مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

الهرم. والمعنى وعلى الذين يقدرون على الصوم مع المشقة فدية. (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) كأن زاد في الفدية على القدر الواجب أو صام مع إخراج الفدية (فَهُوَ) أي التطوع (خَيْرٌ لَهُ) بالثواب (وَأَنْ تَصُومُوا) أيها المرخصون لكم في الإفطار من المرضى والمسافرين والذين يقدرون على الصوم مع المشقة (خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١٨٤) ما في الصوم من الفضيلة ومن المعاني المورثة للتقوى وبراءة الذمة فإن العبادة كلما كانت أشق كانت أكثر ثوابا (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) أي إن جبريل نزل بالقرآن جملة واحدة في ليلة القدر وكانت ليلة أربع وعشرين من رمضان من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا فأملاه جبريل على السفر فكتبوه في صحف وكانت تلك الصحف في محل من تلك السماء يسمى بيت العزة ، ثم نزل جبريل بالقرآن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نجوما في ثلاث وعشرين سنة مدة النبوة بحسب الحاجة يوما بيوم آية وآيتين وثلاثا وسورة. (هُدىً لِلنَّاسِ) أي بيانا للناس من الضلالة (وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى) أي واضحات من أمر الدين فالهدى الأول محمود على أصول الدين ، والهدى الثاني على فروع الدين (وَالْفُرْقانِ) أي من الفرق بين الحق والباطل وبين الحلال والحرام. (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) أي من شهد منكم أول الشهر في الحضر فليصم كل الشهر. وشهود الشهر إما بالرؤية ، وإما بالسماع فإذا رأى إنسان هلال رمضان وقد انفرد بتلك الرؤية ورد الإمام شهادته لزمه أن يصوم لأنه قد حصل شهود الشهر في حقه فوجب عليه الصوم ، وإذا شهد عدلان على رؤية الهلال حكم به في الصوم والفطر جميعا ، وإذا شهد عدل واحد على رؤية هلال شوال لا يحكم به أما إذا شهد على هلال رمضان فيحكم به احتياطا لأمر الصوم ، أي يقبل قول الواحد في إثبات العبادة ولا يقبل في الخروج منها إلا قول الاثنين لكي يصوموا ولا يفطروا احتياطا (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً) في شهر رمضان وإن كان مقيما (أَوْ عَلى سَفَرٍ) أي متلبسا بالسفر وقت طلوع الفجر وإن كان صحيحا (فَعِدَّةٌ) أي فعليه عدة (مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أي فليصم منها بقدر ما أفطر (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) أي رخصة الإفطار في السفر (وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) أي لم يرد أن يوجد لكم العسر في الصوم في السفر. (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) أي لكي تصوموا في الحضر عدة ما أفطرتم في السفر. وقرأ أبو بكر عن عاصم بفتح الكاف وتشديد الميم (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ) عند انقضاء الصوم (عَلى ما هَداكُمْ) إلى هذه الطاعة.

قال ابن عباس : حقّ على المسلمين إذا رأوا هلال شوال أن يكبروا. وقال الشافعي : وأحب إظهار التكبير في العيدين ، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق ، وأبو يوسف ، ومحمد. (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٨٥) الله على رخصته. قال الفراء : قوله تعالى : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) علة للأمر بمراعاة العدة. وقوله تعالى : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ) علة ما علمكم الله من كيفية القضاء. وقوله تعالى : (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) علة التسهيل (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي) أي عن قربي وبعدي

٦١

(فَإِنِّي قَرِيبٌ) أي فقل لهم يا أشرف الخلق : إني قريب منهم بالعلم والإجابة (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ). قيل : المراد من الدعاء التوبة عن الذنوب لأن التائب يدعو الله تعالى عند التوبة ، وإجابة الدعاء : هو قبول التوبة ، وقيل : المراد من الدعاء العبادة.قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدعاء هو العبادة». (١) ومما يدل على ذلك قوله تعالى : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر : ٦٠]. وقرأ أبو عمرو وقالون عن نافع «الداعي إذا دعاني» بإثبات الياء فيهما في الوصل. والباقون بحذفها على الوصل في الأولى وعلى التخفيف في الثانية (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) أي فلينقادوا لي وليستسلموا لي (وَلْيُؤْمِنُوا بِي) وهذا الترتيب يدل على أن العبد لا يصل إلى نور الإيمان وقوته إلا بتقدم الطاعات والعبادات (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (١٨٦) أي يهتدون لمصالح دينهم ودنياهم إذا استجابوا لي وآمنوا بي وسبب نزول هذه الآية قيل : إن أعرابيا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أقريب ربنا فندعوه سرا أم بعيد فندعوه جهرا؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وروي عن قتادة وغيره : أن الصحابة قالوا : كيف تدعو ربنا يا نبي الله أي أبالمناجاة أو بالمناداة؟ فأنزل الله هذه الآية. وقال عطاء وغيره : إنهم سألوا في أي ساعة ندعو الله فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال الحسن : سأل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : أين ربنا؟. وقال ابن عباس : إن يهود أهل المدينة قالوا : يا محمد كيف يسمع ربك دعاءنا؟ فنزلت هذه الآية. (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) أي المجامعة مع نسائكم. قال المفسرون : كان في أول شريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أفطر الصائم حلّ له الأكل والشرب والوقاع بشرط أن لا ينام ، ولا يصلي العشاء الأخيرة. فإذا فعل أحدهما بأن نام أو صلى العشاء حرّم عليه هذه الأشياء إلى الليلة القابلة. فواقع عمر بن الخطاب أهله بعد صلاة العشاء فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واعتذر إليه ، فقام رجال واعترفوا بالجماع بعد العشاء فنزلت هذه الآية ناسخة لتلك الشريعة : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) هذا مبين لسبب إحلال الوقاع وهو صعوبة اجتنابهن وستر أحدهما الآخر عن الفجور. (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) أي تظلمونها لأنكم تسرون بالمعصية في الجماع بعد صلاة العتمة والأكل بعد النوم (فَتابَ عَلَيْكُمْ) أي قبل توبتكم (وَعَفا عَنْكُمْ) أي محا ذنوبكم ولم يعاقبكم في الخيانة (فَالْآنَ) أي حين أحل لكم (بَاشِرُوهُنَ) أي جامعوهن (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) أي اطلبوا ما وضع الله لكم بالنكاح من التناسل وقصد العفة أي لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها وقيل : هذا نهي عن العزل.

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب التفسير ، باب : تفسير سورة ٢ ، وابن ماجة في كتاب الدعاء ، باب : فضل الدعاء ، وأحمد في (م ٤ / ص ٢٦٧).

٦٢

قال الشافعي : لا يعزل الرجل عن الحرة إلا بإذنها ، ولا بأس أن يعزل عن الأمة ، وقيل : معنى ذلك ابتغوا هذه المباشرة من الزوجة والمملوكة فإن ذلك هو الذي كتب الله لكم أي قسم الله لكم (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) من حين يدخل الليل (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) أي حتى يتبين لكم بياض النهار من سواد الليل حال كون الخيط الأبيض بعضا (مِنَ الْفَجْرِ) الصادق وسمى الصبح الصادق فجرا لأنه يتفجر منه النور (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) أي إلى دخوله بغروب الشمس نزلت هذه الآية في شأن صرمة بن مالك بن عدي وذلك أنه كان يعمل في أرض له وهو صائم فلما أمسى رجع إلى أهله فقال : هل عندك طعام؟ فقالت : لا ، وأخذت تصنع له طعاما فأخذه النوم من التعب فأيقظته فكره أن يأكل خوفا من الله فأصبح صائما مجهودا في عمله فلم ينتصف النهار حتى غشي عليه فلما أفاق أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبره بما وقع فأنزل الله هذه الآية. (وَلا تُبَاشِرُوهُنَ) أي لا تجامعوهن ليلا ونهارا (وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ) أي ماكثون (فِي الْمَساجِدِ) بنية الاعتكاف للتقرب إلى الله تعالى (تِلْكَ) أي المباشرة (حُدُودُ اللهِ) أي معصية الله (فَلا تَقْرَبُوها) أي فلا تقربوا المعصية واتركوا مباشرة النساء ليلا ونهارا حتى تفرغوا من الاعتكاف (كَذلِكَ) أي هكذا (يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ) أي أمره ونهيه (لِلنَّاسِ) أو المعنى كما بيّن الله ما أمركم به ونهاكم عنه كذلك يبين سائر أدلته على دينه (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (١٨٧) أي لكي يتقوا معصية الله نزلت هذه الآية في حق نفر من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم علي بن أبي طالب ، وعمار بن ياسر وغيرهما ، فكانوا معتكفين في المسجد فيأتون إلى أهاليهم إذا احتاجوا ، ويجامعون نساءهم ، ويغتسلون فيرجعون إلى المسجد فنهاهم الله عن ذلك (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) أي لا يأخذ بعضكم مال بعض بالطريق الحرام شرعا (وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ) أي ولا تدخلوا بالأموال إلى الحكام لتأخذوا جملة من أموال الناس متلبسين بالإثم أي بالحلف الكاذب (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١٨٨) أنكم مبطلون. فالإقدام على القبيح مع العلم بقبحه أقبح ، وصاحبه بالتوبيخ أحق.

