مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

سورة الكهف

مكية ، غير آيتين ، ذكر فيهما عيينة بن حصن الفزاري ، مائة وعشر آيات ، ألف

وخمسمائة وثلاث وثمانون كلمة ، ستة آلاف وخمسمائة وأربعة وخمسون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) وهو الإعلام بثبوت الحمد لله وإنشاء الثناء بذلك (الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الْكِتابَ) أي القرآن (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) (١) أي اختلالا في النظم وتنافيا في المعنى ، وهو كامل في ذاته وهذه الجملة معطوفة على أنزل (قَيِّماً) أي وجعله قائما بمصالح العباد وأحكام الدين. وقيل : هاتان الجملتان حالان من الكتاب متواليان أي غير مجعول له عوجا قيما (لِيُنْذِرَ) تعالى بالكتاب الكافرين (بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ) أي عذابا شديدا نازلا من عنده تعالى (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ) أي المصدقين به. وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء وسكون الموحدة وضم الشين (الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) (٢) في الجنة (ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً) (٣) أي خالدين في الأجر من غير انتهاء (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) (٤) وهم كفار العرب الذين يقولون : الملائكة بنات الله ، واليهود القائلون عزير ابن الله ، والنصارى القائلون المسيح ابن الله (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ) أي ليس لهم ولا لأحد من أسلافهم الذين قلدوه علم بهذا القول أهو صواب أو خطأ بل إنما قالوه رميا عن جهالة من غير فكر (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) فكلمة بالنصب على التمييز وبالرفع على الفاعلية فعلى النصب يكون فاعل «كبرت» مضمرا مفسرا بما بعده وهو للذم ، والمخصوص بالذم محذوف تقديره : كبرت الكلمة ، كلمة خارجة من أفواههم تلك المقالة الشنعاء. والنصب أقوى وأبلغ ، وفيه معنى التعجب أي ما أكبرها كلمة (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) (٥) أي ما يقولون في ذلك الشأن إلا مقولا كذبا (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ). والمراد بالترجي النهي عن الغم أي لا تهلك نفسك بالغم من بعد إعراضهم عن الإيمان بك (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ) أي بهذا القرآن (أَسَفاً) (٦) أي لفرط الحزن (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ) حيوانا كان أو نباتا أو معدنا (زِينَةً لَها) أي الأرض ليتمتع بها الناظرون من المكلفين وينتفعوا بها نظرا واستدلالا فإن العقارب والحيات من حيث تذكيرهما

٦٤١

لعذاب الآخرة من نوع المنافع بل كل حادث داخل تحت الزينة من حيث دلالته على وجود الصانع ووحدته (لِنَبْلُوَهُمْ) أي لنعاملهم معاملة من يختبرهم (أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (٧) أي أيهم أطوع لله وأشد استمرارا على خدمته (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها) أي الأرض من المخلوقات قاطبة عند تناهي عمر الدنيا (صَعِيداً جُرُزاً) (٨) أي ترابا لا نبات فيه (أَمْ حَسِبْتَ) أي أظننت (أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا) أي من بين آياتنا (عَجَباً) (٩) أي آية ذات عجب وفي الآيات أي آثار قدرة الله تعالى ما هو أعجب من ذلك وهي السماء والأرض والشمس والقمر ، والنجوم والجبال والبحار. و «عجبا» خبر كان و «من آياتنا» حال منه ، والكهف : هو الغار الواسع في الجبل ، والرقيم : كلب أصحاب الكهف.

وقيل : هو لوح رصاصي أو حجري كتبت فيه أسماؤهم وقصتهم وجعل على باب الكهف وهم كانوا فتية من أشراف الروم ، أرادهم دقيانوس على الشرك فهربوا منه بدينهم (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) ظرف لـ «عجبا» ، أي حين التجأ الشبان إلى الكهف (فَقالُوا) عقب استقرارهم فيه : (رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) خاصة تستوجب المغفرة والرزق والأمن من الأعداء ، (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) (١٠) أي يسّر لنا من أمرنا الذي نحن عليه من مهاجرة الكفار والمثابرة على طاعتك إصابة للطريق الموصل إلى المطلوب (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ) أي فعقب هذا القول ألقينا على آذانهم حجابا يمنع من أن تصل إلى أسماعهم الأصوات الموقظة من نومهم (فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) (١١) أي معدودة ، وفي الكهف حال من المضاف إليه. (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) أي أيقظناهم من نومهم الثقيل (لِنَعْلَمَ) أي لنعاملهم معاملة من يختبرهم (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) أي المختلفين في مدة لبثهم (أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) (١٢) أي ضبط غاية لبثهم فيظهر لهم عجزهم ويفوضون ذلك إلى العليم الخبير ويتعرفون ما صنع الله تعالى بهم من حفظ أبدانهم ، فيزدادون يقينا بكمال قدرته تعالى وعلمه ، ويستبصرون به أمر البعث ، ويكون ذلك لطفا لمؤمني زمانهم وآية بينة لكفارهم. فالمراد بالحزبين نفس أصحاب الكهف و «أحصى» فعل ماض و «أمدا» مفعول به. وقرئ «ليعلم» بالياء مبنيا للمفعول ومبنيا للفاعل من الأعلام أي ليعلم الله الناس أي الحزبين أحصى إلخ (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ) يا أشرف الخلق (نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ) أي على وجه الصدق (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ) أي جماعة من الشبان (آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) بالتحقيق لا بالتقليد (وَزِدْناهُمْ هُدىً) (١٣) أي بأن ثبتناهم على ما كانوا عليه من الدين (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) أي قويناها حتى اقتحموا مضايق الصبر على هجر الأهل والإخوان ، واجترءوا على الرد على دقيانوس الجبار (إِذْ قامُوا) أي حين انتصبوا لإظهار شعار الدين أو وقت قاموا بين يدي الملك دقيانوس الكافر فإنه كان يدعو الناس إلى عبادة الطواغيت ، فثبت الله تعالى هؤلاء الفتية حتى عصوا ذلك الجبار ، وأقروا بربوبية الله تعالى ، وصرحوا بالبراءة من الشركاء (فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً) أي لن نعبد أبدا معبودا آخر

٦٤٢

(لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) (١٤) أي والله لئن عبدنا غيره لقد قلنا حينئذ قولا زورا على الله. قال أصحاب الكهف عند خروجهم من عند الملك دقيانوس الكافر : (هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا) أي عبدوا (مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) فـ «قومنا» عطف بيان لاسم الإشارة أو خبر له و «اتخذوا» حال منه. (لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) أي هلا يأتون على عبادتهم بحجة ظاهرة ، وهذا إنكار وتعجيز وتبكيت لهم (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) (١٥) أي فليس أحد أظلم ممن افترى على الله. كذبا بنسبة الشريك إليه تعالى فإن الحكم بثبوت الشيء مع عدم الدليل عليه ظلم وافتراء على الله وهذا من أعظم الدلائل على فساد القول بالتقليد. قال بعض الفتية لبعض وقت اعتزالهم : (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ) أي وإذ أردتم اعتزالهم واعتزال الشيء الذي تعبدونه (إِلَّا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) أي التجئوا إليه وهذا جواب إذ (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) أي يبسطها عليكم في الدارين (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) (١٦) أي ويسهل لكم من أمركم الذي أنتم عليه من الفرار بالدين ما تنتفعون به غدا. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية مرفقا بفتح الميم وكسر الفاء والجمهور بالعكس. (وَتَرَى الشَّمْسَ) خطاب لكل أحد بيان لحالهم بعد ما صاروا إلى الكهف وهذا ليس إخبارا بوقوع الرؤية تحقيقا بل الأخبار بكون الكهف بحيث لو أبصرته تبصر الشمس (إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ).

