مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

وقرأ أبو هريرة «خير الحافظين». (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (٦٤) وهو أرحم به من والديه ومن إخوته وقيل : إن يعقوب لما ذكر يوسف قال : فالله خير حافظا إلخ أي حفظا ليوسف لأنه كان يعلم أن يوسف حي. (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ) أي أوعيتهم التي وضعوا فيها الميرة بحضرة أبيهم (وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ) وهي ثمن الميرة الذي دفعوه ليوسف (رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي) أي ما نكذب بما قلنا من أنا قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة عظيمة أو المعنى أي شيء نريد من إكرام الملك (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) هل من مزيد على ذلك فقد أحسن الملك مثوانا وباع منا ورد علينا متاعنا فلا نطلب وراء ذلك إحسانا. وقيل المعنى نحن لا نطلب منك يا أبانا عند رجوعنا إلى الملك بضاعة أخرى فإن هذه التي ردت إلينا كافية لنا في ثمن الطعام (وَنَمِيرُ أَهْلَنا) أي نأتي بالطعام إلى أهلنا برجوعنا إلى ذلك الملك بتلك البضاعة وهذا معطوف على محذوف ، والتقدير فنستعين بهذه البضاعة ونمير أهلها (وَنَحْفَظُ أَخانا) بنيامين من المكاره في الذهاب والإياب (وَنَزْدادُ) بسببه (كَيْلَ بَعِيرٍ) أي وقر بعير له (ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) (٦٥) أي ذلك الحمل الذي نزداده كيل قليل على الملك ، لأنه قد أحسن إلينا وأكرمنا بأكثر من ذلك ويقال : ذلك الذي نطلب منك أمر يسير (قالَ) لهم أبوهم : (لَنْ أُرْسِلَهُ) أي بنيامين (مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) أي حتى تعطوني عهدا من الله أي حتى يحلفوا بالله (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) أي في حال أن تموتوا أو في حال أن تصيروا مغلوبين فلا تقدروا الإتيان به إلى (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ) أي أعطوا أباهم عهدهم من الله على رده إلى أبيهم فقالوا في حلفهم : بالله رب محمد لنأتينك به. (قالَ) أي يعقوب : (اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) (٦٦) أي شهيد فإن وفيتم بالعهد جازاكم الله بأحسن الجزاء ، وإن غدرتم به كافأكم بأعظم العقوبات. (وَقالَ) ناصحا لهم لما أزمع على إرسالهم جميعا : (يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا) مصر (مِنْ بابٍ واحِدٍ) من أبوابها الأربعة (وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) إنما أمرهم بذلك لأنه خاف عليهم العين فإنهم كانوا ذوي جمال وشارة حسنة ، وكانوا أولاد رجل واحد وقد تجملوا في هذه الكرة أكثر مما في المرة الأولى (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي لا أدفع عنكم بتدبيري شيئا مما قضى الله عليكم فإن الحذر لا يمنع القدر ، والإنسان مأمور بأن يحذر عن الأشياء المهلكة والأغذية الضارة ، وأن يسعى في تحصيل المنافع ودفع المضار بقدر الإمكان ، (إِنِ الْحُكْمُ) أي ما الحكم بالإلزام والمنع (إِلَّا لِلَّهِ) وحده (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي إليه وحده فوّضت أمري وأمركم (وَعَلَيْهِ) دون غيره (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (٦٧) أي فليثق الواثقون (وَلَمَّا دَخَلُوا) أي المدينة (مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) أي من الأبواب المتفرقة (ما كانَ) أي دخولهم متفرقين (يُغْنِي) أي يخرج (عَنْهُمْ) أي الداخلين (مِنَ اللهِ) أي من قضائه (مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) أي لكن الدخول على صفة التفرق أظهر حاجة في قلب يعقوب وهي خوفه عليهم من إصابة العين وهذا تصديق الله لقول يعقوب وما أغني عنكم من الله من شيء (وَإِنَّهُ) أي

٥٤١

يعقوب (لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) أي لفوائد ما علمناه أي أنه عامل بما علمه (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٦٨) إن يعقوب بهذه الصفة والعلم (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ) أي في محل حكمه (آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) أي أنزله معه في منزله أي لما أتى إخوة يوسف بأخيه بنيامين قالوا له : هذا أخونا قد جئناك به. فقال لهم : أحسنتم وستجدون ذلك عندي فأكرمهم وأضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة ، فبقي بنيامين وحيدا فبكى وقال : لو كان أخي يوسف حيا لأجلسني معه. فقال يوسف : بقي أخوكم فريدا ، فأجلسه معه على مائدة وجعل يواكله ، ثم أنزل كل اثنين منهم بيتا. فبقي بنيامين وحده وقال هذا لا ثاني له فاتركوه معي فضمه يوسف إليه وشمّ ريح أبيه منه حتى أصبح ، فلما خلا به قال له يوسف : ما اسمك؟ قال : بنيامين ، قال : وما بنيامين؟ قال : المثكل وهو لما ولد هلكت أمه ، قال : وما اسم أمك؟ قال : راحيل بنت لاوى. قال : فهل لك من ولد؟ قال : لي عشرة بنين قال : فهل لك من أخ لأمك؟ قال : كان لي أخ فهلك ، قال يوسف : أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال : بنيامين ومن يجد أخا مثلك أيها الملك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل! فبكى يوسف عليه‌السلام وقام إليه وعانقه و (قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ) أي فلا تحزن (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٦٩) أي لا تلتفت إلى ما صنعوه فيما تقدم من أعمالهم المنكرة وفيما يعملون بك من الجفاء ويقولون لك من التعيير والأذى ، قال بنيامين : فأنا لا أفارقك ، وقال يوسف : قد علمت اغتمام والدك بي فإذا حبستك عندي ازداد غمه ولا يمكنني هذا إلا بعد أن أشهرك بأمر فظيع ، وأنسبك إلى ما لا يحمد قال : لا أبالي فافعل ما بدا لك فإني لا أفارقك. قال يوسف : فإني أدس صاعي في رحلك ، ثم أنادي عليك بالسرقة لأحتال في ردك بعد إطلاقك معهم. قال : فافعل ما شئت فذلك قوله تعالى : (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) أي فلما هيأ يوسف لهم ما يحتاجون للسفر وحمل لهم أحمالهم من الطعام على إبلهم (جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ) أي دسّ مشربته التي كان يشرب فيها في وعاء طعام أخيه الشقيق بنيامين ، ثم أمرهم بالسير ، ثم أرسل خلفهم عبده (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) أي نادى مناد مع رفع صوت مرارا كثيرة (أَيَّتُهَا الْعِيرُ) أي يا أصحاب الإبل التي عليها الأحمال (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) (٧٠) وهذا الكلام إما على سبيل الاستفهام ، وإما على قصد المعاريض. والمعنى إنكم لسارقون ليوسف من أبيه ليكون للمنادي مندوحة عن الكذب. (قالُوا) أي إخوة يوسف (وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ) أي والحال إنهم التفتوا إلى جماعة الملك المؤذن وأصحابه : (ما ذا تَفْقِدُونَ) (٧١) أي أي شيء صاع منكم. (قالُوا) أي أصحاب الملك : (نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) أي نطلب إناء الملك الذي كان يشرب فيه ويكيل وإنما اتخذ هذا الإناء مكيالا لعزة ما يكال به في ذلك الوقت ق ال المؤذن : (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ) أي بالإناء من عند نفسه مظهرا له قبل التفتيش (حِمْلُ بَعِيرٍ) من الطعام أجرة له (وَأَنَا بِهِ) أي بالحمل (زَعِيمٌ) (٧٢) أي كفيل أؤديه إليه ، لأن الإناء كان من الذهب وقد اتهمني الملك. (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ) يا أهل مصر (ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ) أي أرض مصر بمضرة