روي أن عبدان بن الأسوع الحضرمي ادعى على امرئ القيس الكندي قطعة أرض ولم يكن له بيّنة ، فحكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يحلف امرؤ القيس ، فهمّ بالحلف. فقرأ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) [آل عمران : ٧٧] الآية. فارتدع عن اليمين وأقر بالحق وسلّم الأرض إلى عبدان فنزلت هذه الآية.

وروي عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أنه قال : اختصم رجلان إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عالم بالخصومة وجاهل بها ، فقضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للعالم. فقال من قضي عليه : يا رسول الله والذي لا إله إلا هو إني محق ، فقال : «إن شئت أعاوده» فعاوده ، فقضى للعالم. فقال المقضي عليه مثل ما قال أولا.

٦٣

ثم عاوده ثالثا ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من اقتطع حق امرئ مسلم بخصومته فإنما اقتطع قطعة من النار».فقال العالم المقضي له : يا رسول الله إن الحق حقه. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من اقتطع بخصومته وجد له حق غيره فليتبوأ مقعده من النار»(١). ومعنى «اقتطع» أي أخذ وسأل معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالا : يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يمتلئ نورا ، ثم لا يزل ينقص حتى يعود دقيقا كما بدأ ولا يكون على حالة واحدة كالشمس؟ فنزل قوله تعالى :(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) أي عن فائدة اختلاف الأهلة بالزيادة والنقصان لما ذا (قُلْ) يا أشرف الخلق (هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) أي هي علامات لأغراض الناس الدينية والدنيوية وللحج كعدة نسائهم وأيام حيضهن ومدة حملهن وصيامهم وإفطارهم وقضاء دينهم وأوقات زرعهم ومتاجرهم ، ودخول وقت الحج وخروجه ، ثم نزل في شأن نفر من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كنانة وخزاعة كانوا يدخلون بيوتهم في الإحرام من خلفها أو من سطحها كما فعلوا في الجاهلية قوله تعالى : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) في الإحرام (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) محارمه تعالى كالصيد وتوكل على الله تعالى في جميع أموره (وَأْتُوا الْبُيُوتَ) أي ادخلوها (مِنْ أَبْوابِها) في الإحرام كغيره (وَاتَّقُوا اللهَ) في تغيير الأحكام أو في جميع أموركم (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١٨٩) لكي تفوزوا بالخير في الدين والدنيا أو لكي تنجوا من السخط والعذاب (وَقاتِلُوا) أي جاهدوا (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في طاعته وطلب رضوانه في الحل والحرم. (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) أي يبدءونكم بالقتال من الكفار (وَلا تَعْتَدُوا) عليهم بابتداء القتال في الحرم (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (١٩٠) أي لا يريد الخير للمتجاوزين الحد.(وَاقْتُلُوهُمْ) إن بدءوكم (حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أي وجدتموهم في الحل والحرم (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) أي من مكة (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) أي والمحنة التي يفتتن بها الإنسان كالإخراج من الوطن أصعب من القتل لدوام تعبها وبقاء تألم النفس بها ، وقيل : وشركهم بالله وعبادة الأوثان في الحرم وصدّهم لكم عنه أشر من قتلكم إياهم فيه (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي لا تبدأوهم بالقتل في الحرم (حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) أي الحرم بالابتداء (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ) فيه بالابتداء (فَاقْتُلُوهُمْ) فيه ولا تبالوا بقتالهم فيه لأنهم الذين هتكوا حرمته فاستحقوا أشد العذاب.

قرأ حمزة والكسائي «ولا تقتلوهم» ، «حتى يقتلوكم» ، «فإن قتلوكم» كله بغير ألف.(كَذلِكَ) أي مثل هذا الجزاء الواقع منكم بالقتل والإخراج (جَزاءُ الْكافِرِينَ) (١٩١) يفعل بهم مثل ما

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الإيمان ، باب : ٢١٨ ، والنسائي في كتاب القضاة ، باب : القضاء في قليل المال وكثيره ، والدارمي في كتاب البيوع ، باب : فيمن اقتطع مال امرئ مسلم بيمينه ، «بما معناه».

٦٤

فعلوا (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الكفر (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لهم ما قد سلف (رَحِيمٌ) (١٩٢) بهم (وَقاتِلُوهُمْ) بالابتداء منهم في الحل والحرم (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي كي لا توجد فتنة عن دينكم ، أي وقد كانت فتنتهم أنهم كانوا يؤذون أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة حتى ذهبوا إلى الحبشة ، ثم واظبوا على ذلك الإيذاء حتى ذهبوا إلى المدينة وكان غرضهم من إثارة ذلك الفتنة أن يتركوا دينهم ويرجعوا كفارا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية. والمعنى قاتلوهم حتى تعلوا عليهم فلا يفتنوكم عن دينكم فلا تقعوا في الشرك (وَيَكُونَ الدِّينُ) أي وكي يوجد الإسلام والعبادة (لِلَّهِ) وحده لا يعبدون في الحرم سواه (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن قتالكم في الحرم (فَلا عُدْوانَ) أي فلا سبيل لكم بالقتل (إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) (١٩٣) أي المبتدئين بالقتل ، أو المعنى فإن انتهوا عن الأمر الذي يوجب قتالهم وهو إما كفرهم أو قتالهم فلا قتل إلا على الذين لا ينتهون عن الكفر فإنهم بإصرارهم على كفرهم ظالمون أنفسهم (الشَّهْرُ الْحَرامُ) الذي دخلت يا محمد فيه لقضاء العمرة وهو ذو القعدة من السنة السابعة مقابل (بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) الذي صدوك عن دخول مكة وهو ذو القعدة من السنة السادسة. أي من استحل دمكم من المشركين في الشهر الحرام فاستحلوه فيه. (وَالْحُرُماتُ) أي الشهر الحرام والبلد الحرام وحرمة الإحرام (قِصاصٌ) أي يجري فيها بدل (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ) بالقتال في الحرم أو الإحرام أو الشهر الحرام (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) أي فجازوه بمثل ما اعتدى عليكم به (وَاتَّقُوا اللهَ) أي اخشوه بالابتداء (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (١٩٤) بالنصرة والحفظ (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في طاعة الله لقضاء العمرة (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) أي ولا تلقوا أنفسكم إلى الهلاك بمنع النفقة في سبيل الله أو بالإسراف في النفقة أو بتضييع وجه المعاش (وَأَحْسِنُوا) في الإنفاق على من تلزمكم مؤنته بأن يكون ذلك الإنفاق وسطا فلا تسرفوا ولا تقتروا. ويقال : وأحسنوا الظن في الله (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (١٩٥) أي يريد بهم الخير ويثيبهم نزلت الآيات من قوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) [البقرة : ١٩٠] إلى هاهنا في حق المحرمين مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقضاء العمرة بعد عام الحديبية لأنهم خافوا أن يقاتلهم الكفار في الحرم والإحرام أو الشهر الحرام وكرهوا ذلك لأن القتال في ذلك الوقت كان محرما في تلك الأحوال الثلاثة. (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) أي افعلوا الحج والعمرة على نعت التمام بأركانهما وشروطهما لله بأن تخلصوهما للعبادة ولا تخلطوهما بشيء من التجارة والأغراض الدنيوية (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) أي منعتم عن إتمامهما بعدو (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أي فعليكم إذا أردتم التحلل ما تيسّر من الهدي من بدنة أو بقرة ، أو شاة لترك الحرم ، واذبحوها حيث أحصرتم في حل أو حرم (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) أي وقت مجيء ذبحه وهو مكان الإحصار عند الشافعي لكن يندب إرساله إلى الحرم خروجا من خلاف أبي حنيفة ، فإذا ذبحتم فاحلقوا. ويجب نية التحلل عند الذبح والحلق وبهما يحصل الخروج من النسك.