قرأ ابن عامر «تزور» ساكنة الزاي مشدد الراء. ونافع وابن كثير وأبو عمر «تزاور» بتشديد الزاي وبالألف. وعاصم وحمزة والكسائي «تزاور» بالتخفيف والألف أي تميل ، (عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ) أي جانب الكهف الذي يلي المغرب فلا يقع عليهم شعاع الشمس. (وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ) أي تعدل عن سمت رؤوسهم إلى جهة الشمال الذي يلي المشرق فإن الله منع ضوء الشمس من الوقوع عليهم وذلك خارق للعادة وكرامة عظيمة خصّ الله بها أصحاب الكهف. (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) أي والحال أنهم في فضاء متسع من الكهف معرض لإصابة الشمس (ذلِكَ) أي المذكور من إنامتهم وحمايتهم من إصابة الشمس لهم في ذلك الغار تلك المدة الطويلة (مِنْ آياتِ اللهِ) العجيبة على كمال علمه وقدرته وعلى وحدته (مَنْ يَهْدِ اللهُ) إلى الحق بالتوفيق له (فَهُوَ الْمُهْتَدِ) أي الذي أصاب الفلاح مثل أصحاب الكهف (وَمَنْ يُضْلِلْ) الله (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ) أبدا (وَلِيًّا مُرْشِداً) (١٧) أي ناصرا يهديه إلى الفلاح كدقيانوس الكافر وأصحابه. (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً) أي لو رأيتهم أيها الخاطب لانفتاح عيونهم على هيئة الناظر (وَهُمْ رُقُودٌ) أي نيام (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) لينال النسيم جميع أبدانهم ولئلا يتأثر ما يلي الأرض منها بطول المكث ، فالله قادر على حفظهم من غير تقليب ولكن جعل لكل شيء سببا في أغلب الأحوال (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) أي بموضع الباب من الكهف وكان الكلب أنمر ، أو أصفر ، أو أصهب ، أو أحمر ، أو أسمر. واسمه : قطمير أو ريان ، أو تتوه ، أو قطمور ، أو ثور ، أو

٦٤٣

حمران ، وكان لواحد منهم فلما خرجوا تبعهم فمنعوه ، فأنطقه الله وتكلم وقال : أنا أحب أحباب الله فمكنوه من الذهاب معهم ، فلما ناموا نام كنومهم ، ولما استيقظوا استيقظ معهم ، ولما ماتوا مات معهم (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ) أي لو شاهدتهم (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً) أي لأدبرت عنهم هربا بما شاهدت منهم (وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) (١٨) أي خوفا يملأ الصدر لما ألبسهم الله تعالى من الهيبة فكل من رآهم فزع فزعا شديدا. وقرأ نافع وابن كثير «لملئت» بتشديد اللام.

وروي أيضا عن ابن كثير بالتخفيف كالجمهور. وقرأ السوسي بإبدال الهمزة ياء وقفا ووصلا ، وحمزة في الوقف فقط. وقرأ ابن عامر والكسائي «رعبا» بضم العين في جميع القرآن. والباقون بالإسكان. (وَكَذلِكَ) أي كما أنمناهم وحفظنا أجسادهم من البلى آية دالة على كمال قدرتنا (بَعَثْناهُمْ) أي أيقظناهم من النوم بعد مضي ثلاثمائة سنة وتسع سنين (لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) أي ليسأل بعضهم بعضا في مدة لبثهم (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) هو رئيسهم واسمه «مكسلمينا» : (كَمْ لَبِثْتُمْ) أي كم مقدار مكثكم في منامكم في هذا الغار (قالُوا) أي بعضهم : (لَبِثْنا يَوْماً) لأنهم دخلوا الكهف غدوة ، ثم ناموا طلوع الشمس وكان انتباههم آخر النهار فلما خرجوا فنظروا إلى الشمس وقد بقي منه شيء قالوا : (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا) أي بعض آخر منهم وهو «مكسلمينا» : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) فأنتم لا تعلمون مدة لبثكم (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ) هو تمليخا كما قاله ابن إسحاق (بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) وهي منبج أو أفسوس بضم الهمزة هذا في الجاهلية وتسمى في الإسلام طرسوس بفتح الراء (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها) أي أيّ أهلها (أَزْكى طَعاماً) أي أبعد عن كل حرام لأن ملكهم كان ظالما وعامة أهل بلدهم كانوا مجوسا وفيهم قوم يخفون إيمانهم (فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ) أي بطعام (مِنْهُ) أي من ذلك الأزكى. (وَلْيَتَلَطَّفْ) أي وليرفق في الشراء كي لا يغبن وفي دخول المدينة لئلا يعرف (وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) (١٩) أي لا يخبرن بمكانكم أحدا من أهل المدينة فإن ذلك يستلزم شيوع أخباركم (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) أي إن يطلعوا على أنفسكم أو على مكانكم (يَرْجُمُوكُمْ) أي يقتلوكم بالرجم (أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) أي يصيّروكم إلى ملتهم كرها (وَلَنْ تُفْلِحُوا) أي لن تسعدوا (إِذاً) أي إن دخلتم فيها ولو بالكره (أَبَداً) (٢٠) أي في الدنيا والآخرة (وَكَذلِكَ) أي وكما أنمناهم وبعثناهم (أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) أي أطلعنا الناس المؤمنين والكافرين على أحوالهم ، وكان ملكهم يومئذ مسلما يسمى يستفاد وذلك أن دقيانوس مات وانقضت قرون ، ثم ملك أهل تلك البلاد رجل صالح واختلف أهل مملكته في الحشر وبعث الأجساد من القبور ، فشك في ذلك بعض الناس واستبعدوه وقالوا : إنما تحشر الأرواح دون الأجساد ، فإن الجسد تأكله الأرض. وقال بعضهم : تبعث الأرواح والأجساد جميعا وكبر ذلك على الملك وبقي حيران لا يدري كيف يبين أمر البعث لهم حتى دخل بيته وأغلق بابه ولبس المسوح وقعد على الرماد ، وتضرّع إلى الله تعالى في طلب حجة وبرهان ،

٦٤٤

فأعثره الله على أهل الكهف فإنهم لما بعثوا أحدهم بورقهم إلى المدينة ليأتيهم برزق منها استنكر شخصه واستنكر ورقه ، لأنه ظهرت في بشرة وجهه آثار عجيبة تدل على أن مدته قد طالت طولا خارجا عن العادة ، لأن ورقه كان على ضرب دقيانوس فاتهموه بأنه وجد كنزا ، فذهبوا به إلى الملك وكان صالحا قد آمن هو ومن معه فلما نظر إليه قال : لعل هذا من الفتية الذين خرجوا على عهد دقيانوس الملك فقد كنت أدعو الله أن يرينيهم ، وسأل الفتى ، فأخبره بأنه ومن معه خرجوا فرارا من الملك دقيانوس فسّر الملك بذلك وقال لقومه : لعل الله قد بعث لكم آية فلنسر إلى الكهف معه ، فركب مع أهل المدينة إليهم فلما دنوا إلى الكهف قال تمليخا : أنا أدخل عليهم لئلا يرعبوا فدخل عليهم وأعلمهم بأن الأمة أمة مسلمة فخرجوا إلى الملك وعظموه وعظمهم ، ثم رجعوا إلى كهفهم ورجع من شك في بعث الأجساد فهذا معنى أعثرنا عليهم (لِيَعْلَمُوا) أي الذين أعثرناهم وهم الملك ورعيته على أحوالهم العجيبة (أَنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث للروح والجثة معا (حَقٌ) أي صادق بطريق أن القادر على إنامتهم مدة طويلة وإبقائهم على حالهم بلا غذاء قادر على إحياء الموتى.

قال بعض العارفين : علامة اليقظة بعد النوم علامة البعث بعد الموت (وَأَنَّ السَّاعَةَ) أي وقت بعث الخلائق جميعا للحساب والجزاء (لا رَيْبَ فِيها) أي لا شك في قيامها (إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) في صحة البعث وهذا ظرف لقوله تعالى : (أَعْثَرْنا) لا لقوله (لِيَعْلَمُوا) أي أعثرناهم عليهم حين يتنازعون بينهم أمرهم ليرتفع الخلاف ويتبين الحق (فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً) أي لما أعثرناهم عليهم فرأوا ما رأوا ، فعاد الفتية إلى كهفهم ، فأماتهم الله تعالى فقال بعضهم : ابنوا على باب كهفهم بنيانا لئلا يتطرق إليهم الناس ضنا بتربيتهم. (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) كأن المتنازعين لما رأوا عدم اهتدائهم إلى حقيقة حالهم من حيث النسب والاسم ، ومن حيث العدد ، ومن حيث اللبث في الكهف قالوا ذلك تفويضا للأمر إلى علام الغيوب (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) وهم الملك والمسلمون أو أولياء أصحاب الكهف أو رؤساء البلد (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) (٢١) نعبد الله فيه ونستبقي آثارهم بسبب ذلك المسجد (سَيَقُولُونَ) أي يقول بعض المتنازعين لك يا أشرف الخلق ؛ وهم اليهود أو السيد وأصحابه؟ وهم اليعقوبية من نصارى نجران : هم (ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ) أي النصارى أو العاقب وأصحابه ؛ وهم النسطورية منهم : هم (خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ) أي ظنا بالغيب من غير دليل ولا برهان (وَيَقُولُونَ) أي المسلمون أو الملكانية من النصارى : هم (سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ) يا أشرف الخلق (رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) من النّاس وكان علي رضي‌الله‌عنه يقول : كانوا سبعة وأسماؤهم : تمليخا ، مكشليينا مشليتيا ، هؤلاء الثلاثة أصحاب يمين الملك وكان عن يساره مرنوش برنوش شاذنوش ، وكان الملك يستشير هؤلاء الستة في أمره ، والسابع الراعي

٦٤٥

الذي وافقهم حين هربوا من ملكهم دقيانوس واسمه كفشطيطيوش ، واسم كلبه : قطمير.

