مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

مستحسنا عند الناس مرضيا (فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً) أي حال السر والجهر (هَلْ يَسْتَوُونَ) أي هل يستوي العبيد والأحرار الموصوفون بتلك الصفات مع أن الفريقين سيان في البشرية والمخلوقية لله تعالى ، وأن ما ينفقه الأحرار ليس مما لهم دخل في إيجاده بل هو مما أعطاه الله تعالى إياهم فحيث لم يستو الفريقان فما ظنكم برب العالمين حيث تشركون به ما لا ذليل أذل منه وهو الأصنام. والمعنى لو فرضنا عبدا مملوكا لا يقدر على التصرف ، وحرا غنيا كريما كثير الإنفاق في كل وقت ، فصريح العقل يشهد بأنه لا تجوز التسوية بينهما في التعظيم والإجلال فلما لم تجز التسوية بينهما مع استوائهما في الصورة البشرية ، فكيف يجوز للعاقل أن يسوي بين الله القادر على الرزق وبين الأصنام التي لا تقدر ألبتة. (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي كل الحمد له تعالى لأنه معطي جميع النعم لا يستحقه أحد غيره فضلا عن استحقاق العبادة (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٧٥) إن كل الحمد لله وحده فيسندون نعمه تعالى إلى غيره ويعبدونه لأجلها ، وبعض الكفار يعلمون ذلك وإنما لا يعلمون سبب الحمد عنادا كقوله تعالى : يعرفون نعمة الله ، ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون. (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ) أي الذي لا يحسن الكلام ولا يعقل (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) للعجز التام وللنقصان الكامل (وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) أي هذا الأبكم ثقيل على من يعوله (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ) أي أينما يرسله من يلي أمره في وجه معين لا يأت بمطلوب لأنه عاجز لا يحسن شيئا ولا يفهم (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ) أي هذا الموصوف بهذه الصفات الأربع (وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) أي من هو منطيق فهم ينفع الناس بحثهم على العدل (وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٧٦) أي وهو عادل مبرأ عن العبث وإذا ثبت في بديهة العقل أن الأبكم العاجز لا يساوي الناطق القادر الكامل في الفضل والشرف مع استوائهما في البشرية ، فلأن نحكم بأن الجماد لا يكون مساويا لرب العالمين في المعبودية أولى. (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ولله تعالى خاصة الأمور الغائبة عن علوم المخلوقين قاطبة ، فإن علمه تعالى حضوري وتحقق الغيب في أنفسها علم بالنسبة إليه تعالى. وهذا بيان كمال العلم. (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) أي وما أمر إقامة الساعة وهي إماتة الأحياء وإحياء الأموات من الأولين والآخرين ، وتبديل صور الأكوان أجمعين إلا كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها في سهولته! (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) أي بل أمر إقامة الساعة أقرب من طرف العين في السرعة بأن يكون في زمان نصف تلك الحركة فالله تعالى يحيي الخلق دفعة ، وهي في جزء غير منقسم ، وهذا بيان كمال القدرة (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٧٧) فإن الله تعالى متى أراد شيئا إيجاده أو إعدامه حصل في أسرع ما كان (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) أي غير عارفين شيئا أصلا (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي جعل لكم هذه الأشياء آلات تحصلون بها المعرفة (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٧٨) أي لكي تستعملوها في شكر ما أنعم الله به عليكم طورا غبّ

٦٠١

طور فتسمعوا مواعظ الله وتبصروا دلائل الله وتعقلوا عظمة الله (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ) أي ألم ينظر كفار مكة بأبصارهم إليها. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «تروا» بالتاء على خطاب العامة (مُسَخَّراتٍ) أي مذللات للطيران (فِي جَوِّ السَّماءِ) أي في الهواء المتباعد من الأرض.

قال كعب الأحبار : إن الطير ترتفع في الجو مسافة اثني عشر ميلا ، ولا ترتفع فوق ذلك (ما يُمْسِكُهُنَ) في الجو حين قبض أجنحتهن وبسطها ووقوفهن (إِلَّا اللهُ) بقدرته الواسعة فإن جسد الطير ثقيل يمتنع بقاؤه في الجو معلقا من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه ، فبقاؤه في الجو معلقا فعله وحاصل باختياره ، فثبت أن خالق فعل العبد هو الله تعالى. (إِنَّ فِي ذلِكَ) ـ أي تسخير الطير للطيران بأن جعل لها أجنحة خفيفة وأذنابا كذلك فإذا بسطت أجنحتها وأذنابها تخرق ما بين يديها من الهواء ـ (لَآياتٍ) أي لعلامات لوحدانية الله تعالى (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٧٩) أي يصدقون أن إمساكهن من الله تعالى فإنه تعالى أعطى الطير جناحا يبسطه مرة ويكسره مرة أخرى ، وخلق الهواء خلقة رقيقة يسهل الطيران بسبب خرقه ، ولو لا ذلك لما أمكن الطيران (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ) التي تبنونها (سَكَناً) أي موضعا تسكنون فيه (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً) مغايرة لبيوتكم المعهودة هي الخيام (تَسْتَخِفُّونَها) أي تجدونها خفيفة عليكم في حملها ونقلها ونقضها في أسفاركم ، (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ) أي وقت سيركم في أسفاركم. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وبفتح العين. (وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ) أي وقت نزولكم في الضرب (وَمِنْ أَصْوافِها) أي الأنعام (وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً) أي وجعل لكم من أصواف الضأن وأوبار الإبل وأشعار المعز أنواع متاع البيت من الفرش والأكسية (وَمَتاعاً) أي ما ينتفع به في البيت خاصة ويتزين به (إِلى حِينٍ) (٨٠) أي إلى وقت البلاء (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ) من غير صنع من جهتكم (ظِلالاً) أي ما يستظلون به من شدة الحر ؛ وهي ظلال الجدران والأشجار والجبال والغمام. (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) أي مواضع تستكنون فيها من شدة البرد والحر من الكهوف والغيران والسروب (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ) أي ثيابا من القطن والكتان والصوف وغيرها (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) في الصيف والبرد في الشتاء ولم يذكر الله تعالى وقاية البرد لتقدمه في قوله تعالى فيها دفء (وَسَرابِيلَ) أي جواشن (تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) أي الشدة التي تصل إلى بعضكم من بعض في الحرب من الطعن والضرب والرمي (كَذلِكَ) أي مثل ما خلق الله هذه الأشياء لكم وأنعم بها عليكم (يُتِمُّ نِعْمَتَهُ) في الدنيا (عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ) يا أهل مكة (تُسْلِمُونَ) (٨١) أي تؤمنون به تعالى وتنقادون لأمره. وقرئ «تسلمون» بفتح التاء واللام ، أي لكي تسلموا من الجراحات أو من الشرك (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن الإسلام وآثروا متابعة الآباء فلا نقص من جهتك (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (٨٢) أي لأن وظيفتك هي البلاغ الواضح فقد فعلته (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ) أي يقرون أن هذه النعم كلها من الله (ثُمَّ يُنْكِرُونَها) أي لا يشكرونها بالتوحيد لأنهم قالوا : إنما

٦٠٢

حصلت هذه النعم بشفاعة هذه الأصنام (وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) (٨٣) أي المنكرون بقلوبهم غير مقرين بأن هذه النعم من الله (وَيَوْمَ نَبْعَثُ) أي وخوفهم يوم نأتي (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) يشهد لهم بالإيمان وعليهم بالكفر وهو نبيها ، (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) في الاعتذار وفي كثرة الكلام ليظهر لهم كونهم آيسين من رحمة الله تعالى (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (٨٤) أي لا يكلفون أن يرضوا ربهم بالعبادات فلا يقال لهم : ارضوا ربكم بالتوبة لأن الآخرة ليست بدار عمل وإنما هي دار الجزاء (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بالكفر (الْعَذابَ) أي عذاب جهنم بعد شهادة الشهداء (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ) ذلك العذاب (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) (٨٥) أي يمهلون فعذابهم يكون دائما لأن التوبة هناك غير موجودة (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا) أي إذا أبصروا يوم القيامة (شُرَكاءَهُمْ) أي الأصنام التي يسمونها شركاء الله تعالى (قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا) أي آلهتنا (الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا) أي نعبدهم (مِنْ دُونِكَ) أي هؤلاء الذين كنا نقول : إنهم شركاء الله في المعبودية (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) (٨٦) أي فبادر شركاؤهم بالجواب إلى المشركين بقولهم : إنكم لكاذبون في قولكم إنا نستحق العبادة وإنكم عبدتمونا حقيقة بل إنما عبدتم أهواءكم.