٦٥

قال الشافعي : كل ما وجب على المحرم في ماله لا يجزئ إلا في الحرم لمساكين أهله إلا في نوعين :

أحدهما : من ساق هديا فعطب في طريقه فيذبحه ويخلي بينه وبين المساكين.

وثانيهما : دم المحصر بالعدو فإنه يذبح حيث حبس لأن هذا الدم إنما وجب لإزالة الخوف ، وزوال الخوف إنما يحصل إذا قدر عليه حيث أحصر (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) في بدنه محتاجا إلى المداواة واستعمال الطيب واللباس (أَوْ) كان (بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) أي ألم في رأسه بسبب القمل والصيبان أو بسبب الصداع ، أو كان عنده خوف من حدوث مرض أو ألم واحتاج إلى الحلق أبيح له ذلك ، بشرط بذل الفدية كما قال تعالى : (فَفِدْيَةٌ) أي فعليه فدية (مِنْ صِيامٍ) في ثلاثة أيام (أَوْ صَدَقَةٍ) بثلاثة آصع من غالب قوت مكة على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع (أَوْ نُسُكٍ) أي ذبح شاة (فَإِذا أَمِنْتُمْ) من العدو (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ) أي فمن تلذذ بمحظورات الإحرام كالطيب واللباس والنساء بسبب إتيانه بالعمرة إلى الإحرام بالحج (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أي فعليه ما تيسر من الدم للجبران بخمسة شروط :

الأول : أن يقدم العمرة على الحج.

الثاني : أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج.

الثالث : أن يحج في هذه السنة.

الرابع : أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام.

الخامس : أن يحرم بالحج من جوف مكة بعد الفراغ من العمرة ووقت وجوب هذا الدم بعد ما أحرم بالحج ، ويستحب أن يذبح يوم النحر ويجوز تقديم الذبح على الإحرام بالحج بعد الفراغ من العمرة ، لأن دم التمتع عندنا دم جبران كسائر دماء الجبرانات. وعند أبي حنيفة هو دم نسك كدم الأضحية فيختص بيوم النحر فلا يجوز عنده الذبح قبله (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) أي فمن لم يجد الهدي لفقده أو فقد ثمنه فعليه صيام ثلاثة أيام في حال اشتغاله بإحرام الحج في أيام الاشتغال بأعمال الحج بعد الإحرام وقبل التحلل (وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) إلى أهليكم ووطنكم مكة أو غيرها. وقرأ ابن أبي عبلة سبعة بالنصب عطفا على محل ثلاثة أيام (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) في البدل عن الهدي قائمة مقامه. (ذلِكَ) أي لزوم الهدي وبدله على التمتع (لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وهو من كان من الحرم على مسافة القصر عند الشافعي ، ومن كان مسكنه وراء الميقات عند أبي حنيفة وأهل الحل عند طاوس وغير أهل مكة عند مالك. (وَاتَّقُوا اللهَ) فيما

٦٦

فرض عليكم (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (١٩٦) لمن تهاون بحدوده (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) أي أشهر الحج معروفات بين الناس وهي شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة إلى طلوع فجر يوم النحر عند الشافعي. (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) أي فمن أوجب الحج على نفسه بالإحرام فيهن فلا جماع ولا خروج عن حدود الشرع بارتكاب المحظورات ولا خصام مع الخدم والرفقة وغيرهما في أيام الحج.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فلا رفث ولا فسوق» بالرفع والتنوين ، ولا جدال بالنصب. والباقون قرءوا الكل بالنصب. والمعنى على هذا لا يكونن رفث ولا فسوق ، ولا خلاف في الحج وذلك أن قريشا كانت تخالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام فارتفع الخلاف بأن أمروا بأن يقفوا بعرفات كسائر العرب ، واستدل على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج كهيئة يوم ولدته أمه» (١). فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يذكر الجدال (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) كصدقة وكترك المنهي (يَعْلَمْهُ اللهُ) أي يقبله أو يجزي به خير جزاء (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) أي تزودوا من التقوى لمعادكم فإنها خير زاد وهي فعل الواجبات وترك المحظورات. ويقال : وتزودوا ما تعيشون به لسفركم في الدنيا فإن خير الزاد ما تكفون به وجوهكم عن السؤال وأنفسكم عن الظلم (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) (١٩٧) أي ذوي العقول. (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) أي ليس عليكم حرج في أن تطلبوا رزقا من ربكم بالتجارة في الحج (فَإِذا أَفَضْتُمْ) أي رجعتم (مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ) بالتلبية والتسبيح والتحميد والتهليل (عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) وهو جبل يقف عليه الإمام وسمي «قزح» وهو آخر حد المزدلفة.

وقال بعضهم : المشعر الحرام هو المزدلفة ، لأن الذكر المأمور به عنده يحصل عقب الإفاضة من عرفات وما ذاك إلا بالمبيت بالمزدلفة (وَاذْكُرُوهُ) أي الله (كَما هَداكُمْ) أي لأجل هدايته إياكم لمعالم دينه (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) (١٩٨) أي وإنكم كنتم من قبل الهدي لمن الجاهلين بالإيمان والطاعة (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) أي ثم ارجعوا من المزدلفة إلى منى قبل طلوع الشمس للرمي والنحر ، كما رجع منها إبراهيم وإسماعيل في ذلك الوقت على ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان العرب الذين وقفوا بالمزدلفة يرجعون إلى منى بعد

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الحج ، باب : فضل الحج المبرور ، ومسلم في كتاب الحج ، باب : ٤٣٨ ، والترمذي في كتاب الحج ، باب : ٤ ، وابن ماجة في كتاب المناسك ، باب : فضل الحج والعمرة ، والدارمي في كتاب المناسك ، باب : في فضل الحج والعمرة ، والنسائي في كتاب مناسك الحج ، باب : فضل الحج ، وأحمد في (م ٢ / ص ٢٢٩).

٦٧

طلوع الشمس وهذا كما اختاره الضحّاك. (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) باللسان مع التوبة بالقلب وهو أن يندم على كل تقصير منه في طاعة الله ويعزم على أن لا يقصر فيما بعد ويقصد بذلك تحصيل مرضاة الله تعالى (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لذنوب المستغفر (رَحِيمٌ) (١٩٩) أي منعم عليه (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) وكان العرب بعد الفراغ من الحج يقفون بمنى بين المسجد والجبل ، فيبالغون في الثناء على آبائهم في ذكر مناقبهم وفضائلهم ، فقال الله تعالى هذه الآية. فالمعنى فإذا فرغتم من عبادتكم المتعلقة بالحج كأن رميتم جمرة العقبة وطفتم واستقررتم بمنى فابذلوا جهدكم في الثناء على الله وذكر نعمائه كما بذلتم جهدكم في الثناء على آبائكم في الجاهلية. (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) أي بل أكثر ذكرا من ذكر آبائكم لأن صفات الكمال لله تعالى غير متناهية (فَمِنَ النَّاسِ) أي المشركين أو المؤمنين (مَنْ يَقُولُ) في الموقف (رَبَّنا آتِنا) أي أعطنا (فِي الدُّنْيا) إبلا وبقرا وغنما وعبيدا ، أو إماء ومالا (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) (٢٠٠) أي من نصيب في الجنة بحجه. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) أي علما وعبادة وعصمة من الذنوب وشهادة وغنيمة وصحة ، وكفافا وتوفيقا للخير (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) أي جنة ونعيمها (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) (٢٠١) أي ادفع عنا العذاب (أُولئِكَ) أي أهل هذه الصفة (لَهُمْ نَصِيبٌ) أي حظ وافر في الجنة (مِمَّا كَسَبُوا) أي من حجهم (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٢٠٢) أي سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم وعالم بجملة سؤالات السائلين. (وَاذْكُرُوا اللهَ) أي بالتكبير والتهليل والتمجيد (فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) أي في أيام التشريق الثلاثة (فَمَنْ تَعَجَّلَ) برجوعه إلى أهله (فِي يَوْمَيْنِ) بعد يوم النحر (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) بتعجيله (وَمَنْ تَأَخَّرَ) إلى اليوم الثالث حتى رمى فيه قبل الزوال أو بعده (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) بتأخره فهم مخيّرون في ذلك (لِمَنِ اتَّقى) أي ونفي الإثم لمن اتقى الله في حجه لأنه المتشفع بحجه دون من سواه (وَاتَّقُوا اللهَ) أي احذروا الإخلال بما ذكر من الأحكام (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٢٠٣) أي للجزاء على أعمالكم بعد البعث. (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ومن الناس يعظم في قلبك كلامه عند ما يتكلم لطلب مصالح الدنيا وهو الأخنس بن شريق الثقفي واسمه أبيّ كان منافقا حسن العلانية خبيث الباطن. (وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) فإن الأخنس هذا أقبل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأظهر الإسلام وحلف بالله أنه يحبه ويتابعه في السر ، ويحتمل أنه يقول فالله يشهد بأن الأمر كما قلت فهذا استشهاد بالله وليس بيمين. وقرأ ابن محيص يشهد الله بفتح الياء والهاء. والمعنى يعلم الله من قلبه خلاف ما أظهره (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) (٢٠٤).

