مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

الأكوان وجودا وعدما إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل فالله قادر على الإتيان بما اقترحوه من الآيات إلا أن إرادته لم تتعلق بذلك لعلمه بأنه لا تلين له شكيمتهم (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) أي أغفل المؤمنون عن كون الأمر جميعا لله تعالى فلم يعلموا أن الله تعالى لو شاء هداية جميع الناس إلى دينه لهداهم ، لكنه تعالى لم يشأها فلم يظهر ما اقترحوا من الآيات قيل : لما سأل الكفار تلك الآيات طمع المؤمنون في إيمانهم فطلبوا نزولها ليؤمنوا ، وعلم الله أنهم لا يؤمنون برؤيتها (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة (تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا) من سوء أعمالهم (قارِعَةٌ) أي داهية تقرعهم بما ينزل الله عليهم في كل وقت من أنواع البلايا والمصائب في نفوسهم وأولادهم وأموالهم (أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) أي أو تنزل تلك القارعة مكانا قريبا منهم فيفزعون منها (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) وهو موتهم أو القيامة (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٣١) أي الوعد والمقصود من هذا تقوية قلب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإزالة الحزن عنه (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) أي إن أقوام سائر الأنبياء استهزءوا بهم كما أن قومك استهزءوا بك (فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي فتركتهم بعد الاستهزاء مدة طويلة في راحة وأمن (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) بالعقوبة (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) (٣٢) أي على أيّ حالة كان عقابي إياهم هل كان ظلما لهم أو كان عدلا (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) أي أفمن هو حافظ كل نفس مع ما عملت من خير وشر وهو الله القادر على كل الممكنات العالم بجميع الجزئيات والكليات كالأصنام التي لا تضر ولا تنفع : (وَجَعَلُوا) أي الكفار (لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ) أي سموهم بالآلهة وهذا أمر على سبيل التهديد. والمعنى سواء سميتموهم بهذا الاسم أو لم تسموهم به فإنها لا تستحق أن يلتفت العاقل إليها لحقارتها. (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) أي أتقدرون على أن تخبروا الله بشركاء مستحقين للعبادة لا يعلمهم الله تعالى أم تتفوهون بإظهار قول من غير اعتبار معنى؟ أي أتقولون بأفواهكم من غير فكر وأنتم ألباء فتفكروا في ذلك لتعلموا بطلانه! وإنّما خصّ بنفي الشريك عن الأرض وإن لم يكن له تعالى شريك ألبتة ، لأن الكفار ادعوا أن له تعالى شركاء في الأرض لا في غيرها. (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ) أي تمويههم الأباطيل فإنهم أظهروا أن شركاءهم آلهة حقا وهم يعلمون بطلان ذلك وليس فيهم في الباطن إلا تقليد الآباء (وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ).

قرأ عاصم وحمزة والكسائي هنا ، وفي «حم المؤمن» بضم الصاد أي منعوا عن سبيل الحق. والباقون بفتح الصاد أي أعرضوا عنه أو صرفوا غيرهم عنه. وقرئ بكسر الصاد على نقل حركة الدال المكسورة إليها. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) عن دينه بسوء اختياره (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٣٣) أي موفق للهدى (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بالقتل والسبي واغتنام الأموال واللعن (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ) أي أشد من عذاب الدنيا بالقوة وكثرة الأنواع وعدم الانقطاع وعدم اختلاط شيء من الراحة (وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ) أي عذابه (مِنْ واقٍ) (٣٤) أي حافظ يعصمهم من ذلك (مَثَلُ الْجَنَّةِ) أي صفة الجنة (الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) عن

٥٦١

الكفر والمعاصي (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي أنهار الخمر والماء والعسل واللبن (أُكُلُها دائِمٌ) أي ثمرها لا ينقطع (وَظِلُّها) كذلك أيضا فليس هناك حر ولا برد ولا شمس ولا قمر ولا ظلمة (تِلْكَ) أي الجنة (عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي منتهى أمرهم (وَعُقْبَى الْكافِرِينَ) أي آخر أمرهم (النَّارُ) (٣٥) لا غير (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) أي أعطيناهم علم التوراة والإنجيل ، وهم من أسلم من اليهود كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما ، ومن أسلم من النصارى ؛ وهم ثمانون رجلا أربعون بنجران ، وثمانية باليمن ، واثنان وثلاثون بالحبشة (يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي بالقرآن لكونهم آمنوا به (وَمِنَ الْأَحْزابِ) أي بقية أهل الكتاب وسائر المشركين (مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) أي بعض القرآن وهو الشرائع الحادثة (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ) وحده فعبادة الله واجبة على المرء فبهذا يبطل القول بالجبر المحض ، وقول نفاة التكاليف ولا تمكن عبادة الله إلا بعد معرفة الله ولا سبيل إلى معرفته إلا بالدليل. فهذا دليل على أن المرء مكلف بالنظر والاستدلال في معرفة ذات الصانع وصفاته وما يجب وما يجوز وما يستحيل عليه (وَلا أُشْرِكَ بِهِ) وهذا يدل على نفي الشركاء فيبطل من أثبت معبودا سوى الله تعالى سواء قال : إن المعبود هو الشمس أو القمر أو الكواكب ، أو الأصنام ، أو الأرواح العلوية ، أو يزدان وأهرمن على ما يقوله المجوس أو النور والظلمة على ما يقوله الثنوية. (إِلَيْهِ) أي إلى الله خاصة (أَدْعُوا) خلقه فكما يجب عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإتيان بالعبادة كذلك يجب عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدعوة إلى عبودية الله تعالى. وهذا إشارة إلى نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَإِلَيْهِ) أي إلى الله تعالى وحده (مَآبِ) (٣٦) أي مرجعي للجزاء. وهذا إشارة إلى النشر والحشر ، والبعث والقيامة. فإذا تأمل الإنسان في هذه الألفاظ القليلة عرف أنها محتوية على جميع المطالب في الدين. (وَكَذلِكَ) أي كما أنزلنا الكتب على الأنبياء بلسانهم (أَنْزَلْناهُ) أي ما أنزل إليك (حُكْماً) أي حاكما يحكم في القضايا والواقعات (عَرَبِيًّا) أي مترجما بلسان العرب (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) أي الكفار (بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) الفائض من ذلك الحكم العربي (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) أي قريب ينفعك (وَلا واقٍ) (٣٧) أي مانع يمنعك من مصارع السوء.

روي أن المشركين دعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ملة آبائه فهدده الله تعالى على اتباع أهوائهم في ذلك (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً) أي نساء فقد كان لسليمان ثلاثمائة امرأة حرة وسبعمائة سرية وكان لأبيه داود مائة امرأة (وَذُرِّيَّةً) أي أولادا مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ) مما اقترح عليه (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي بإرادته (لِكُلِّ أَجَلٍ) أي لكل وقت من الأوقات (كِتابٌ) (٣٨) أي حكم معين مكتوب في صحف الملائكة التي تنسخها من اللوح المحفوظ فقد أثبت فيها أن أمر كذا يكون في وقت كذا على ما تقتضيه الحكمة (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) من الأحكام لما تقتضيه الحكمة بحسب الوقت (وَيُثْبِتُ) أي يبقيه على حاله (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٣٩) أي أصله وهو اللوح المحفوظ إذ ما من شيء من الذاهب والثابت إلا وهو

٥٦٢

مكتوب فيه كما هو. فالحكمة فيه أن يظهر للملائكة كونه تعالى عالما بجميع المعلومات على سبيل التفصيل ، فعند الله كتابان كتاب يكتبه الملائكة على الخلق : وهو محل المحو والإثبات ، وكتاب كتبه القلم بنفسه في اللوح المحفوظ : وهو الباقي.

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كان الله ولا شيء ثم خلق اللوح وأثبت فيه أحوال جميع الخلق إلى قيام الساعة». اعلم أن القوم كانوا يذكرون أنواعا من الشبهات في إبطال نبوة سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فالشبهة الأولى : إنهم عابوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكثرة الزوجات وبأكل الطعام والمشي في الأسواق ، وبكونه من جنس البشر. وقالوا : لو كان محمد رسولا من عند الله لما اشتغل بالنسوة بل كان مشتغلا بالنسك والزهد وقالوا : الرسول الذي يرسله الله إلى الخلق لا بد وأن يكون من جنس الملائكة ، وقالوا : لو كان محمد رسولا من الله لما أكل الطعام ولما مشى في الأسواق فأجاب الله تعالى عن ذلك بقوله ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية أي إن الأنبياء الذين كانوا قبل محمد كانوا من جنس البشر فاتصفوا بصفاته من الزواج والأكل ونحو ذلك ولم يقدح ذلك في نبوتهم فكيف يجعلون ذلك قادحا في نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والشبهة الثانية : قولهم : لو كان محمد رسولا من عند الله لكان أي شيء طلبناه من المعجزات أتى به ، ولم يتوقف فأجاب الله تعالى عنه بقوله : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي إن المعجزة الواحدة كافية في إظهار الحجة ، فالزائدة عليها مفوضة إلى مشيئة الله تعالى إن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها.