والمعنى أنه تعالى يخلق الحياة والعقل والنطق في تلك الأصنام حتى تقول هذا القول (وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) أي أسرع المشركون إلى الله يومئذ الانقياد لحكم الله فأقروا بالبراءة عن الشركاء وبربوبية الله بعد أن كانوا في الدنيا متكبرين عنه لما عجزوا عن الجواب لكن الانقياد في هذا اليوم لا ينفعهم لانقطاع التكليف فيه (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٨٧) أي ذهب عنهم افتراؤهم على الله من أن لله شريكا وبطل أملهم من أن آلهتهم تشفع لهم عند الله تعالى (الَّذِينَ كَفَرُوا) في أنفسهم (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي منعوا الناس عن الدخول في الإسلام وحملوهم على الكفر (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) أي بحيات وعقارب ، وجوع وعطش ، وزمهرير وغير ذلك فيخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة البرد إلى النار (بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) (٨٨) بذلك الصد (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وهو أعضاؤهم. فالله تعالى ينطق عشرة من أعضاء الإنسان حتى إنها تشهد عليه وهي العينان والأذنان ، والرجلان ، واليدان ، والجلد واللسان (وَجِئْنا بِكَ) يا سيد الرسل (شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) أي الأمم كلهم (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) أي القرآن (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) من أمور الدين ينص فيه على بعضها وبإحالته لبعضها على السنّة أو على الإجماع ، أو على القياس فكانت السنّة والإجماع والقياس مستندة إلى تبيان الكتاب (وَهُدىً وَرَحْمَةً) للعالمين فإن حرمان الكفرة من مغانم آثار الكتاب من تفريطهم لا من جهة الكتاب (وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (٨٩) خاصة لأنهم المنتفعون بذلك (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) أي بالتوسط في الأمور وهو رأس الفضائل كلها فيندرج تحته فضيلة القوة العقلية ، فالحكمة

٦٠٣

متوسطة بين الحرمزة والبلادة ، وفضيلة القوة الشهوية البهيمية ، فالعفة متوسطة بين الخلاعة والخمود وفضيلة القوة الغضبية السبعية فالشجاعة متوسطة بين التهور والجبن ويندرج فيه أيضا الحكم الاعتقادية ، فالتوحيد متوسط بين التعطيل والتشريك ، فنفي الإله تعطيل محض وإثبات أكثر من إله واحد تشريك. والعدل هو إثبات الإله الواحد وهو قول : لا إله إلا الله ، والقول بالكسب متوسط بين الجبر والقدر فإن القول : بأن العبد ليس له قدرة واختيار جبر محض. والقول : بأن العبد مستقل بأفعاله قدر محض. والعدل أن يقال : إن العبد يفعل الفعل لكن بواسطة قدرة وداعية يخلقهما الله تعالى فيه ، والقول : بأن الله تعالى لا يؤاخذ عبده على شيء من الذنوب مساهلة عظيمة ، والقول : بأنه تعالى يخلد في النار عبده الآتي بالمعصية الواحدة تشديد عظيم والعدل هو القول بأنه تعالى يخرج من النار كل من اعتقد أنه لا إله إلا الله ويندرج تحته أيضا الحكم العملية ، فالتعبد بأداء الواجبات متوسط بين البطالة والترهب. والختان : مأمور به في شريعتنا ، فإن إبقاء الجلدة مبالغة في تقوية اللذة والإخصاء وقطع الآلات كما عليه المانوية إفراط ، فكانت الشريعة إنما أمرت بالختان سعيا في تقليل تلك اللذة حتى يصير ميل الإنسان إلى قضاء شهوة الجماع إلى حد الاعتدال ، لئلا تصير الرغبة فيه غالبة على الطبع ويندرج تحته أيضا الحكم الخلقية ، فالجود متوسط بين البخل والتبذير وشريعة سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسط بين التشديد والتساهل قال الله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] أي متباعدين عن طرفي الإفراط والتفريط في كل الأمور. ولما بالغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العبادات قال تعالى : (طه ، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) [طه : ١] ولما أخذ قوم في المساهلة قال تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) [المؤمنون : ١١٥] والمطلوب رعاية العدل بين طرفي الإفراط والتفريط (وَالْإِحْسانِ) أي المبالغة في أداء الطاعات إما بحسب الكمية كالتطوع بالنوافل ، وإما بحسب الكيفية كالاستغراق في شهود مقامات الربوبية.

والحاصل أن العدل عبارة عن القدر الواجب والإحسان عبارة عن الزيادة في ذلك (وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) أي إعطاء الأقارب ما يحتاجون إليه.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أعجل الطاعة ثوابا صلة الرحم» (١) (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ) أي المعاصي كلها (وَالْمُنْكَرِ) وهو ما لا يعرف في شريعة (وَالْبَغْيِ) أي الاستعلاء على الناس والترفع.

والحاصل أن الفحشاء هي الإفراط في متابعة القوة الشهوية ، فهي إنما ترغب في تحصيل اللذات الشهوانية الخارجة عن إذن الشريعة ، وأن المنكر هو الإفراط في إظهار آثار القوة الغضبية

__________________

(١) رواه ابن حبان في المجروحين (٣ : ١٤٩) ، وابن القيسراني في تذكرة الموضوعات (٢٥٣).

٦٠٤

السبعية فهي إنما تسعى في الإيذاء إلى سائر الناس وإيصال البلاء إليهم ، فالناس ينكرون تلك الحالة ، وأن البغي من آثار القوة الوهمية الشيطانية ، فهي إنما تسعى في التطاول على الناس والترفع عليهم وإظهار الرياسة والتقدم (يَعِظُكُمْ) أي يأمركم بتلك الثلاثة وينهاكم عن هذه الثلاثة (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٩٠) أي لإرادة أن تتذكروا طاعته تعالى ؛ وهذا يدل على أن الله تعالى يطلب الإيمان من الكل. (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ) وهو العهد الذي يلتزمه الإنسان باختياره فيدخل فيه المبايعة على الإيمان بالله وبرسوله وعهد الجهاد وعهد الوفاء بالمنذورات والأشياء المؤكدة باليمين. (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) بالقصد ففرق بين اليمين المؤكد بالعزم وبين لغو اليمين (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) أي شاهدا ، فإن من حلف بالله قد جعل الله كفيلا بالوفاء بسبب ذلك الحلف ، وهذه واو الحال أي لا تنقضوا الأيمان وقد قلتم الله شاهد علينا بالوفاء (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) (٩١) من النقض والوفاء فيجازيكم على ذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر وفي هذا ترغيب وترهيب (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) أي من بعد قوة العزل بفتلها وإبرامها (أَنْكاثاً) أي أنقاضا وهو مفعول ثان لنقضت بمعنى جعلت أو حال من عزلها مؤكدة لعاملها أي منكوثا.

قيل : المشبه به معين وهي امرأة في مكة اسمها : رائطة بنت سعد بن تيم. وقيل : تلقب بجعرانة ، وكانت حمقاء اتخذت مغزلا قدر ذراع وسنارة مثل إصبع وفلكة عظيمة على قدرها ، فكانت تغزل الصوف والوبر هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ، ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن (تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً) أي مكرا (بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) وهو استفهام بمعنى الإنكار. والمعنى أتصيرون أيمانكم غشا بينكم بسبب أن أمة أزيد في القوة والكثرة من أمة أخرى؟

قال مجاهد : كان قريش يحالفون الحلفاء ثم إذا وجدوا شوكة في أعادي حلفائهم نقضوا عهدهم مع الحلفاء وعاهدوا أعداء حلفائهم (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ) أي يعاملكم بالأكثر معاملة من يختبركم لينظر أتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله أم تغترون بكثرة قوم (وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٩٢) في الدنيا أي حين يجازيكم على أعمالكم بالثواب والعقاب (وَلَوْ شاءَ اللهُ) مشيئة قسر (لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) متفقة على الإسلام (وَلكِنْ) لم يشأ ذلك بل شاء اختلافكم لقضية حكمة يعلمها الله ولذلك (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ).

