرَضَهُمْ) أي ذوات الأشياء (عَلَى الْمَلائِكَةِ) بأن صور الله الأشياء في قلوبهم فصارت كأنهم شاهدوها ، أو خلق الله تعالى معاني الأسماء التي علّمها آدم حتى شاهدتها الملائكة (فَقالَ) تعالى لهم توبيخا : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) المسميات (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣١) في زعمكم أنكم حق بالخلافة ممن استخلفته. (قالُوا) إقرارا بالعجز : (سُبْحانَكَ) أي تبنا إليك من ذلك القول (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) أي وإنما قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ، لأن الله تعالى أعلمهم ذلك فكأنهم قالوا : إنك أعلمتنا أنهم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء. فقلنا لك : أتجعل فيها من يفسد فيها ، وأما هذه الأسماء فإنك ما أعلمتنا كيفيتها فكيف نعلمها (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ) أي الذي لا يخرج عن علمه شيء ، (الْحَكِيمُ) (٣٢) أي المحكم لصنعته (قالَ) تعالى : (يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ) أي أخبر الملائكة (بِأَسْمائِهِمْ) أي المسميات (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) مفصلة وبيّن لهم أحوال كل من المسميات وخواصه وأحكامه المتعلقة بالمعاش والمعاد (قالَ) الله تعالى لهم موبخا : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي أعلم غيب ما يكون فيهما (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) أي تظهرون من قولكم : أتجعل فيها إلى آخره (وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (٣٣) أي من استبطانكم أنكم أحقاء بالخلافة.

١٥

وروى الشعبي عن ابن عباس وابن مسعود : أن المراد بقوله تعالى : (ما تُبْدُونَ) قولهم : «أ تجعل فيها من يفسد فيها» وبقوله : (وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) ما أسرّ إبليس في نفسه من الكبر ومن أن لا يسجد. وقيل : لما خلق الله تعالى آدم رأت الملائكة خلقا عجيبا ، فقالوا : ليكن ما شاء فلن يخلق ربنا خلقا إلا كنا أكرم عليه منه فهذا الذي كتموه. (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) سجود تعظيم لآدم من غير وضع الجهة على الأرض (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) عن أمر الله (وَاسْتَكْبَرَ) أي تعاظم عن السجود لآدم (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) (٣٤) أي صار من الكافرين بإبائه عن أمر الله. ويقال : إن إبليس حين اشتغاله بالعبادة كان منافقا كافرا ، وهذا السجود كان قبل دخول آدم الجنة. وروي أن بني آدم عشر : الجن ، والجن وبنو آدم عشر حيوانات البر ، وهؤلاء كلهم عشر الطيور ، وهؤلاء كلهم عشر حيوانات البحر ، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين بها ، وكل هؤلاء عشر ملائكة سماء الدنيا وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الثانية. وعلى هذا الترتيب إلى ملائكة السماء السابعة ، ثم الكل في مقابلة ملائكة الكرسي نزر قليل ، ثم كل هؤلاء عشر ملائكة السرادق الواحد من سرادقات العرش التي عددها ستمائة ألف طول كل سرادق وعرضه وسمكه إذا قوبلت به السموات والأرضون وما فيها وما بينها فإنها كلها تكون شيئا يسيرا وقدرا صغيرا ، وما من مقدار موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع أو قائم لهم ، زجل بالتسبيح والتقديس ، ثم كل هؤلاء في مقابلة الملائكة الذين يحومون حول العرش كالقطرة في البحر ولا يعلم عددهم إلا الله ، ثم مع هؤلاء ملائكة اللوح الذين هم أشياع إسرافيل عليه‌السلام والملائكة الذي هم جنود جبريل عليه‌السلام وكلهم مشتغلون بعبادته تعالى لا يحصي أجناسهم ولا مدة أعمارهم ولا كيفية عبادتهم إلا الله تعالى. (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ) حواء (الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها) أكلا (رَغَداً) أي واسعا لذيذا (حَيْثُ شِئْتُما) أي في أيّ مكان أردتما منها ، (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ).

روي أن أبا بكر الصديق رضي‌الله‌عنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الشجرة فقال : «هي الشجرة المباركة السنبلة». وعن مجاهد وقتادة : هي التين. وعن يزيد بن عبد الله : هي الأترج ، وعن ابن عباس : هي شجرة العلم عليها من كل لون وفن. (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) (٣٥) أي فتصيرا من الضارين لأنفسكما. ويقال : من الذين وضعوا أمر الله تعالى في غير موضعه (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ) أي أزلقهما إبليس (عَنْها) أي الجنة.