قال قتادة شديد القسوة في معصية الله جدل بالباطل عالم اللسان جاهل العمل. وقال السدي : أعوج الخصام. (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها) أي وإذا انصرف من عندك اجتهد في إيقاع القتال بأن يوقع الاختلاف بين الناس ويفرق كلمتهم ويؤدي إلى أنه يتبرأ بعضهم

٦٨

من بعض فيقطع الأرحام ويسفك الدماء (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ) أي الزرع بالإحراق (وَالنَّسْلَ) أي الحيوان بالقتل ، فإن الأخنس لما انصرف من بدر مر ببني زهرة وكان بينه وبين ثقيف خصومة فبيتهم ليلا ، فأحرق زرعهم وأهلك مواشيهم. (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) (٢٠٥) أي لا يرضى به (وَإِذا قِيلَ لَهُ) أي لذلك الإنسان (اتَّقِ اللهَ) في فعلك (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) أي لزمه التكبر الحاصل بالإثم الذي في قلبه. فإن التكبر إنما حصل بسبب ما في قلبه من الكفر والجهل وعدم النظر في الدلائل (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) أي كافيه جهنم جزاء له وعذابا (وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) (٢٠٦) أي لبئس المستقر هي. (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي) أي يشتري (نَفْسَهُ) بماله (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ).

روي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في صهيب بن سنان مولى عبد الله بن جدعان ، وفي عمار بن ياسر ، وفي سمية أمه وفي ياسر أبيه ، وفي بلال مولى أبي بكر ، وفي خباب بن الإرث ، وفي أبي ذر ، وفي عابس مولى حويطب أخذهم المشركون فعذبوهم. فأما صهيب فقال لأهل مكة : إني شيخ كبير ولي مال ومتاع وأنا أعطيكم مالي ومتاعي وأشتري منكم ديني. فرضوا منه بذلك وخلوا سبيله فانصرف إلى المدينة فنزلت هذه الآية. وعند دخول صهيب المدينة لقيه أبو بكر رضي‌الله‌عنه فقال : ربح بيعك يا أبا يحيى. فقال : وما ذاك؟ فقال : أنزل الله فيك قرآنا ، وقرأ عليه هذه الآية. وأما خباب بن الأرت وأبو ذر فقد فرّا وأتيا المدينة ، وأما سمية فربطت بين بعيرين ثم قتلت وقتل ياسر ، وأما الباقون فأعطوا بسبب العذاب بعض ما أراد المشركون فتركوا (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٢٠٧) الذين قتلوا في مكة أبي عمار وأمه وغيرهما لأنه تعالى أرشدهم لما فيه رضاه. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) نزلت هذه الآية في شأن طائفة من مسلمي أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه ، وذلك لأنهم حين آمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقاموا بعده على تعظيم شرائع موسى ، فعظموا السبت وكرهوا لحوم الإبل وألبانها وكانوا يقولون : ترك هذه الأشياء مباح في الإسلام وواجب في التوراة فنحن نتركها احتياطا فكره الله تعالى ذلك منهم وأمرهم أن يدخلوا في السلم كافة ولا يتمسكوا بشيء من أحكام التوراة اعتقادا له وعملا به لأنها صارت منسوخة. (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي لا تتبعوا طرق تزيين الشيطان بتفريق الأحكام بالعمل ببعضها الموافق لشريعة موسى وعدم العمل بالبعض الآخر المخالف لها (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٢٠٨) أي ظاهر العداوة (فَإِنْ زَلَلْتُمْ) أي إن انحرفتم عن الطريق الذي أمرتم به (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) أي الدلائل العقلية والنقلية كالمعجزة الدالة على الصدق وكالبيان الحاصل بالقرآن والسنة (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) أي قوي بالنقمة لمن لا يتابع رسوله فلا يمنعه مانع عنكم ولا يفوته ما يريده منكم (حَكِيمٌ) (٢٠٩) أي عالم بعواقب الأمور (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) أي ما ينظر أهل مكة إلا أن يأتيهم الله بلا كيف يوم القيامة والملائكة في ظل من الغمام فقوله : (فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) مقدم ومؤخر ،

٦٩

فنزول الغمام علامة لظهور أشد الأهوال في القيامة. قال تعالى : (يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) [الفرقان : ٢٥] (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي تمّ فصل القضاء بين الخلائق وأخذ الحقوق لأربابها وإنزال كل أحد من المكلفين منزلته في الجنة والنار (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٢١٠) أي إنّ الله تعالى ملك عباده في الدنيا كثيرا من أمور خلقه فإذا صاروا إلى الآخرة فلا مالك للحكم في العباد سواه. كما قال تعالى : (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار : ١٩].

قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم «ترجع» بالبناء للمجهول على معنى ترد. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «ترجع» بالبناء للفاعل أي تصير كقوله تعالى : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) [الشورى : ٥٣]. قال فخر الدين محمد الرازي : والأوضح عندي أن قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) [البقرة : ٢٠٨] إنما نزلت في حق اليهود والمعنى يا أيّها الذين آمنوا بالكتاب المتقدم أكملوا طاعتكم في الإيمان بأن تؤمنوا بجميع أنبياء الله وكتبه فادخلوها بإيمانكم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبكتابه في الإسلام عن التمام ، ولا تتبعوا الشهوات التي تتمسكون بها في بقاء تلك الشريعة وعلى هذا التقدير. فقوله تعالى : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة : ٢٠٩] يكون خطابا مع اليهود وحينئذ يكون قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) [البقرة : ٢١٠] حكاية عن اليهود والمعنى أنهم لا يقبلون دينك إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ، ألا ترى أنهم فعلوا مع موسى مثل ذلك فقالوا : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ، وإذا كان هذا حكاية عن حال اليهود لم يمنع إجراء الآية على ظاهرها ، وذلك لأن اليهود كانوا على مذهب التشبيه وكانوا يجوّزون على الله المجيء والذهاب ، وكانوا يقولون : إنه تعالى تجلّى لموسى عليه‌السلام على الطور في ظلل من الغمام وطلبوا مثل ذلك في زمان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى هذا التقدير يكون هذا الكلام حكاية عن معتقد اليهود القائلين بالتشبيه فلا يحتاج إلى التأويل ولا إلى حمل اللفظ على المجاز وذكر الله تعالى بعد ذلك ما يجري مجرى التهديد بقوله تعالى : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) [البقرة : ٢١٠].(سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) قل يا أشرف الخلق لأولاد يعقوب الحاضرين منهم توبيخا : (كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) أي معجزات موسى عليه‌السلام ، كفلق البحر وتظليل الغمام ، وإنزال المن والسلوى ونتق الجبل ، وتكليم الله تعالى لموسى عليه‌السلام من السحاب ، وإنزال التوراة عليهم فبدلوا مقتضاها وهو الإيمان بها بالكفر فاستوجبوا العقاب من الله تعالى فإنكم لو زللتم عن آيات الله تعالى لوقعتم في العذاب كما وقع أسلافكم. أو المعنى سل يا أشرف الخلق هؤلاء الحاضرين من بني إسرائيل تنبيها لهم على ضلالتهم كم آتيناهم من حجة بينة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم بها صدقه وصحة شريعته وكفروا بها. (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ) أي ومن يغيّر آيات الله الباهرة الدالة على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكفر من بعد ما عرفها. أو المعنى ومن يغير دين الله وكتابه بالكفر من بعد ما جاء