وروى الواحدي أن عزيرا قال : يا رب خلقت الخلق فتضل من تشاء وتهدي من تشاء ، فقال : يا عزيز أعرض عن هذا. فأعاده ثانيا ، فقال : أعرض عن هذا. فأعاده ثالثا فقال : أعرض عن هذا وإلا محوت اسمك من النبوة (وَلَتُسْئَلُنَ) جميعا يوم القيامة (عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٩٣) في

٦٠٥

الدنيا وهذا إشارة إلى الكسب الذي عليه يدور أمر الهداية والضلال (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً) أي خديعة (بَيْنَكُمْ) أي لا تنقضوا عهدكم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الإيمان به وبشرائعه (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) على الطريق الحق بالإيمان أي فتزلوا عن طاعة الله فإن من نقض عهد الإسلام فقد سقط عن الدرجات العالية ووقع في الضلالة (وَتَذُوقُوا السُّوءَ) أي العذاب في الدنيا (بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي بامتناعكم عن دين الله وبصرفكم الناس عنه بأيمانكم التي أردتم بها خفاء الحق (وَلَكُمْ) مع ذلك في الآخرة (عَذابٌ عَظِيمٌ) (٩٤) أي غير منفك إذا متم على ذلك (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ) أي لا تأخذوا بمقابلة بيعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ثَمَناً قَلِيلاً) أي عرض الدنيا ؛ وكانت قريش يعدون ضعفة المسلمين على الارتداد بحطام الدنيا ، أي إنكم وإن وجدتم على نقض عهد الإسلام خيرا من خيرات الدنيا لا تلتفوا إليه وإن كان كثيرا ، لأن الذي أعده الله تعالى على الاستمرار على الإسلام أفضل مما تجدونه في الدنيا على نقض عهد الإسلام (إِنَّما عِنْدَ اللهِ) من ثواب الدارين الغنيمة والثواب الأخروي (هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) مما يعدونه (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٩٥) تفاوت ما بين العوضين (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ) وإن جمّ عدده (وَما عِنْدَ اللهِ) من خزائن رحمته الدنيوية والأخروية (باقٍ) لا نفاد له. (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا) على مشاق التزام شرائع الإسلام (أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩٦) أي بحسب أحسن أفراد أعمالهم. والمعنى لنعطينهم بمقابلة الفرد الأدنى من أعمالهم ما نعطيه بمقابلة الفرد الأعلى منها من الأجر الجزيل ؛ وفي هذا من العدة الجميلة باغتفار ما قد يطرأ عليهم في أثناء الصبر من بعض جزع وينظمه في سلك الصبر الجميل.

وقرأ ابن كثير وعاصم «ولنجزينهم» بنون العظمة على طريقة الالتفات. والباقون بالياء من غير التفات «واللام» لام قسم أي والله ليجزين الله (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) في الدنيا فيعيش عيشا طيبا فالموسر ظاهر ، والمعسر يطيب عيشه بالقناعة ، والرضا بالقسمة وتوقع الأجر العظيم ، فإن قلب المؤمن منشرح بنور معرفة الله تعالى والقلب إذا كان مملوءا من هذه المعارف لم يتسع للأحزان الواقعة بسبب أحوال الدنيا ، أما قلب الجاهل فإنه خال عن معرفة الله تعالى فيصير مملوءا من الأحزان الواقعة بسبب مصائب الدنيا. (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ) في الآخرة (أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩٧) أي بجزاء أحسن من أعمالهم (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (٩٨) أي فإذا أردت قراءة القرآن فاسأل الله أن يعصمك من وساوس الشيطان المطرود من رحمة الله لئلا يوسوسك في القراءة ، أي فقل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وهذا الأمر للندب عند الجمهور وللوجوب عند عطاء وحيث أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستعاذة عند قراءة القرآن فما ظنكم بمن عداه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيمن عدا القراءة من الأعمال! (إِنَّهُ) أي الشيطان (لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ) أي تسلط (عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٩٩)

٦٠٦

أي وإلى ربهم يفوضون أمورهم وبه يعوذون في كل ما يأتون ويذرون فإن وسوسته لا تؤثر فيهم ودعوته غير مستجابة عندهم (إِنَّما سُلْطانُهُ) أي ولايته بدعوته (عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) أي يطيعونه (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ) أي بربهم (مُشْرِكُونَ) (١٠٠) أي والذين هم بسبب حمل الشيطان إياهم على الشرك بالله صاروا مشركين (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) أي وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكما آخر (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) من التغليظ والتخفيف في مصالح العباد وما الشرائع إلا مصالح للعباد في المعاش والمعاد فالمصالح تدور.

وهذه الجملة اعتراضية بين الشرط وجوابه لتوبيخ الكفرة على كونهم ينسبون رسول الله إلى الافتراء في التبديل وللتنبيه على فساد رأيهم. (قالُوا) أي الكفار من أهل مكة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) أي مختلق من تلقاء نفسك.

قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : إذا نزلت آية فيها شدة ، ثم نزلت آية ألين منها تقول كفار قريش والله ما محمد إلا يسخر بأصحابه اليوم يأمر بأمر وغدا ينهى عنه ، وإنه لا يقول هذه الأشياء إلا من عند نفسه فأنزل الله تعالى هذه الآية (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١٠١) إن الله لا يأمر عباده إلا بما يصلح لهم وإن في النسخ حكما بالغة وإسناد هذا الحكم إلى الأكثر لما أن منهم من يعلم ذلك وإنما ينكره عنادا (قُلْ نَزَّلَهُ) أي القرآن (رُوحُ الْقُدُسِ) أي الروح المطهر من الأدناس البشرية وهو جبريل (مِنْ رَبِّكَ) يا أكرم الخلق (بِالْحَقِ) أي بالموافق للحكمة (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) على الإيمان بأن القرآن كلام الله فإنهم إذا سمعوا الناسخ وتدبروا ما فيه من رعاية المصالح اللائقة بالحال رسخت عقائدهم واطمأنت قلوبهم (وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (١٠٢) وهذان معطوفان على «ليثبت» ، فهما منصوبان باعتبار محله ، ومجروران باعتبار المصدر المؤول. (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ) أي كفار مكة (يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) أي إنما يعلم محمدا القرآن بشر لا جبريل كما يدّعى.

قال عبد الله بن مسلم الحضرمي : عنوا عبدين لنا أحدهما يقال له : يسار ، والآخر جبر وكانا يصنعان السيف بمكة ويقرءان التوراة والإنجيل وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمر عليهما ويسمع ما يقرءانه فأجاب الله تعالى عن ذلك بقوله تعالى : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (١٠٣) أي كلام الذي ينسبون إليه عبراني لم يتكلم بالعربية ولم يأت بفصيح الكلام وهذا القرآن كلام عربي ذو بيان وفصاحة ، فكيف يعلم محمدا وهو جاءكم بهذا القرآن الفصيح الذي عجزتم عنه ؛ وأنتم أهل الفصاحة! فكيف يقدر من هو أعجمي على مثل هذا القرآن وأين فصاحة هذا القرآن من عجمه هذا الذي تشيرون إليه؟! فثبت بهذا الدليل أن القرآن وحي أوحاه الله إلى محمد وليس هو من تعليم الذي تشيرون إليه ، ولا هو آت به من تلقاء نفسه بل هو

٦٠٧

وحي من الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) أي لا يصدقون أنها من عند الله بل يسمونها افتراء أو معلمة من البشر (لا يَهْدِيهِمُ اللهُ) إلى طريق الجنة (وَلَهُمْ) في الآخرة (عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٠٤) أي بل يسوقهم إلى النار (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) أي إن المفتري هو الذي يكذب بآيات الله ويقول : إنها افتراء ومعلمة من البشر وهذا رد لقولهم : إنما أنت مفتر وقلب للأمر عليهم ببيان أنهم هم المفترون (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) (١٠٥) أي الكاملون في الكذب إذ لا كذب أعظم من تكذيب آيات الله تعالى (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ) أي من تلفظ بكلمة الكفر من بعد إيمانه به تعالى فعليه غضب من الله. «فمن» موصولة مبتدأ وخبره محذوف لدلالة الخبر الآتي عليه (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) على التلفظ بالكفر فتلفظ به بأمر لا طاقة له به كالتخويف بالقتل وكالضرب الشديد ، وكالإيلامات القوية مما يخاف على نفسه أو على عضو من أعضائه (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) أي والحال أن قلبه لم تتغير عقيدته وهذا دليل على أن الإيمان هو التصديق بالقلب (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) أي ولكن من اعتقد الكفر وانشرح به قلبا (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٠٦).

روي أن قريشا أكرهوا عمارا وأباه ياسرا وأمه سمية على الارتداد فربطوا سمية بين بعيرين وضربها أبو جهل بحربة في فرجها ، فماتت وقتل ياسر. وأما عمار فأعطاهم بلسانه ما أكرهوا عليه فقيل : يا رسول الله إن عمارا كفر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلا إن عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه» (١). فأتى عمار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يبكي فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمسح عينه.