٥٤٢

الناس (وَما كُنَّا سارِقِينَ) (٧٣) لأنه قد ظهر من أحوالهم امتناعهم من التصرف في أموال الناس بالكلية لا بالأكل ولا بإرسال الدواب في مزارع الناس ، ولأنهم لما وجدوا بضاعتهم في رحالهم حملوها من بلادهم إلى مصر ولم يستحلوا أخذها. (قالُوا) أي أصحاب يوسف : (فَما جَزاؤُهُ) أي فما جزاء سرقة الصواع في شريعتكم (إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) (٧٤) في نفي كون الصواع فيكم : (قالُوا) أي إخوة يوسف : (جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ) أي جزاء سرقة الصواع هو أخذ الإنسان الذي وجد الصواع في متاعه (فَهُوَ جَزاؤُهُ) أي فاسترقاق ذلك الشخص سنة هو جزاء سرقته لا غير ، فأفتوا بشريعتهم (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الجزاء (نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (٧٥) بالسرقة في أرضنا هذا من بقية كلام إخوة يوسف. وقيل : من كلام أصحاب يوسف جوابا لقول إخوته ذلك (فَبَدَأَ) أي يوسف بعد ما رجعوا إليه (بِأَوْعِيَتِهِمْ) أي بتفتيش أوعية الإخوة العشرة (قَبْلَ) تفتيش (وِعاءِ أَخِيهِ) بنيامين لنفي التهمة.

روي أنه لما بلغت النوبة إلى وعائه قال : ما أظن هذا أخذ شيئا؟ فقال إخوة يوسف : والله لا نتركك حتى تنظر في رحله فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها) أي الصواع (مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) فقال له : فرجك الله كما فرجتني (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) أي كما ألهمنا إخوة يوسف إن جزاء السارق أن يسترق كذلك ألهمنا يوسف حتى دسّ الصواع في رحل أخيه ليضمه إليه على ما حكم به إخوته (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي لم يكن يوسف يأخذ أخاه في حكم الملك بسبب من الأسباب إلا بسبب مشيئة الله ، وهو حكم أبيه. أي وكان حكم ملك مصر في السارق أن يضرب ويغرم مثلي قيمة المسروق ، فما كان يوسف قادرا على حبس أخيه عند نفسه إلا أن الله تعالى كادله ما جرى على لسان إخوته أن جزاء السارق هو الاسترقاق (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ).

وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتنوين. والباقون بالإضافة ، أي نرفع رتبا كثيرة عالية من العلم من نشاء رفعه (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (٧٦) أي إن إخوة يوسف كانوا علماء فضلاء ، ويوسف كان زائدا عليهم في العلم ففوق كل عالم عالم إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى فليس فوقه أحد. (قالُوا) أي إخوة يوسف تبرئة لأنفسهم : (إِنْ يَسْرِقْ) أي بنيامين سقاية الملك (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) أي قالوا للملك : إن هذا الأمر ليس بغريب من بنيامين فإن أخاه الذي هلك كان سارقا أيضا. قال سعيد بن جبير : كان جد يوسف أبو أمه كافرا يعبد الأوثان فأمرته أمه بأن يسرق تلك الأوثان ويكسرها فلعله يترك عبادة الأوثان ففعل ذلك فهذا هو السرقة (فَأَسَرَّها) أي إجابتهم (يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ) أي في قلبه (وَلَمْ يُبْدِها) أي لم يظهر الإجابة (لَهُمْ قالَ) أي يوسف في نفسه (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) أي منزلة في السرقة من يوسف حيث سرقتم أخاكم من أبيكم (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) (٧٧) أي بحقيقة ما تذكرون من أمر يوسف هل يوجب عود مذمة إليه أم لا؟ (قالُوا) مستعطفين : (يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ) أي ملك مصر (إِنَّ لَهُ) أي

٥٤٣

بنيامين (أَباً شَيْخاً كَبِيراً) في السن لا يكاد يستطيع فراقه وهو يفرح به إن رددناه (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ) أي بدلا منه في الاسترقاق (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٧٨) إلينا في حسن الضيافة ورد البضاعة إلينا فأتمم إحسانك إلينا بهذه التتمة (قالَ مَعاذَ اللهِ) أي نعوذ بالله معاذا من (أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) لأن أخذنا له إنما هو بقضية فتواكم (إِنَّا إِذاً) أي إن أخذنا بريئا بمذنب (لَظالِمُونَ) (٧٩) في مذهبكم وما لنا ذلك ولهذا الكلام معنى باطن وهو أن الله تعالى إنما أمرني بالوحي بأن آخذ بنيامين لمصالح يعلمها الله تعالى فلو أخذت غيره كنت عاملا بخلاف الوحي فصرت ظالما لنفسي (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ) أي من يوسف (خَلَصُوا نَجِيًّا) أي تفردوا عن سائر الناس يتناجون (قالَ كَبِيرُهُمْ) في السن وهو روبيل أو في العقل وهو يهوذا ، أو رئيسهم وهو شمعون (أَلَمْ تَعْلَمُوا) يا إخوتاه (أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) في رد بنيامين إليه (وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) فـ «ما» مزيدة ، والجار والمجرور متعلق بـ «فرطتم» أي ومن قبل أخذكم العهد في شأن بنيامين قصرتم في شأن يوسف ، ولم تفوا بوعدكم على النصح والحفظ له ، «أو» مصدرية عطفا على مفعول «تعلموا» أي ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقا وتفريطكم السابق في شأن يوسف أو وترككم ميثاقه في حق يوسف ، «أو» موصولة عطفا على مفعول «تعلموا» أيضا أي ألم تعلموا أخذ أبيكم موثقا والذي قدمتموه في حق يوسف من الخيانة العظيمة من قبل تقصيركم في بنيامين (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) أي فلن أفارق أرض مصر (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) في الرجوع إليه (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) بالخروج منها على وجه لا يؤدي إلى نقض الميثاق أو بخلاص أخي من يد العزيز بسبب من الأسباب (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) (٨٠) لأنه لا يحكم إلا بالعدل والحق.

روي أنهم كلموا العزيز في إطلاق بنيامين فقال روبيل : أيها الملك لتردن إلينا أخانا أو لأصيحن صيحة لا تبقى بمصر حامل إلا ألقت ولدها ووقفت كل شعرة في جسده فخرجت من ثيابه فقال يوسف لابنه : قم إلى جنب روبيل فمسه فذهب ذلك الابن فمسه ، فسكن غضبه. فقال روبيل : إن هذا بذر من بذر يعقوب وهمّ أن يصيح فركض يوسف عليه‌السلام على الأرض وأخذ بملابسه وجذبه فسقط على الأرض. وقال له : أنتم يا معشر العبرانيين تزعمون أن لا أحد أشد منكم فلما رأوا ما نزل بهم ورأوا أن لا سبيل إلى الخلاص خضعوا ، ثم قال لهم كبيرهم : (ارْجِعُوا) يا إخوتي (إِلى أَبِيكُمْ) دوني (فَقُولُوا) له متلطفين بخطابكم : (يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) صواع الملك من ذهب (وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا) أي رأينا أن الصواع استخرجت من وعائه (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ) أي باطن الحال (حافِظِينَ) (٨١) أي إن حقيقة الأمر غير معلومة لنا فإن الغيب لا يعلمه إلا الله فلعل الصواع دس في رحله ونحن لا نعلم ذلك (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) أي واسأل أهل قرية من قرى مصر التي كنا فيها (وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) أي واسأل