والشبهة الثالثة : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخوفهم بنزول العذاب فيهم وظهور النصرة له ولأصحابه فلما تأخر ذلك طعنوا في نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالوا : لو كان محمد نبيا لما ظهر كذبه فأجاب الله تعالى عنه بقوله : لكل أجل كتاب أي إن نزول العذاب على الكفار وظهور النصرة للأولياء قضى الله بحصولهما في أوقات مخصوصة ولكل حادث وقت معين ولكل أجل كتاب فقبل حضور ذلك الوقت لا يحدث ذلك الحادث فتأخر تلك المواعيد لا يدل على كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كاذبا.

والشبهة الرابعة : قولهم : لو كان محمد صادقا في دعوى الرسالة لم ينسخ الأحكام التي نص الله تعالى على ثبوتها في الشرائع المتقدمة لكنه حرفها كما في القبلة ونسخ أكثر أحكام التوراة والإنجيل فوجب أن لا يكون نبيا فأجاب الله عنه بقوله يمحو الله ما يشاء ويثبت : (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ) أي إن نرك (بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) به من العذاب في حياتك (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) أي نقبضنك قبل أن نرينك (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) أي سواء أريناك بعض ما وعدناهم من العذاب الدنيوي في حياتك أو توفيناك قبل ظهوره ، فالواجب عليك تبليغ أحكام الله تعالى وأداء رسالته وأمانته ، فلا تهتم بما

٥٦٣

وراء ذلك ، فنحن نكفيكه ونتم ما وعدناك من الظفر ، ولا يضجرك تأخره فإن ذلك لما نعلم من المصالح الخفية ، (وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) (٤٠) أي وعلينا لا عليك محاسبة أعمالهم السيئة ومجازاتها. (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) أي أأنكر أهل مكة نزول ما وعدناهم ولم يروا أنا نأخذ أرضهم نفتحها من نواحيها للمسلمين شيئا فشيئا ، ونلحقها بدار الإسلام ، ونذهب منها أهلها بالقتل والأسر والإجلاء أليس هذا من ذلك؟! (وَاللهُ يَحْكُمُ) ما يشاء كما يشاء وقد حكم للإسلام بالعزة والإقبال وعلى الكفر بالذلة والإدبار (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) أي لا راد له (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٤١) أي فبعد زمن قليل يحاسبهم في الآخرة غب ما عذبهم في الدنيا بالقتل والأسر والإخراج من ديارهم (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي وقد مكر الكفار الذين مضوا من قبل كفار مكة بأنبيائهم فنمرود مكر بإبراهيم ، وفرعون مكر بموسى ، واليهود مكروا بعيسى كما مكر هؤلاء بك. (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) أي إن مكر جميع الماكرين حاصل بتخليقه تعالى وإرادته فوجب أن لا يكون الخوف إلا من الله تعالى (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) فكل ما علم الله وقوعه فهو واجب الوقوع فلا قدرة للعبد على الفعل والترك (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ).

قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «الكافر» على لفظ المفرد ، وقرأ جناح ابن حبيش «وسيعلم» على صيغة المجهول من الأعلام أي سيخبر (لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) (٤٢) أي لمن العاقبة الحميدة (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي اليهود وغيرهم (لَسْتَ مُرْسَلاً) من الله يا محمد (قُلْ) لهم يا أكرم الرسل : (كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فإنه تعالى قد أظهر المعجزات الدالة على كوني صادقا في دعوى الرسالة (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (٤٣) أي السماوي ككعب الأحبار وسلمان الفارسي وعبد الله بن سلام وتميم الداري ، وآصف بن برخيا فكل من كان عالما بالتوراة والإنجيل علم أن محمدا مرسل من عند الله.

وقرئ ومن عنده علم الكتاب بمن الجارة التي لابتداء الغاية أي ومن عند الله حصل علم القرآن لأن أحدا لا يعلمه إلا من تعليمه ، ثم على هذه القراءة. قرئ أيضا علم الكتاب على البناء للمفعول أي لما أمر الله نبيه أن يحتج عليهم بشهادة الله على رسالته ولا يكون ذلك إلا بإظهار القرآن ولا يعلم العبد كون القرآن معجزا إلا بعد العلم بما فيه من أسراره بين الله تعالى إن هذا العلم لا يحصل إلا من عند الله.

٥٦٤

سورة إبراهيم

مكية ، اثنتان وخمسون آية ، ثمانمائة وإحدى وثلاثون

آية ، ثلاثة آلاف وخمسمائة وتسعة وثلاثون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(الر كِتابٌ) أي السورة المسماة بـ «الر» كتاب (أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) يا أشرف الخلق (لِتُخْرِجَ النَّاسَ) كافة بدعائك إياهم (مِنَ الظُّلُماتِ) أي ظلمات الكفر والضلالة والجهل (إِلَى النُّورِ) أي الإيمان وهذه الآية دالة على أن طرق الكفر والبدعة كثيرة وطريق الحق واحد (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بتسهيله فإن الرسول لا يمكنه إخراج الناس من الظلمات إلى النور إلا بمشيئة الله وتخليقه (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (١) أي إلى دين الكامل القدوة المستحق للحمد في كل أفعاله (اللهِ).

قرأه نافع وابن عامر بالرفع (الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ملكا وملكا (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) (٢) أي لما ترك الكفار عبادة الله الذي هو المالك للسموات والأرض ولكل ما فيهما وعبدوا ما لا يملك ضرا ولا نفعا فالويل ثم الويل لمن كان كذلك أي يولولون أي يصيحون من عذاب غليظ ويقولون : يا ويلاه (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) أي يختارون الدنيا على الآخرة فهم ضالون (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي يمنعون الناس عن قبول دين الله فهم مضلون (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي يطلبون لسبيل الله زيغا ويقولون لمن يريدون إضلاله : إنها زائغة غير مستقيمة فهذا نهاية الضلال والإضلال (أُولئِكَ) الموصوفون بتلك القبائح (فِي ضَلالٍ) عن طريق الحق (بَعِيدٍ) (٣) أي في غاية البعد عنه فلا يوجد ضلال أكمل من هذا الضلال (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) أي إلا متكلما بلغة من أرسل إليهم الرسول أيا كان وهم بالنسبة لغير سيدنا محمد خصوص عشيرة رسولهم وبالنسبة إليه كل من أرسل إليه من أصناف الخلق ، لأن رسالته عامة لجميع الخلق وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخاطب كل قوم بلغتهم ، وإن لم يثبت أنه تكلم باللغة التركية لأنه لم يصادف أنه خاطب أحدا من أهلها ولو خاطبه لكلمه بها (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) ما كلفوا به بلغاتهم فيكون فهمهم لأسرار الشريعة أسهل