وقال ابن عباس : هم سبعة مكسلمينا تمليخا مرطونس ، نينونس ساربونس ، ذو نواس فليستطيونس وهو الراعي. وعن ابن مسعود كانوا تسعة وسماهم ابن إسحاق : تمليخا مكسملينا ، محسلينا مرطونس ، كسوطونس سورس ، يكربوس بطسوس قالوس اه.

وقال ابن عباس : رضي‌الله‌عنهما ، خواص أسماء أهل الكهف تنفع لتسعة أشياء : للطلب ، والهرب ، ولطف الحريق ، تكتب على خرقة وترمى في وسط النار تطفأ بإذن الله تعالى ، ولبكاء الطفل ، والحمى المثلثة ، وللصداع : تشد على العضد الأيمن. ولأم الصبيان ، وللركوب في البر والبحر ، ولحفظ المال ، ولنماء العقل ونجاة الآثمين. (فَلا تُمارِ فِيهِمْ) أي فلا تجادل معهم في عدد الفتية (إِلَّا مِراءً ظاهِراً) بأن لا تكذبهم في تعيين ذلك العدد بل تقول هذا التعيين لا دليل عليه (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) (٢٢) أي لا تشاور أحدا من أهل الكتاب في شأن الفتية (وَلا تَقُولَنَ) يا أكرم الرسل (لِشَيْءٍ) أي لأجل شيء تعزم عليه (إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ) الشيء (غَداً) (٢٣) أي فيما يستقبل من الزمان (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي إلا قائلا : إن شاء الله أي لا تقل لشيء في حال من الأحوال إلا في حال تلبسك بالتعليق بالمشيئة بأن تقول : إن شاء الله نزلت هذه الآية حين قالت اليهود لقريش : سلوه عن الروح وعن أصحاب الكهف وذي القرنين فسألوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ائتوني غدا أخبركم» (١). ولم يستثن فأبطأ عليه الوحي حتى شق عليه وكذبته قريش (وَاذْكُرْ رَبَّكَ) بالتسبيح والاستغفار (إِذا نَسِيتَ) كلمة الاستثناء. وهذا مبالغة في الحث على ذكر هذه الكلمة (وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) (٢٤) أي لعل ربي يؤتيني أعظم دلالة على صحة نبوتي من نبأ أصحاب الكهف (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) (٢٥) وهذا إخبار من الله عن مدة لبثهم ردا على أهل الكتاب المختلفين فيها فقال بعضهم : ثلاثمائة ، وبعضهم ثلاثمائة وتسع ، والسنون عندهم شمسية. فهذان القولان غير ما أخبر الله به من أن السنين ثلاثمائة وتسع قمرية والتفاوت بين الشمسية والقمرية في كل مائة سنة ثلاث سنين ، لأن السنة الشمسية تزيد على السنة القمرية عشرة أيام وإحدى وعشرين ساعة وخمس ساعة.

قرأ حمزة والكسائي «ثلاثمائة» بغير تنوين فهو مضاف لـ «سنين» والباقون بالتنوين «فسنين» عطف بيان. (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) أي بالزمان الذي لبثوا فيه في نومهم قبل بعثهم أي الله أعلم بحقيقة ذلك وكيفيته فارجعوا إلى خبر الله دون ما يقوله أهل الكتاب. وهذا إشارة إلى أن الإخبار من الله لا من عنده صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له تعالى علم ما خفي من أحوال

__________________

(١) رواه السيوطي في الدر المنثور (٤ : ٢١٧).

٦٤٦

أهلهما ، لأنه موجدهما ومدبرهما (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) أي ما أبصر الله وما أسمعه بكل شيء وهذا التعجب يدل على أن علمه تعالى بالمبصرات والمسموعات خارج عما عليه إدراك المدركين لا يحجبه شيء ولا يحول عنه حائل (ما لَهُمْ) أي لأهل السموات والأرض (مِنْ دُونِهِ) تعالى (مِنْ وَلِيٍ) يتولى أمورهم ويقيم لهم تدبير أنفسهم فكيف يعلمون هذه الواقعة من غير إعلامه تعالى (وَلا يُشْرِكُ) تعالى (فِي حُكْمِهِ أَحَداً) (٢٦) فلما حكم تعالى أن لبثهم هو هذا المقدار فليس لأحد أن يقول قولا بخلافه.

وقرأ ابن عامر «لا تشرك» بالتاء على الخطاب لكل أحد وبالجزم على النهي أي ولا تسأل أحدا عما أخبرك الله به من عدة أصحاب الكهف ومن مدة لبثهم في الغار واقتصر على حكمه تعالى ولا تشرك أحدا في طلب معرفة هذه الواقعة (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ) ولا تسمع لقولهم : أئت بقرآن غير هذا أو بدله (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) أي لا قادر على تبديلها (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ) تعالى (مُلْتَحَداً) (٢٧) أي ملجأ تعدل إليه إن هممت بالتبديل للقرآن (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) أي يعبدونه في كل الأوقات.

قرأ ابن عامر «بالغدوة» بضم الغين وسكون الدال. (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أي مريدين بعبادتهم لرضاه تعالى (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ) أي لا تنصرف عيناك عنهم إلى غيرهم (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ترغب في مجالسة الأغنياء وجميل الصورة (وَلا تُطِعْ) في تنحية الفقراء عن مجالسك (مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ) أي وجدنا قلبه غافلا (عَنْ ذِكْرِنا) أي عن توحيدنا (وَاتَّبَعَ هَواهُ) في عبادة الأصنام (وَكانَ أَمْرُهُ) في متابعة الهوى (فُرُطاً) (٢٨) أي ضائعا نزلت هذه الآية في عيينة بن حصن الفزاري فإنه أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يسلم وعنده جماعة من الفقراء منهم سلمان الفارسي وعليه شملة قد عرق فيها وبيده خوص يشقه وينسجه فقال عيينة للنبي أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادة مضر وأشرافها إن أسلمنا تسلم الناس وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء فنحهم عنك حتى نتبعك أو اجعل لنا مجلسا ولهم مجلسا وقد أسلم هو رضي‌الله‌عنه وحسن إسلامه وكان في حنين من المؤلفة قلوبهم فأعطاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منها مائة بعير وكذلك أعطي الأقرع بن حابس ، وأعطي العباس بن مرداس أربعين بعيرا.

وروى أبو سعيد رضي‌الله‌عنه قال : كنت جالسا في عصابة من ضعفاء المهاجرين وإن بعضهم ليستر بعضا من العرى وقارئ يقرأ من القرآن فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ماذا كنتم تصنعون»؟ قلنا : يا رسول الله كان واحد يقرأ من كتاب الله ونحن نسمع فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم» ثم جلس وسطنا وقال : «أبشروا يا صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل الأغنياء بمقدار خمسين ألف

٦٤٧

سنة» (١) (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) أي قل لأولئك الغافلين هذا الدين الحق إنما أتى من عند الله فإن قبلتموه عاد النفع إليكم وإن لم تقبلوه عاد الضرر إليكم ولا تعلق لذلك بالفقر والغنى والقبح ، والحسن والخمول والشهرة (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) فالله تعالى لم يأذن في طرد من آمن وعمل صالحا لأجل أن يدخل في الإيمان جمع من الكفار وهذه الصيغة تهديد وليست بتخيير (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ) أي هيأنا لمن أنف عن قبول الحق لأجل أن من قبلوه فقراء (ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) أي فسطاطها فلا مخلص لهم منها (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا) من العطش (يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ) أي كدردي الزيت أو كالفضة المذابة (يَشْوِي الْوُجُوهَ) أي إذا قرب إلى الفم ليشرب سقطت فروة وجهه (بِئْسَ الشَّرابُ) ذلك الماء لأن المقصود بشرب الشراب تسكين الحرارة وهذا يبلغ في احتراق الأجسام مبلغا عظيما (وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) (٢٩) أي وساءت النار منزلا ومجتمعا للرفقة مع الكفار والشياطين (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (٣٠) أي لا نبطل ثواب من أخلص عملا (أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ) أي من تحت مساكنهم (الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) ويسور المؤمن في الجنة بسوار من ذهب وبسوار من فضة ، وبسوار من لؤلؤ فيكون في يده هذه الأنواع الثلاثة وفي الحديث الصحيح تبلغ حلية المؤمن حيث يبلغ الوضوء (وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ) وهو الديباج اللطيف (وَإِسْتَبْرَقٍ) وهو الديباج الصفيق فإن الخضرة أحسن الألوان وأكثرها طراوة (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) أي ويجلسون في الجنة متربعين على السرر في الحجال وهي بيوت تزين بأنواع الزينة أما السرير وحده فلا يسمى أريكة (نِعْمَ الثَّوابُ) ذلك (وَحَسُنَتْ) أي الأرائك (مُرْتَفَقاً) (٣١) أي منزلا ومجتمعا للرفقة مع الأنبياء والصالحين (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ) أي بيّن لهؤلاء الذين يطلبون طرد المؤمنين لضعفهم مثل حال الكافرين والمؤمنين بحال رجلين شريكين في بني إسرائيل أحدهما كافر اسمه قطروس ، والآخر مؤمن اسمه يهوذا أو تمليخا لهما ثمانية آلاف دينار ، فاقتسماها فاشترى أحدهما أرضا بألف دينار فقال صاحبه : اللهم إن فلانا قد اشترى أرضا بألف دينار وإني أشتري منك أرضا في الجنة بألف دينار فتصدق بها ثم إن صاحبه بنى دارا بألف دينار فقال هذا : اللهم إن فلانا بنى دارا بألف دينار وإني اشتريت منك دارا في الجنة بألف دينار فتصدق بها ، ثم تزوج صاحبه امرأة وأنفق عليها ألف دينار فقال هذا : اللهم إني أخطب إليك امرأة من نساء الجنة بألف دينار فتصدق بها ، ثم إن صاحبه اشترى خدما ومتاعا بألف دينار فقال هذا : اللهم إني أشتري منك خدما ومتاعا في الجنة بألف دينار فتصدق بها ، ثم أصابته حاجة شديدة فقال : لو أتيت صاحبي لعله ينالني منه معروف فجلس على طريق حتى مر به في حشمه فقام إليه فنظر إليه صاحبه فعرفه