٥٤٤

أصحاب الإبل التي عليها الأحمال الذين جئنا معهم وهم قوم من كنعان من جيران يعقوب عليه‌السلام (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (٨٢) في أقوالنا فرجع التسعة إلى أبيهم فقالوا له : ما قال كبيرهم (قالَ) أي يعقوب : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أي بل زيّنت لكم أنفسكم إخراج بنيامين عني إلى مصر طلبا للمنفعة فعاد من ذلك ضرر (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي فعلي صبر بلا جزع ولما رجع القوم إلى يعقوب عليه‌السلام وأخبروه بالواقعة بكى وقال : يا بني لا تخرجون من عندي مرة إلا ونقص بعضكم ، ذهبتم مرة فنقص يوسف ، ومرة ثانية نقص شمعون ، ومرة ثالثة نقص روبيل وبنيامين ثم بكى وقال : (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ) أي بيوسف وأخيه الشقيق وأخيه الذي توقف في مصر (جَمِيعاً) فلا يتخلف منهم أحد وإنما قال يعقوب هذه المقالة على سبيل حسن الظن بالله تعالى ، لأنه إذا اشتد البلاء كان أسرع إلى الفرج ، ولأنه علم بما جرى عليه وعلى بنيه من رؤيا يوسف (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بحالي وحالهم (الْحَكِيمُ) (٨٣) أي الذي لم يبتلني إلا لحكمة بالغة (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ) أي وأعرض يعقوب عن بنيه حين بلغوه خبر بنيامين ، وخرج من بينهم كراهة لما سمع منهم. (وَقالَ يا أَسَفى) أي يا شدة حزني (عَلى يُوسُفَ) أي أشكو إلى الله أسفي ولم يسترجع يعقوب أي لم يقل : إنا لله وإنا إليه راجعون ، لأن الاسترجاع خاص بهذه الأمة (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) أي ضعف بصره من كثرة البكاء ، فإن الدمع يكثر عند غلبة البكاء ، فتصير العين كأنها بيضاء من بياض الماء الخارج منها (فَهُوَ كَظِيمٌ) (٨٤) أي ممسك على حزنه فلا يظهره أو ممتلئ من الحزن أو مملوء من الغيظ على أولاده. (قالُوا) أي الجماعة الذين كانوا في الدار من أولاد أولاده وخدمه : (تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) أي والله لا تزال تذكر يوسف (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) أي فاسدا في جسمك وعقلك (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) (٨٥) أي من الأموات فكأنهم قالوا : أنت الآن في بلاء شديد ، ونخاف عليك أن يحصل فيك ما هو أزيد منه وأرادوا بهذا القول منعه عن كثرة البكاء. (قالَ) أي يعقوب لهم : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) أي لا أذكر الحزن العظيم ولا الحزن القليل إلا مع الله (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٨٦) أي أعلم من رحمته ما لا تعلمون وهو أنه تعالى يأتيني بالفرج من حيث لا أحتسب ، أي إنه يعلم أن رؤيا يوسف صادقة ، ويعلم أن يوسف حي لأن ملك الموت قال له : اطلبه هاهنا وأشار إلى جهة مصر ويعلم أن بنيامين لا يسرق ، وقد سمع أن الملك ما آذاه وما ضرّ به فغلب على ظنه أن ذلك الملك هو يوسف فمن ذلك قال : (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) أي استعلموا بعض أخبار يوسف وأخيه بنيامين فإن حالهما مجهولة ومخوفة بخلاف حال روبيل (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) أي لا تقنطوا من فرج الله وفضله. وقرأ الحسن وقتادة «من روح الله» بضم الراء ، أي من رحمته (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (٨٧) لأن اليأس من رحمة الله تعالى لا يحصل إلا إذا اعتقد الإنسان أن الإله غير قادر على الكمال أو غير عالم

٥٤٥

بجميع المعلومات ، أو بخيل وكل واحد من هذه الثلاثة يوجب الكفر ، فثبت أن اليأس لا يحصل إلا لمن كان كافرا أي فقبلوا من أبيهم تلك الوصية فعادوا إلى مصر مرة ثالثة (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ) أي يوسف (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ) أي الملك القادر القوي : (مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) أي أصابنا ومن تركناهم وراءنا الهزال من شدة الجوع (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) أي بدراهم رديئة لا تقبل في ثمن الطعام ، وتقبل فيما بين الناس (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) أي أتممه لنا ما تتمم لنا بالدراهم الجياد (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) بالمسامحة عن ما بين الثمنين (إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) (٨٨) في الدنيا والآخرة.

وروي أنهم لما قالوا ذلك وتضرعوا إليه اغرورقت عيناه فعند ذلك (قالَ) مجيبا عما عرصوا به من طلب رد أخيهم بنيامين : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) أي ما أعظم ما أتيتم من أمر يوسف وأخيه من تفريق يوسف من أبيه وإفراده عن أخيه لأبيه وأمه (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) (٨٩) أي حال كونكم جاهلين عقبى فعلكم ليوسف من خلاصه من الجب وولايته السلطنة (قالُوا) أي إخوته : (أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ).

قرأ ابن كثير «إنك» على لفظ الخبر. وقرأ نافع «أ إنك» بفتح الألف غير ممدودة وبالياء. وقرأ أبو عمرو «آينك» بمد الألف وهو رواية قالون عن نافع. والباقون «أ إنك» بهمزتين وكل ذلك على الاستفهام ، لأنهم فهموا من فحوى كلامه عليه‌السلام أو من إبصار ثناياه وقت تبسمه عند تكلمه بذلك. وقال من قرأ على الخبر : إن الإخوة لم يعرفوا يوسف حتى رفع التاج عن رأسه فرأوا في فرقه علامة تشبه الشامة البيضاء كما كان ليعقوب وإسحاق مثل ذلك ، فلما عرفوه بتلك العلامة قالوا ذلك. (قالَ) جوابا لسؤالهم : (أَنَا يُوسُفُ وَهذا) أي بنيامين (أَخِي) أي شقيقي (قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بالجمع بيننا بعد التفرقة وبكل عز ولم يقل عليه‌السلام في الجواب : هو أنا ، بل صرّح بالاسم تعظيما لما نزل به عليه‌السلام من ظلم إخوانه وما عوّضه الله من النصر والملك فكأنه قال : أنا يوسف الذي ظلمتموني على أعظم الوجوه ، وأنا العاجز الذي قصدتم قتله ، والله تعالى أوصلني إلى أعظم المناصب كما ترون ؛ فكان في إظهار الاسم هذه المعاني ولهذا قال : وهذا أخي مع أنهم كانوا يعرفونه ، لأن مقصوده عليه‌السلام أن يقول وهذا أيضا مظلوم ، ثم صار هو منعما عليه من الله تعالى كما ترون (إِنَّهُ) أي الشأن والمحدث (مَنْ يَتَّقِ) معاصي الله (وَيَصْبِرْ) على أذى الناس والمحن (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (٩٠) ويقوم الظاهر مقام الضمير لاشتماله على النعتين اللذين هما التقوى والصبر (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ) أي فضلك الله (عَلَيْنا) بالعلم والحلم والحسن والعقل والملك (وَإِنْ كُنَّا) أي وإن الشأن كنا (لَخاطِئِينَ) (٩١) أي لمتعمدين في الإثم فهم اعتذروا منه وتابوا. (قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) خبر ثان ، أي إني حكمت في هذا اليوم بأن لا توبيخ مطلقا ، وتقدير الكلام :