٥٦٥

ووقوفهم على المقصود أكمل (فَيُضِلُّ اللهُ) عن دينه (مَنْ يَشاءُ) أي يمنع ألطافه تعالى به (وَيَهْدِي) لدينه بمنح الألطاف (مَنْ يَشاءُ) فتقوية البيان لا توجب حصول الهداية فربما قوي البيان ولا تحصل الهداية وربما ضعف البيان ، وحصلت الهداية لأن الهداية والضلال لا يحصلان إلا من الله تعالى (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٤) فلا يغالب في مشيئته ولا يفعل شيئا إلا لحكمة (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) وهي معجزاته التي أظهرها لبني إسرائيل (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ) أي ظلمات الكفر (إِلَى النُّورِ) أي نور الإيمان فإن مفسرة لأرسلنا (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) أي بنعم الله عليهم كانفلاق البحر وتظليل الغمام وعلى من قبلهم ممن آمن بالرسل فيما سلف من الأيام وببأس الله عليهم ، وهي أيامهم تحت قهر فرعون ، وبعذاب الله من كذب الرسل فيما سلف من الأيام كما نزل بعاد وثمود وغيرهم ليرغبوا في الوعد فيصدقوا وليحذروا من الوعيد فيتركوا التكذيب (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في التذكير بالوقائع (لَآياتٍ) أي دلائل (لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (٥). وهذا تنبيه على أن المؤمن يجب أن لا يخلو زمانه عن أحد الأمرين الصبر والشكر ، لأن الحال إما أن يكون حال بلية أو حال عطية فإن جرى الوقت على ما يلائم طبعه كان شكورا ، وإن جرى بما لا يلائم طبعه كان صبورا فالانتفاع بهذا التذكير لا يكون إلا لمن كان صابرا أو شاكرا (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) أي مستقرة عليكم (إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) أي وقت إنجائه إياكم منهم (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) أي يطلبون منكم الأعمال الشاقة (وَيُذَبِّحُونَ) تذبيحا كثيرا (أَبْناءَكُمْ) صغارا (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) أي يستخدمونهن كبارا بالاستحياء ويبقونهن منفردات عن الرجال (وَفِي ذلِكُمْ) أي المذكور من الأفعال الفظيعة (بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (٦) لا يطاق وفي الخلاص من ذلك نعمة عظيمة (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) أي واذكروا حين أعلم ربكم في الكتاب وفي قراءة ابن مسعود رضي‌الله‌عنه وإذ قال ربكم : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ) يا بني إسرائيل نعمة الإنجاء وإهلاك العدو وغير ذلك بالإيمان الخالص والعمل الصالح (لَأَزِيدَنَّكُمْ) نعمة إلى نعمة وحقيقة الشكر هو الاعتراف بنعمة المنعم مع تعظيمه ومزيد النعم الجسمانية أن كل من كان اشتغاله بشكر نعم الله أكثر كان وصول نعم الله إليه أكثر ، ومزيد النعم الروحانية أن النفس إذا اشتغلت بمطالعة أنواع فضل الله وإحسانه أوجب ذلك الاشتغال تأكد محبة العبد لله تعالى ، ثم قد يترقى العبد من ذلك الحالة إلى أن يصير حبه للمنعم شاغلا له عن الالتفات إلى النعم فالشكر مقام شريف يوجب السعادة في الدين والدنيا. (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) أي أنكرتم نعمتي فعسى يصيبكم عذابي (إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) (٧) وكفران النعمة لا يكون إلا عند الجهل بكون تلك النعمة نعمه من الله تعالى والجاهل بها جاهل بالله والجهل بالله من أعظم أنواع العذاب (وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا) نعمة تعالى ولم تشكروها (أَنْتُمْ) يا بني إسرائيل (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) لم يرجع ضرر الكفر إلا عليكم (فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌ) عن شكر

٥٦٦

الشاكرين (حَمِيدٌ) (٨) أي مستحق للحمد في ذاته ، وإن لم يحمده أحد بل كل ذرة من ذرات العالم ناطقة بحمده (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) يا بني إسرائيل (نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد هؤلاء المذكورين (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) أي لا يعلم عددهم إلا الله لكثرتهم وهذه الجملة حال من الذين أو من الضمير المستكن في من بعدهم (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالدلائل الواضحة على صدقهم وهذه الجملة تفسير لنبأ الذين من قبلكم (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) أي وعض الكفار أيديهم من الغيظ من شدة نفرتهم عن استماع كلام الرسل أو وضعوا أيديهم على أفواههم مشيرين إلى الرسل أي كفوا عن هذا الكلام واسكتوا (وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) على ادعائكم فإنهم ما أقروا بأن أوامر الرسل ومنهياتهم من الله تعالى (وَإِنَّا لَفِي شَكٍ) عظيم (مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ) من الإيمان بالله والتوحيد.

وقرئ «تدعونا» بإدغام النون (مُرِيبٍ) (٩) أي ذي قلق النفس (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌ) أي أفي وجود الله ووحدته شك وهو أظهر من كل ظاهر (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مبدعهما وما فيهما (يَدْعُوكُمْ) إلى التوحيد بإرساله إيانا (لِيَغْفِرَ لَكُمْ) بسببه (مِنْ ذُنُوبِكُمْ) في الجاهلية (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي يؤخر موتكم إلى وقت معين عند الله إن آمنتم وإلا عاجلكم الله بالاستئصال (قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) من غير فضل (تُرِيدُونَ) بالدعوة (أَنْ تَصُدُّونا) أي تصرفونا (عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) أي عن عبادة ما استمر آباؤنا على عبادته (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (١٠) أي وإن كنتم رسلا من الله فأتونا بحجة ظاهرة تدل على صحة ما تدعونه من النبوة حتى نترك ما لم نزل نعبده قالوا ذلك عنادا فإن الرسل قد أتوهم بالآيات الظاهرة (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ) مجاراة معهم في أول مقالتهم (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) كما تقولون (وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) بالنبوة فإنها عطية من الله من غير سبب (وَما كانَ لَنا) أي ما استقام لنا (أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ) أي بحجة (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي بإرادته (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١١) ومقصود الرسل بهذا القول حمل أنفسهم على التوكل فإن الكفار أخذوا في التخويف حتى قالوا للرسل : توكلوا أنتم على الله حتى تروا ما يفعل بكم فقالت الرسل : (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) أي أيّ عذر لنا في ترك التوكل على الله والحال أنه قد هدانا طرقه التي نعرفه بها ونعلم أن الأمور كلها بيده (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) بالعناد واقتراح الآيات وغير ذلك فإن الصبر مفتاح الفرج ومطلع الخيرات (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (١٢) أمر الرسل في هذا أتباعهم بالتوكل بعد أمر أنفسهم به وذلك يدل على أن الآمر بالخير لا يؤثر إلا بعد الإتيان به فالإنسان إما أن يكون ناقصا أو كاملا ، فالناقص إما أن يكون ناقصا غير ساع في تنقيص حال غيره فهو ضال ، وإما أن يكون ساعيا في ذلك فهو مضل ، وإما خاليا عن الوصفين فهو مهتد. والكامل إما أن يكون غير قادر على تكميل الغير فهو ولي ، وإما قادرا على

٥٦٧

ذلك فهو نبي فالولي : هو الإنسان الكامل ، والنبي : هو الإنسان الكامل المكمل. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي الغالون في الكفر (لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا) أي من مدينتنا (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) أي لتصيرن داخلين في ملتنا (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) أي الرسل (رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) (١٣) (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ) أي أرض الظالمين وديارهم (مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد هلاكهم (ذلِكَ) أي إسكان الأرض ثابت (لِمَنْ خافَ مَقامِي) أي لمن خافني وخاف حفظي لأعماله (وَخافَ وَعِيدِ) (١٤) أي عذابي الموعود للكفار (وَاسْتَفْتَحُوا) أي طلب كل من الرسل والقوم النصرة على عدوه فنصر الله الرسل (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ) أي خسر عند الدعاء من النصرة كل متكبر عن عبادة الله (عَنِيدٍ) (١٥) أي منحرف عن الحق (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) أي من بعد هذه الخيبة جهنم يلقى فيها (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) (١٦) أي مما يسيل من جلود أهل النار من القبح والدم (يَتَجَرَّعُهُ) أي يتناوله جرعة جرعة على الاستمرار لغلبة العطش والحرارة عليه (وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) أي لا يكاد أن يجريه في الحلق بل يستمسكه فيه لمرارته ونتنه فوصوله إلى الجوف ليس بإجازة (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) أي يجد ذلك الكافر ألم الموت من كل مكان من أعضائه حتى من أصول شعره وإبهام رجله والحال أنه لا يموت من ذلك العذاب (وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) (١٧) أي ومن بعد ذلك العذاب عذاب أشد مما هو عليه لا ينقطع ولا يخف بسبب الاعتياد كما في عذاب الدنيا (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ) أي صفة أعمالهم الصالحة كصدقة وصلة رحم ، وإعتاق رقاب وفداء أسير ، وقري ضيف وبر والد ، وإغاثة ملهوف (كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ) أي ذرت (بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) أي شديد الريح (لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ) أي لا يجدون يوم القيامة أثرا مما عملوا في الدنيا من ثواب أو تخفيف عذاب كما لا يوجد من الرماد شيء إذا ذرته الريح وذلك لفقد شرط الأعمال وهو الإيمان (ذلِكَ) أي عملهم (هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) (١٨) أي الضياع البعيد عن نيل الثواب (أَلَمْ تَرَ) أي قد أخبرت أيها المخاطب (أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي ملتبسا بالحكمة وليس عبثا.