وقال مالك : إن عادوا لك فقل لهم ما قلت فنزلت هذه الآية (ذلِكَ) أي الكفر بعد الإيمان ، (بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) أي بسبب أنهم رجّحوا الدنيا على الآخرة (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (١٠٧) أي وبأنه تعالى ما هداهم إلى الإيمان وما عصمهم عن الكفر (أُولئِكَ) الموصوفون بتلك القبائح (الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) فأبت عن التأمل في الحق وإدراكه (وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (١٠٨) عمّا يراد بهم في الآخرة من العذاب ، فلا غفلة أعظم من الغفلة عن تدبر عواقب الأمور (لا جَرَمَ) أي حق (أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١٠٩) حيث صرفوا أعمارهم فيما أفضى بهم إلى العذاب المخلد (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا) إلى المدينة أي ناصرهم (مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) أي عذبوا. نزلت هذه الآية في عياش بن ربيعة أخي أبي جهل من الرضاعة أو من أمه وفي أبي

__________________

(١) رواه أبي نعيم في حلية الأولياء (١ : ١٣٩) ، وابن حجر في فتح الباري (٧ : ٩٢) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٣٣٥٤٠) ، والواحدي في أسباب النزول (١٩٠).

٦٠٨

جندل بن سهل والوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعبد الله بن أسد الثقفي فتنهم المشركون وعذبوهم فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم ، ثم إنهم بعد ذلك هاجروا وجاهدوا.

وقرأ ابن عامر «فتنوا» بالبناء للفاعل ، أي عذبوا المؤمنين ، كعامر بن الحضرمي أكره مولاه جبرا الرومي حتى ارتد ثم أسلما وحسن إسلامهما وهاجروا (ثُمَّ جاهَدُوا) في سبيل الله (وَصَبَرُوا) على الطاعة والمرازي. (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) أي من بعد. هذه الأعمال الثلاثة (لَغَفُورٌ) لما فعلوا من قبل (رَحِيمٌ) (١١٠) فينعم عليهم مجازاة على ما صنعوا من بعد وهذه الآية إن كانت نازلة فيمن أظهر الكفر ، فالمراد أن حاله إذا هاجر وجاهد وصبر كحال من لا يكره فلا إثم له في ذلك. وإن كانت واردة فيمن ارتد ، فالمراد أن التوبة والقيام بما يجب عليه يحصلان له الغفران والرحمة ويزيلان العتاب. (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) فالظرف منصوب برحيم أو بمحذوف أي ذكرهم يوم يأتي كل إنسان يعتذر عن ذاته ويسعى في خلاصه من العذاب كقولهم : هؤلاء أضلونا السبيلا. وقولهم : والله ربنا ما كنا مشركين ، ونحو ذلك من الاعتذارات.

وروى عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال : ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة حتى يخاصم الروح الجسد ، فيقول الروح : يا رب لم يكن لي يد أبطش بها ولا رجل أمشي بها ولا عين أبصر بها ، فضعف عليه العذاب. فيقول الجسد : يا رب أنت خلقتني كالخشبة ليس لي يد أبطش بها ولا رجل أمشي بها ، ولا عين أبصر بها فجاء هذا الروح كشعاع النور فبه نطق لساني وبه أبصرت عيناي وبه مشت رجلاي ، فيضرب الله لهما مثلا : أعمى ومقعدا دخلا بستانا فيه ثمار ، فالأعمى لا يبصر الثمر والمقعد لا يتناوله فحمل الأعمى المقعد فأصابا الثمر فعلى من يكون العذاب؟! قالا : عليهما ، قال الله تعالى : عليكما جميعا العذاب (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) أي وتعطى كل نفس جزاء ما عملت كاملا (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١١١) بالعقاب بغير ذنب ، وبالزيادة في العقاب على الذنوب. (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً) أي جعل الله مثلا أهل قرية مكة (كانَتْ آمِنَةً) أي كان أهلها ذوي أمن فلا يحتاجون إلى الانتقال عنها بسبب الخوف من العدو ، (مُطْمَئِنَّةً) أي كان أهلها صحاحا ، لأن هواء ذلك البلد لما كان ملائما لأمزجتهم اطمأنوا إليه واستقروا فيه فلا يحتاجون إلى الانتقال منه بسبب الأمراض (يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ) أي يأتي أهل تلك القرية أقوات واسعة من نواحيها من بر وبحر فلا يحتاجون إلى الانتقال عنها بسبب ضيق الرزق. قالت العقلاء من بحر الرجز :

ثلاثة ليس لها نهاية

 

الأمن والصحة والكفاية

(فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) أي كفر أهلها بنعمه تعالى وهي : نعمة الأمن والصحة والرزق الواسع ، (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) أي أذاق الله أهلها ضرر الجوع والخوف من حرب

٦٠٩

محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، فإن الأحوال التي حصلت لهم عند الجوع والخوف نوعان :

أحدهما : أنه لما فقدوا الطعام صاروا كأنهم يذوقون الجوع والخوف فأشبها الطعام.

وثانيهما : أن أثر الجوع والخوف لما اشتد صار كأنه أحاط بهم من كل الجهات فأشبه اللباس ، وقد ظهر أثرهما عليهم من الهزال وصفرة اللون ، ونهكة البدن ، وسوء الحال ، وكسوف البال. ويشبه أيضا أثر الخوف باللباس في الإحاطة واللزوم ، وأثر الجوع بالطعام المر البشع في الكراهة. (بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (١١٢) من تكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإخراجه من مكة والهمّ بقتله. فالله تعالى ابتلاهم بالجوع سبع سنين ، فقطع عنهم المطر وقطعت العرب عنهم الميرة بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أكلوا العظام المحرقة والجيف والكلاب الميتة والعلهز وهو وبر يخلط بالدم والقد وهو جلد الماعز الصغير حتى كان ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع ، وأما خوفهم فهو لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يبعث إليهم السرايا فيغيرون على من حولهم من العرب فكان أهل مكة يخافونهم ، ثم إن رؤساء مكة أرسلوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا سفيان بن حرب في جماعة فقدموا المدينة عليه ، وقال له أبو سفيان : يا محمد إنك جئت تأمر بصلة الرحم والعفو وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم فدعا لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأذن للناس بحمل الطعام إليهم وهم بعد مشركون. وهذه الآية نزلت في المدينة ، لأن الله تعالى وصف القرية بصفات ست كانت هذه الصفات موجودة في أهل مكة فضربها الله مثلا لأهل المدينة يحذرهم أن يصنعوا مثل صنيعهم فيصيبهم مثل ما أصابهم من الجوع والخوف ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يؤمر بالقتال وهو بمكة وإنما أمر بالقتال لما هاجر إلى المدينة ، فكان يبعث السرايا إلى حول مكة يخوفهم بذلك وهو بالمدينة. (وَلَقَدْ جاءَهُمْ) أي جاء أهل تلك القرية وهي مكة (رَسُولٌ مِنْهُمْ) أي من جنسهم يعرفونه بأصله ونسبه ، فأخبرهم بوجوب الشكر على النعمة ، وأنذرهم سوء عاقبة ما يأتون وما يذرون (فَكَذَّبُوهُ) في رسالته (فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) بالجوع الذي كان بمكة (وَهُمْ ظالِمُونَ) (١١٣) أي والحال أنهم كافرون بتكذيب رسول الله (فَكُلُوا) يا معشر المسلمين (مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أي من الغنائم (حَلالاً طَيِّباً) أي إنكم لما آمنتم وتركتم الكفر فكلوا الحلال الطيب ، وهو الغنيمة ، واتركوا الخبائث ، وهي الميتة والدم (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ) أي واعرفوا حقها ولا تقابلوها بالكفران (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (١١٤) أي تطيعون (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) فهذه الآية دالة على حصر المحرمات في هذه الأربع : فالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع داخلة في الميتة ، وما ذبح على النصب داخل تحت قوله تعالى : (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ). (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١١٥) أي فمن دعته ضرورة المخمصة إلى تناول شيء من ذلك غير ظالم على مضطر آخر ولا متجاوز