٥٤٦

اليوم حكمت بهذا الحكم العام المتناول لكل الأوقات ، لأن «لا تثريب» نفي للماهية فيقتضي انتفاء جمع أفراد الماهية فذلك مفيد للنفي المشتمل لكل الأوقات (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) ما كان منكم (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (٩٢) يغفر الصغائر والكبائر أي لما بين يوسف لهم أنه أزال عنهم ملامة الدنيا بعد اليوم طلب من الله أن يزيل عنهم عقاب الآخرة ، وروي أن إخوة يوسف لما عرفوه أرسلوا إليه إنك تحضرنا في مائدتك بكرة وعشيا ، ونحن نستحي منك لما صدر منا من الإساءة إليك فقال يوسف عليه‌السلام : إن أهل مصر وإن ملكت فيهم كانوا ينظرون إلي بالعين الأولى ويقولون : سبحان من بلغ عبدا بيع بعشرين درهما ، ولقد شرفت الآن بإتيانكم وعظمت في العيون لما علم الناس أنكم إخوتي وأني من حفدة إبراهيم عليه‌السلام فقال يوسف : (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ) إلي (بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) (٩٣) من النساء والذراري والموالي وكانوا نحو سبعين إنسانا ، وحمل القميص يهوذا وقال : أنا أحزنته بحمل القميص ملطخا بالدم إليه فأفرحه كما أحزنته فحمله وهو حاف حاسر من مصر إلى كنعان وبينهما مسيرة ثمانين فرسخا. (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) أي خرجت الإبل التي عليها الأحمال لإخوة يوسف من العريش وهي قرية بين مصر وكنعان (قالَ أَبُوهُمْ) يعقوب لمن حضر عنده من أولاد بنيه وقرابته : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) أي إني لأشم ريح الجنة من قميص يوسف (لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) (٩٤) أي لو لا أن تنسبوني إلى الخرف وفساد الرأي من هرم لصدقتموني. والتحقيق أن يقال : إنه تعالى أوصل تلك الرائحة إلى سيدنا يعقوب على سبيل إظهار المعجزات ، لأن وصول الرائحة إليه من المسافة البعيدة ثمانية أيام مثلا أمر مناقض للعادة فيكون معجزة له (قالُوا) أي الحاضرون عنده : (تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) (٩٥) أي لفي حبك الأول ليوسف لا تنساه ولا تذهل عنه وكان يوسف عندهم قد مات (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ) وهو يهوذا بالقميص (أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ) أي ألقى البشير القميص على وجه يعقوب (فَارْتَدَّ بَصِيراً) أي فصار يعقوب بصيرا لعظم فرحه (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٩٦) من حياة يوسف وأن رؤياه صدق ، وأن الله يجمع بيننا (قالُوا) اعتذارا عمّا حصل منهم : (يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) أي اطلب لنا من الله غفر ذنوبنا (إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) (٩٧) أي متعمدين للإثم في أمر يوسف (قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) أي أدعو لكم ربي ليلة الجمعة وقت السحر ، (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٩٨) فقام إلى الصلاة في وقت السحر ، فلما فرغ منها رفع يديه وقال : اللهم اغفر لي جزعي على يوسف ، وقلة صبري عليه ، واغفر لأولادي ما فعلوه في حق يوسف. فأوحى الله تعالى إليه إني قد غفرت لك ولهم أجمعين.

روي أن يوسف عليه‌السلام وجّه إلى أبيه جهازا ومائتي راحلة مع إخوته ليأتوا بجميع أهله إلى مصر ، وهم يومئذ اثنان وسبعون ما بين رجل وامرأة ، وكانوا حين خرجوا من مصر مع موسى عليه‌السلام ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وسبعين رجلا سوى الذرية والهرمى ؛ وكانت الذرية

٥٤٧

ألف ألف ومائتي ألف ، فقد بورك فيهم كثيرا حتى بلغوا هذا العدد في مدة موسى مع أن بينه وبين يوسف أربعمائة سنة ، فخرج يوسف في أربعة آلاف من الجند لكل واحد منهم جبة من فضة وراية خز وقصب فتزينت الصحراء بهم واصطفوا صفوفا ، ولما صعد يعقوب ومعه أولاده وحفدته ونظر إلى الصحراء مملوءة بالفرسان مزينة بالألوان فنظر إليهم متعجبا فقال جبريل : انظر إلى الهواء فإن الملائكة قد حضرت سرورا بحالك ، وكانوا باكين محزونين مدة لأجلك ، وهاجت الفرسان بعضهم في بعض وصهلت الخيول ، وسبحت الملائكة ، وضرب بالطبول والبوقات ، فصار اليوم كأنه يوم القيامة ، وكان دخولهم في مصر يوم عاشوراء (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ) في محل ضرب فيه يوسف خيامه حين خرج من مصر لتلقي أبيه (آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) أي ضم يوسف إليه أباه وخالته واعتنقهما فإن أمه ماتت في النفاس بأخيه بنيامين. فمعنى بنيامين بالعبرانية : ابن الوجع ولما ماتت أمه تزوج أبوه بخالته فإن الرابة تدعى أما. (وَقالَ) أي يوسف لجميع أهله : (ادْخُلُوا مِصْرَ) للإقامة بها (إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) (٩٩) على أنفسكم وأموالكم وأهليكم لا تخافون أحدا ، وكانوا فيما سلف يخافون ملوك مصر. (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) أي لما نزلوا في مصر أجلس يوسف أباه وخالته معه في السرير الرفيع الذي كان يجلس عليه (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) أي وخروا الله سجدا شكرا لأجل يوسف واجتماعهم به وكان يوسف كالقبلة لهم كما سجدت الملائكة لآدم فإن الله أمر يعقوب بالسجود لحكمة خفية وذلك ، لأن إخوة يوسف ربما حملهم التكبر عن السجود على سبيل التواضع لا على سبيل العبادة ويوسف لم يكن راضيا بذلك السجود في قلبه لكن لما علم أن الله أمر يعقوب بذلك سكت ، ولأن يعقوب علم أنهم لو لم يفعلوا ذلك لظهر الفتر والأحقاد القديمة بعد كمونها ، فالسجود لزوال الاستعلاء والنفرة عن قلوبهم وذلك جائز في ذلك الزمان ، فلما جاءت هذه الشريعة نسخت هذه الفعلة. ويقال : كان سجودهم تحيتهم فيما بينهم كهيئة الركوع نحو فعل الأعاجم. (وَقالَ) أي يوسف : (يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) أي هذا السجود تصديق رؤياي الكائنة من قبل المصائب التي وقعت فكأن يوسف يقول : يا أبت لا يليق بمثلك على جلالتك في العلم والدين والنبوة أن تسجد لولدك إلا أن هذا أمر أمرت به فإن رؤيا الأنبياء حق وذلك قوله تعالى حكاية عن قول يوسف : (قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) وكأنه قيل ليعقوب : إنك كنت دائم الرغبة في وصال يوسف ، ودائم الحزن بسبب فراقه ، فإذا وجدته فاسجد له ، فكان الأمر بذلك السجود من تمام التشديد من الله تعالى على يعقوب عليه‌السلام قال سلمان : كان بين رؤياه وتأويلها أربعون عاما (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) أي وقد لطف بي محسنا إلي (إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) إنما ذكر إخراجه من السجن ولم يذكر إخراجه من الجب لئلا تخجل إخوته ، ولأن خروجه من السجن كان سببا لصيرورته ملكا ولوصوله إلى أبيه وإخوته ولزوال التهمة عنه وكان ذلك من أعظم نعمه تعالى عليه (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) أي من البادية وكان يعقوب وأولاده أصحاب ماشية فسكنوا البادية.