وقرأ حمزة والكسائي «خالق السموات» على اسم الفاعل والإضافة (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) أي يهلككم بالمرة (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) (١٩) سواكم أطوع لله منكم. (وَما ذلِكَ) أي إذهابكم والإتيان ببدلكم (عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) (٢٠) أي بمتعسر لأن القادر لا يصعب عليه شيء (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) أي ويخرجون من قبورهم إلى الله ليحاسبهم ويجازيهم على قدر أعمالهم (فَقالَ الضُّعَفاءُ) في الرأي وهم السفلة (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) عبادة الله وهم أكابرهم (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) في الدنيا في تكذيب الرسل والإعراض عن نصيحتهم (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي فهل أنتم في هذا اليوم دافعون عنا بعض شيء هو عذاب الله؟ (قالُوا) أي القادة : (لَوْ

٥٦٨

هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ) أي لو خلصنا الله من العقاب وهدانا إلى طريق الجنة لهديناكم طريق النجاة ودفعنا عنكم بعض العذاب ولكن سد الله عنا طريق الخلاص (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا) مما لقينا (أَمْ صَبَرْنا) على ذلك أي الصياح ، فالتضرع والصبر مستويان علينا في عدم الإنجاء (ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) (٢١) أي محل هرب من العقاب (وَقالَ الشَّيْطانُ) أي يقول إبليس رئيس الشياطين خطيبا في محفل الأشقياء من الثقلين (لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) أي فرغ منه بأن استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار وقد قالوا له : اشفع لنا فإنك أضللتنا (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) وهو الوعد بالبعث والجزاء على الأعمال فصدق في وعده إياكم (وَوَعَدْتُكُمْ) أن لا بعث ولا حساب ولا جنة ولا نار ولئن كان فالأصنام شفعاؤكم (فَأَخْلَفْتُكُمْ) أي كذبت لكم وتبين خلف وعدي (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي حجة تدل على صدقي أو قهر فأقهركم على الكفر والمعاصي (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) أي إلا دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوستي (فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) أي أجبتموني (فَلا تَلُومُونِي) بوعدي إياكم حيث لم يكن ذلك على طريقة القسر (وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) حيث أجبتموني باختياركم حين دعوتكم بلا دليل فما كان مني إلا الدعاء وإلقاء الوسوسة وقد سمعتم دلائل الله ، وجاءتكم الرسل ، وكان من الواجب عليكم أن لا تغتروا بقولي فلما رجحتم قولي على الدلائل الظاهرة كان اللوم عليكم لا علي في هذا الباب (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ) أي بمغيثكم من عذابكم (وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ) أي بمغيثي من عذابي (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) أي إني الآن تبرأت من إشراككم إياي مع الله في الطاعة من قبل هذا اليوم ، أي في الدنيا أي ، لأن الكفار كانوا يطيعون إبليس في أعمال الشر كما يطاع الله في أعمال الخير. ومعنى إشراكهم إبليس بالله تعالى طاعتهم لإبليس في تزيينه لهم في عبادة الأوثان. (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢٢) هذا تمام كلام إبليس قطعا لأطماع أولئك الكفار عن الإغاثة فالوقف على من قبل حسن أو ابتداء كلام من حضرة الله تعالى إيقاظا للسامعين حتى يحاسبوا أنفسهم ويتدبروا عواقبهم فالوقف على من قبل تام كما هو عند أبي عمرو (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) متعلق بأدخل أي أدخلتهم الملائكة بأمر ربهم (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) (٢٣) فإن بعضهم يحيي بعضا بهذه الكلمة ، والملائكة يحيونهم بها والرب الرحيم يحييهم أيضا بهذه الكلمة.

وقرأ الحسن «وأدخل» على صيغة التكلم وعلى هذه القراءة فقوله : «بإذن» ربهم متعلق «بتحيتهم» أي تحييهم الملائكة بالسلام بإذن ربهم. (أَلَمْ تَرَ) أي ألم تخبر يا أشرف الخلق (كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً) أي كيف جعل الله كلمة طيبة وهي لا إله إلا الله مثلا وهي (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) وهي النخلة (أَصْلُها ثابِتٌ) أي ضارب بعروقه في الأرض (وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) (٢٤) أي أعلاها في الهواء (تُؤْتِي أُكُلَها) أي تعطي هذه الشجرة ثمرها (كُلَّ حِينٍ) أي

٥٦٩

كل وقت وكل ساعة ليلا أو نهارا شتاء أو صيفا ، فيؤكل منها الجمار والطلع والبلح ، والخلال والبسر ، والمنصف والرطب وبعد ذلك يؤكل التمر اليابس إلى حين الطري الرطب فأكلها دائم في كل وقت (بِإِذْنِ رَبِّها) أي بإرادة خالقها كذلك كلمة التوحيد ثابتة في قلب المؤمن بالبرهان وعمل المؤمن المخلص يرفع إلى السماء وفي كل حين يعمل خيرا بأمر ربه وحكمة تمثيل كلمة التوحيد بالشجرة أن الشجرة تكون بثلاثة أشياء عرق راسخ ، وأصل قائم ، وفرع عال كذلك التوحيد يكون بثلاثة أشياء تصديق بالقلب ، وقول باللسان وعمل بالأبدان (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) أي يبين الله صفات التوحيد (لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٢٥) أي يتعظون لأن في ضرب الأمثال تصويرا للمعاني فيحصل به الفهم التام والوصول إلى المطلوب (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ) وهي الشرك بالله (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) كالحنظل والكشوت وهي نبت يتعلق بأغصان الشجر من غير أن يضرب بعرق في الأرض (اجْتُثَّتْ) أي استؤصلت (مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ) لكون عروقها في وجه الأرض أي ليس لها أصل ولا عرق يغوص في الأرض فتسميتها شجرة للمشاكلة فكذلك الشرك بالله ليس له حجة ولا قوة (ما لَها مِنْ قَرارٍ) (٢٦) أي ثبات على وجه الأرض فلا يقبل مع الشرك عمل (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) أي الذي يثبت بالحجة عندهم وتمكن في قلوبهم وهو شهادة أن لا إله إلا الله (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فلا يزالون عن تلك الشهادة إذا افتتنوا في دينهم كزكريا ويحيى ، وجرجيس ، وشمسون والذين فتنهم أصحاب الأخدود (وَفِي الْآخِرَةِ) أي في القبر حين يقال له : من ربك ، وما دينك ، ومن نبيك؟ فيقول : ربي الله ، وديني الإسلام؟ ونبيي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وحكي أن سهل بن عمار العملي يقول : رأيت يزيد بن هارون في منامي بعد موته فقلت : ما فعل الله بك؟ قال : أتاني في قبري ملكان فظان فقالا : من ربك ، وما دينك ، ومن نبيك؟ فأخذت بلحيتي البيضاء فقلت لهما : ألمثلي يقال هذا وقد علّمت النّاس جوابكما ثمانين سنة! فذهبا ، وكلما كانت مواظبة العبد على ذكر لا إله إلا الله وعلى التأمل في دقائقها أتم وأكمل كان رسوخ هذه المعرفة في قلبه بعد الموت أقوى وأكمل.

قال ابن عباس : من داوم على الشهادة في الحياة الدنيا يثبته الله عليها في قبره ويلقنه إياها وإنما فسر الآخرة هاهنا بالقبر ، لأن الميت انقطع بالموت عن أحكام الدنيا ودخل في أحكام الآخرة (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) أي يصرف الله المشركين عن قول لا إله إلا الله في الدنيا وفي القبر وعند خروجهم من القبور فإنهم إذا سئلوا في قبورهم قالوا : لا ندري (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) (٢٧) من الإضلال والتثبيت ومن صرف منكر ونكير (أَلَمْ تَرَ) أي ألم تنظر (إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) كأهل مكة حيث أسكنهم الله حرمه الآمن ، ووسّع عليهم أبواب رزقه ،