__________________

(١) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (١٦٥٨٦) ، وأحمد ابن حنبل في الزهد (٣٧).

٦٤٨

فقال له : فلان ، قال : نعم ، فقال : ما شأنك؟ قال : أصابتني حاجة بعدك فأتيتك لتعينني بخير قال : فما فعل بمالك فقص عليه قصته فقال : وإنك لمن المصدقين فطرده ووبخه على التصدق بماله وآل أمرهما إلى ما حكاه الله تعالى فنزل في شأنهما قوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما) وهو الكافر (جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ) أي بستانين من كروم متنوعة (وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ) أي جعلنا النخل محيطا بالجنتين (وَجَعَلْنا بَيْنَهُما) أي وسط أرض الجنتين (زَرْعاً) (٣٢) ليكون كل منهما جامعا للأقوات والفواكه فتأتي هذه الأرض في كل وقت بمنفعة فكانت منافعها متواصلة (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها) أي أخرجت ثمرها كل عام (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ) أي لم تنقص من ثمرها (شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما) أي أجرينا في داخل تلك الجنتين (نَهَراً) (٣٣) وفي قراءة يعقوب «وفجرنا» بالتخفيف (وَكانَ لَهُ) أي لصاحب الجنتين (ثَمَرٌ).

قرأ عاصم بفتح الثاء والميم أي ثمر البستان. وقرأ أبو عمرو بضم الثاء وسكون الميم. والباقون بضم الثاء والميم في الموضعين ، أي أنواع المال من الذهب والفضة والحيوان وغير ذلك (فَقالَ) أي صاحب الجنتين (لِصاحِبِهِ) الذي جعل مثلا للفقراء المؤمنين (وَهُوَ) أي صاحب الجنتين (يُحاوِرُهُ) أي يراجع صاحبه بالكلام الذي فيه الافتخار بالمال والناس : (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) (٣٤) أي أكثر أصحابا من الأولاد وغيرهم ، ويقال : وهو أي صاحبه المؤمن يراجه الكافر في الكلام بالوعظ والدعاء إلى الإيمان بالله وبالبعث (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) أي بستانه مع صاحبه يطوف به فيها ويريه حسنها (وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) أي ضار لها بكفره وعجبه واعتماده على ماله (قالَ) استنئاف بيان لسبب الظلم (ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً) (٣٥) أي ما أظن أن تفنى هذه الجنة أبدا (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ) أي القيامة التي هي وقت البعث (قائِمَةً) أي حاصلة (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي) بالبعث عند قيامة كما تقول (لَأَجِدَنَ) يومئذ (خَيْراً مِنْها) أي من هذه الجنة (مُنْقَلَباً) (٣٦) أي عاقبة وسبب هذه اليمين الفاجرة اعتقاده إنما أعطاه الله المال في الدنيا لكرامته عنده تعالى ، وهي معه بعد الموت. وقرأ نافع وابن كثير منهما أي الجنتين. (قالَ لَهُ) أي لصاحب الجنة (صاحِبُهُ) الذي هو المؤمن (وَهُوَ) أي المؤمن (يُحاوِرُهُ) أي يجاوب الكافر بالتوبيخ على شكه في حصول البعث (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ) أي من آدم وهو من تراب (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) لأبيك وأمك (ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) (٣٧) أي صيّرك إنسانا ذكرا ، وهيّأك هيئة تعقل وتصلح للتكليف فهل يجوز في العقل مع هذه الحالة إهماله تعالى أمرك فإن من قدر على بدء خلقه من تراب قادر أن يعيده منه وجعل الكفر بالبعث كفرا بالله ، لأن منشأه الشك في كمال قدرة الله (لكِنَّا) أي لكن أنا أقول (هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) (٣٨) أي أنت كافر بالله لكني مؤمن به موحد ، ثم قال المؤمن للكافر : (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ) أي وهلا حين دخلت بستانك (قُلْتَ) عند إعجابك بها : (ما شاءَ اللهُ) أي الأمر هو الذي شاءه الله (لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) أي لا قوة لأحد على أمر من الأمور إلا بإعانة الله وإقداره.

٦٤٩

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من رأى شيئا فأعجبه فقال : ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يصره» (١). (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً) (٣٩) وخدما في الدنيا (فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ) أي يعطيني في الآخرة (خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ) لإيماني (وَيُرْسِلَ عَلَيْها) أي على جنتك (حُسْباناً) أي نارا (مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) (٤٠) أي فتصير جنتك أرضا ملساء لا نبات فيها بحيث تزلق الرجل لكفرك (أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً) أي غائصا في الأرض (فَلَنْ تَسْتَطِيعَ) أنت (لَهُ) أي الماء (طَلَباً) (٤١) أي حيلة تدركه بها وقوله تعالى : (أَوْ يُصْبِحَ) عطف على قوله تعالى : (فَتُصْبِحَ) وإن كان الحسبان بمعنى النار لأنها الحكم الإلهي بتخريب الجنة فيتسبب عنه صيرورتها ترابا أملس ، أو صيرورة مائها غائر إثم أخبر الله تعالى أنه حقق ما قدره هذا المؤمن فقال : (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) أي أهلك ثمر بستانه بالكلية وجميع أمواله (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) أي صار يضرب إحداهما على الأخرى ، وإنما يفعل هذا ندامة (عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) أي في عمارة جنته لأنه أنفق ما يمكن ادخاره من الأموال الكثيرة في مثل هذا الشيء السريع الزوال وقوله : «على ما أنفق» متعلق بـ «يقلب» لأنه ضمن معنى يندم كأنه قيل : فأصبح يندم على ما صنع فإنه من عظمت ندامته يصفق إحدى يديه على الأخرى (وَهِيَ) أي الجنة (خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) أي ساقطة على سقوف الجنة ، وهي سقطت على الجدران. وهذه اللفظة كناية عن هلاك البستان بالكلية (وَيَقُولُ) أي الكافر ـ تلهفا على تلف المال أي تنبهوا يا قومي ـ : (يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) (٤٢) وهذا الكافر تذكر كلام المؤمن وعلم إنما هلكت جنته بشؤم شركة فتمنى أن لا يكون مشركا فلم يصبه ما أصابه (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ) أي الكافر (فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ) بدفع الهلاك عن الجنة أو برد الهالك منها أو بإتيان مثله (مِنْ دُونِ اللهِ) فإنه وحده قادر على ذلك.

وقرأ حمزة والكسائي و «لم يكن» بالياء التحتية. والباقون بالتاء الفوقية (وَما كانَ مُنْتَصِراً) (٤٣) أي قادرا بنفسه على واحد من هذه الأمور (هُنالِكَ الْوَلايَةُ) أي في مثل ذلك الوقت وفي ذلك المقام النصرة (لِلَّهِ الْحَقِ) فلا يقدر عليها أحد. وقرأ حمزة والكسائي «الولاية» بكسر الواو بمعنى الملك فالمعنى أي في تلك الدار الآخرة السلطان لله. والباقون بفتحها أي النصرة. وقرأ أبو عمرو والكسائي «الحق» بالرفع صفة للولاية. وقرأ الباقون بالجر صفة لله أي الثابت الذي لا يزول (هُوَ) تعالى (خَيْرٌ ثَواباً) أي إثابة في الآخرة لمن آمن به والتجأ إليه (وَخَيْرٌ عُقْباً) (٤٤) أي عاقبة لمن رجاه وعمل لوجهه. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ونافع والكسائي وابن عامر بضم القاف. وعاصم وحمزة بتسكينها. وقرئ «عقبى» كرجعى والكل بمعنى العاقبة.(وَاضْرِبْ لَهُمْ)

__________________

(١) رواه العجلوني في كشف الخفاء (٢ : ١٠٠).