٧٠

محمد به (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢١١) لمن كفر به. (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) أي حسن ما في الحياة الدنيا من سعة المعيشة لكفار مكة أبي جهل ورؤساء قريش (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي يسخرون على فقراء المؤمنين كعبد الله بن مسعود ، وعمّار ، وخباب ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وعامر بن فهيرة ، وأبي عبيدة بن الجراح ، وسلمان ، وبلال ، وصهيب بضيق المعيشة (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا) عن الدنيا الشاغلة عن الله تعالى (فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) لأن المؤمنين في عليين والكافرين في سجّين ولأنهم في أوج الكرامة وهم في حضيض المذلة ، ولأن سخرية المؤمنين بالكفار يوم القيامة فوق سخرية الكافرين بالمؤمنين في الدنيا (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) في الدنيا من كافر ومؤمن (بِغَيْرِ حِسابٍ) (٢١٢) أي بغير تكلف من المرزوق ومن حيث لا يحتسب وقد أغنى الله المؤمنين بما أفاء عليهم من أموال صناديد قريش ورؤساء اليهود حتى ملكوا كنوز كسرى وقيصر. (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) قائمة على الحق ثم اختلفوا بسبب الحسد والتنازع في طلب الدنيا فإن الناس وهم آدم وأولاده من الذكور والإناث كانوا أمة واحدة على الحق ثم اختلفوا بعد ذلك (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ) بالجنة لمن آمن بالله (وَمُنْذِرِينَ) بالنار لمن لم يؤمن بالله (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي ليحكم الكتاب في الحق الذي اختلف الناس في ذلك الحق. فالكتاب حاكم والمختلف فيه وهو الحق محكوم عليه. (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ) أي الحق (إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) أي أعطوا الكتاب مع أن المقصود من إنزال الكتاب أن لا يختلفوا وأن يرفعوا المنازعة في الدين (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) أي الدلائل العقلية التي نصبها الله تعالى على إثبات الأصول التي لا يمكن القول بالنبوة إلا بعد ثبوتها (بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي حسدا منهم أي أن الدلائل إما سمعية وإما عقلية ، أما السمعية فقد حصلت بإيتاء الكتاب ، وأما العقلية فقد حصلت بالبينات المتقدمة على إيتاء الكتاب فبعد ذلك لم يبق في العدول عن الحق علة فلو حصل العدول لم يكن ذلك إلا بحسب الحسد والحرص على طلب الدنيا (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) أي فهدى الله الذين آمنوا ـ للحق الذي اختلف فيه ـ من اختلف بعلمه وبإرادته وبكرامته. قال ابن زيد : اختلفوا في القبلة ، فصلّت اليهود إلى بيت المقدس ، والنصارى إلى المشرق ، فهدانا الله للكعبة. واختلفوا في الصيام ، فهدانا الله لشهر رمضان. واختلفوا في إبراهيم ، فقالت اليهود : كان يهوديا. وقالت النصارى : كان نصرانيا. فقلنا : إنه كان حنيفا مسلما. واختلفوا في عيسى فاليهود فرطوا حيث أنكروا نبوته ورسالته ، والنصارى أفرطوا حيث جعلوه إلها. وقلنا قولا عدلا وهو إنه عبد الله ورسوله. (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢١٣) أي طريق حق لا يضل سالكه. ويقال : والله يثبّت من يشاء على دين قائم يرضيه (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ).

٧١

قال ابن عباس : لما دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة اشتد الضرر عليهم لأنهم خرجوا بلا مال وتركوا ديارهم وأموالهم في أيدي المشركين ، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية تطييبا لقلوبهم. وقال قتادة والسدي : نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والحزن. وقيل : نزلت في حرب أحد ، لما قال عبد الله بن أبيّ لأصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى متى تقتلون أنفسكم وترجون الباطل ولو كان محمد نبيا لما سلط الله عليكم الأسر والقتل ومعنى الآية أظننتم أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة بمجرد الإيمان بي وتصديق رسولي دون أن تعبدوا الله بكل ما كلفكم به وابتلاكم بالصبر عليه ودون أن ينالكم أذى الكفار ، والفقر ، ومقاساة الأهوال في مجاهدة العدو كما كان كذلك من قبلكم من المؤمنين. وهو المراد من قوله تعالى : (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) أي والحال لم يأتكم شبه محنة المؤمنين الذين مضوا من قبلكم ثم بيّن الله ذلك الشبه مستهم البأساء والضراء. فالبأساء : تضييق جهات الخير والمنفعة. والضراء : انفتاح جهات الشر والآفات والألم. ومعنى زلزلوا أي حركوا بأنواع البلايا والرزايا ، ومعنى حتى يقول الرسول لأن الرسل عليهم‌السلام يكونون في غاية الثبات والصبر وضبط النفس عند نزول البلاء ، فإذا لم يبق لهم صبر حتى ضجوا كان ذلك هو الغاية القصوى في الشدة فلما بلغت بهم الشدة إلى هذه الدرجة العظيمة قيل لهم : (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) (٢١٤) إجابة لهم من الله أو من قوم منهم والأحسن أن يقال : فالذين آمنوا قالوا : متى نصر الله؟ ثم رسولهم قال : ألا إن نصر الله قريب.

وروى الكلبي عن ابن عباس : أن الآية نزلت في عمرو بن الجموح ـ وكان شيخا كبيرا هرما ـ وهو الذي قتل يوم أحد وعنده مال عظيم فقال : ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها؟ فنزلت هذه الآية (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) أي أيّ شيء مصرف المال (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) أي مال (فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى) أي المحتاجين منهم (وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) فالإنفاق على الوالدين واجب عند عجزهما عن الكسب والملك ، والإنفاق على الأقربين ـ وهم الأولاد وأولاد الأولاد ـ قد يلزم عند فقد الملك ، فحينئذ الواجب فيما ذكر قدر الكفاية وقد يكون على صلة الرحم. والإنفاق على اليتامى والمساكين والمارين في السبيل إما من جهة الزكاة أو من جهة صدقة التطوع. فالمراد بهذه الآية : من أحب التقرب إلى الله تعالى في باب النفقة فالأولى له أن ينفقه في هذه الجهات فيقدم الأولى فالأولى في صدقة التطوع. (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) أي من سائر وجوه البر والطاعة (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) (٢١٥) أي فيجازيكم عليه ويوفى ثوابه. (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) أي فرض عليكم قتال الكفرة في أوقات النفير العام مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) أي والحال أن القتال مكروه لكم طبعا للمشقة على النفس (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً) كالجهاد في سبيل الله (وَهُوَ

٧٢

خَيْرٌ لَكُمْ) لما تصيبون الشهادة والغنيمة والأجر (وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً) كالجلوس عن الجهاد (وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) لأنكم لا تصيبون الشهادة ولا الغنيمة ولا الأجر (وَاللهُ يَعْلَمُ) أن الجهاد خير لكم فلذلك يأمركم به (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٢١٦) ذلك ولذلك تكرهونه. أو المعنى والله يعلم ما هو خير وشر لكم وأنتم لا تعلمونهما فلا تتبعوا في ذلك رأيكم وامتثلوا أمره تعالى نزلت تلك الآية في حق سعد بن أبي وقاص ، والمقداد بن الأسود وأصحابهما (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ).

روى أكثر المفسرين عن ابن عباس أنه قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث عبد الله بن جحش الأسدي وهو ابن عمته قبل قتال بدر بشهرين وبعد سبعة عشر شهرا من مجيئه المدينة في ثمانية رهط وكتب له كتابا وعهدا ودفعه إليه وأمره أن يفتحه بعد منزلتين ويقرأه على أصحابه ويعمل بما فيه فإذا فيه : أما بعد ، فسر على بركة الله تعالى بمن اتّبعك حتى تنزل بطن نخل فترصد بها عير قريش لعلك أن تأتينا منه بخير. فقال عبد الله : سمعا وطاعة لأمره ، فقال لأصحابه : من أحب منكم الشهادة فلينطلق معي فإني ماض لأمره. ومن أحب التخلف فليتخلف. فمضى حتى بلغ بطن نخل بين مكة والطائف فمر عليهم عمرو بن عبد الله الحضرمي وثلاثة معه فلما رأوا أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حلقوا رأس واحد منهم وأوهموا بذلك أنهم قوم عمار ، ثم أتى واقد بن عبد الله الحنظلي وهو أحد من كان مع عبد الله بن جحش ورمى عمرو بن الحضرمي فقتله ، وأسروا اثنين ، وساقوا العير بما فيه من تجارة الطائف حتى قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضجت قريش ، وقالوا : قد استحل محمد الشهر الحرام شهر يأمن فيه الخائف فيسفك فيه الدماء والمسلمون أيضا قد تعجبوا من ذلك فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام».