٦١٠

قدر الضرورة وسد الرمق ، فالله لا يؤاخذه بذلك (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) أي ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لأجل ذكر ألسنتكم الكذب ولتعودها به (لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) وهذا بدل من التعليل الأول أي إنهم كانوا ينسبون ذلك التحليل والتحريم إلى الله تعالى ويقولون : إن الله أمرنا بذلك. (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في أمر من الأمور (لا يُفْلِحُونَ) (١١٦) أي لا يفوزون بخير لا في الدنيا ولا في الآخرة (مَتاعٌ قَلِيلٌ) أي منفعتهم في أفعال الجاهلية منفعة قليلة (وَلَهُمْ) في الآخرة (عَذابٌ أَلِيمٌ) (١١٧) (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا) خاصة (حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ) يا أشرف المرسلين (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل تحريمنا على أهل ملتك ما عدا ذلك من المحرمات وهو الذي سبق ذكره في سورة الأنعام (وَما ظَلَمْناهُمْ) بتحريم ذلك (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١١٨) حيث فعلوا ما يؤدي إلى ذلك التحريم (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ) أي الكفر والمعاصي (بِجَهالَةٍ) أي بسبب جهالة ، لأن أحدا لا يختار الكفر ما لم يعتقد كونه حقا ، ولا يفعل المعصية ما لم تصر الشهوة غالبة للعقل فكل من عمل السوء يكون بسبب الجهالة. (ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي عمل السوء (وَأَصْلَحُوا) بأن آمنوا وأطاعوا الله (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) أي التوبة (لَغَفُورٌ) لذلك السوء (رَحِيمٌ) (١١٩) يثيب على طاعتهم تركا وفعلا أي لما بالغ الله في تهديد المشركين على أنواع قبائحهم من إنكار البعث والنبوة وكون القرآن من عند الله ، وتحريم ما أحل الله وتحليل ما حرمه بين الله أن أمثال تلك القبائح لا تمنعهم من قبول التوبة وحصول المغفرة والرحمة إذا ندموا على ما فعلوا وآمنوا فالله يخلصهم من العذاب (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) على انفراده لكماله في صفات الخير وجمعه الفضائل ، وهو رئيس أهل التوحيد ، لأنه كان مؤمنا وحده والناس كلهم كانوا كفارا ولذلك وصفه بتسع صفات. (قانِتاً لِلَّهِ) أي مطيعا له تعالى قائما بأمره. (حَنِيفاً) أي مائلا عن كل دين باطل إلى الدين الحق لا يزول عنه (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٢٠) في أمر من أمور دينهم فإنه كان من الموحدين في الصغر والكبر (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ).

روي أن إبراهيم عليه‌السلام كان لا يتغذى إلا مع ضيف ، فلم يجد ذات يوم ضيفا ، فأخر غذاءه ، فإذا هو بقوم من الملائكة في صورة البشر ، فدعاهم إلى الطعام فأظهروا أن بهم علة الجذام ، فقال : الآن يجب علي مؤاكلتكم فلو لا عزتكم على الله تعالى لما ابتلاكم بهذا البلاء. (اجْتَباهُ) أي اصطفاه للنبوة (وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٢١) أي هداه في الدعوة إلى طريق موصل إلى الله تعالى وهو ملة الإسلام. (وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) أي ولدا صالحا وسيرة حسنة عند كل أهل الأديان ، فجميع الملل يترصون عن إبراهيم ولا يكفر به أحد. (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (١٢٢) أي لمن أصحاب الدرجات العالية في الجنة (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) يا سيد المرسلين مع علو طبقتك (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أي في كيفية الدعوة إلى التوحيد وهو أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة وإتيان الدلائل مرة بعد أخرى بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن

٦١١

(حَنِيفاً) أي مائلا عن الباطل حال من إبراهيم ، (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٢٣) وهذا تكرير لما سبق لزيادة تأكيد في الرد على المشركين حيث زعموا أنهم كانوا على ملة إبراهيم. (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي إنما فرض تعظيم يوم السبت على الذين خالفوا نبيهم موسى عليه‌السلام لأجل يوم السبت ، فإن أهل الملل اتفقوا على أنه تعالى خلق العالم في ستة أيام ، وبدأ تعالى بالتكوين من يوم الأحد ، وتمّ في يوم الجمعة. وكان يوم السبت يوم الفراغ فأمر سيدنا موسى عليه‌السلام اليهود أن يعظموا يوم الجمعة ـ كما هو ملة إبراهيم عليه‌السلام ـ بالتفرغ للعبادة فيه وترك الأشغال ، فيكون عيدا ، فخالفوا كلهم وقالوا : نحن نوافق ربنا في ترك الأعمال ، فاختاروا السبت ، فأذن الله تعالى لهم فيه وشدّد عليهم بتحريم الاصطياد فيه. وقالت النصارى : مبدأ التكوين هو يوم الأحد فنجعل هذا اليوم عيدا لنا وقد جاءهم عيسى عليه‌السلام بالجمعة أيضا فقالوا : لا نريد أن يكون عيد اليهود بعد عيدنا ، واتخذوا الأحد عيدا لهم وقلنا معشر الأمة المحمدية : يوم الجمعة هو يوم الكمال فحصول التمام يوجب الفرح الكامل ، فهو أحق بالتعظيم ، وبجعله عيدا. وأيضا إن الله تعالى خلق في يوم الجمعة أبا البشر آدم عليه‌السلام وهو أشرف خلقه وتاب عليه فيه فكان يوم الجمعة أشرف الأيام لهذا السبب ، ولأن الله تعالى اختار يوم الجمعة لهذه الأمة ولم يختاروه لأنفسهم. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١٢٤) في الدين فإنه تعالى سيحكم للمحقين بالثواب وللمبطلين بالعقاب. (ادْعُ) يا أشرف الرسل من بعثت إليهم من الأمة قاطبة (إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) أي إلى دينه (بِالْحِكْمَةِ) أي الحجة القطعية المفيدة للعقائد اليقينية وهذه أشرف الدرجات ، وهي التي قال الله تعالى في صفتها : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [البقرة : ٢٦٩] (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) أي الأمارات الظنية والدلائل الإقناعية (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي بدليل مركب من مقدمات مقبولة فالناس على ثلاثة أقسام :

الأول : أصحاب العقول الصحيحة الذين يطلبون معرفة الأشياء على حقائقها.

والثاني : أصحاب النظر السليم الذين لم يبلغوا حدّ الكمال ولم ينزلوا إلى حضيض النقصان.

والثالث : الذين تغلب على طباعهم المخاصمة لا طلب العلوم اليقينية فقوله تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ) إلخ. معناه : ادع الأقوياء الكاملين إلى الدين الحق بالدلائل القطعية اليقينية حتى يعلموا الأشياء بحقائقها ، وهم خواص الصحابة وغيرهم. وادع عوام الخلق بالدلائل الإقناعية الظنية ؛ وهم أرباب السلامة ، وفيهم الكثرة ، وتكلّم مع المشاغبين بالجدل على الطريق الأحسن الأكمل ؛ وهي التي تفيد إفحامهم وإلزامهم. والجدل ليس من باب الدعوة ،

٦١٢

بل المقصود منه قطع الجدل عن باب الدعوة ، لأنها لا تحصل به أي ولما أمر الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم باتباع إبراهيم بين الشيء الذي أمره بمتابعته فيه وهو أن يدعو الناس بأحد هذه الطرق الثلاثة وهي الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالطريق الأحسن. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) الذي أمرك بدعوة الخلق إليه وأعرض عن قبوله (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (١٢٥) إليه أي إنك مكلف بالدعوة إلى الله تعالى بهذه الطرق الثلاثة ، وحصول الهداية لا يتعلق بك فإنه تعالى هو العالم بضلال النفوس المظلمة الكدرة وباهتداء النفوس المشرقة الصافية (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) أي إن أردتم المعاقبة (فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) أي بمثل ما فعل بكم ولا تزيدوا عليه. وقد مر أنه تعالى أمر محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدعو الخلق إلى الدين الحق بأحد الطرق الثلاثة وتلك الدعوة تتضمن أمرهم بالرجوع عن دين آبائهم ، وبالحكم عليه بالضلالة وذلك مما يشوش قلوبهم ويحمل أكثرهم على قصد ذلك الداعي بالقتل تارة وبالضرب ثانيا ، وبالشتم ثالثا ، ثم إن ذلك الداعي إذا عرف ذلك يحمله طبعه على تأديب أولئك السفهاء بالقتل أو بالضرب ، فعند هذا أمر الله الداعي في هذا المقام برعاية العدل وترك الزيادة ظلم وهو ممنوع في عدل الله ورحمته والله تعالى أمر في هذه الآية برعاية الإنصاف فيدخل فيها ما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رأى عمه حمزة قد مثل به المشركون في أحد فقطعوا أنفه وأذنيه وذكره وأنثييه وفجروا بطنه قال : «لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم مكانك» (١) فنزلت هذه الآية فكفر عن يمينه وكف عما أراده (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ) عن المعاقبة بالمثل (لَهُوَ) أي الصبر (خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) (١٢٦) لأن الرحمة أفضل من القسوة والنفع أفضل من الإيلام. والمقصود من هذه الآية تعليم حسن الأدب في كيفية الدعوة إلى الله تعالى وطلب ترك الزيادة من الظالم وهذا ليس بمنسوخ (وَاصْبِرْ) على ما أصابك من جهتهم من فنون الأذية (وَما صَبْرُكَ) بشيء من الأشياء (إِلَّا بِاللهِ) أي بذكره وبالاستغراق في مراقبة شؤونه تعالى وبالتبتل إليه تعالى بمجامع الهمة (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أي الكافرين بسبب إعراضهم عنك واستحقاقهم للعذاب الدائم (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ) أي غم.