٦٥٠

أي واذكر للذين افتخروا بأموالهم على فقراء المسلمين (مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي صفتها العجيبة في فنائها (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) أي اختلط بعض أنواع النبات ببعضها الآخر بسبب هذا الماء أي صار النبات في المنظر في غاية الحسن (فَأَصْبَحَ هَشِيماً) أي فصار النبات بعد بهجتها يابسا مكسورا (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) أي تفرقه ولم يبق منها شيء. وقرأ حمزة والكسائي الريح بالتوحيد (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) (٤٥) أي قادرا على الكمال بتكوينه أولا وتنميته وسطا وإبطاله آخرا ، فأحوال الدنيا كذلك تظهر أولا في غاية النضارة ، ثم تتزايد قليلا قليلا ، ثم تأخذ في الانحطاط إلى أن تنتهي إلى الفناء ومثل هذا الشيء ليس للعاقل أن يفرح به (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) وكل ما كان من زينة الدنيا فهو سريع الانقراض فيقبح بالعاقل أن يفتخر به (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) أي أعمال الخيرات التي تبقى له ثمرتها أبدا من الصلوات الخمس وأعمال الحج وصيام رمضان والطيب من القول (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ) أي في الآخرة (ثَواباً) فتعود إلى صاحبها (وَخَيْرٌ أَمَلاً) (٤٦) فينال بها صاحبها في الآخرة كل ما كان يرجوه في الدنيا ، لأن صاحب تلك الأعمال يأمل في الدنيا نصيبه من ثواب الله في الآخرة. وللغزالي في هذا وجه لطيف فقال : روي أن من قال : سبحان الله حصل له من الثواب عشر حسنات فإذا قال : والحمد لله صارت عشرين فإذا قال : ولا إله إلا الله صارت ثلاثين ، فإذا قال : والله أكبر صارت أربعين.

وتحقيق القول في ذلك أن أعظم مراتب الثواب هو الاستغراق في معرفة الله وفي محبته فإذا قال : سبحان الله فقد عرف كونه تعالى منزها عن كل ما لا يليق به ، فحصول هذا العرفان سعادة عظيمة وبهجة كاملة ، فإذا قال مع ذلك والحمد لله فقد أقر بأن الله تعالى مع كونه منزها عن كل ما لا ينبغي فهو المبتدئ لإفادة كل ما ينبغي ولإفاضة كل خير وكمال ، فإذا قال : مع ذلك ولا إله إلّا الله فقد أقر بأنه ليس في الوجود موجود منزه عن كل ما لا ينبغي مبتدئ لإضافة كل ما ينبغي إلا الواحد فإذا قال والله أكبر ومعنى أكبر أي أعظم من أن يصل العقل إلى كنه كبريائه وجلاله فقد صارت مراتب المعرفة أربعة ، فكانت درجات الثواب أربعة ، فهذه الكلمات الأربع تسمى الباقيات الصالحات (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ) أي واذكر لهم حين نسير أجزاء الجبال عن وجه الأرض بعد أن نجعلها غبارا مفرقا.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «تسير الجبال» بالتاء الفوقية بالبناء للمفعول وبرفع الجبال. (وَتَرَى الْأَرْضَ) خطاب لكل أحد. وقرئ على صيغة البناء للمفعول (بارِزَةً) أي ظاهرة ليس عليها ما يسترها من جبال وأشجار وبناء وحيوان وظل وبحار (وَحَشَرْناهُمْ) أي جمعنا الخلائق إلى الموقف من كل أوب للسحاب (فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ) أي لم نترك من الأولين والآخرين (أَحَداً) (٤٧) إلا وجمعناهم لذلك اليوم (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ) كعرض الجند على السلطان

٦٥١

ليقضي بينهم (صَفًّا) أي مصطفين وقد ورد في الحديث الصحيح : «يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفا» (١) وفي حديث آخر : «أهل الجنة مائة وعشرون صفا أنتم منها ثمانون» (٢) اهـ. مقولا لهم (لَقَدْ جِئْتُمُونا) كائنين (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) حفاة عراة غرلا بلا أموال وأعوان (بَلْ زَعَمْتُمْ) في الدنيا (أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) أي وقتا للبعث (وَوُضِعَ الْكِتابُ) أي وضع في هذا اليوم كتاب كل إنسان في يده اليمنى إن كان مؤمنا وفي يده اليسرى إن كان كافرا فقد تطايرت الكتب إلى أيدي الخلق مثل الثلج (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ) أي المشركين والمنافقين (مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) أي خائفين مما في الكتاب من أعمالهم الخبيثة أي يحصل لهم خوف العقاب من الله بذنوبهم وخوف الفضيحة عند الخلق بظهور الجرائم لأهل الموقف (وَيَقُولُونَ) عند وقوفهم على ما في الكتاب من السيئات (يا وَيْلَتَنا) أي يا هلكتنا (ما لِهذَا الْكِتابِ) أي أيّ شيء له (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) من أعمالنا (إِلَّا أَحْصاها) أي عدها (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا) في الدنيا من السيئات (حاضِراً) أي مكتوبا في صحفهم (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (٤٩) فلا ينقص من حسنات أحد ولا يزيد على سيئات أحد (وَإِذْ قُلْنا) أي واذكر لهم وقت قولنا (لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا) جميعا امتثالا بالأمر (إِلَّا إِبْلِيسَ) فإنه لم يسجد بل تكبر على آدم ، لأنه افتخر بأصله (كانَ مِنَ الْجِنِ) أي من نوع الجن الذين هم الشياطين فالذي خلق من نار هو أبوهم (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) أي خرج عن طاعته بترك السجود (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ) أي أبعد ما وجد من إبليس ما وجد تتخذونه وذريته أصدقاء يا بني آدم (مِنْ دُونِي) فتطيعونهم بدل طاعتي (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) أي والحال أن إبليس وذريته لكم أعداء (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) (٥٠) من الله تعالى في الطاعة إبليس وذريته وعن مجاهد قال : ولد إبليس خمسة بتر والأعور وزلنبور ومشوط ، وداسم ، فبتر : صاحب المصائب ، والأعور : صاحب الزنا زلنبور الذي يفرق بين الناس ويبصر الرجل عيوب غيره ومشوط صاحب الصخب والأخبار يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس ولا يجدون لها أصلا وداسم الذي إذا دخل الرجل بيته ولم يسلم ولم يذكر اسم الله دخل معه وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه (ما أَشْهَدْتُهُمْ) أي ما أحضرت إبليس وذريته (خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإني خلقتهما قبل خلقهم (وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) أي ولا أشهدت بعضهم خلق بعض (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ)

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب التفسير ، باب : تفسير سورة ١٧ ، ومسلم في كتاب الإيمان ، باب : ٣٢٧ ، والترمذي في كتاب القيامة ، باب : ١٠ ، والدارمي في كتاب الرقاق ، باب : في سجود المؤمنين يوم القيامة ، وأحمد في (م ١ / ص ٤).

(٢) رواه الطبراني في المعجم الكبير (١٩ : ٤١٩) ، والطحاوي في مشكل الآثار (١ : ١٥٦) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٣٤٥١٢).