وقال عبد الله بن جحش : يا رسول الله إنا قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أصبناه أم في جمادى ، فوقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العير والأسارى فنزلت هذه الآية فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الغنيمة وعلى هذا التقدير ، فالأظهر أن هذا السؤال إنما صدر عن المسلمين (قُلْ) في جوابهم (سَبِيلِ اللهِ) أي الشهر الحرام وهو رجب (كَبِيرٌ) أي عظيم وزرا وقد تم الكلام هاهنا والوقف هنا تام (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) أي ولكن منع الناس عن دين الله وطاعته وكفر بالله ومنع الناس عن مكة وإخراج أهله وهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون من مكة أعظم وزرا عند الله من قتل عمرو بن الحضرمي في رجب خطأ مع أنه يجوز أن يكون ذلك القتل واقعا في جمادى الآخرة (وَالْفِتْنَةُ) أي ما فعلوا الفتنة عن دين المسلمين تارة بإلقاء الشبهة في قلوبهم وتارة بالتعذيب كفعلهم ببلال وصهيب وعمار بن ياسر (أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) أي أفظع من قتل عمرو بن الحضرمي.

روي أنه لما نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن جحش إلى مؤمني مكة إذا عيركم المشركون

٧٣

بالقتال في الشهر الحرام فعيروهم بالكفر وإخراج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة ومنع المؤمنين عن البيت الحرام (وَلا يَزالُونَ) أي أهل مكة الكفرة (يُقاتِلُونَكُمْ) أيها المؤمنون (حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ) أي كي يردوكم عن دينكم الحق إلى دينهم الباطل (إِنِ اسْتَطاعُوا) وهذا استبعاد لاستطاعتهم وإشارة إلى ثبات المسلمين في دينهم (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ) بأن لم يرجع إلى الإسلام (فَأُولئِكَ) المصرون على لارتداد إلى حين الموت (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) الحسنة التي عملوها في حالة الإسلام (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) فحبوط الأعمال في الدنيا هو أنه يقتل عند الظفر به ويقاتل إلى أن يظفر به ولا يستحق من المؤمنين نصرا ولا ثناء حسنا وتبين زوجته منه ولا يستحق الميراث من كل أحد. وحبوط أعمالهم في الآخرة أن الردة تبطل استحقاقهم للثواب الذي استحقوه بأعمالهم السالفة أما لو رجع المرتد إلى الإسلام عادت أعماله الصالحة مجردة عن الثواب فلا يكلف بإعادتها وهذا هو المعتمد في مذهب الشافعي (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) أي ملازموها (هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢١٧) أي مقيمون لا يخرجون ولا يموتون.

وروي أن عبد الله بن جحش قال : يا رسول الله هب أنه لا عقاب علينا فيما فعلنا فهل نطمع منه أجرا وثوابا؟ فنزلت هذه الآية : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسوله (وَالَّذِينَ هاجَرُوا) أي فارقوا أوطانهم وعشائرهم من مكة إلى المدينة (وَجاهَدُوا) أي بذلوا جهدهم في قتل العدو كقتل عمرو بن الحضرمي الكافر (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي لإعلاء دين الله (أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ) أي يطمعون في ثواب الله أو ينالون جنة الله (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢١٨) فيحقق لهم رجاءهم إذا ماتوا على الإيمان والعمل الصالح. (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) أي عن تناولهما (قُلْ فِيهِما) أي في تعاطيهما (إِثْمٌ كَبِيرٌ) أي عظيم بعد التحريم لما يحصل بسببهما من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش وإتلاف للأموال ولأن الخمر مسلبة للعقول التي هي قطب الدين والدنيا. وقرأ حمزة والكسائي كثير بالثاء المثلثة (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) قبل التحريم بالتجارة فيها وباللذة والفرح وتصفية اللون وحمل البخيل على الكرم وزوال الهمّ وهضم الطعام ، وتقوية الباءة وتشجيع الجبان في شرب الخمر ، وإصابة المال بلا كد في القمار ، أي المغالبة بأخذ المال في أنواع اللعب (وَإِثْمُهُما) بعد التحريم (أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) قبل التحريم. وقرئ أقرب من نفعهما.

قال المفسرون : نزلت في الخمر أربع آيات نزل بمكة قوله تعالى : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) [النحل : ٦٧] وكان المسلمون يشربونها وهي حلال لهم ثم إن عمر ومعاذا ونفرا من الصحابة منهم سيدنا حمزة بن عبد المطلب وبعض الأنصار قالوا : يا رسول الله أفتنا في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزل فيهما قوله تعالى : (قُلْ

٧٤

فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) فشربها قوم وتركها آخرون ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم فشربوا وسكروا فقام بعضهم يصلي إماما فقرأ : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون بحذف لا ، فنزلت : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) فقلّ من شربها ، ثم اجتمع قوم من الأنصار وفيهم سعد بن أبي وقاص فلما سكروا وافتخروا وتناشدوا الأشعار حتى أنشد سعد شعرا فيه هجاء للأنصار فضربه أنصاري بلحى بعير فشجه شجة موضحة فشكا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال عمر : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزل : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) إلى قوله (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة : ٩٠]. فقال عمر : انتهينا يا رب. (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) أي أيّ قدر ينفقونه نزلت هذه الآية في شأن عمرو بن الجموح سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ماذا نتصدق من أموالنا؟ وقيل : السائل معاذ بن جبل وثعلبة. وقال الرازي : كان الناس لما رأوا الله ورسوله يحضان على الإنفاق ويدلان على عظيم ثوابه سألوا عن مقدار ما كلفوا به هل هو كل المال أو بعضه؟ فأعلمهم الله تعالى أن العفو أي الفاضل عن الكفاية مقبول (قُلِ الْعَفْوَ) أي ما سهل مما يكون فاضلا عن حاجة الإنسان في نفسه وعياله ومن تلزمه مؤونتهم (كَذلِكَ) أي كما بيّن الله لكم قدر المنفق وحكم الخمر والميسر بأن فيهما منافع في الدنيا ومضار في الآخرة (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) الدالة على الأحكام الشرعية (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (٢١٩) (فِي الدُّنْيا) أنها فانية (وَالْآخِرَةِ) أنها باقية ، فإذا تفكرتم في أحوال الدنيا والآخرة علمتم أنه لا بدّ من ترجيح الآخرة على الدنيا (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) كان أهل الجاهلية قد اعتادوا الانتفاع بأموال اليتامى وربما تزوجوا باليتيمة طمعا في مالها ثم إن الله تعالى أنزل قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) [النساء : ١٠] وقوله : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الأنعام : ١٥٢] فعند ذلك ترك القوم مخالطة اليتامى والمقاربة من أموالهم والقيام بأمورهم فاختلّت مصالح اليتامى وساءت معيشتهم فثقل ذلك على الناس فقال عبد الله ابن رواحة ، وقيل : ثابت بن رفاعة الأنصاري : يا رسول الله ما لكلنا منازل تسكنها الأيتام ، ولا كلنا يجد طعاما وشرابا يردهما لليتيم فهل يجوز مخالطة اليتامى بالطعام والشراب والمسكن أم لا؟ فنزلت هذه الآية : (قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) أي قل يا أشرف الخلق إصلاح أموالهم من غير أخذ أجرة خير لكم من ترك مخالطتهم وأعظم أجرا لكم (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) أي وإن تخالطوهم بما لا يتضمن إفساد أموالهم فذلك جائز لأنهم إخوانكم في الدين (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) أي يعرف المفسد لأموالهم بالمخالطة من المصلح لها وقيل : يعلم ضمائر من أراد الإفساد والطمع في أموالهم بالنكاح ممن أراد الإصلاح (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) أي لكلفكم ما يشتد عليكم أو لضيق الأمر عليكم في مخالطتهم (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) أي غالب على أمره قوي بالنقمة لمفسد مال اليتيم (حَكِيمٌ) (٢٢٠) يحكم بما تقتضيه الحكمة الداعية إلى بناء التكليف على أساس طاقة البشر (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) أي

٧٥

ولا تتزوجوا المشركات بالله إلى أن يؤمن بالله بأن يقررن بالشهادة ويلتزمن أحكام الإسلام هذا مقصور على غير الكتابيات لما روي عن جابر بن عبيد الله عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا» (١).