٥٧٠

وشرّفهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكفروا ذلك فقحطوا سبع سنين فقتلوا وأسروا يوم بدر (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ) أي أنزل بعض قريش المطعمون يوم بدر وهم بنو أمية وبنو المغيرة أتباعهم ، وهم بقية قريش بسبب إضلالهم إياهم (دارَ الْبَوارِ) (٢٨) أي دار الهلاك (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها) أي يدخلونها يوم القيامة مقاسين لحرها (وَبِئْسَ الْقَرارُ) (٢٩) أي بئس المنزل جهنم (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) أي أشباها وشركاء في التسمية والحظ والعبادة (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) الذي هو التوحيد.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء فاللام للعاقبة. والباقون بضمها فاللام إما للعاقبة لأن عبادة الأوثان سبب يؤدي إلى الضلال ، أو للتعليل فالذين اتخذوا الأوثان يريدون إضلال غيرهم وتحقيق لام العاقبة أن المقصود من الشيء لا يحصل إلا في آخر المراتب كما قيل : أول الفكر آخر العمل وكل ما حصل في العاقبة كان شبيها بالأمر المقصود في هذا المعنى (قُلْ تَمَتَّعُوا) بعبادتكم الأوثان وعيشوا بكفركم وهذا الأمر تهديد لهم (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ) أي مرجعكم يوم القيامة (إِلَى النَّارِ) (٣٠) ليس إلا (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) وهذان إما مجزومان في جواب أمر محذوف أي قل لهم أقيموا الصلاة فإن قلت لهم ذلك يقيموا الصلاة أو مجزومان بلام أمر مقدر ، أي ليقيموا الصلاة أي الواجبة ، (وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) أي أعطيناهم (سِرًّا وَعَلانِيَةً) أي أنفقوا إنفاق سر وعلانية. والمراد حث المؤمنين على الشكر لنعم الله تعالى بالعبادة البدنية والمالية ، وعلى ترك التمتع بمتاع الدنيا كما هو صنيع الكفرة (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ) أي معاوضة (فِيهِ وَلا خِلالٌ) (٣١) أي مصادقة تنفع وهو يوم القيامة وإنما الانتفاع فيه للمؤمن بالعمل الصالح ، أو الإنفاق لوجه الله تعالى (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وهما أصلان في دلالة وجود الصانع (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) أي السحاب (ماءً) فلو لا السماء لم يصح إنزال الماء منها ولو لا الأرض لم يوجد ما يستقر الماء فيه (فَأَخْرَجَ بِهِ) أي بذلك الماء (مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) تعيشون به فإذا علم المكلفون أن في تحصيل هذه المنافع القليلة تحمل المتاعب فالمنافع العظيمة الدائمة في الآخرة أولى بتحمل المشاق في طلبها (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ) أي السفن (لِتَجْرِيَ) أي الفلك جريا تابعا لإرادتكم (بِأَمْرِهِ) أي بمشيئته التي نيط بها كل شيء فإن الانتفاع بما ينبت من الأرض لا يكمل إلا بوجود الفلك لنقله إلى البلد الآخر المحتاج أهلها إليه (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ) (٣٢) أي لتنتفعوا بها في نحو الشرب وسقي الزراعات (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) أي جاريين فيما يعود إلى مصالح العباد لا يفتران في سيرهما إلى انقضاء عمر الدنيا ولولاهما لاختلت مصالح العالم بالكلية ، (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) (٣٣) لمنامكم ومعاشكم (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) أي كل ما لم تصلح أحوالكم إلا به فكأنكم سألتموه أو من كل ما طلبتموه بلسان الحال. (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ) التي أنعم الله بها عليكم (لا تُحْصُوها) أي لا تطيقوا على عد أنواعها فضلا عن عد أفرادها فإنها غير متناهية (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (٣٤) أي فإن

٥٧١

الإنسان مجبول على النسيان والملالة ، فإذا وجد نعمة نسيها في الحال ، وترك شكرها فذلك ظلم ، وإن لم ينسها فإنه يملها فيقع في كفران النعمة ، وأيضا إن نعم الله كثيرة فمتى حاول الإنسان التأمل في بعضها غفل عن الباقي. (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ) أي مكة (آمِناً) من الخراب ومن الخوف لمن التجأ إليه (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) (٣٥) أي ثبتنا على ما كنا عليه من التوحيد وملة الإسلام ومن البعد عن عبادة الأصنام. أو المراد أعصمنا من الشرك الخفي وهو عند الصوفية تعليق القلب بالوسائط وبالأسباب الظاهرة (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) أي إن الأصنام ضلّ بهن كثير من الناس أي لما حصل الإضلال عند عبادتها نسب إليها (فَمَنْ تَبِعَنِي) في ديني واعتقادي (فَإِنَّهُ مِنِّي) أي فإنه جار مجرى بعضي لقربه مني (وَمَنْ عَصانِي) أي خالف ديني (فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣٦) أي فإنك قادر على أن تغفر له وترحمه بأن تنقله عن الكفر إلى الإسلام (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) أي بعض ذريتي إسماعيل ومن سيولد له (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) أي في واد ليس فيه زرع (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) أي المعظم الذي يهابه كل جبار أو الذي منع من الطوفان وهو مكة شرفها الله تعالى فلعله قال ذلك باعتبار ما سيؤول إليه أو باعتبار ما كان (رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) أي يا ربنا إنما أسكنت قوما من ذريتي وهم إسماعيل وأولاده في هذا الوادي الذي لا زرع فيه ليقيموا الصلاة نحو الكعبة (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) أي فاجعل قلوب بعض الناس تسرع إلى ذريتي شوقا إليهم بنقل المعاشات إليهم بسبب التجارات بالنسك والطاعة لله تعالى.

وقرأ العامة «تهوي» بكسر الواو ، وقرأ أمير المؤمنين علي ، وزيد بن علي ، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد ، ومجاهد بفتح الواو أي تحبهم. وقرئ على البناء للمفعول أي اجعل قلوب بعض الناس ممالة إليهم ، (وَارْزُقْهُمْ) أي ذريتي (مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (٣٧) تلك النعمة فإن إبراهيم عليه‌السلام إنما طلب تيسير المنافع على أولاده لأجل أن يتفرغوا لإقامة الصلاة وأداء الواجبات (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) من الحاجات وغيرها فلا حاجة بنا إلى الدعاء ، إنما ندعوك إظهارا للعبودية لك وافتقارا إلى ما عندك (وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) (٣٨) وهذه الجملة من كلام الله تعالى تصديقا لإبراهيم عليه‌السلام ، وهي اعتراض بين كلامي إبراهيم ، فالوقف على «نعلن» حسن كالوقف على «في السماء» (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ) أي حال كوني بعد الكبر (إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ). روي أنه لما ولد إسماعيل كان سن إبراهيم تسعا وتسعين سنة ، ولما ولد إسحاق كان سنه مائة واثنتي عشرة سنة (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) (٣٩) أي لمجيب الدعاء وهو عالم بالمقصود (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) أي مثابرا عليها (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أي واجعل بعض ذريتي كذلك (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) (٤٠).

٥٧٢

وقال ابن عباس : أي عبادتي. (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي) ما فرط مني من ترك الأولى في باب الدين وغير ذلك (وَلِوالِدَيَ) وهذا الاستغفار قبل تبين أمرهما. وقرأ ابن حسين «ولوالدي» بسكون الياء. وقرأ الحسين بن علي ومحمد وزيد ابنا علي بن الحسين «ولولدي» بفتحات ؛ وهما إسماعيل وإسحاق. وقرأ ابن يعمر «ولولدي» بضم الواو وسكون اللام وكسر الدال ؛ جمع ولد فالقراءات الشاذة ثلاثة (وَلِلْمُؤْمِنِينَ) كافة أي من ذرية إبراهيم وغيرهم ففي هذا الدعاء بشارة عظيمة لجميع المؤمنين بالمغفرة ، والله تعالى لا يرد دعاء خليله إبراهيم عليه‌السلام. (يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) (٤١) أي يوم يثبت محاسبة أعمال المكلفين على وجه العدل (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ) يا أشرف الخلق (غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) أي تارك عقوبة المشركين بما عملوا والمراد تثبيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما كان عليه من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحسب الله غافلا والمقصود تنبيهه على أنه تعالى لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم لزم عليه تعالى أحد الأمور الثلاثة : إما أن يكون غافلا عن ذلك الظالم ، أو عاجزا عن الانتقام ، أو راضيا بذلك الظلم. وكل ذلك محال عليه تعالى فامتنع أن لا ينتقم للمظلوم من الظالم (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ) بلا عذاب الاستئصال (لِيَوْمٍ) أي لأجل يوم (تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) (٤٢) أي تبقى مفتوحة لا تتحرك أجفانهم للدهشة (مُهْطِعِينَ) أي مسرعين نحو البلاء ناظرين إلى الداعي وهو جبريل حيث يدعو إلى الحشر من صخرة بيت المقدس (مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) أي رافعي رؤوسهم إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) أي يدوم شخوص أبصارهم لدوام الحيرة في قلوبهم (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) (٤٣) أي خالية عن جميع الأفكار لعظم ما ينالهم من الحيرة لما تحققوه من العقاب وحصول هذه الصفات الخمس عند المحاسبة (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) أي وخوف الكفار يا أكرم الرسل أهوال يوم القيامة (فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي كل من ظلم بالشرك (رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي أخر العذاب عنا وردنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى حد من الزمان قريب (نُجِبْ دَعْوَتَكَ) لنا على ألسنة الرسل إلى التوحيد (وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) فيما جاءونا به أي نتدارك في الدنيا ما فاتنا من إجابة الدعوة واتباع الرسل فيقول الله لهم توبيخا (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ) أي أطلبتم هذا المطلوب وهل لم تكونوا خلفتم (مِنْ قَبْلُ) هذا اليوم أي في الدنيا (ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) (٤٤) أي كانوا يقولون بالحلف لا زوال لنا من هذه الحياة إلى حياة أخرى ومن هذه الدار إلى دار المجازاة ، أما زوالهم من غنى إلى فقر ، ومن شباب إلى هرم ، ومن حياة إلى موت فلا ينكرونه (وَسَكَنْتُمْ) معطوف على أقسمتم (فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر والمعصية وهم قوم نوح وعاد وثمود ، لأن من شاهد هذه الأحوال وجب عليه أن يعتبر فإذا لم يعتبر كان مستحقا للتقريع (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ) أي وظهر لكم حالهم بمشاهدة الآثار وبتواتر الأخبار (كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) من الإهلاك بما فعلوا من الفساد. وقرئ «وبين» على المجهول ، وقرئ أيضا «وتبين» بنون المتكلم ، أي أولم نبين لكم. (وَضَرَبْنا لَكُمُ