وقرأ حمزة بألف بعد الزاي ، والباقون بغير ألف وتشديد اللام (فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) أي من الرغد. (وَقُلْنَا) لآدم وحواء وإبليس : (اهْبِطُوا) انزلوا إلى الأرض ، فهبط آدم بسر نديب من أرض الهند على جبل يقال له : نود ، وهبطت حواء بجدة ، وإبليس بالأبلة من أعمال البصرة

١٦

(بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) قال الله تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) [الأعراف : ٢٢] ، (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) أي منزل (وَمَتاعٌ) أي منفعة ومعاش (إِلى حِينٍ) (٣٦) أي إلى وقت الموت (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) أي حفظ آدم من ربه كلمات لكي تكون سببا له ولأولاده إلى التوبة.

وقرأ ابن كثير بنصب «آدم» ، ورفع «كلمات» أي جاءته عن الله تعالى كلمات. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : «إنها لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ، عملت سوءا ، وظلمت نفسي ، فاغفر لي إنك أنت خير الغافرين ، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ، عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت خير الراحمين ، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ، عملت سوءا وظلمت نفسي فتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم».

وقال مجاهد وقتادة هي : «ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين». (فَتابَ عَلَيْهِ) أي رجع عليه بالرحمة وقبول التوبة (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ) أي الرجاع على عباده بالمغفرة. (الرَّحِيمُ) (٣٧) أي البالغ في الرحمة لمن مات على التوبة. (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها) أي الجنة (جَمِيعاً) إما في زمان واحد أو في أزمنة متفرقة. وفائدة تكرير الأمر بالهبوط أن آدم وحواء لما آتيا بالزلة أمرا بالهبوط فتابا بعد الأمر به ، ووقع في قلبهما أن الأمر به لما كان بسبب الزلة فبعد التوبة لا يبقى الأمر به ، فأعاد الله الأمر به مرة ثانية ليعلما أن الأمر به باق بعد التوبة ، لأن الأمر به كان تحقيقا للوعد المتقدم في قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] وعلى هذا فالجمع لاثنين فقط آدم وحواء ، ويحتمل كون الجمع لهما ولولديهما قابيل وإقليما بناء على القول بأنهما ولدا في الجنة ، ولعل عدم ذكرهما كونهما تابعين لأبويهما. وكان قابيل قد غضبه أبواه لقتله هابيل (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ) يا ذرية آدم (مِنِّي هُدىً) دلالة كدليل العقل والنقل ، و «إن» للشرطية أدغمت في «ما» الزائدة للتأكيد (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) بأن تأمل الأدلة بحقها واستنتج المعارف منها (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) فيما يستقبلهم من العذاب (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٣٨) على ما فاتهم من الدنيا. ويقال : فلا خوف عليهم إذا ذبح الموت ولا هم يحزنون إذا أطبقت النار ، وزوال الخوف يتضمن السلامة من جميع الآفات ، وزوال الحزن يقتضي الوصول إلى كل اللذات والمرادات ، وهذا يدل على أن المكلف الذي أطاع الله تعالى لا يلحقه خوف في القبر وعند البعث وعند حضور الموقف ، وعند تطاير الكتب ، وعند نصب الميزان وعند الصراط (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) برسلنا المرسلة إليهم (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) المنزّلة عليهم سواء كانوا من الإنس أو من الجن (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) أي أهل النار وملازموها بحيث لا يفارقونها. (هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٣٩) أي دائمون لا يخرجون منها ولا يموتون فيها (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) أي يا أولاد يعقوب ، وهذا خطاب مع جماعة اليهود الذين كانوا بالمدينة من أولاد يعقوب عليه‌السلام في أيام سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) أي على آبائكم من الإنجاء من فرعون وفلق البحر ، وتظليل الغمام في التيه ،

١٧

وإنزال المنّ والسلوى فيه ، وإعطاء الحجر الذي كان كرأس الرجل يسقيهم ما شاؤوا من الماء متى أرادوا ، وإعطاء عمود من النور ليضيء لهم بالليل وجعل رؤوسهم لا تتشعث ، وثيابهم لا تبلى ، وجعلهم أنبياء وملوكا بعد أن كانوا عبيدا للقبط ، وإنزال الكتب العظيمة التي ما أنزلها الله على أمة سواهم أي أقيموا بشكر تلك النعمة. (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) أي أوفوا بما أمرتكم به من الطاعات ونهيتكم عنه من المعاصي ومن الوفاء بالأمر الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) أي أرض عنكم وأدخلكم الجنة. (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (٤٠) فيما تأتون وتتركون. واعلم أن كل من كان خوفه في الدنيا أشد كان أمنه يوم القيامة أكثر ، وبالعكس.