وقرأ ابن كثير بكسر الضاد (مِمَّا يَمْكُرُونَ) (١٢٧) أي من مكرهم بك في المستقبل فالضيق إذا قوى صار كالشيء المحيط بالإنسان من كل الجوانب (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (١٢٨) وهذا يدل على أن كمال السعادة للإنسان في هذين الأمرين التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله. والمراد بالمعية هي بالرحمة والفضل والرتبة.

__________________

(١) رواه ابن الجوزي في زاد المسير (٤ : ٥٠٧).

٦١٣

سورة الإسراء

سورة بني إسرائيل ، وتسمى سورة الإسراء ، و (سُبْحانَ) مكية ، غير قوله :

(وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ) إلى قوله : (سُلْطاناً نَصِيراً) فهذه الآيات الثمانية

مدنيات ، مائة وإحدى عشر آية ، ألف وخمسمائة وتسعة وخمسون كلمة

ستة آلاف وستمائة واثنان وأربعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) أي تبرأ عن الشريك من سير عبده محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَيْلاً) أي في جزء قليل من الليل (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي من حرم مكة من بيت أم هانئ بنت أبي طالب (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) أي الأبعد من الأرض وأقرب إلى السماء ؛ وهو مسجد بيت المقدس وسمي أقصى ، لأنه أبعد المساجد التي تزار ويطلب بها الأجر من المسجد الحرام.

وروي أن عبد الله بن سلام قال في حضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند قراءته هذه الآية لأنه وسط الدنيا لا يزيد شيئا ولا ينقص فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صدقت» ثم قال : «ويقال له البيت المقدس والزيتون ولا يقال له الحرم» اه. والحكمة في إسرائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بيت المقدس ليحصل له العروج إلى السماء مستويا من غير تعريج لما روي عن كعب أن باب السماء الذي يقال له : مصعد الملائكة يقابل بيت المقدس قال : وهو أقرب من الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا. وقيل : الحكمة في ذلك أن الشام خيرة الله تعالى من أرضه كما في حديث صحيح فهي أفضل الأرض بعد الحرمين وأول إقليم ظهر فيه ملكه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وروي أن صخرة بيت المقدس من جنة الفردوس. وقيل : الحكمة في ذلك لإظهار الحق على من عاند ، لأنه لو عرج به من مكة إلى السماء لم يجد لمعانده سبيلا إلى الإيضاح فلما ذكر أنه أسرى به إلى بيت المقدس سألوه عن أشياء من بيت المقدس كانوا علموا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن رآها قبل ذلك لما أخبرهم بها حصل التحقق بصدقه فيما ذكر من الإسراء به إلى بيت المقدس في ليلة وإذا صح خبره في ذلك لزم تصديقه في بقية ذلك من خبر المعراج إلى السموات. وقيل : الحكمة في ذلك ليجمع الله له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين القبلتين (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) أي المسجد الأقصى من أرض الشام بركة

٦١٤

قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى) إلخ. معنى التنزيه والتعجب أشار الله تعالى بذلك إلى أعجب أمر جرى بينه تعالى وبين أفضل خلقه (لِنُرِيَهُ) أي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مِنْ آياتِنا) أي بعض عجائب قدرتنا العظيمة التي من جملتها ذهابه في برهة من الليل مسيرة شهر ، وثبت بالدليل أن خالق العالم قادر على كل الممكنات ، فحصول الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد في جسد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممكن ، وحينئذ يلزم أن القول بثبوت هذا المعراج أمر ممكن الوجود في نفسه ، لكن يبقى التعجب ، لأنه حاصل في جميع المعجزات. فانقلاب العصا ثعبانا تبلغ سبعين ألفا من الحبال والعصي ، ثم تعود في الحال عصا صغيرة كما كانت أمر عجيب وخروج الناقة العظيمة من الجبل الأصم ، وإظلال الجبل العظيم في الهواء عجيب ، وكذا القول في جميع المعجزات ، فإن كان مجرد التعجب يوجب الإنكار ، لزم الجزم بفساد القول بإثبات المعجزات ؛ وهو فرع على تسليم أصل النبوة. وإن كان مجرد التعجب لا يوجب الإبطال فكذا هاهنا فثبت أن المعراج ممكن غير ممتنع (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١) أي إنه تعالى هو السميع لأقوال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأحواله بلا إذن ، البصير بأفعاله بلا عين فيكرمه ويقربه بحسب ذلك أي فهو عالم بكونها مهذبة خالصة من شوائب الهوى ، مقرونة بالصدق والصفا ، متأهلة للقرب والزلفى ويقال : إنه تعالى هو السميع لمقالة قريش البصير بهم.

روي عن ابن عباس أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان نائما في بيت أم هاني بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته ، وقص القصة على أم هانئ وقال : «مثل لي النبيون فصليت بهم» فلما قام ليخرج إلى المسجد تشبثت هي بثوبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال مالك : قالت : أخشى أن يكذبك الناس وقومك إن أخبرتهم ، قال : «وإن كذبوني». فلما خرج جلس إليه أبو جهل فأخبره بحديث الإسراء ، فقال أبو جهل : يا معشر كعب بن لؤي بن غالب ، هلم فحدّثهم ، فمن مصفّق ، وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا ، وارتد ناس ممن كان آمن به صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذهب رجال إلى أبي بكر وقالوا له : إن صاحبك يقول كذا وكذا فقال أبو بكر : إن كان قد قال ذلك فهو صادق. قالوا : أتصدقه على ذلك؟ قال : إني أصدقه على أبعد من ذلك أي كأنه قال : لما سلمت رسالته فقد صدقته فيما هو أعظم من هذا فكيف أكذبه في هذا؟ ثم جاء أبو بكر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر الرسول له تلك التفاصيل فكلما ذكر صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا قال له أبو بكر : صدقت. فلما تمم الكلام قال أبو بكر : أشهد أنك رسول الله حقا. فقال له الرسول : «وأنا أشهد أنك الصدّيق حقا» ويقال : إن هذا العبد الذي اختصصناه بالإسراء هو خاصة السميع لكلامنا البصير لذاتنا فهو السميع أذنا وقلبا بالإجابة لنا والقبول لأوامرنا البصير بصرا وبصيرة ، وتوسيط ضمير الفصل للإشعار باختصاصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده بهذه الكرامة ، ولهذا عقب الله تعالى بقوله هذا : (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي التوراة أي لما ذكر الله تعالى تشريف محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإسراء ذكر عقبه تشريف موسى عليه‌السلام بإنزال التوراة عليه مع ما فيه من دعوته عليه‌السلام

٦١٥

إلى الطور وما وقع فيه من المناجاة جمعا بين الأمرين المتحدين في المعنى. أي آتيناه التوراة بعد ما أسرينا به إلى الطور. (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) والضمير يعود إلى الكتاب أو إلى موسى أي جعلنا موسى يخرجهم بواسطة ذلك الكتاب من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والدين الحق (أَلَّا تَتَّخِذُوا) فلا ناهية و «أن» بمعنى أي التفسيرية أو زائدة و «تتخذوا» على إضمار القول أي فقلنا : لا تتخذوا وقرأ أبو عمرو «أن لا يتخذوا» بالياء خبرا عن بني إسرائيل فإن مصدرية ولا نافية ولام التعليل مقدرة والمعنى آتينا موسى الكتاب لهداية بني إسرائيل لئلا يتخذوا (مِنْ دُونِي وَكِيلاً) (٢) أي ربا تفوضون إليه أموركم (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) نصب على الاختصاص على قراءة النهي وعلى مفعول «يتخذوا» الأول ومن دوني حال من وكيلا والتقدير : لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح ، من دوني وكيلا فالناس كلهم ذرية نوح ، لأنه كان معه في السفينة ثلاثة بنين سام وحام ويافث ، فالناس كلهم من ذرية أولئك (إِنَّهُ) أي نوحا (كانَ عَبْداً شَكُوراً) (٣) أي كثير الشكر في جميع حالاته وفي هذا إعلام بأن إنجاء من معه كان ببركة شكره ، وحث للذرية على الاقتداء به ، وزجر لهم عن الشرك. والمعنى ولا تشركوا بي ، لأن نوحا كان عبدا شكورا وأنتم من ذريته فاقتدوا به كما أن آباءكم اقتدوا به ، وإنما يكون العبد شكورا إذا كان موحدا لا يرى حصول شيء من النعم إلا من فضل الله تعالى.