٦٥٢

للناس وهم الشياطين (عَضُداً) (٥١) أي أعوانا في شأن الخلق حتى يتوهم شركتهم بي في بعض أحكام الربوبية. والمعنى ما أطلعتهم على أسرار التكوين وما خصصتهم بفضائل لا يحويها غيرهم حتى يكونوا قدوة للناس ، فكيف تطيعونهم يا بني آدم : (وَيَوْمَ يَقُولُ) أي واذكر لهم يا أشرف الخلق أحوال المشركين وآلهتهم يوم القيامة إذ يقول الله تعجيزا. وقرأ حمزة بنون العظمة. (نادُوا شُرَكائِيَ) أي نادوا آلهتكم التي قلتم : إنهم شركائي (الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) أي عبدتم ليمنعوكم من عذابي (فَدَعَوْهُمْ) للإغاثة (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) إلى ما دعوهم إليه (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ) أي المشركين وآلهتهم (مَوْبِقاً) (٥٢) أي حاجزا بعيدا أو واديا في جهنم من قيح ودم ، وذلك أن المشركين الذين اتخذوا من دون الله آلهة الملائكة وعزيرا ، وعيسى ومريم عليهم‌السلام دعوا هؤلاء فلم يجيبوهم استهانة بهم ، واشتغالا بأنفسهم ، ثم حيل بينهم فأدخل الله تعالى هؤلاء المشركين جهنم ، وأدخل عزيرا وعيسى ومريم الجنة ، وسار الملائكة إلى حيث أراد الله من الكرامة وحصل بين الكفار ومعبوديهم هذا الحاجز وهو ذلك الوادي (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ) أي الكافرون (النَّارَ) من مكان بعيد (فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها) أي مخالطوها في تلك الساعة من غير تأخير لشدة ما يسمعون من تغيظها وزفيرها (وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) (٥٣) أي معدلا إلى غيرها ، لأن الملائكة تسوقهم إليها (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) أن ذكرنا على وجوه كثيرة (فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ) أي لمنفعتهم (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي من كل نوع من أنواع المعاني البديعة الداعية إلى الإيمان التي هي في الغرابة كالمثل ليتلقوه بالقبول فلم يفعلوا (وَكانَ الْإِنْسانُ) بجبلته (أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) (٥٤) أي وكان خصومة الإنسان بالباطل أكثر شيء فيه (وَما مَنَعَ النَّاسَ) أي أهل مكة (أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) أي القرآن الهادي إلى الإيمان (وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ) عما فرط منهم من الذنوب (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) أي إلا طلب إتيان سنتنا في الأولين وهو عذاب الاستئصال (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً) (٥٥).

وقرأ حمزة وعاصم والكسائي بضم القاف والباء. أي أنواعا من العذاب تتواصل مع كونهم أحياء ، والباقون بكسر القاف وفتح الباء أي عيانا. وقرئ بفتحتين أي مستقبلا. (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ) إلى الأمم (إِلَّا مُبَشِّرِينَ) بالثواب على أفعال الطاعة (وَمُنْذِرِينَ) بالعقاب على أفعال المعصية (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) المرسلين (بِالْباطِلِ) أي باقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات (لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) أي ليبطلوا بجدالهم الشرائع (وَاتَّخَذُوا آياتِي) التي هي معجزات الرسل (وَما أُنْذِرُوا) أي وإنذارهم بالعذاب (هُزُواً) (٥٦) أي سخرية. (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ) أي ليس أحد أظلم ممن وعظ بالقرآن (فَأَعْرَضَ عَنْها) أي فصرف عن تلك الآيات ولم يتدبرها (وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) أي تغافل عن كفره وذنوبه ولم يتفكر في عاقبته (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) أي أغطية (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أي مانعة من أن يفهموا القرآن (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) أي صمما مانعا من استماعه (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى) أي إلى التوحيد (فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) (٥٧) أي فلن

٦٥٣

يوجد منهم اهتداء ألبتة مدة التكليف (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ) أي البليغ لستر ذنوبهم بالحلم عنها إلى وقت آخر (ذُو الرَّحْمَةِ) بتأخير العقوبة عنهم (لَوْ يُؤاخِذُهُمْ) أي لو يريد الله مؤاخذتهم (بِما كَسَبُوا) من الذنوب (لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) في الدنيا (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ) أي وقت لهلاكهم (لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ) أي العذاب (مَوْئِلاً) (٥٨) أي مرجعا فمن يكون مرجعه العذاب فلا يوجد منه الخلاص (وَتِلْكَ الْقُرى) أي وأهل قرى عاد وثمود وأمثالهما (أَهْلَكْناهُمْ) في الدنيا (لَمَّا ظَلَمُوا) أي حين كفروا (وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) (٥٩) أي وقتا معينا لا يتأخرون عنه.

وقرأ شعبة بفتح الميم واللام أي لهلاكهم ، وقرأ حفص بفتح الميم وكسر اللام أي لوقت هلاكهم ، والباقون بضم الميم وفتح اللام أي لإهلاكنا إياهم (وَإِذْ قالَ) أي واذكر حين قال (مُوسى لِفَتاهُ) يوشع بن نون بن أفرايم بن يوسف عليه‌السلام ؛ وكان يوشع من أشراف بني إسرائيل ، وإنما سمي فتى موسى عليه‌السلام لأنه كان يخدمه ، وكان موسى عليه‌السلام وقع في قلبه أن ليس في الأرض أحد أعلم مني فقال الله : يا موسى إن لي في الأرض عبدا أعبد لي منك وأعلم وهو الخضر ، فقال موسى : يا رب دلني عليه ، فقال الله له : خذ سمكا مالحا وامض على شاطئ البحر حتى تلقى صخرة عندها عين الحياة فانضح على السمكة منها حتى تحيا السمكة فثم تلقى الخضر فأخذ حوتا ، فجعله في مكتل فقال لفتاه : إذا فقدت الحوت فأخبرني فذهبا يمشيان (لا أَبْرَحُ) أي لا أزال سائرا (حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) أي ملتقى بحر فارس والروم مما يلي المشرق (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) (٦٠) أو أسير زمانا طويلا أتيقن معه فوات الطلب أو أسير ثمانين سنة (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما) أي بلغا موضعا يجتمع فيه موسى وصاحبه الذي كان يقصده وهو الخضر (نَسِيا حُوتَهُما) أي نسيا خبر حوتهما وتفقد أمره وقد جعل فقدانه أمارة لوجدان المطلوب. (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) (٦١) أي فأدركته الحياة بسبب برد الماء الذي أصابه فتحرك في المكتل ، فخرج منه وسقط في البحر ، فاتخذ الحوت في البحر مسلكا كالسرب. قيل : إن الفتى كان يغسل السمكة لأنها كانت مملحة فطفرت وسارت (فَلَمَّا جاوَزا) أي موسى وفتاه مجمع البحرين ، وذهبا كثيرا ، وألقي على موسى الجوع (قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا) الذي بعد مجاوزة الصخرة (نَصَباً) (٦٢) أي تعبا.

قيل : إن موسى لم يتعب ولم يجع قبل ذلك (قالَ) أي فتاه : (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ) أي أأبصرت حالنا إذ قمنا عند الصخرة (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) أي خبر الحوت (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) بدل اشتمال من الهاء أي وما أنساني ذكر أمر الحوت لك إلا الشيطان بوسوسته الشاغلة عن ذلك. وقرأ حفص بضم الهاء «من أنسانيه». (وَاتَّخَذَ) أي الحوت (سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) (٦٣) أي اتخاذا عجبا وهو كون مسلكه كالسرب فلم يلتئم الماء وجمد ما تحت الحوت منه

٦٥٤

حتى رجع موسى إليه فرأى مسلكه وكون الحوت قد مات وأكل شقه الأيسر ، ثم حيي بعد ذلك (قالَ) أي موسى : (ذلِكَ) أي الذي ذكرت من أمر الحوت (ما كُنَّا نَبْغِ) أي الذي كنا نطلبه لأنه أمارة الظفر بالمطلوب وهو لقاء الخضر. وقرأ نافع وأبو عمرو والكسائي بإثبات الياء وصلا لا وقفا ، وابن كثير أثبتها في الحالين. والباقون حذفوها في الحالين اتباعا للرسم. (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) (٦٤) أي فرجعا مفتشين آثارهما أو فاقتصا على آثارهما اقتصاصا حتى آتيا الصخرة (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا) وهو الخضر واسمه : بليا بن ملكان ، وكنيته أبو العباس ؛ وهو من نسل نوح ، وكان أبوه من الملوك الذين تزهدوا وتركوا الدنيا. وروي أنهما وجدا الخضر وهو نائم على وجه الماء وهو مغطى بثوب أبيض أو أخضر ، طرفه تحت رجليه والآخر تحت رأسه فسلم عليه موسى فرفع رأسه واستوى جالسا وقال : وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل فقال له موسى : ومن أخبرك إني نبي بني إسرائيل؟ فقال : الذي أدراك بي ودلّك علي.

والصحيح أن الخضر نبي ، وذهب الجمهور إلى أنه حي إلى يوم القيامة لشربه من ماء الحياة (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) أي أكرمناه بالنبوة ـ كما قاله ابن عباس ـ (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (٦٥) وهو علم الغيوب (قالَ لَهُ مُوسى) على سبيل التأدب والتلطف في ظرف الاستئذان (هَلْ أَتَّبِعُكَ) أي أصحبك (عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ) أثبت الياء نافع وأبو عمرو وصلا لا وقفا ، وابن كثير في الحالين ، والباقون حذفوها. (مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) (٦٦) أي علما يرشدني في ديني.