٥٤٨

وقال علي بن طلحة : أي من فلسطين (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) أي من بعد أن أفسد الشيطان بيننا بالحسد (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) أي مدبر لما يشاء من خفايا الأمور فإذا أراد الله حصول شيء سهل أسبابه فحصل ، وإن كان في غاية البعد عن الحصول عند العقول (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بالوجه الذي يسهل تحصيل ذلك الصعب (الْحَكِيمُ) (١٠٠) أي المحكم في فعله مبرأ عن العبث والباطل.

وروي أن يعقوب عليه‌السلام أقام معه أربعا وعشرين سنة فلما حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده إلى الشام ويدفنه عند قبر أبيه إسحاق فلما مات بمصر حمله يوسف وجعله في تابوت من ساج فوافق ذلك موت عيص أخي يعقوب ، وكانا قد ولدا في بطن واحد فدفنا في قبر واحد ، وكان عمرهما مائة وسبع وأربعين سنة فلما دفن يوسف أباه رجع إلى مصر وعاش بعد أبيه ثلاثا وعشرين سنة فلما تم أمره وعلم أن نعيم الدنيا لا يدوم سأل الله حسن العاقبة فقال : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) أي بعضا منه وهو ملك مصر (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي بعضا من تعبير الرؤيا (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي يا خالقهما (أَنْتَ وَلِيِّي) أي أنت الذي تتولى إصلاح جميع مهماتي (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً) دعا يوسف بذلك مع علمه بأن كل نبي لا يموت إلا مسلما إظهارا للعبودية والافتقار ، وشدة الرغبة في طلب سعادة الخاتمة ، وتعليما لغيره. والمطلوب هاهنا كمال حال المسلم وهو أن يستسلم لحكم الله تعالى على وجه يستقر قلبه على ذلك الاستسلام ، ويرضى بقضاء الله وقدره ويكون مطمئن النفس منشرح الصدر منفسح القلب في ذلك ، وهذه الحالة زائدة على الإسلام الذي هو ضد الكفر (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (١٠١) أي بآبائي المرسلين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ، ويعقوب في ثوابهم ودرجاتهم في الجنة وولد ليوسف أفراثيم وميشا ، وولد لأفرائيم نون وولد لنون يوشع فتى موسى عليه‌السلام ، ولقد توارثت الفراعنة من العمالقة مصر بعد يوسف ولم يزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف ، وآبائه إلى أن بعث الله تعالى موسى عليه‌السلام (ذلِكَ) أي خبر يوسف وإخوته (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) الذي لا يحوم حوله أحد (نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) أي عند إخوة يوسف (إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) أي حين عزموا على إلقائهم يوسف في غيابة الجب (وَهُمْ يَمْكُرُونَ) (١٠٢) أي والحال أنهم يحتالون بيوسف ويريدون بذلك قتل يوسف أي ذلك الخبر لا سبيل إلى معرفتك إياه إلا بالوحي ، وأما ما ينقله أهل الكتاب فليس على ما هو عليه ، ومثل هذا التحقيق بلا وحي لا يتصور إلا بالحضور فيكون معجزا ، لأن محمدا لم يطالع الكتب ولم يأخذ عن أحد من البشر وما كانت بلده بلد العلماء فإتيانه بهذه القصة على وجه لم يقع فيه غلط كيف لا يكون معجزا (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ) وهم قريش واليهود (وَلَوْ حَرَصْتَ) أي بالغت في طلب إيمانهم بإظهار الآيات الدالة على صدقك (بِمُؤْمِنِينَ) (١٠٣) لإصرارهم على العناد.

روي أن اليهود وقريشا لما سألوا عن قصة يوسف وعدوا أن يسلموا فلما أخبرهم بها على

٥٤٩

موافقة التوراة فلم يسلموا حزن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت هذه (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ) أي على تبليغ الأنباء التي أوحينا إليك (مِنْ أَجْرٍ) كما يفعله حملة الإخبار (إِنْ هُوَ) أي القرآن الذي أوحينا إليك (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) (١٠٤) عامة أي عظة من الله تعالى لهم في دلائل التوحيد والنبوة ، والمعاد والتكاليف والقصص فإن الوعظ العام ينافي أخذ الأجر من البعض ، وهذا القرآن مشتمل على هذه المنافع العظيمة ولا تطلب منهم مالا فلو كانوا عقلاء لقبلوا منك (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ) أي وكم من عدد شئت من العلامات الدالة على وجود الصانع ووحدته وكمال قدرته وعلمه وحكمته غير هذه الآية التي جئت بها كائنة (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الأجرام الفلكية وتغير أحوالها ومن الجبال والبحار وسائر ما في الأرض من العجائب (يَمُرُّونَ عَلَيْها) أي يشاهدونها ولا يتأملون فيها.

وقرئ برفع «والأرض» على الابتداء و «يمرون عليها» خبره. وقرأ السدي بنصبها على معنى ويطؤن الأرض. (وَهُمْ عَنْها) أي الآية (مُعْرِضُونَ) (١٠٥) أي غير متفكرين فيها فلا عجب إذا لم يتأملوا في الدلائل الدالة على نبوتك يا أشرف الخلق (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (١٠٦) أي لا يؤمن أكثرهم بوجود الله إلا في حال شركهم فالكافرون مقرون بوجود الله لكنهم يثبتون له شريكا في المعبودية. وعن ابن عباس أن أهل مكة قالوا : الله ربنا وحده لا شريك له والملائكة بناته.

وقال عبدة الأصنام : ربنا الله وحده والأصنام شفعاؤنا عنده ، وقالت اليهود : ربنا الله وحده وعزيز ابن الله ، وقالت النصارى : ربنا الله وحده لا شريك له والمسيح ابن الله ، وقال عبدة الشمس والقمر : ربنا الله وحده وهؤلاء أربابنا وكل من هؤلاء لم يوحدوا بل أشركوا. وقال المهاجرون والأنصار : ربنا الله وحده ولا شريك معه (أَفَأَمِنُوا) أي أهل مكة (أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ) أي أفلم يخافوا أن تأتيهم في الدنيا عقوبة تشملهم (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) أي فجأة من غير سبق علامة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١٠٧) بإتيانها غير مستعدين لها. (قُلْ) يا أشرف الخلق لأهل مكة : (هذِهِ) أي الدعوة إلى التوحيد والإيمان بالإخلاص (سَبِيلِي) أي ديني (أَدْعُوا إِلَى اللهِ) بهذا الدين (عَلى بَصِيرَةٍ) أي حجة واضحة (أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) «فأدعوا» إما مستأنف أو حال من الياء «وعلى بصيرة» إما حال من فاعل «أدعوا» أو من الياء ، و «أنا» إما توكيد للمستكن في «أدعوا» أو في «على بصيرة» ، «ومن اتبعني» عطف على فاعل «أدعو». قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «العلماء أمناء الرسل على عباد الله من حيث يحفظون لما يدعونهم إليه» (١). (وَسُبْحانَ اللهِ) أي وأسبح سبحان الله (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٠٨) الذين اتخذوا مع الله ضدا وولدا (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) وهذا رد على أهل مكة حيث أنكروا نبوة سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : هلا بعث الله

__________________

(١) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (١ : ٣٨٨) ، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (١ : ١٨٥) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٢٨٩٥٢).

٥٥٠

ملكا. والمعنى كيف يتعجبون من إرسالنا إياك مع أن سائر الرسل الذين كانوا من قبلك بشر مثلك حالهم كحالك ولم يبعث الله رسولا من أهل البادية. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من بدا جفا ومن اتبع الصيد غفل» (١). وقرأ حفص عن عاصم «نوحي» بالنون مبنيا للفاعل. والباقون بالياء مبنيا للمفعول (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) أي أهل مكة (فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي كيف صار آخر أمر المكذبين للرسل والآيات ممن قبلهم فيعتبروا بما حل بهم من عذابنا (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) أي الجنة (خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) معاصي الله (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٠٩).

وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بالتاء على الخطاب لأهل مكة. والباقون على الغيبة (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) أي لا يغررهم تماديهم فيما هم فيه من الراحة والرخاء فإن من قبلهم أمهلوا حتى أيس الرسل عن النصر عليهم في الدنيا (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا).

وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الذال المكسورة. والمعنى وظن القوم أن الرسل أخلفوا في وعدهم بالنصر ، أي أخلف الله وعده لرسلهم بالنصر. وقرأ الباقون بالتشديد. والمعنى وظن الرسل أنهم قد كذبهم الأمم الذين آمنوا بهم بما جاءوا به من الله وهذا التأويل منقول عن عائشة رضي‌الله‌عنها وهو أحسن الوجوه ، وقالت : إن البلاء لم يزل من الأنبياء حتى خافوا من أن يكذبهم الذين كانوا قد آمنوا بهم (جاءَهُمْ نَصْرُنا) لهم بهلاك أعدائهم (فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ) هم الرسل والمؤمنون بهم. وقرأ ابن عامر وعاصم بنون واحدة فعل ماض مبني للمفعول. والباقون بنونين الثانية ساكنة وبسكون الياء فعل مضارع (وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا) أي عذابنا (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (١١٠) أي المشركين إذا نزل بهم (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ) بفتح القاف أي قصص يوسف وإخوته وأبيه عليهم‌السلام. وقرئ بكسر القاف أي قصص الأنبياء وأممهم (عِبْرَةٌ) أي عظة عظيمة (لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي لذوي العقول الذين انتفعوا بمعرفتها (ما كانَ) أي هذا القرآن فقد تقدم ذكره في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [طه : ١١٣] (حَدِيثاً يُفْتَرى) فلا يصح من محمد أن يختلق فيه ولا يصح الكذب من القرآن فليس بكذب في نفسه (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي ولكن كان القرآن مصدق الكتب التي قبله (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) أي ومبينا بين الحلال والحرام وسائر ما يتصل بالدين (وَهُدىً) في الدنيا من الضلالة (وَرَحْمَةً) أي سببا لحصول الرحمة من العذاب يوم القيامة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١١١) أي يصدقونه فإنهم المنتفعون به.

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب الأضاحي ، باب : في اتباع الصيد ، والترمذي في كتاب الفتن ، باب : ٦٩ ، والنسائي في كتاب الصيد ، باب : اتباع الصيد ، وأحمد في (م ١ / ص ٣٥٧) ، وفيه «من سكن البادية» بدل «من بدا».

٥٥١

سورة الرعد

مكية ، إلا آيتين فهما مدنيتان وهما قوله تعالى : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ)

الآية. وقوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ). وقيل : مدنية ، سوى

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) الآيتين ، ثلاث وأربعون آية ، ثمانمائة وأربع

وخمسون كلمة ، ثلاثة آلاف وخمسمائة وخمسة وأربعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(المر) اسم للسورة أي هذه السورة مسماة بهذا الاسم.

وقال ابن عباس في رواية عطاء معناه أنا الله الملك الرحمن. وقال في رواية غيره : أنا الله أعلم وأرى ما تعملون وتقولون. (تِلْكَ) أي آيات السورة المسماة بـ «آلمر» (آياتُ الْكِتابِ) أي الكتاب العجيب الكامل (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) وهو القرآن (الْحَقُ) أي هو المطابق للواقع في كل ما نطق به (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) أي مشركي مكة (لا يُؤْمِنُونَ) (١) بالقرآن لإخلالهم بالنظر (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ) أي بغير دعائم (تَرَوْنَها) كلام مستأنف أو حال من السموات أي وأنتم ترون السموات مرفوعة بلا عماد ، أو صفة لعمد. والمعنى أن الله رفع السموات بغير عمد مرئية ، لكم من العيون بل لها عمد غير مرئية وهي قدرة الله تعالى أي إنما بقيت السموات واقفة في الجو العالي بقدرة الله تعالى. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي استولى الله على العرش بالحفظ والتدبير وظهر تصرفه في هذه الأشياء بعد خلق السموات. ويقال للسلطان والملك إذا استقام أمره : إنه استوى على عرشه أي سريره الذي يجلس عليه فالاستواء على العرش كناية عن جريان التدبير والحكم (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي وذللهما لمنافع الخلق (كُلٌ) منهما (يَجْرِي) في فلكه حسبما أريد منهما (لِأَجَلٍ مُسَمًّى) لمدة معينة فيها تتم دورته.

قال ابن عباس : للشمس مائة وثمانون منزلا كل يوم لها منزل وذلك يتم في ستة أشهر ، ثم إنها تعود مرة أخرى إلى واحد منها في ستة أشهر أخرى وكذلك القمر له ثمانية وعشرون منزلا ، فالله تعالى قدر لكل واحد منهما سيرا خاصا إلى جهة خاصة بمقدار خاص من السرعة والبطء فلزم أن يكون لهما بحسب كل لحظة حالة أخرى لم تكن حاصلة قبل ذلك (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي يدبر أمر

٥٥٢

الخلق بالإيجاد والإعدام والإحياء ، والإماتة والإغناء والإفقار ، وبإنزال الوحي ، وبعثة الرسل وتكليف العباد (يُفَصِّلُ الْآياتِ) أي يحدث الله بعض الآيات الدالة على وحدانيته وكمال قدرته عقب بعض على سبيل التمييز والتفصيل (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (٢) أي لكي تصدقوا بالبعث بعد الموت فهذه الدلائل المذكورة كما تدل على وجود الصانع تدل على صحة القول بالحشر والنشر ، لأن من قدر على خلق هذه الأشياء وتدبيرها على كثرتها فلأن يقدر على النشر والحشر أولى. ويروى أن رجلا قال لعلي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه : كيف يحاسب الله الخلق دفعة واحدة؟ فقال : كما يرزقهم الآن دفعة واحدة ، وكما يسمع نداءهم ، ويجيب دعاءهم الآن دفعة واحدة. (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) أي بسطها طولا وعرضا على الماء (وَجَعَلَ فِيها) أي الأرض (رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت أوتادا لها (وَأَنْهاراً) أي مجاري للماء واسعة لمنافع الخلق (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي وجعل كل نوع من أنواع الثمرات الموجودة في الدنيا صنفين : إما في اللون كالأبيض والأسود ، أو في الطعم : كالحلو والحامض ، أو في القدر : كالكبير والصغير أو في الكيفية : كالحار والبارد وما أشبه ذلك. (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) أي يستر النهار بالليل (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور من مد الأرض وإيتادها بالرواسي وإجراء الأنهار ، وخلق الثمرات ، وإغشاء الليل النهار (لَآياتٍ) دالة على وحدانية الله تعالى (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٣) فيستدلون بالصنعة على الصانع وبالسبب على المسبب (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ) أي بقاع مختلفة في الأوصاف (مُتَجاوِراتٌ) أي متقاربات فمنها أرض سبخة رديئة وبجنبها أرض عذبة جيدة ومنها صلبة وبقربها رخوة إلى غير ذلك والاختلاف من دلائل قدرته تعالى (وَجَنَّاتٌ) أي بساتين (مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ) أي تنبت من أصل واحد ثلاث نخلات فأكثر أي مجتمع أصول الأربعة مثلا في أصل واحد (وَغَيْرُ صِنْوانٍ) أي هو مفترق أصولها واحدة واحدة.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم «وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان» كلها بالرفع عطفا على قوله : «وجنات». والباقون بالجر عطفا على «أعناب». وقرأ حفص عن عاصم في رواية القواس صنوان بضم الصاد والباقون بكسرها (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) في الطبع سواء كان السقي بماء الأمطار أو بماء الأنهار.