وروى عبد الرحمن بن عوف أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في حق المجوس : «سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم»(٢). وسبب نزول هذه الآية ما روي أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث مرثد بن أبي مرثد الغنوي إلى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين سرا ، فعند قدومه جاءته امرأة مشركة اسمها عناق فالتمست الخلوة فقال : ويحك إن الإسلام حال بيني وبينك! فقالت : هل لك أن تتزوج بي؟ فقال : نعم ، ثم وعدها أن يأذن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما انصرف إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرفه ما جرى في أمر عناق وسأله هل يحل له التزوج بها فأنزل الله تعالى هذه الآية : (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) أي لنكاح أمة مؤمنة خير من نكاح مشركة ولو أعجبتكم تلك المشركة بحسنها أو بمالها أو بحريتها أو بنسبها.

قال السدي : نزلت هذه الآية في حق عبد الله بن رواحة ، كان له أمة فأعتقها وتزوج بها فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا : أتنكح أمة!؟ وعرضوا عليه حرة مشركة فأنزل الله تعالى تلك الآية. (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) أي ولا تزوجوا الكفار ولو كانوا أهل كتاب المؤمنات حتى يؤمنوا (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ) أي تزويجكم لعبد مؤمن خير من تزويجكم لمشرك (وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) ذلك المشرك لماله وجماله وقوته وحريته (أُولئِكَ) المشركات والمشركون (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أي إلى ما يؤدي إلى النار فإن الزوجية مظنة المحبة وذلك يوجب الموافقة في الأغراض وربما يؤدي ذلك إلى انتقال الدين بسبب موافقة المحبوب (وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ) بتبيان هذه الأحكام من الإباحة والتحريم فإن من تمسك بها استحق الجنة والمغفرة (بِإِذْنِهِ) أي بتيسيره تعالى وتوفيقه للعمل الذي يستحق به الجنة والمغفرة. وقرأ الحسن «والمغفرة بإذنه» بالرفع أي والمغفرة حاصلة بتيسير الله تعالى. (وَيُبَيِّنُ آياتِهِ) أي أمره ونهيه في التزويج والتزويج (لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٢٢١) قبح المنهي عنه وحسن المدعو إليه. (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) أي الحيض والسائل عن ذلك ثابت الدحداح الأنصاري ، وقيل : عباد بن بشر وأسيد بن الحضير ، لأن أهل الجاهلية كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ، ولم يجالسوها على فرش ولم يساكنوها في بيت كفعل اليهود والمجوس. وأما

__________________

(١) رواه السيوطي في الدر المنثور (٢ : ٢٦١).

(٢) رواه الطبراني في المعجم الكبير (١٩ : ٤٣٧) ، والبيهقي في السنن الكبرى (٩ : ١٨٩) ، والساعاتي في بدائع المنن (٣ : ٢٢٩).

٧٦

النصارى كانوا يجامعونهن ولا يبالون بالحيض. (قُلْ) يا أشرف الخلق : (هُوَ) أي الحيض (أَذىً) أي قذر الرائحة المنكرة التي فيه واللون الفاسد وللحدة القوية التي فيه كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دم الحيض هو الأسود المحتدم» (١) أي المحترق من شدة حرارته (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) أي في موضع الحيض (وَلا تَقْرَبُوهُنَ) أي لا تجامعوهن (حَتَّى يَطْهُرْنَ) وهذا تأكيد لحكم الاعتزال.

قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحفص ، ويعقوب الحضرمي «حتى يطهرن» بسكون الطاء وضم الهاء بمعنى : حتى يزول عنهن الدم. وقرأ شعبة وحمزة والكسائي بتشديد الطاء والهاء بمعنى يغتسلن (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) أي اغتسلن أو تيممن عند تعذر استعمال الماء (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) أي فجامعوهن في موضع أمركم الله به وهو القبل.

وقال الأصم والزجاج : أي فأتوهن من حيث يحل لكم غشيانهن وذلك بأن لا يكنّ صائمات ولا معتكفات ولا محرمات بالنسك ، وفهم من هذا الشرط أنه يشترط بعد انقطاع الحيض الاغتسال لأنه قد صار المجموع غاية وذلك بمنزلة قولك : لا تكلم فلانا حتى يدخل الدار فإذا طابت نفسه بعد الدخول فكلمه فإنه يجب أن يتعلق إباحة كلامك بالأمرين جميعا ، واتفق مالك والأوزاعي والثوري والشافعي : أنه إذا انقطع حيض المرأة لا يحل للزوج مجامعتها إلا بعد أن تغتسل من الحيض ، والمشهور عن أبي حنيفة : أنها إن رأت الطهر دون عشرة أيام لم يقربها زوجها ، وإن رأته لعشرة أيام جاز أن يقربها قبل الاغتسال. (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) بالندم على ما مضى من الذنب والترك في الحاضر والعزم على أن لا يفعل مثله في المستقبل (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (٢٢٢) أي المتنزهين عن المعاصي من إتيان النساء في زمان الحيض والإتيان في الأدبار. وقيل : يحب المستنجين بالماء (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) أي فروج نسائكم مزرعة لأولادكم (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) أي مزرعتكم (أَنَّى شِئْتُمْ) أي من أيّ جهة شئتم ، أي فالمراد من هذه الآية أن الرجل مخيّر بين أن يأتي زوجته من قبلها في قبلها وبين أن يأتيها من دبرها في قبلها لأن سبب نزول هذه الآية ما روي أن اليهود قالوا : من جامع امرأته في قبلها من دبرها كان ولدها أحول مخبلا ، وزعموا أن ذلك في التوراة فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «كذبت اليهود»(٢). (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) من الأعمال الصالحة كالتسمية عند الجماع وطلب الولد. روي أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قال بسم الله عند الجماع فأتاه ولد فله حسنات بعدد أنفاس ذلك الولد وعدد عقبه إلى

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب : إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة ، والنسائي في كتاب الطهارة ، باب : الفرق بين دم الحيض والاستحاضة ، ورد دون لفظة «المحتدم».

(٢) رواه أبو داود في كتاب النكاح ، باب : ما جاء في العزل ، وأحمد في (م ٣ / ص ٣٣).

٧٧

يوم القيامة» (١). أي قدّموا ما يدخر لكم من الثواب ولا تكونوا في قيد قضاء الشهوة (وَاتَّقُوا اللهَ) في أدبار النساء ومجامعتهن في الحيض (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) أي الله بالبعث فتزودوا ما تنتفعون به فإنه تعالى يجزيكم بأعمالكم (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٢٣) خاصة بالثواب والكرامة (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) أي ولا تجعلوا ذكر الله مانعا بسبب إيمانكم من أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس.

قال ابن عباس : ارجعوا إلى ما هو خير لكم وكفّروا يمينكم. نزلت هذه الآية في شأن عبد الله ابن رواحة فإنه حلف بالله أن لا يحسن إلى أخته وختنه ـ أي زوج أخته بشير بن النعمان ـ ولا يكلمهما ولا يصلح بينهما فكان إذا قيل له في الصلح يقول : قد حلفت بالله أن لا أفعل فلا يحل لي أن لا أبرّ في يميني. (وَاللهُ سَمِيعٌ) بيمينكم بترك الإحسان (عَلِيمٌ) (٢٢٤) بنياتكم وبكفارة اليمين (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) قال الشافعي رضي‌الله‌عنه : إن اللغو قول العرب لا والله ، وبلى والله في الشراء والبيع وغير ذلك مما يؤكدون به كلامهم ولا يخطر ببالهم الحلف ، ولو قيل لواحد منهم : سمعتك اليوم تحلف في المسجد الحرام ألف مرة لأنكر ذلك ، ولعله قال : لا والله ألف مرة.