٥٧٣

الْأَمْثالَ) (٤٥) أي بينا لكم الأمثال في القرآن مما يعلم به أنه تعالى قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء ، وقادر على التعذيب المؤجل كما يفعل الهلاك المعجل (وَقَدْ مَكَرُوا) أي المهلكون (مَكْرَهُمْ) حال من الضمير في فعلنا بهم أي فعلنا بهم ما فعلنا ، والحال أنهم قد مكروا في إبطال الحق مكرهم الذي جاوزوا فيه كل حد معهود بحيث لا يقدر عليه غيرهم (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) أي أخذه بهم بالعذاب الذي يستحقونه يأتيهم به من حيث لا يشعرون وهذه الجملة حال من الضمير في مكروا (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) (٤٦) أي وإن كان مكرهم في غاية العظم والشدة بحيث تزول منه الجبال فإن وصلية. وقيل : «إن» نافية و «اللام» لتأكيدها ، وينصره قراءة ابن مسعود رضي‌الله‌عنه وما كان مكرهم فالجملة حينئذ حال من الضمير في «مكروا» أي ومكروا مكرهم. والحال أن مكرهم لم يكن لتزول منه الشرائع والمعجزات. وقيل : هي مخففة من «أن» أي وأنه كان مكرهم ليزول منه ما هو كالجبال في الثبات من الشرائع والمعجزات.

وقرأ الكسائي وحده «لتزول» بفتح اللام الفارقة ورفع الفعل. فالجملة حينئذ حال من قوله تعالى : (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) أي وعند الله المكر بهم. والحال أن مكرهم في غاية القوة بحيث تزول منه الجبال. (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) تفريع على ولا تحسبن الله إلخ فكأنه قيل : وإذ قد وعدناك بعذاب الظالمين يوم القيامة وأخبرناك بما يلقونه من الشدائد وبما يسألونه من الرد إلى الدنيا وبما أجبناهم به وقرعناهم بعدم تأملهم في أحوال من سبقهم من الأمم الذين أهلكناهم بظلمهم بعد ما وعدنا رسلهم بإهلاكهم فدم على ما كنت عليه من اليقين بعدم إخلافنا رسلنا وعدنا فمخلف إما متعد لاثنين مضاف لمفعوله الثاني ، وإما متعد لواحد مضاف لمفعوله ورسله مفعول لوعده (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) أي غالب لا يماكر (ذُو انتِقامٍ) (٤٧) لأوليائه من أعدائه (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) أي تغير في صفاتها فتسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها وتسوّى فلا يرى فيها عوج ولا أمت (وَالسَّماواتُ) أي تبدل السموات غير السموات فتنتثر كواكبها ، وتكسف شمسها ، ويخسف قمرها وتكون السماء أبوابا ، وذكر شبيب بن إبراهيم بن حيدرة أن الأرض والسموات يبدلان كرتين إحداهما قبل نفخة الصعق فتنتثر أولا الكواكب وتكسف الشمس والقمر ، وتصير السماء كالمهل ، ثم تكشط عن رؤوسهم ، ثم تسير الجبال ، ثم تموج الأرض ، ثم تصير البحار نيرانا ، ثم تنشق الأرض من قطر إلى قطر ، فإذا نفخ في الصور نفخة الصعق طويت السماء وبدلت السماء سماء أخرى من ذهب ، ودحيت الأرض ؛ أي مدت مد الأديم ، وأعيدت كما كانت فيها القبور أو البشر على ظهرها وفي بطنها ، وتبدل تبديلا ثانيا إذا وقفوا في المحشر فتبدل لهم ساهرة يحاسبون عليها وهي أرض بيضاء من فضة ، وحينئذ يقوم الناس على الصراط ، وعلى متن جهنم ؛ وهي أرض من نار ، فإذا جاوزوا الصراط وحصل أهل

٥٧٤

الجنان من وراء الصراط في الجنان وأهل النيران في النار بدلت الأرض خبزا نقيا فأكلوا من تحت أرجلهم ، وعند دخولهم الجنة كانت الأرض قرصا واحدا يأكل منه جميع من دخل الجنة وإدامهم زيادة كبد ثور الجنة وزيادة كبد النون. وحاصل كلام القرطبي أن تبديل هذه الأرض بأرض أخرى من فضة يكون قبل الصراط وتكون الخلائق إذ ذاك مرفوعة في أيدي ملائكة سماء الدنيا ، وأن تبديل الأرض بأرض من خبز يكون بعد الصراط وتكون الخلائق إذ ذاك على الصراط وهذه الأرض خاصة بالمؤمنين عند دخولهم الجنة.

وقال الرازي : لا يبعد أن يقال : المراد من تبديل الأرض والسموات هو أنه تعالى يجعل الأرض جهنم ، ويجعل السموات الجنة (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٤٨) أي واذكروا يوم يبرز الخلائق جميعا من قبورهم للحساب والجزاء (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ) أي وتبصر يا أكرم الخلق الكافرين (يَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ برزوا له تعالى (مُقَرَّنِينَ) أي قرن بعضهم ببعض بحسب مشاركتهم في العقائد والأعمال (فِي الْأَصْفادِ) (٤٩) أي القيود (سَرابِيلُهُمْ) أي قمصانهم (مِنْ قَطِرانٍ) وهو ما يتحلب من شجر الأبهل فيطبخ ويطلى به الإبل الجربي. فيحرق الجرب بحرارته وقد تصل إلى الجوف. والمراد أنه تطلى به جلود أهل النار ليجتمع عليهم الأنواع الأربعة من العذاب لذع القطران ووحشة لونه ونتن ريحه ، وإسراع النار في جلودهم (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) (٥٠) أي تعلوها النار وخصّ الله هذا العضو بظهور آثار العقاب ، كما خصّ القلب بذلك في قوله تعالى : (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) [الهمزة : ٦ ، ٧] لأن الرأس محل الفكر والوهم والخيال ، والقلب موضع العلم والجهل ، ولا يظهر أثر هذه الأحوال إلا في الوجه ولأنه مجمع الحواس ولخلوه عن القطران ويفعل الله بهم تلك الأمور الثلاثة (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ) مجرمة (ما كَسَبَتْ) من أنواع الكفر والمعاصي جزاء موافقا لعملها (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٥١) فلا يشغله حساب عن حساب ولا يظلمهم ولا يزيد على عقابهم الذي يستحقونه (هذا) أي الموعظة التي في هذه السورة (بَلاغٌ) أي كفاية في الموعظة (لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) عطف على مقدر متعلق ببلاغ أي كفاية لهم لينتصحوا ولينذروا به أي بهذا البلاغ (وَلِيَعْلَمُوا) بما فيه من الأدلة (أَنَّما هُوَ) أي الله (إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٥٢) أي وليتعظوا بذلك وهذه الآيات مشعرة بأن التذكير بهذه المواعظ يوجب الوقوف على التوحيد والإقبال على العمل الصالح.