روي أنه ينادي مناد يوم القيامة : «وعزتي وجلالي أني لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين من أمنني في الدنيا خوفته يوم القيامة ومن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة». (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ) من القرآن (مُصَدِّقاً) أي موافقا بالتوحيد وصفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعض الشرائع (لِما مَعَكُمْ) من التوراة (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) أي بالقرآن من اليهود فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم المدينة وفيها قريظة والنضير فكفروا به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم تتابعت سائر اليهود على ذلك الكفر. ويقال : ولا تكونوا أول من جحد مع المعرفة لأن كفر قريش كان من الجهل لا مع المعرفة. (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي) أي بكتمان صفة محمد (ثَمَناً قَلِيلاً) أي عوضا يسيرا. وذلك لأن رؤساء اليهود مثل كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وأمثالهما كانوا يأخذون من سفلة اليهود الهدايا ، وعلموا أنهم لو اتبعوا محمدا لانقطعت عنهم تلك الهدايا فأصروا على الكفر لئلا ينقطع عنهم ذلك القدر المحقّر ، وذلك لأن الدنيا كلها بالنسبة إلى الدين قليلة جدا ، ثم تلك الهدايا كانت في نهاية القلة بالنسبة إلى الدنيا (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) (٤١) أي فخافوني في شأن هذا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) والباء للاستعانة والمعنى ولا تخلطوا الحق بسبب الشبهات التي توردونها على السامعين ، وذلك لأن النصوص الواردة في التوراة والإنجيل في أمر محمد كانت نصوصا خفية يحتاج في معرفتها إلى الاستدلال ، ثم إنهم كانوا يجادلون فيها ويشوشون وجه الدلالة على المتأملين فيها بسبب إلقاء الشبهات (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٤٢) ما في إضلال الخلق من الضرر العظيم العائد عليكم يوم القيامة ، وذلك لأن التلبيس صار صارفا للخلق عن قبول الحق إلى يوم القيامة ، وداعيا لهم إلى الاستمرار على الباطل إلى يوم القيامة ، ثم ذكر الله لزوم الشرائع عليهم بعد الإيمان. (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي أتموا الصلوات الخمس (وَآتُوا الزَّكاةَ) أي أعطوا زكاة أموالكم (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٤٣) أي صلوا الصلوات الخمس مع المصلين محمد وأصحابه في جماعتهم ، وخصّ الله الركوع بالذكر تحريضا لليهود على الإتيان بصلاة المسلمين فإن اليهود لا ركوع في صلاتهم فكأنه تعالى قال : صلوا الصلاة ذات الركوع في جماعة (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ).

١٨

روي عن ابن عباس أنه قال : إن أحبار المدينة إذا جاءهم أحد في الخفية لاستعلام أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : هو صادق فيما يقول وأمره حقّ فاتبعوه ، وهم كانوا لا يتبعونه لطمعهم في الهدايا والصلات التي كانت تصل إليهم من أتباعهم. ويقال : إن جماعة من اليهود كانوا مبعث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخبرون مشركي العرب أن رسولا سيظهر منكم ويدعو إلى الحق وكانوا يرغبونهم في اتباعه ، فلما بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسدوه وكفروا به فبكتهم الله تعالى بذلك فقال : (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) أي التوراة الناطقة بنعوت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٤٤) أي أتتلونه فلا تعقلون ما فيه (وَاسْتَعِينُوا) أيها اليهود على ترك ما تحبون من الدنيا وعلى الدخول فيما تستثقله طباعكم من قبول دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بِالصَّبْرِ) أي بحبس النفس عن اللذات (وَالصَّلاةِ) فإنها جامعة لأنواع العبادات (وَإِنَّها) أي الصلاة (لَكَبِيرَةٌ) أي لشاقة (إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) (٤٥) أي المائلين إلى الطاعة (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) بالموت في كل لحظة وذلك لأن كل من كان منتظرا للموت في كل لحظة ، لا يفارق قلبه الخشوع ، فهم يبادرون إلى التوبة لأن خوف الموت مما يقوي دواعي التوبة. (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) (٤٦) في الآخرة فيجازيهم بأعمالهم (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) (٤٧) أي واذكروا أني فضلت آباءكم على الموجودين في زمانهم لا على من مضى ولا على من يوجد بعدهم ، وأيضا معنى تفضيلهم على جميع العوالم أن الله تعالى بعث منهم رسلا كثيرة لم يبعثهم من أمة غيرهم ففضلوا لهذا النوع من التفضيل على سائر الأمم (وَاتَّقُوا) أيها اليهود إن لم تؤمنوا (يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ) بالتأنيث على قراءة ابن كثير وأبي عمرو وبالتذكير على قراءة الباقين (مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) أي فداء (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (٤٨) أي يمنعون من عذاب الله تعالى ومعنى الآية أن يوم القيامة لا تنوب نفس عن نفس شيئا ولا تحمل عنها شيئا مما أصابها بل يفر المرء فيه من أخيه وأمه وأبيه ، ومعنى هذه النيابة أن طاعة المطيع لا تقضي عن العاصي ما كان واجبا عليه. (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ) وقرئ «أنجيناكم» و «نجيتكم» فـ «إذا» في موضع نصب عطفا على نعمتي عطف تفصيل على مجمل ، وكذلك الظروف الآتية في الكلام المتعلق ببني إسرائيل وينقضي عند قوله تعالى : «(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) والخطاب للموجودين في زمن نبينا. تذكيرا لهم بما أنعم الله على آبائهم لأن إنجاء الآباء سبب في وجود الأبناء». والمعنى ويا بني إسرائيل اذكروا إذ نجينا آباءكم (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) أي أتباعه وأهل دينه وعمر فرعون أكثر من أربعمائة سنة ـ وهو الوليد بن مصعب بن ريان ـ (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) أي يطلبون لكم أشد العذاب. ثم بيّن الله ذلك بقوله : (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) صغارا.