وقرأ أبو عمرو ويعقوب بفتح الراء والشين ، والباقون بضم الراء وتسكين الشين. قال له الخضر : كفى بالتوراة علما وببني إسرائيل شغلا. فقال له موسى : إن الله أمرني بهذا فحينئذ (قالَ) له الخضر : يا موسى (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) (٦٨) أي على ما لم تعلم به بيانا وحكمة ، أي إنك يا موسى لا تصبر على أمور لم تعلم حقائقها يا موسى إني على علم من علم الله تعالى علمنيه لا تعلمه ، أي وهو علم الكشف وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه أي وهو علم ظاهر الشريعة. (قالَ) له موسى : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) (٦٩) عطف على «صابرا» ، أي ستجدني صابرا على ما أرى منك وغير مخالف لأمرك (قالَ) له الخضر : (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي) أي صحبتني (فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ) تشاهده من أفعالي ولو منكرا بحسب علمك الظاهر (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) (٧٠) أي حتى أبتدئ بإخبارك ببيان ذلك الشيء.

وقرأ ابن عامر «فلا تسألن» بالنون المثقلة وبغير ياء. وروي عنه «تسألني» مثقلة مع الياء ؛ وهي قراءة نافع ، وقرأ باقي السبعة بسكون اللام وتخفيف النون ، وقرأ أبو جعفر هنا «تسلن» بفتح السين واللام وتشديد النون من غير همز. (فَانْطَلَقا) أي موسى والخضر عليهما‌السلام على

٦٥٥

الساحل يطلبان السفينة ، وأما يوشع فقد صرفه موسى إلى بني إسرائيل أو كان معهما وإنما لم يذكر في الآية لأنه تابع لموسى فاكتفى بذكر المتبوع عن التابع. فالمقصود ذكر موسى والخضر (حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها) أي ثقبها الخضر. وعن أبي بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مرت بهم سفينة فكلموا أهلها أن يحملوهم فعرفوا الخضر بعلامة فحملوهم بغير نول فلما لجوا ـ أي وصلوا ـ إلى الماء الغزير أخذ الخضر فأسا وأخرج بها لوحا من السفينة». (قالَ) له موسى : (أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها) أي لتغرق أنت أهل هذه السفينة ، وقرأ حمزة والكسائي «ليغرق أهلها» بالياء المفتوحة وفتح الراء ورفع «أهلها». (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) (٧١) أي لقد فعلت شيئا عظيما شديدا على القوم.

روي أن الماء لم يدخل السفينة. وروي أن موسى لما رأى ذلك أخذ ثوبه فحشى به الخرق (قالَ) له الخضر : (أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ) موسى (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) أي بما تركت من وصيتك أول مرة أو هذا من التورية وإيهام خلاف المراد فيتقي موسى بها الكذب مع التوصل إلى الغرض وهو بسط عذره في الإنكار ، فالمراد بما نسيه شيء آخر غير الوصية لكنه أوهم أنها المنسية (وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) (٧٣) أي لا تكلفني مشقة في أمر صحبتي إياك فقبل الخضر عذر موسى فخرجا من السفينة (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً) بين قريتين لم يبلغ الحنث يلعب مع عشر صبيان كان وضيء الوجه اسمه «خيشور» فأخذه الخضر (فَقَتَلَهُ) بذبحه مضطجعا بالسكين أو بفتل عنقه (قالَ) له موسى : (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً) أي بريئة من الذنوب (بِغَيْرِ نَفْسٍ) أي بغير قتل نفس محرمة.

وقرأ نافع وابن كثيرون وأبو عمرو بألف بعد الزاي وبتخفيف الياء ، والباقون بالتشديد وبدون ألف. (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) (٧٤) أي لقد فعلت فعلا منكرا (قالَ) الخضر (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ) يا موسى زاد الخضر لك هنا تقريعا لموسى وتحاملا في الخطأ (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) (٧٥) قيل : إن يوشع كان يقول لموسى يا نبي الله اذكر العهد الذي أنت عليه (قالَ) موسى : (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها) أي بعد هذه المرة (فَلا تُصاحِبْنِي) أي لا تجعلني صاحبك. وقرئ لا تصحبني بضم التاء وسكون الصاد (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) (٧٦) أي قد وجدت من قبلي عذرا حيث خالفتك ثلاث مرات ، قرأ نافع وأبو بكر عن عاصم في بعض الروايات بتخفيف النون وضم الدال ، وفي بعض الروايات عن عاصم بضم اللام وسكون الدال.

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «رحم الله أخي موسى استحيا فقال ذلك ولو لبث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب» (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ) بعد الغروب في ليلة باردة ممطرة وهي أنطاكية أو أبرقة (اسْتَطْعَما أَهْلَها) أي طلبا من أهلها الخبز على سبيل الضيافة فإقدام الجائع على الاستطعام أمر مباح في كل الشرائع بل ربما وجب ذلك عند خوف الضرر الشديد.

٦٥٦

وعن أبي هريرة قال : أطعمتهما امرأة من أهل بربرة بعد أن طلبا من الرجال فلم يطعموهما فدعوا لنسائهم ولعنا رجالهم فقوله تعالى : «استطعما» جواب «إذا» أو صفة لـ «قرية». (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا أهل قرية لئاما (فَوَجَدا فِيها) أي القرية (جِداراً) مائلا (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) أي يقرب من السقوط وكان ارتفاعه مائة ذراع وعرضه خمسون ذراعا وامتداده على وجه الأرض خمسمائة ذراع (فَأَقامَهُ) أي رفعه الخضر بيده فاستقام أو مسحه بيده فاستوى أو هدمه ثم بناه (قالَ) موسى : (لَوْ شِئْتَ) يا خضر (لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) (٧٧) أي طلبت على عملك أجرة تصرفها إلى تحصيل المطعوم ، وتحصيل سائر المهمات أي كان ينبغي لك أن تأخذ منهم جعلا على فعلك لتقصيرهم فينا مع حاجتنا وليس لنا في إصلاح الجدار فائدة فهو من فضول العمل.

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كانت الأولى من موسى نسيانا ، والوسطى شرطا ، والثالثة عمدا» (١) قيل في تفسير هذه الآيات التي وقعت لموسى مع الخضر أنها حجة على موسى وعتب عليه ، وذلك أنه لما أنكر خرق السفينة نودي : يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحا في اليم؟ فلما أنكر أمر الغلام قيل له : أين إنكارك هذا من وكزك للقبطي وقضائك عليه؟ فلما أنكر إقامة الجدار نودي : أين هذا من رفعك حجر البئر لبنات شعيب دون أجر؟ (قالَ) له الخضر : (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) أي هذا الإنكار على ترك الأجر سبب فراق حصل بيني وبينك (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (٧٨) السين للتأكيد لا للاستقبال لعدم تراخي التنبئة أي أظهر لك بيان وجه ما لم تصبر عليه أي حكمة هذه الأمور الثلاثة قبل فراقي لك. (أَمَّا السَّفِينَةُ) التي خرقتها (فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) فيعيرون بالناس مؤاجرين للسفينة لحمل الأمتعة ونحوها كانت لعشرة إخوة من المساكين ورثوها من أبيهم خمسة زمنى وخمسة يعملون في البحر فأما العمال منهم.

فأحدهم : كان مجذوما.

والثاني : كان أعور.

والثالث : كان أعرج.

والرابع : كان آدر.

والخامس : كان محموما لا تنقطع عنه الحمى الدهر كله وهو أصغرهم.

__________________

(١) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (١ : ٣١٧) ، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (٤ : ٢٨).

٦٥٧

والخمسة : الذين لا يطيقون العمل أعمى وأصم وأخرس ومقعد ومجنون وكان البحر الذي يعملون فيه ما بين فارس والروم (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) أي أن أجعلها ذات عيب (وَكانَ وَراءَهُمْ) أي أمامهم كما قرأ به ابن قرأ بذلك ابن عباس وابن جبير. (مَلِكٌ) كافر اسمه : هدد بن بدد أو جلندى ابن كرر. (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ) صحيحة ـ كما قرأ بذلك ابن عباس وابن جبير. (غَصْباً) (٧٩) من أصحابها ولم يكن عندهم علم به فلذلك ثقبتها فإذا جاوزوا الملك أصلحوها (وَأَمَّا الْغُلامُ) الذي قتلته (فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ) من عظماء تلك القرية اسم الأب كازبرا واسم الأم سهوا. (فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما) أي فخفنا أن يحمل الوالدين المؤمنين (طُغْياناً وَكُفْراً) (٨٠) لمحبتهما له. وقرئ «فخاف ربك» أي كره ربك كراهة من خاف سوء عاقبة الأمر أن يلحق الوالدين معصية وكفرا ، أو يقال : فعلم ربك أن يوقعهما في الكفر ، وقيل : إن أبويه فرحا به حين ولد وحزنا عليه حين قتل ، ولو بقي لكان فيه هلاكهما فليرض العبد بقضاء الله تعالى فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب. وقيل : كان الغلام رجلا كافرا لصا قتالا فمن ذلك قتله الخضر ، وكان اسمه : جيسور (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً) أي صلاحا وطهارة من الذنوب والأخلاق الرديئة (وَأَقْرَبَ رُحْماً) (٨١) أي عطفا بأبويه وأوصل رحما بأن يكون أبر بهما.