٥٧٥

سورة الحجر

مكية ، تسع وتسعون آية ، ستمائة وثمان وخمسون كلمة

ألفان وثمانمائة وثلاثة وثمانون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(الر) قال ابن عباس : أي أنا الله أرى (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) (١) أي تلك الآيات آيات ذلك الكتاب الكامل في كونه كتابا ، وفي كونه قرآنا مفيدا للبيان لسبيل الرشد والغي ، وللفرق بين الحق والباطل ؛ وهو الكتاب الذي وعد الله تعالى به محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتنكير القرآن للتفخيم كتعريف الكتاب. فالمقصود الوصفان ، وقيل : «الواو» للقسم أي أقسم بالقرآن المبين بالحلال والحرام وبالأمر والنهي (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) (٢) أي إن الكافر بالقرآن كلما رأى حالا من أحوال العذاب ورأى حالا من أحوال المسلم تمنى كونه في الدنيا منقادا لحكمه ، ومذعنا لأمره وذلك عند الموت ، وعند اسوداد وجوه الكفار ، وعند دخولهم النار ، وعند رؤيتهم خروج عصاة المسلمين من النار. فـ «ربّ» للتكثير باعتبار مرات التمني ، وللتقليل باعتبار أزمان الإفاقة فأزمان إفاقتهم قليلة بالنسبة لأزمان الدهشة ، وكونه للتقليل أبلغ في التهديد. ومعناه أنه يكفيك قليل الندم في كونه زاجرا لك عن هذا العمل فكيف كثيره وأيضا إنه يشغلهم العذاب عن تمني ذلك إلا في القليل.

وقرأ نافع وعاصم «ربما» بتخفيف الباء. والباقون بالتشديد (ذَرْهُمْ) أي اترك كفار مكة يا أشرف الرسل عن النهي عمّا هم عليه بالنصيحة إذ لا سبيل إلى ارعوائهم عن ذلك بل مرهم بتناول ما يتناولونه (يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) أي يأخذوا حظوظهم من دنياهم فتلك أخلاقهم ولا خلاق لهم في الآخرة (وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) أي يشغلهم الأمل عند الأخذ بحظهم عن الإيمان والطاعة (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٣) عند الموت وفي القبر ويوم القيامة ماذا يفعل بهم وعن علي رضي‌الله‌عنه أنه قال : إنما أخشى عليكم اثنين طول الأمل واتباع الهوى ، فإن طول الأمل ينسي الآخرة واتباع الهوى يصد عن الحق (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) من القرى بالخسف بها وبأهلها كما فعل ببعضها وبإخلائها عن أهلها غب إهلاكهم بعذاب الاستئصال كما فعل ببعض آخر (إِلَّا وَلَها) في ذلك الشأن

٥٧٦

(كِتابٌ مَعْلُومٌ) (٤) أي أجل مؤقت لهلاكها مكتوب في اللوح المحفوظ لا يغفل عنه (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ) من الأمم المهلكة وغيرهم (أَجَلَها) المكتوب في كتابها فلا يجيء هلاكها ولا موتها قبل مجيء كتابها (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) (٥) عن أجلها (وَقالُوا) أي كفار مكة عبد الله بن أمية المخزومي وأصحابه استهزاء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) أي القرآن في زعمه (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) (٦) أي إنك لتقول قول المجانين حتى تدعي أن الله تعالى نزل عليك القرآن (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ) أي هلا أتيتنا بالملائكة يشهدون بصحة نبوتك ويعضدونك في الإنذار (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٧) في مقالتك إنك نبي وإن هذا القرآن من عند الله فأجاب الله تعالى عن قولهم بقوله تعالى : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ) أي فالحق في حق الكفار تنزيل الملائكة بعذاب الاستئصال كما فعل بأمثالهم من الأمم السالفة لا التنزيل بما اقترحوا من أخبارها لهم بصدق الرسول فإن ذلك من باب التنزيل بالوحي الذي لا يكاد يفتح على غير الأنبياء من أفراد كل المؤمنين فكيف على أولئك الكفرة.

وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «ما ننزل» بنون المتكلم وبكسر الزاي المشددة ، «والملائكة» بالنصب. وقرأ شعبة عن عاصم «ما تنزل» ببناء الفعل للمفعول «والملائكة» بالرفع. والباقون «تنزل الملائكة». (وَما كانُوا إِذاً) أي إذ نزلت عليهم الملائكة بالعذاب (مُنْظَرِينَ) (٨) أي مؤخرين ساعة أي ولو نزلنا الملائكة ما أخر عذابهم ونحن لا نريد عذاب الاستئصال بهذه الأمة فلهذا السبب ما أنزلنا الملائكة (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) الذي أنكروا نزوله عليك ونسبوك بذلك إلى الجنون (وَإِنَّا لَهُ) أي الذكر (لَحافِظُونَ) (٩) من الشياطين حتى لا يزيدوا فيه ولا ينقصوا منه ولا يغيروا حكمه.

ويقال : وإنا لمحمد لحافظون من الكفار والشياطين (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) رسلا (مِنْ قَبْلِكَ) يا أكرم الرسل (فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) (١٠) أي في أمم الأولين (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (١١) أي عادة هؤلاء الجهّال مع الرسل ذلك الاستهزاء كما يفعله هؤلاء الكفرة بك وهذا تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) (١٢) أي مثل ذلك السلك الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين برسلهم وبما جاءوا به من الكتاب نسلك الذكر في قلوب كفار مكة. (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بالذكر. وهذا حال من ضمير نسلكه أو لا محل له من الإعراب تفسير للجملة السابقة. والمراد من هذا السلك هو أنه تعالى يسمعهم هذا القرآن ويخلق في قلوبهم حفظ هذا القرآن ويخلق فيها العلم بمعانيه ومع هذه الأحوال لا يؤمنون به عنادا منهم (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) (١٣) أي وقد مضت سيرة الأولين بتكذيب الرسل ومضت سيرة الله فهم بإهلاكه إياهم بعد التكذيب ، وهذه الجملة استئناف جيء بها تكملة للتسلية وتهديدا لكفار مكة (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ) أي كفار مكة الذين اقترحوا نزول الملائكة (باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ) أي في ذلك

٥٧٧

الباب (يَعْرُجُونَ) (١٤) أي يصعدون ويرون ما فيها من العجائب عيانا (لَقالُوا) لفرط عنادهم : (إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) أي غشيت بالسحر. وقرأ ابن كثير بتخفيف الكاف. والباقون بتشديدها فهو يوجب تكثيرا أو حيرت من السكر كما يعضده قراءة من قرأ سكرت أي حارت (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) (١٥) أي قد سحر محمد عقولنا كما قالوه عند ظهور سائر المعجزات من انشقاق القمر ومن القرآن الذي لا يستطيع الجن والإنس أن يأتوا بمثله (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً) أي محال تسير فيها الكواكب السيارة وهي المريخ بكسر الميم وهو كوكب في السماء الخامسة وله الحمل والعقرب والزهرة بضم ففتح وهي في السماء الثالثة ، ولها الثور والميزان وعطارد بفتح العين وهي في الثانية ، ولها الجوزاء والسنبلة والقمر ، وهو في الأولى ، وله السرطان والشمس وهي في الرابعة ، ولها الأسد والمشتري وهو في السادسة ، وله القوس والحوت وزحل وهو في السابعة ، وله الجدي والدلو وجملة البروج اثنا عشر ، ووجه دلالة البروج على وجود الصانع المختار هو أن طبائع هذه البروج مختلفة ، فالفلك مركب من هذه الأجزاء المختلفة ، وكل مركب لا بد له من مركب يركب تلك الأجزاء بحسب الاختيار والحكمة فثبت أن كون السماء مركبة من البروج يدل على وجود الفاعل المختار وهو المطلوب (وَزَيَّنَّاها) أي السماء بالشمس والقمر والنجوم (لِلنَّاظِرِينَ) (١٦) بأبصارهم وبصائرهم فيستدلون بها على قدره صانعها ووحدته (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) (١٧) أي مرمي بالشهاب فلا يقدر أن يصعد إليها ويوسوس في أهلها ويقف على أحوالها (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) أي إلا من اختلس المسموع سرا من غير دخول (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ) أي لحقه شعلة نار ساطعة تنفصل من الكوكب (مُبِينٌ) (١٨) أي ظاهر أمره للمبصرين (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) أي بسطناها على وجه الماء (وَأَلْقَيْنا فِيها) أي على الأرض (رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت لكيلا تميل بأهلها ولتكون دلالة للناس على طرق الأرض لأنها كالأعلام فلا تميل الناس عن الجادة المستقيمة ولا يقعون في الضلال (وَأَنْبَتْنا فِيها) أي الأرض (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) (١٩) أي مستحسن مناسب أو موزون بوزن فالمعادن كلها موزونة وذلك مثل الذهب والفضة والحديد والرصاص وغير ذلك والنباتات ترجع عاقبتها إلى الوزن ، لأن الحبوب توزن وكذلك الفواكه في الأكثر (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها) أي الأرض (مَعايِشَ) أي ما تعيشون به من المطاعم والملابس وغيرهما مما يتعلق به البقاء مدة حياتكم في الدنيا (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) (٢٠) أي وجعلنا لكم من لستم برازقيه من العيال والخدم والعبيد والدواب والطيور وما أشبهها ، فالناس يظنون في أكثر الأمر أنهم الذين يرزقونهم وذلك خطأ فإن الله هو الرزاق يرزق الكل (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) أي إن جميع الممكنات مقدورة له تعالى يخرجها من العدم إلى الوجود كيف شاء شبهت مقدوراته تعالى الفائتة للحصر في كونها مستورة عن علوم العالمين وكونها مهيأة لإيجاده بحيث متى تعلقت الإرادة بوجودها وجدت من غير تأخر بنفائس الأموال المخزونة في