وقال أبو حنيفة : إن اللغو هو أن يحلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن ، فالشافعي لا يوجب الكفارة في المسألة الأولى ويوجبها في الثانية. وأبو حنيفة يحكم بالضد من ذلك. (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) أي قصدته من الإيمان بجد وربطت به فحنثتم فإذا حلف على شيء بالجد في أنه كان حاصلا ثم ظهر أنه لم يحصل فقد قصد بذلك اليمين تصديق قول نفسه وربط قلبه بذلك فلم يكن ذلك لغوا بل كان حاصلا بكسب القلب (وَاللهُ غَفُورٌ) حيث لم يؤاخذكم باللغو مع كونه ناشئا من عدم الاحتياط (حَلِيمٌ) (٢٢٥) حيث لم يعجل بالمؤاخذة على يمين الجد (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) أي للذين يحلفون أن لا يجامعوهن مطلقا أو مدة تزيد على أربعة أشهر انتظارا أربعة أشهر (فَإِنْ فاؤُ) أي رجعوا عن اليمين بالحنث بأن جامعوا قبل أربعة أشهر (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) ليمينهم إن تابوا بفعل الكفارة (رَحِيمٌ) (٢٢٦) حيث بين كفارتهم (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) أي إن حققوا الطلاق وبروا يمينهم (فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) ليمينهم (عَلِيمٌ) (٢٢٧) بعزمهم فليس لهم بعد التربص إلا الفيئة أو الطلاق. فإن بر المولى يمينه وترك مجامعة امرأته حتى تجاوز أربعة أشهر بانت منه امرأته بتطليقة واحدة ، وإن جامعها قبل ذلك فعليه كفارة اليمين كما قاله ابن عباس (وَالْمُطَلَّقاتُ) أي ذوات الأقراء من الحرائر المدخول

__________________

(١) رواه الدارمي في كتاب النكاح ، باب : القول عند الجماع ، «بما معناه».

٧٨

بهن (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) في العدة (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) فلا تتوقف العدة على ضرب قاض (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) من الحبل والحيض معا وذلك لأن المرأة لها أغراض كثيرة في كتمانهما ، فإذا كتمت الحبل قصرت مدة عدتها فتزوج بسرعة وربما كرهت مراجعة الزوج وأحبت التزوج بزوج آخر ، أو أحبت أن يلتحق ولدها بالزوج الثاني ، فلهذه الأغراض تكتم الحبل. وإذا كتمت الحيض فقد تحب تطويل عدتها لكي يراجعها الزوج الأول وقد تحب تقصير عدتها لتبطل رجعته ولا يتم لها ذلك إلا بكتمان بعض الحيض في بعض الأوقات. (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فلا يجترئن على ذلك الكتمان وهذا الشرط للتغليظ حتى لو لم يكن مؤمنات كان عليهن العدة أيضا (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) أي أزواج المطلقات أحق برجعتهن في مدة ذلك التربص (إِنْ أَرادُوا) أي البعولة بالرجعة (أَصْلَحا) والسبب في هذه الآية أن في الجاهلية كانوا يراجعون المطلقات ، ويريدون بذلك الإضرار بهن ليطلقوهن بعد الرجعة حتى تحتاج المرأة إلى أن تعتد عدة حادثة فنهوا عن ذلك. (وَلَهُنَ) عليهم من الحقوق (مِثْلُ الَّذِي) لهم (عَلَيْهِنَ) من الحقوق (بِالْمَعْرُوفِ) شرعا في حسن المعاشرة (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) أي فضيلة في الحق لأن حقوقهم عليهن في أنفسهن وحقوقهن عليهم في المهر والنفقة (وَاللهُ عَزِيزٌ) يقدر على الانتقام ممن يخالف أحكامه (حَكِيمٌ) (٢٢٨) فيما حكم بين الزوجين (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) أي ذلك الطلاق الذي حكمنا فيه بثبوت الرجعة للزوج هو أن يوجد مرتان فالواجب بعد هاتين المرتين إما إمساك بمعروف أي رجعة بحسن عشرة ولطف معاملة لا على قصد إضرار ، أو تسريح أي إرسال بترك المراجعة حتى تنقضي العدة وتحصل البينونة بإحسان أي بغير ذكر سوء بعد المفارقة وبأداء جميع حقوقها المالية ، وهذه الآية متناولة لجميع الأحوال لأن الزوج بعد الطلقة الثانية إما أن يراجعها وهو المراد بقوله تعالى : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ). أو يتركها حتى تبين بانقضاء العدة وهو المراد بقوله تعالى : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ). أو يطلقها ثالثة وهو المراد بقوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) فكانت الآية مشتملة على بيان كل الأقسام ولو جعلنا التسريح طلقة ثالثة لكان قوله تعالى : فإن طلقها طلقة رابعة ، فإنه غير جائز وسبب نزول هذه الآية : أن امرأة شكت إلى عائشة رضي‌الله‌عنها بأن زوجها يطلقها ويراجعها كثيرا (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) أي ومن جملة الإحسان أنه إذا طلقها لا يأخذ منها شيئا من الذي أعطاها من المهر والثياب وسائر ما تفضل به عليها لأنه استمتع بها في مقابلة ما أعطاها (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) أي أن لا يراعيا مواجب أحكام الزوجة.

وقرأ حمزة «يخافا» بضم الياء (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) أي فلا حرج على الزوج في أخذ ما افتدت الزوجة به نفسها من المال ليطلقها ، ولا عليها في إعطائه إياه بطيبة نفسها. نزلت هذه الآية في شأن ثابت بن قيس بن شماس ، وفي شأن جميلة بنت عبد الله ابن

٧٩

أبي اشترت نفسها من زوجها بمهرها. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لثابت : «خذ منها ما أعطيتها وخل سبيلها» (١). ففعل فكان ذلك أول خلع في الإسلام. وفي سنن أبي داود أن المرأة كانت حفصة بنت سهل الأنصارية.

تنبيه : يجوز أن يكون أول الآية وهو قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا) خطابا للأزواج وآخرها. وهو قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ) خطابا للأئمة والحكام ، وذلك غير غريب في القرآن. ويجوز أن يكون الخطاب كله للأئمة والحكام لأنهم الذين يأمرون بالأخذ والإعطاء عند الترافع إليهم فكأنهم هم الآخذون والمؤتون ، ثم الخوف المذكور في هذه الآية يمكن حمله على الخوف المعروف وهو الإشفاق مما يكره وقوعه ، ويمكن حمله على الظن كما قرئ قراءة شاذة «إلا أن يظنوا». والخوف إما أن يكون من قبل المرأة فقط أو من قبل الزوج فقط أو من قبلهما معا ، أو لا يحصل الخوف من قبل واحد منهما فإن كان الخوف من قبل المرأة بأن تكون ناشزة مبغضة للزوج فيحل له أخذ المال منها ، وإن كان من قبل الزوج فقط بأن يضربها ويؤذيها حتى تلتزم الفداء فهذا المال حرام كما كان الخوف حاصلا من قبلهما معا فذلك المال حرام أيضا وإن لم يحصل الخوف من قبل واحد منهما. فقال أكثر المجتهدين : إن هذا الخلع جائز والمال المأخوذ حلال. وقال قوم : إنه حرام (تِلْكَ) أي ما تقدم ذكره من أحكام الطلاق والرجعة والخلع (حُدُودَ اللهِ) أي أحكام الله بين المرأة والزوج (فَلا تَعْتَدُوها) أي فلا تتجاوزوا عنها (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ) أي ومن يتجاوز أحكام الله إلى ما نهى الله عنه له (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢٢٩) أي الضارون لأنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعقابه (فَإِنْ طَلَّقَها) بعد الطلقتين (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) أي من بعد التطليقة الثالثة (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) أي المطلق مذهب جمهور المجتهدين أن المطلقة بالثلاث لا تحل لذلك الزوج إلا بخمس شرائط تعتد منه وتعقد للثاني ويطؤها ثم يطلقها ثم تعتد منه.

وقال سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب : تحل بمجرد العقد. روي أن تميمة بنت عبد الرحمن القرظي كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك القرظي فطلقها ثلاثا ، فتزوجت بعبد الرحمن بن الزبير القرظي ـ بفتح الزاي وكسر الباء ـ فأتت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالت : كنت تحت رفاعة فطلقني فبت طلاقي فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير ، وإن ما معه مثل هدبة الثوب ، وإنه أراد أن يطلقني قبل أن يمسني ، أفأرجع إلى ابن عمي؟ فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أ تريدين أن ترجعي إلى رفاعة!؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» (٢). و «العسيلة» مجاز عن قليل

__________________

(١) رواه الدارمي في كتاب الطلاق ، باب : في الخلع.

(٢) رواه البخاري في كتاب الطلاق ، باب : إذا طلّقها ثلاثا ثم تزوجت امرأة بعد العدة زوجا ـ

٨٠