قرأ عاصم وابن عامر يسقي بالياء أي كل المذكور من القطع وما بعده. والباقون بالتاء أي جنات (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها) أي الجنات (عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) بضم الهمزة أي في المهيأ للأكل طعما وشكلا ورائحة ، وحلاوة وحموضة ، ولونا وقدرا ، ونفعا وضرا. وقرأ حمزة والكسائي «يفضل» بالياء عطفا على يدبر. والباقون بالنون (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي المفضل من أحوال القطع والجنات (لَآياتٍ) أي دلالات كثيرة ظاهرة (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٤) أي يستعملون عقولهم في

٥٥٣

التدبر (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي وإن تعجب يا أكرم الخلق من تكذيبهم إياك بعد ما كانوا قد حكموا عليك إنك من الصادقين فحقيق بالعجب قولهم : أنعاد خلقا جديدا بعد الموت ، وبعد أن صرنا ترابا ، وفينا الروح كما كنا قبل الموت ، فإنهم عرفوا أن الله على كل شيء قدير فمن كانت قدرته وافية بهذه الأشياء العظيمة كيف لا تكون وافية بإعادة الإنسان بعد موته ، لأن القادر على الأقوى قادر على الأضعف بالأولى (أُولئِكَ) أي المنكرون لقدرته تعالى على البعث بعد ما عاينوا الآيات الباهرة (الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) لأنهم أنكروا قدرته وعلمه وصدقه في خبره (وَأُولئِكَ) أي أهل الكفر (الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) يوم القيامة (وَأُولئِكَ) أي أهل الأغلال (أَصْحابُ النَّارِ) أي سكان النار (هُمْ فِيها) أي النار (خالِدُونَ) (٥) لا ينكفون عنها (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ) استهزاء منهم (بِالسَّيِّئَةِ) أي بنزول العذاب عليهم (قَبْلَ الْحَسَنَةِ) أي قبل طلب الإحسان إليهم بالإمهال ، وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يهددهم تارة بعذاب القيامة وتارة بعذاب الدنيا فكلما هددهم بعذاب القيامة ، أنكروا البعث والجزاء وكلما هددهم بعذاب الدنيا قالوا له استهزاء بإنذاره : فجئنا بهذا العذاب (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) أي والحال أنه قد مضت العقوبات النازلة على أمثالهم من المكذبين فما لهم لا يعتبرون بها (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ) أي لذو إمهال لهم وتأخير للعذاب عنهم (عَلى ظُلْمِهِمْ) أي حال كونهم ظالمين أنفسهم بالمعاصي (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) (٦) فيعاقب من يشاء منهم حين يشاء فتأخير ما استعجلوه ليس للإهمال (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهم المستعجلون بالعذاب أيضا (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي قالوا عنادا : هلا أنزل على محمد من ربه علامة لنبوته كما أنزل على موسى وعيسى عليهما‌السلام قال تعالى له صلى‌الله‌عليه‌وسلم إزالة لرغبته في حصول مقترحاتهم : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) أي إنما أنت يا أشرف الخلق رسول مخوف من سوء عاقبة ما يأتون ويذرون ولا حاجة إلى إلزامهم بإتيان ما اقترحوا من الآيات (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (٧) أي نبي مخصوص له هداية مخصوصة فلما كان الغالب في زمان موسى هو السحر جعل معجزته من جنس ذلك وهو العصا واليد ، ولما كان الغالب في أيام عيسى الطب جعل معجزته ما كان من جنس ذلك وهو إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ولما كان الغالب في أيام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الفصاحة جعل معجزته ما كان لائقا بذلك الزمان ، وهو فصاحة القرآن ، فلما كان العرب لم يؤمنوا بهذه المعجزة مع كونها أليق بطباعهم فبأن لا يؤمنوا عند إظهار سائر المعجزات أولى (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) من حين العلوق إلى زمن الولادة من أي شيء متحمل وعلى أي حال (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) أي في عدد الولد واحد واثنين وثلاثة وأربعة ، وفي جثته فقد يكون الولد مخدجا وتاما وفي مدة ولادته فقد يكون مدة الحمل تسعة أشهر وأزيد عليها إلى سنتين عند أبي حنيفة وإلى أربعة سنين عند الشافعي وإلى خمسة عند مالك. (وَكُلُّ شَيْءٍ) من الأشياء (عِنْدَهُ) أي في علمه تعالى (بِمِقْدارٍ) (٨) أي

٥٥٤

بحد لا يجاوزه ولا ينقص عنه (عالِمُ الْغَيْبِ) أي ما غاب عن العباد (وَالشَّهادَةِ) أي ما علمه العباد (الْكَبِيرُ) أي العظيم الذي يصغر غيره بالنسبة إلى كبريائه (الْمُتَعالِ) (٩) أي المنزه عن كل ما لا يجوز عليه في ذاته (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ) في نفسه فلم يظهره على أحد (وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) أي أظهره لغيره.

قال ابن عباس : أي سواء ما أضمرته القلوب وأظهرته الألسنة (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ) أي مستتر (بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ) أي بارز يراه كل أحد (بِالنَّهارِ) (١٠).

وقال مجاهد : أي وسواء من أقدم على القبائح سرا في ظلمات الليل ومن أتى بها ظاهرا بالنهار ، أي فإن علمه تعالى محيط بالكل (لَهُ) أي لكل ممن أسر أو جهر والمستخفي والسارب أو لعالم الغيب والشهادة (مُعَقِّباتٌ) أي ملائكة حفظة يعقب بعضهم بعضا في المجيء إلى من ذكر ويعقبون أقواله وأفعاله بالكتب (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) أي يحيطون بمن ذكر فيعدون عليه أعماله وأقواله ولا يشذ من حفظهم إياها شيء أصلا (يَحْفَظُونَهُ) أي من ذكر (مِنْ أَمْرِ اللهِ) أي من بأس الله حين أذنب بالاستمهال أو يراقبون أحواله من أجل أمر الله وقد قرئ به أو بسبب أمر الله كما تدل له قراءة علي وابن عباس ، وزيد بن علي وعكرمة بأمر الله (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ) من أمن ونعمة (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) بترك الشكر (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً) أي هلاكا (فَلا مَرَدَّ لَهُ) أي لم تغن المعقبات شيئا فلا راد لعذاب الله ولا ناقض لحكمه (وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ) أي من غير الله (مِنْ والٍ) (١١) أي مانع من عذاب الله الذي أراده بهم بتغيير ما بهم (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) وهو لمعان يظهر من خلال السحاب (خَوْفاً) أي خائفين من وقوع الصواعق (وَطَمَعاً) أي وطامعين في نزول الغيث ، أو ذا خوف لمن له في المطر ضرر كالمسافر ، وكمن يجفف التمر والزبيب والقمح وذا طمع لمن له فيه نفع كالحراث (وَيُنْشِئُ السَّحابَ) أي ويرفع الغمام المنسحب في الجو (الثِّقالَ) (١٢) بالماء (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ). قيل : الرعد اسم ملك موكل بالسحاب ، والصوت المسموع لنا هو صوته بالتسبيح ، وقيل : هو صوت الآلة الذي يتولد عند ضرب السحاب بها ، وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : أن اليهود سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الرعد ما هو؟ فقال : «ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق ـ أي آلات من نار ـ يسوق بها السحاب حيث شاء الله» قالوا : فما الصوت الذي نسمع؟ قال : «زجره السحاب» (١) ويقال : الرعد صوت السحاب وتسبيحه هو دلالته على وحدانية الله تعالى وفضله المستلزم لحمده (وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) أي وتسبح جميع الملائكة من هيبة الله تعالى. وفي رواية عن ابن عباس : الرعد ملك موكل بالسحاب يسوقه حيث يؤمر ، وأنه يحوز الماء في نقرة إبهامه وأنه يسبح الله تعالى ، فإذا

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب التفسير ، باب : تفسير سورة ١٣ ، وأحمد في (م ١ / ص ٢٧٤).