روي أن نوحا عليه‌السلام كان إذا أكل قال : الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء أجاعني. وإذا شرب قال : الحمد لله الذي سقاني ولو شاء أظمأني. وإذا اكتسى قال : الحمد لله الذي كساني ولو شاء أعراني. وإذا احتذى قال : الحمد لله الذي حذاني ولو شاء أحفاني. وإذا قضى حاجته قال : الحمد لله الذي أخرج عني أذاه في عافية ولو شاء حبسه. وإذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به فإن وجده محتاجا آثره به. (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ) أي أخبرناهم في التوراة بحصول الفساد مرتين (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ) أي أرض الشام (مَرَّتَيْنِ) الأولى مخالفة حكم التوراة وحبس أرمياء عليه‌السلام حين أنذرهم سخط الله تعالى وقتل شعياء نبي الله في الشجرة ، وذلك أنه لما مات صدقيا ملكهم تنافسوا في الملك وقتل بعضهم بعضا ، وهم لا يسمعون من نبيهم فقال الله تعالى له : «قم في قومك» فلما فرغ مما أوحى الله إليه عدوا عليه ليقتلوه ، فهرب ، فانفلقت له شجرة ، فدخل فيها ، وأدركه الشيطان ، فأخذ هدبة من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسطها ، فنشروها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها والثاني قتل زكريا ويحيى وقصد قتل عيسى عليهم الصلاة والسلام. (وَلَتَعْلُنَ) أي لتغلبن الناس بغير الحق (عُلُوًّا كَبِيراً) (٤) أي مجاوزا للحدود ويقال لكل متجبر : قد علا. (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) أولى مرتي الفساد (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ) أي قتال (شَدِيدٍ) عن حذيفة قال : قلت : يا رسول الله لقد كان بيت المقدس عند الله عظيما جسيم الخطر عظيم القدر فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هو من أجل

٦١٦

البيوت ابتناه الله تعالى لسليمان بن داود عليهم‌السلام من ذهب وفضة ، ودرّ وياقوت وزمرد» وذلك أن سليمان بن داود لما بناه سخّر له الجن يأتونه بالذهب والفضة من المعادن ، وأتوه بالجواهر والياقوت والزمرد ، وسخّر له الجن حتى بنوه من هذه الأصناف. قال حذيفة : فقلت : يا رسول الله كيف أخذت هذه الأشياء من بيت المقدس؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن بني إسرائيل لما عصوا الله وقتلوا الأنبياء سلط الله عليهم بختنصر ، وهو من المجوس ، وكان ملكه سبعمائة سنة» (١). وهو قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ). (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) أي فترددوا في أوساط الديار ، ودخلوا بيت المقدس ، وقتلوا الرجال ، وسبوا النساء والأطفال وأخذوا الأموال وجميع ما كان في بيت المقدس من هذه الأصناف فاحتملوها على سبعين ألفا ومائة ألف عجلة حتى أودعوها أرض بابل فأقاموا يستخدمون بني إسرائيل ويستملكونهم بالخزي والعقاب والنكال مائة عام. (وَكانَ) أي ذلك البعث (وَعْداً مَفْعُولاً) (٥) أي منجزا (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ) أي الدولة (عَلَيْهِمْ) أي على الذين فعلوا بكم ما فعلوا بعد مائة سنة حين تبتم عن ذنوبكم ورجعتم عن الإفساد بظهور كورش الهمذاني على بختنصر. (وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ) كثيرة بعد ما نهبت أموالكم (وَبَنِينَ) بعد ما سبيت أولادكم (وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) (٦) أي رجالا وعددا ، أي ثم إن الله عزوجل رحمهم فأوحى إلى ملك من ملوك فارس وهو كورش الهمذاني أن تسير إلى المجوس في أرض بابل وأن تستنقذ من في أيديهم من بني إسرائيل ، فسار إليهم ذلك الملك حتى دخل أرض بابل فاستنفذ من بقي من بني إسرائيل من أيدي المجوس ، واستنقذ ذلك الحلي الذي كان من البيت المقدس ورده الله إليه كما كان أول مرة (إِنْ أَحْسَنْتُمْ) بفعل الطاعات (أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) فإنّ ببركة تلك الطاعات يفتح الله عليكم أبواب الخيرات ، (وَإِنْ أَسَأْتُمْ) بفعل المحرمات (فَلَها) أي فقد أسأتم إلى أنفسكم فإن بشؤم تلك المعاصي يفتح الله عليكم أبواب العقوبات (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) أي وعد المرة الآخرة بعثنا تطوس بن إسبيانوس الرومي مع جنوده (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) أي ليجعلوا آثار الحزن ظاهرة في وجوهكم.

وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وحمزة «ليسوء» بالتوحيد أي ليحزن الله ، أو الوعد أو البعث وجوهكم ، وقرأ الكسائي «لنسوء» بنون العظمة (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ) أي بيت المقدس (كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي كما دخل الأعداء فيه في أول مرة (وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا) أي ليهلكوا البلاد التي علوا عليها (تَتْبِيراً) (٧) أي إهلاكا ، أي فلما رجعت بنو إسرائيل إلى البيت المقدس عادوا إلى المعاصي فسلط الله عليهم ملك الروم قيصر ، فغزاهم في البر والبحر فسباهم وقتلهم ،

__________________

(١) رواه الشجري في الأمالي (٢ : ٢٣١) ، والطبراني في المعجم الكبير (١٠ : ١٧٩).

٦١٧

وأخذ أموالهم ونساءهم ، وأخذ جميع ما في بيت المقدس ، واحتمله على سبعين ألفا ومائة ألف عجلة حتى أودعه في كنيسة الذهب ، فهو فيها الآن حتى يأخذه المهدي ويرده إلى بيت المقدس وهو ألف سفينة وسبعمائة سفينة يرسي بها على بابل حتى ينقل إلى بيت المقدس (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) أي لعل ربكم أن يرحمكم بعد المرة الآخرة إن تبتم توبة أخرى من المعاصي يا بني إسرائيل (وَإِنْ عُدْتُمْ) إلى الفساد مرة أخرى (عُدْنا) إلى صب البلاء عليكم في الدنيا مرة أخرى ، وإن عدتم إلى الإحسان عدنا إلى الرحمة ، وقد عادوا إلى فعل ما لا ينبغي وهو التكذيب لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتمان ما ورد في التوراة والإنجيل ، فعاد الله عليهم بالتعذيب على أيدي العرب فجرى القتل والجلاء على قريظة وبني النضير وبني قينقاع ويهود خيبر ، والباقي منهم مقهورون بضرب الجزية (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) (٨) أي سجنا لا يستطيعون الخروج منها أبدا (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ) الذي آتيناكه (يَهْدِي) كل الناس (لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) أي للطريقة التي هي أقوم الطرائق وهي ملة الإسلام فبعضهم يصل بهدايته وهم المؤمنون وبعضهم لا وهم الكافرون (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ) من التقوى والإحسان (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) (٩) أي بأن لهم في مقابلة تلك الأعمال أجرا كبيرا بحسب الذات وبحسب التضعيف (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٠) وهو عذاب جهنم وهذا عطف على قوله : «أن لهم» فالقرآن يبشر المؤمنين ببشارتين بأجر كبير وبتعذيب أعدائهم.