قال ابن عباس : أبدلا بنتا ولدت نبيا وهو الذي كان بعد موسى الذي قالت له بنو إسرائيل : ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله وكان اسمه : شمعون.

وقرأ أبو عمرو ونافع بفتح الياء وتشديد الدال ، هنا وفي التحريم وفي القلم. وقرأ ابن عامر في إحدى الروايتين عن أبي عمرو «رحما» بضم الحاء. (وَأَمَّا الْجِدارُ) الذي سويته (فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ) هما أصرم وصريم ابنا كاشح وأمهما دنيا (فِي الْمَدِينَةِ) وهي المعبر عنها أولا بالقرية تحقيرا لها لخسة أهلها وعبر عنها هنا بالمدينة تعظيما لها من حيث اشتمالها على هذين الغلامين وأبيهما (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما) عن أبي الدرداء أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كان ذهبا وفضة» (١) رواه البخاري في تاريخه ، والترمذي والحاكم ، وقيل : كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه : عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن : وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب : وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح : وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل : وعجبت لمن يعرف الدنيا

__________________

(١) رواه ابن الجوزي في زاد المسير (٥ : ١٦٣) ، وابن حجر في فتح الباري (١١ : ٥٥٠) ، والطبري في التفسير (١٥ : ١٨٥) ، والقرطبي في التفسير (١١ : ١٨) ، وابن كثير في التفسير (٥ : ١٧٢).

٦٥٨

وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟ لا إله إلا الله محمد رسول الله : (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) وهذا يدل على أن صلاح الآباء يفيد العناية بأحوال الأبناء وقد روي أن الله يحفظ الصالح في سبعة من ذريته (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما) أي قوتهما وكمال رأيهما (وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما) أي دفينهما من تحت الجدار ولو لا أني أقمته لا نقض وخرج الكنز من تحته وضاع بالكلية (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) مفعول له وعامله «أراد» أي نعمة لهما من ربك أو عامله مقدر أي فعلت هذه الأفعال وحيا من ربك. (وَما فَعَلْتُهُ) أي ما فعلت ما رأيت من هذه الأحوال (عَنْ أَمْرِي) أي عن اجتهادي ورأيي (ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (٨٢) أي ذلك الأجوبة الثلاثة تفسير ما لم تصبر عليه من الوقائع الثلاثة وحذف التاء بعد السين هنا للتخفيف.

روي أن موسى عليه‌السلام لما أراد أن يفارق الخضر قال له : أوصني ، قال : لا تطلب العلم لتحدث به ، واطلبه لتعمل به. وقيل : إن الخضر لما أراد أن يفارق موسى قال له موسى : أوصيني ، قال : كن بساما ولا تكن ضحاكا ، ودع اللجاجة ولا تمش في غير حاجة ، ولا تعب على الخطائين خطاياهم ، وابك على خطيئتك با ابن عمران. (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) أي يسألك يا أشرف الخلق أهل مكة عن خبر ذي القرنين : اسمه : إسكندر بن فيلفوس اليوناني ، كان عبدا صالحا ملكه الله الأرض وأعطاه العلم والحكمة ، وألبسه الهيبة ، وكان وزيره الخضر. والصحيح أنه لم يكن نبيا وإنّما كان ملكا صالحا عادلا ملك الأقاليم وقهر أهلها من الملوك وغيرهم ، ودانت له البلاد وكان داعيا إلى الله. (قُلْ) لهم في الجواب : (سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) (٨٣) أي سأذكر لكم من حال ذي القرنين خبرا مذكورا. «والسين» للتأكيد وللدلالة على التحقق. (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) أي إنا جعلنا له قدرة على التصرف في الأرض من حيث التدبير والرأي وعلى الأسباب حيث سخر له السحاب وبسط له النور ، وكان الليل والنهار عليه سواء وسهل عليه السير في الأرض (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) يحتاج إليه في إصلاح ملكه (سَبَباً) (٨٤) أي طريقا يوصله إلى ذلك الشيء المقصود كآلات السير وكثرة الجند (فَأَتْبَعَ سَبَباً) (٨٥) أي فأخذ طريقا يوصله إلى استقصاء بقاع الأرض ليملأها عدلا (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ) أي منتهى الأرض من جهة المغرب بحيث لا يمكن أحد من مجاوزته ووقف على حافة البحر المحيط الغربي الذي يقال له : أوقيانوس الذي فيه الجزائر المسماة بالخالدات التي هي مبدأ الأطوال (وَجَدَها) أي الشمس (تَغْرُبُ) في رأى العين (فِي عَيْنٍ) أي بحر محيط (حَمِئَةٍ) أي ذات طين أسود شديد السخونة كما يدل عليه قراءة شعبة وحمزة والكسائي وابن عامر حامية بألف بعد الحاء وبياء بعد الميم ، وهي قراءة ابن مسعود وطلحة (وَوَجَدَ عِنْدَها) أي عند تلك العين (قَوْماً) كفارا لباسهم جلود الوحوش وطعامهم ما يلفظه البحر من السمك (قُلْنا) بإلهام : (يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ) بالقتل (وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) (٨٦) أي أمرا ذا حسن بأن تتركهم أحياء. (قالَ) أي ذو القرنين : (أَمَّا مَنْ

٦٥٩

ظَلَمَ) نفسه باستمراره على الكفر (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) بالقتل بعد طول الدعاء إلى الإسلام (ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ) في الآخرة (فَيُعَذِّبُهُ) فيها (عَذاباً نُكْراً) (٨٧) أي شديدا وهو عذاب النار (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ) بسبب دعوتي (وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى).

قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بنصب «جزاء» أي فله الجنة في الآخرة من جهة الجزاء. وقرأ الباقون برفعه والإضافة أي فله في الدارين جزاء الفعلة الحسنى التي هي الإيمان والعمل الصالح (وَسَنَقُولُ لَهُ) أي لمن آمن (مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) (٨٨) أي قولا سهلا مما نأمره به من الزكاة والخراج وغيرهما ولا نأمره بالصعب الشاق (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) (٨٩) أي ثم أخذ ذو القرنين طريقا نحو المشرق من جهة الجنوب (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ) أي موضع طلوعها من معمورة الأرض (وَجَدَها) أي الشمس (تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ) هم الزنج (لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها) أي الشمس (سِتْراً) (٩٠) من اللباس فيكونون عراة أبدا فإذا طلعت الشمس دخلوا الأسراب أو البحر فإذا ارتفع النهار خرجوا إلى معايشهم (كَذلِكَ) أي أمر ذي القرنين فيهم كأمره في أهل المغرب فحكم في أهل المطلع كما حكم في أهل المغرب من تعذيب الظالمين والإحسان إلى المؤمنين (وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً) (٩١) أي وقد علمنا بما كان عند ذي القرنين من الخبر (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) (٩٢) أي ثم سلك ذو القرنين طريقا معترضا بين المشرق والمغرب آخذا نحو الروم من الجنوب إلى الشمال (حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) أي بين الجبلين العاليين الأملسين فلا يستطاع الصعود عليهما في آخر بلاد الترك مما يلي المشرق ويسمى كل منهما سدا ، لأنه سد فجاج الأرض (وَجَدَ مِنْ دُونِهِما) أي من ورائهما مجاوزا عنهما (قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) (٩٣) أي أمة من الناس لا يقربون يفهمون قول غيرهم لقلة فطنتهم ، وفي قراءة حمزة والكسائي ضم الياء وسكون الفاء وكسر القاف أي لا يفهمون الناس كلامهم لغرابة لغتهم وهم من أولاد يافث وذو القرنين من أولاد سام.

قال أهل التاريخ : أولاد نوح عليه‌السلام ثلاثة : سام ، وحام ، ويافث. أما سام : فهو أبو العرب والعجم والروم. وأما حام : فهو أبو الحبشة والزنج والنوبة. وأما يافث : فهو أبو الترك والخزر والصقالبة ويأجوج ومأجوج (قالُوا) لذي القرنين ـ بواسطة ترجمان ممن هو مجاورهم ، ويفهم كلامهم ، أو بغير ترجمان على أن فهم ذي القرنين كلامهم وإفهام كلامه إياهم من جملة ما أعطاه الله تعالى من الأسباب ـ : (يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) أي في أرضنا يأكلون كل شيء أخضر ، ويحملون كل شيء يابس ، ويقتلون أولادنا ؛ وسمى يأجوج ومأجوج لكثرتهم.

وروى حذيفة حديثا مرفوعا : «أن يأجوج أمة ومأجوج أمة فكل أمة أربعة آلاف أمة لا يموت الواحد منهم حتى ينظر ألف ذكر من صلبه كلهم قد حملوا السلاح وهم من ولد آدم يسيرون إلى

٦٦٠