وقرئ «يذبحون» بالتخفيف. (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) أي يتركونهن أحياء صغارا. ويقال : يستخدمونهن كبارا ، وذلك أن فرعون رأى في منامه نارا أقبلت من بيت المقدس حتى أحاطت

١٩

ببيوت مصر وأحرقت كل قبطي ، وتركت بني إسرائيل ، فدعا فرعون الكهنة وسألهم عن ذلك. فقالوا : يولد في بني إسرائيل ولد يكون هلاك القبط وزوال ملكك على يده. فأمر فرعون بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل حتى قتل من أولادهم اثني عشر ألف صبي. (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (٤٩) والبلاء هاهنا هو المحنة إن أشير بلفظ ذلكم إلى صنع فرعون والنعمة إن أشير به إلى الإنجاء وحمل البلاء على النعمة أحسن ، لأنها هي التي صدرت من الله تعالى ، ولأن موضع الحجة على اليهود إنعام الله تعالى على أسلافهم ، ثم إن كون استبقاء نسائهم على الحياة محنة مع أنه ترك للعذاب لما أن ذلك كان للاستعمال في الأعمال الشاقة وكان سببا لانقطاع النسل ولفساد أمر معيشتهن. (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) أي واذكروا إذ فلقناه بسببكم أي لأجل أن يتيسر لكم سلوكه (فَأَنْجَيْناكُمْ) من الغرق بإخراجكم إلى الساحل (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (٥٠) التطام أمواج البحر بفرعون وقومه وترون بعد ثلاثة أيام جثثهم التي قذفها البحر إلى الساحل وفرعون معهم طافين.

روي أنه تعالى أمر موسى عليه‌السلام أن يسري ببني إسرائيل ، وكانوا اثني عشر سبطا ، كل سبط خمسون ألفا فلما خرج موسى ببني إسرائيل بلغ ذلك فرعون. فقال : لا تتبعوهم حتى يصيح الديك ، ثم اجتمع إلى فرعون ألف ألف ومائتا ألف ، كل واحد منهم على فرس فتبعوا موسى وقومه نهارا ، وصادفوهم على شاطئ البحر ، فضرب موسى بعصاه البحر فانشق البحر اثني عشر جبلا في كل واحد منها طريق فكان فيه وحل ، فهبت الصبا فجف البحر حتى صار طريقا يابسا ، فأخذ كل سبط منهم طريقا ودخلوا فيه فقالوا لموسى : إنّ بعضنا لا يرى صاحبه فضرب موسى عصاه على البحر فصار بين الطرق منافذ ، وكوى فرأى بعضهم بعضا فلما وصل فرعون شاطئ البحر رأى إبليس واقفا فنهاه عن الدخول ، فجاء جبريل على حجرة ، فتقدم فرعون وهو على فحل ، فتبعها فرس فرعون فلما دخل فرعون البحر صاح ميكائيل بهم من خلفهم وهو على فرس فقال : ألحقوا آخركم بأولكم. فلما دخلوا البحر ولم يبق واحد منهم التطم البحر عليهم وأغرقهم أجمعين وكان بين طرفي البحر أربعة فراسخ ، وهو بحر القلزم طرف من بحر فارس. وقيل : كان ذلك اليوم يوم عاشوراء فصام موسى عليه‌السلام ذلك اليوم شكرا لله تعالى (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى).

قرأ أبو عمرو ويعقوب بغير ألف في هذه السورة وفي الأعراف وطه. وقرأ الباقون بالألف في المواضع الثلاثة. (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) بإعطاء الكتاب (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) أي عبدتم العجل المسمى «بهموت». (مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد انطلاقه إلى الجبل (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) (٥١) أي ضارون لأنفسكم.

قيل : وعد موسى عليه‌السلام بني إسرائيل وهو بمصر أن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب

٢٠