واعلم أن أكثر اليهود ينكرون الثواب والعقاب الجسمانيين وأن بعضهم قال : لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ، فهم بذلك صاروا كالمنكرين للآخرة (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) في الإلحاح ، أي إن الإنسان قد يبالغ في الدعاء طلبا لشيء يعتقد أن خيره فيه مع أن ذلك الشيء يكون منبع ضرره وهو يبالغ في طلبه لجهله بحال ذلك الشيء ، وإنما يقدم على مثل هذا العمل لكونه مغترا بظاهر الأمور غير متفحص عن حقائقها وأسرارها.

روي أن النضر بن الحرث قال : اللهم انصر خير الحزبين اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك إلى آخره فأجاب الله تعالى دعاءه ، وضربت رقبته يوم بدر. وقيل : المراد أن الإنسان في وقت الضجر يلعن نفسه وأهله وولده وماله ، ولو استجيب له في الشر كما يستجاب له في الخير لهلك. (وَكانَ الْإِنْسانُ) بحسب جبلته (عَجُولاً) (١١) أي ضجرا لا يتأنى إلى أن يزول عنه ما يطرأ عليه فإن كل أحد من الناس لا يخلو عن عجلة ولو تركها لكان تركها أصلح في الدنيا والدين. (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) أي علامتين دالتين على تمام علمنا وكمال قدرتنا ، فلما بيّن الله تعالى أن هذا القرآن يدل على الطريق الأقوم ذكر الدلائل الدالة على وحدته تعالى. وهو عجائب العالم العلوي والسفلي فالقرآن نعم الدين ووجود الليل والنهار نعم الدنيا ، فلولاهما لما حصل للخلق

٦١٨

الراحة والكسب والقرآن ممتزج من المحكم والمتشابه ، فكذلك الدهر مركب من الليل والنهار ، فالمحكم كالنهار ، والمتشابه كالليل ، فكما أن المقصود من التكليف لا يتم إلا بذكر المحكم والمتشابه فكذلك الزمان لا يحصل الانتفاع به إلا بالليل والنهار (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) وهي القمر ، لأنه يبدو في أول الأمر على صورة الهلال ، ثم لا يزال يتزايد نوره حتى يصير بدرا كاملا ، ثم يشرع في الانتقاص قليلا قليلا إلى أن يعود إلى المحاق (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ) وهي الشمس (مُبْصِرَةً) أي مضيئة ذات أشعة تظهر بها الأشياء المظلمة فالإضاءة سبب لحصول الإبصار (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) أي لتطلبوا في الليل والنهار فضل ربكم من الرزق الحلال بالكسب ومن الثواب الجزيل بأداء الطاعات والاحتراز عن المنهيات (وَلِتَعْلَمُوا) بتعاقبهما (عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) أي حساب ما دون السنين من الشهور والأيام والساعات لإقامة مصالحكم الدينية والدنيوية (وَكُلَّ شَيْءٍ) تفتقرون إليه في مصالح دينكم ودنياكم (فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) (١٢) أي بيّناه في القرآن تبيينا بليغا لا شبهة فيه ، فظهر كون القرآن يهدي للتي هي أقوم ظهورا بيّنا (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ) أي عمله الذي قدرناه عليه من خير وشر (فِي عُنُقِهِ) وذكر العنق كناية عن شدة اللزوم ، أي ألزمناه عمله كلزوم القلادة أو الفاء للصفة بحيث لا يفارقه عمله أبدا فإن كان خيرا كان زينة له كالطوق ، وإن كان شرا كان شينا له كالغل على رقبته. وإنما يكنى العمل بالطير لأن العرب إذا أرادوا الإقدام على عمل اعتبروا أحوال الطير ، فهل يطير متيامنا أو متياسرا أو صاعدا إلى الجو إلى غير ذلك فيستدلون بكل واحد منها على الخير والشر والسعادة والنحوسة فلما كثر ذلك منهم سمي نفس الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه. وقيل : المراد بالطائر صحيفة الأعمال التي كتبتها الملائكة الحفظة ، فإذا مات العبد طويت تلك الصحيفة وجعلت معه في قبره حتى تخرج له يوم القيامة.

وروي عن ابن مسعود رضي‌الله‌عنه أنه قال : يا رسول الله ما أول ما يلقى الميت إذا أدخل قبره قال : «يا ابن مسعود ما سألني عنه أحد إلا أنت فأول ما يناديه ملك اسمه رومان يجوس خلال المقابر فيقول : يا عبد الله اكتب عملك ، فيقول : ليس معي دواة ولا قرطاس ولا قلم ، فيقول : كفنك قرطاسك ، ومدادك ريقك وقلمك إصبعك فيقطع له قطعة من كفنه ، ثم يشرع العبد يكتب وإن كان غير كاتب في الدنيا فيذكر حينئذ حسناته وسيئاته كيوم واحد ، ثم يطوي الملك القطعة ويعلقها في عنقه». ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ» (١) أي عمله فيه وقيل : المراد بالطائر كتاب إجابته في القبر لمنكر ونكير (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً) أي مكتوبا فيه عمله (يَلْقاهُ) أي يلقى الإنسان.

__________________

(١) رواه الخطيب الهندي في الفقيه والمتفقه (١١).

٦١٩

وقرأ ابن عامر «يلقاه» بضم الياء وفتح اللام ، والقاف المشددة أي يعطاه (مَنْشُوراً) (١٣) أي مفتوحا ويقال له : (اقْرَأْ كِتابَكَ).

قال الحسن وقتادة يقرأ ذلك اليوم من لم يكن في الدنيا قارئا. وقال بكر بن عبد الله : يؤتى بالمؤمن يوم القيامة بصحيفته وهو يقرؤها وحسناته في ظهرها يغبطه الناس عليها وسيئاته في جوف صحيفته وهو يقرؤها حتى إذا ظن أنها قد أوبقته قال الله تعالى : اذهب فقد غفرتها لك فيما بيني وبينك فيعظم سروره. (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (١٤) أي محاسبا. قال الحسن : ومن عدل الله في حقك جعلك حسيب نفسك.

وقال السدي : يقول الكافر يومئذ له تعالى : إنك قضيت أنك لست بظلام للعبيد فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً). (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) أي من اهتدى بهداية القرآن وعمل بما في تضاعيفه من الأحكام وانتهى عما نهاه عنه فإنما تعود منفعة اهتدائه إلى نفسه لا تتخطاه إلى من لم يهتد فإن ثواب العمل الصالح مختص بفاعله (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي ومن ضل عن الطريقة التي يهديه إليها فإنما وبال ضلاله عليها لا على من لم يباشره (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا تحمل نفس حاملة للإثم إثم نفس أخرى بطيبة النفس حتى يمكن تخلص النفس الثانية عن إثمها ، ولكن يحمل عليها بالقصاص فلا تؤخذ نفس بذنب نفس أخرى فكل أحد مختص بذنب نفسه ، وهذا قطع لأطماع الكفار حيث كانوا يزعمون أنهم إن لم يكونوا على الحق فالعقاب على أسلافهم الذين قلدوهم الدين الفاسد (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ) قوما بالهلاك (حَتَّى نَبْعَثَ) إليهم (رَسُولاً) (١٥) يهديهم إلى الحق ويردعهم عن الضلال ويقيم الحجج ، ويمهد الشرائع. وأهل الفترتين بين نوح وإدريس وبين عيسى ومحمد عليهم‌السلام ثلاثة عشر قسما ستة سعداء وأربعة أشقياء وثلاثة تحت المشيئة. فأما السعداء : فقسم وحّد الله تعالى بنور وجده في قلبه كقس بن ساعدة فإنه كان إذا سئل هل لهذا العالم إله قال : البعرة تدل على البعير ، وأثر الأقدام يدل على المسير. وقسم وحّد الله تعالى بما تجلى لقلبه من النور الذي لا يقدر على دفعه. وقسم ألقي في نفسه ، واطلع من كشفه على منزلة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فآمن به في عالم الغيب. وقسم اتبع ملة حق ممن تقدمه. وقسم طالع في كتب الأنبياء فعرف شرف محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فآمن به وقسم آمن بنبيه الذي أرسل إليه وأدرك رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآمن به فله أجران. وأما الأشقياء : فقسم عطل بلا نظر بل بتقليد. وقسم عطل بعد ما أثبت بلا استقصاء نظر. وقسم أشرك عن تقليد محض. وقسم علم الحق وعانده. وأما الذي تحت المشيئة : فقسم عطل فلم يقر بوجود الإله عن نظر ناقص لضعف في طبائعه. وقسم أشرك عن نظر أخطأ فيه. وقسم عطل بعد ما أثبت بغير نظر قوي. ونقل عن السيوطي أن أبوي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم تبلغهما الدعوة والله تعالى يقول :

٦٢٠