٥٧٨

الخزائن السلطانية (وَما نُنَزِّلُهُ) أي ما نوجد شيئا (إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٢١) أي إلا ملتبسا بمقدار معين تقتضيه الحكمة فقوله تعالى : (إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) إشارة إلى كون مقدوراته غير متناهية وقوله تعالى : (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) إشارة إلى أن كل ما يدخل في الوجود منها فهو متناه ومتى كان الخارج إلى الوجود منها متناهيا كان مختصا بوقت مقدر وبحيز معين وبصفات معينة بدلا عن أضدادها ، فتخصيص كل شيء بما اختص به لا بد له من حكمة تقتضي ذلك.

وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال : إن في العرش تمثال جميع ما خلق الله في البحر والبر وهو تأويل قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ). (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) أي حوامل لأنها تحمل الماء وتمجه في السحاب (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ) أي السحاب (ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) أي جعلناه لكم سقيا وفي هذا دلالة على جعل الماء معدا لهم ينتفعون به متى شاؤوا (وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) (٢٢) أي نحن القادرون على إيجاده وخزنه في السحاب وإنزاله في الأرض وما أنتم على ذلك بقادرين. وقيل : ما أنتم بخازنين له بعد ما أنزلناه في الغدران والآبار والعيون بل نحن نخزنه فيها لنجعلها سقيا لكم أي معدا لسقي أنفسكم ومواشيكم وأراضيكم مع أن طبيعة الماء تقتضي الغور (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) أي لا قدرة على الإحياء ولا على الإماتة إلا لنا (وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) (٢٣) أي الباقون بعد فناء الخلق المالكون للملك عند انقضاء زمان الملك المجازي (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ) أي من تقدم منكم ولادة وموتا (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) (٢٤) أي من تأخر ولادة وموتا.

وقال ابن عباس : في رواية عطاء معنى المستقدمين : أهل طاعة الله تعالى. ومعنى المستأخرين : المتخلفون عن طاعة الله تعالى (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) للجزاء (إِنَّهُ حَكِيمٌ) أي متقن في أفعاله فيأتي بالأفعال على ما ينبغي وعالم بحقائق الأشياء على ما هي عليه (عَلِيمٌ) (٢٥) أي وسع علمه كل شيء (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) أي آدم (مِنْ صَلْصالٍ) أي من طين يابس غير مطبوخ يصوت عند نقره (مِنْ حَمَإٍ) أي كائن من طين متغير أسود بطول مجاورة الماء (مَسْنُونٍ) (٢٦) أي مصور بصورة الآدمي.

قال المفسرون : خلق الله تعالى آدم عليه‌السلام من طين فصوره وتركه في الشمس أربعين سنة فصار صلصالا كالخزف ، ولا يدري أحد ما يراد به ولم يروا شيئا من الصور يشبهه إلى أن نفخ فيه الروح (وَالْجَانَ) وهو أبو الجن والأصح أن الشياطين قسم من الجن فكل من كان منهم مؤمنا فإنه لا يسمى بالشيطان وكل من كان منهم كافرا يسمى بهذا الاسم (خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل خلق الإنسان (مِنْ نارِ السَّمُومِ) (٢٧) أي من نار الحر الشديد النافذ في المسام أو من نار الريح الحارة (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً) أي جسما كثيفا يلاقي بخلاف الجن والملائكة

٥٧٩

فإنهم لا يلاقون للطف أجسامهم (مِنْ صَلْصالٍ) أي من طين يتصلصل (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (٢٨) أي من طين منتن رطب (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) أي أتممت خلقه باليدين والرجلين والعينين وغير ذلك (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) أي جعلت الروح فيه وليس ثمّ نفخ ولا منفوخ وإنما هو تمثيل لإفاضة ما يحيا آدم به من الروح التي هي من أمره تعالى (فَقَعُوا) أي خروا (لَهُ) أي لذلك البشر (ساجِدِينَ) (٢٩) بوضع الجبهة على الأرض لا بالانحناء تعظيما له ، فالسجود كان لآدم في الحقيقة. أو المعنى اسجدوا لله تعالى بوضع الجبهة على الأرض ، وآدم عليه‌السلام بمنزلة القبلة لذلك السجود حيث ظهر فيه تعاجيب آثار قدرته تعالى وحكمته (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (٣٠) أي فخلقه فسواء فجعل فيه الحياة فسجد الملائكة. فمعنى «كلهم» أي لم يشذ منهم أحد ، ومعنى «أجمعون» أي لم يتأخر في ذلك أحد منهم عن أحد ، أي فالكل سجدوا دفعة واحدة (إِلَّا إِبْلِيسَ) رئيسهم (أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) (٣١) (قالَ) أي الله تعالى (يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) (٣٢) أي أيّ سبب لك في أن لا تكون مع الساجدين لآدم (قالَ) أي إبليس : (لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ) أي لا يصح مني أن أسجد (لِبَشَرٍ) أي جسم كثيف لأنه مخلوق من أشرف العناصر وأعلاها وأنا روحاني لطيف (خَلَقْتَهُ) أي البشر (مِنْ صَلْصالٍ) ناشئ (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (٣٣) (قالَ) الله تعالى : (فَاخْرُجْ مِنْها) أي من زمرة الملائكة المعززين ويقال : من رحمتي والفاء في جواب شرط مقدر أي فحيث عصيت وتكبرت فاخرج منها (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) (٣٤) أي مطرود عن الرحمة (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ) أي الإبعاد عن الرحمة (إِلى يَوْمِ الدِّينِ) (٣٥) أي الجزاء أي إنك مدعو باللعنة في السموات والأرض إلى يوم الحساب من غير أن يعذب فإذا جاء ذلك اليوم عذب عذابا بنسى اللعن معه فيصير اللعن حينئذ كالزائل بسبب أن شدة العذاب تذهل عنه (قالَ) إبليس : (رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) أي أخرني ولا تمتني (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (٣٦) أي آدم وذريته للجزاء بعد فنائهم وأراد الملعون بهذا السؤال أن لا يذوق الموت لاستحالته بعد يوم البعث وأن يجد فسحة في إغوائهم (قالَ) الله تعالى : (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) (٣٧) أي المؤجلين (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (٣٨) وهو وقت النفخة الأولى التي علم أنه يموت كل الخلائق فيه (قالَ) إبليس : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي أقسم بإغوائك إياي لأزينن لذرية آدم المعاصي في الدنيا التي هي دار الغرور (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (٣٩) (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٤٠).

قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بكسر اللام في كل القرآن أي الذين أخلصوا دينهم عن كل شائب يناقض التوحيد. وقرأ الباقون بفتح اللام أي الذين أخلصهم الله تعالى بالتوفيق والعصمة وعصمهم من كيد إبليس قال تعالى : (قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) (٤١) أي هذا الإخلاص طريق يؤدي إلى كرامتي وثوابي من غير اعوجاج. وقرأ يعقوب «علي» بالرفع والتنوين على أنه صفة «لصراط» أي هذا الإخلاص طريق رفيع لا عوج فيه (إِنَّ عِبادِي) سواء كانوا

٥٨٠