٥٥٥

سبح لا يبقى ملك في السماء إلا رفع صوته بالتسبيح فعندها ينزل المطر. (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ) وهي نيران تنشأ من السحاب (فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ) أي في شأن الله (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) (١٣) أي العقاب نزلت هذه الآية في عامر بن الطفيل ، وأربد بن ربيعة أخي لبيد بن ربيعة فإنهما أتيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخاصمانه ويريدان الفتك به صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أربد أخو لبيد : أخبرنا عن ربنا أمن نحاس هو أم حديد؟ فلما رجع أرسل الله عليه صاعقة في يوم صحو صائف فأحرقته ، ورمى عامرا بغدة كغدة البعير فمات على ظهر فرسه. وعن الحسن أنه قال : كان رجل من طواغيت العرب بعث إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفرا يدعونه إلى الله تعالى ورسوله فقال لهم : أخبروني من رب محمد هذا الذي تدعونني إليه فهل هو من ذهب أم من فضة أم من حديد أم من نحاس؟ فاستعظموا مقالته فرجعوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا رسول الله ما رأينا رجلا أكفر قلبا ولا أعتى على الله منه؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ارجعوا إليه» فرجعوا إليه فقال : أجيب محمدا إلى رب لا أراه ولا أعرفه ، فرجعوا إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : يا رسول الله ما زادنا على مقالته الأولى بل أخبث منها فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ارجعوا إليه» فرجعوا إليه فبينما هم عنده ينازعونه ارتفعت سحابة فكانت فوق رؤوسهم فرعدت وبرقت ورمت بصاعقة فاحترق الكافر وهم جلوس عنده ، فرجعوا ليخبروا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخبر ، فاستقبلهم الأصحاب فقالوا : احترق صاحبكم قالوا : من أين علمتم؟ قالوا : أوحى الله إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله تعالى : (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ) إلخ. (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) أي لله الدعوة المطابقة للواقع حيث جعلها افتتاح الإسلام بحيث لا يقبل بدونها وهي شهادة أن لا إله إلا الله ، وهي كلمة الإخلاص. (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ) والأصنام الذين يعبدهم الكفار من غير الله لا يستجيبون لهم بشيء من طلباتهم إلا استجابة كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه من بعيد (لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ) أي ليبلغ الماء بنفسه من غير أن يغترف إلى فيه وما الماء ببالغ فيه أبدا لكونه جمادا لا يشعر بعطشه ، ولا يبسط يده إليه ، فكما لا يبلغ الماء في هذا الرجل العطشان كذلك لا تنفع الأصنام من عبدها (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) (١٤) أي وما عبادة الكافرين إلا في ضياع لا منفعة فيها ، لأنهم إن عبدوا الأصنام لم يقدروا على نفعهم ، وإن عبدوا الله لم يقبل منهم لإشراكهم (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) أي ولله يعبد من في السموات ومن في الأرض من الملائكة ، وبعض المؤمنين من الثقلين حال كونهم طائعين بسهولة ونشاط وحال كونهم كارهين للعبادة بمشقة لصعوبة ذلك على بعض المؤمنين (وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) (١٥) أي ولله يسجد ظلال من يسجد غدوة عن أيمانهم وعشية عن شمائلهم. (قُلْ) يا أشرف الخلق لقومك : (مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ) أمر الله رسوله بهذا الجواب إشعارا بأنه متعين للجوابية وبأنهم لا ينكرونه ألبتة ، ثم ألزمهم الحجة فقال : (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي أبعد إقراركم هذا عبدتم من غير الله أربابا (لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً) يستجلبونه (وَلا ضَرًّا) يدفعونه

٥٥٦

عن أنفسهم فبالأولى أن يكونوا عاجزين عن تحصيل المنفعة للغير ، ودفع المضرة عن الغير ، فإذا عجزوا عن ذلك كانت عبادتهم محض العبث والسفه ، (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) أي قل لهم : هل يستوي الجاهل بمستحق العبادة والعالم بذلك ، وهل يستوي الظّلمت والنّور أي قل لهم : هل يستوي الجاهل بمستحق العبادة والعالم بذلك ، وهل يستوي الجهل بالحجة والعلم بها (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) أي بل أجعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم بسبب ذلك وقالوا : هؤلاء خلقوا كخلقه تعالى فاستحقوا العبادة كما استحقها ، أي هذه الأشياء التي زعموا أنها شركاء لله ليس لها خلق يشبه خلق الله حتى يقولوا : إنها تشارك الله في كونها خالقة فوجب أن تشاركه في الألوهية واستحقاق العبادة ، بل هؤلاء المشركون يعلمون بالضرورة إن هذه الأصنام لم يصدر عنها فعل ألبتة ، وإذا كان الأمر كذلك كان حكمهم بكونها شركاء لله في الألوهية محض الجهل (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) فلا شريك له في الخلق فلا يشاركه في استحقاق العبادة أحد (وَهُوَ الْواحِدُ) أي المنفرد بالألوهية (الْقَهَّارُ) (١٦) لكل ما سواه (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) أي من جهتها (ماءً فَسالَتْ) بذلك الماء (أَوْدِيَةٌ) أي أنهار (بِقَدَرِها) من الماء فإن صغر الوادي قل الماء وإن اتسع الوادي كثر الماء (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ) أي الجاري (زَبَداً) أي غثاء (رابِياً) أي منتفخا فوق الماء (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ) أي من الجواهر كالنحاس والذهب والفضة (ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ) أي لطلب اتخاذ زينة أو اتخاذ متاع كالأواني (زَبَدٌ) أي خبث (مِثْلُهُ) أي مثل وسخ الماء في أن كلا منهما شيء من الأكدار (كَذلِكَ) أي مثل هذا التبيين للأمور الأربعة الماء والجوهر والزبدين ، (يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) أي يبين الله مثل الإيمان والكفر (فَأَمَّا الزَّبَدُ) من الماء والجوهر (فَيَذْهَبُ جُفاءً) أي يرميه الماء إلى الساحل ويرميه الكير ، (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ) من الماء الصافي والفلز الخالص (فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) فالماء : يثبت بعضه في منافعه ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والآبار ، والفلز : يصاغ من بعضه أنواع الحلي ، ويتخذ من بعضه أصناف الآلات فينتفع بكل من ذلك مدة طويلة. والحاصل إن القرآن شبه بالماء فالله أنزله من سماء الكبرياء والإحسان. وشبهت القلوب المنورة بالأودية لأن القلوب تستقر فيها أنوار علوم القرآن ، كما أن الأودية يستقر فيها الماء فيحصل في كل قلب من أنوار علوم القرآن ما يليق به من قوة فهمه وقصوره كما يحصل في كل واد من مياه الأمطار ما يليق به من سعته وضيقه ، وكما أن الماء يعلوه وضر ، والفلز يخالطه خبث ، ثم إن ذلك يذهب ويبقى الخالص منه كذلك بيانات القرآن تختلط بها شبهات ، ثم تزول ويبقى العلم والدين في الآخر ، وشبهت القلوب المظلمة بالسيل أي فاحتملت القلوب المنورة الحق بقدر سعتها بالنور واحتملت القلوب المظلمة باطلا كثيرا بهواها. (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الضرب العجيب (يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) (١٧) أي يبين الله أمثال الحق والباطل فيجليها في غاية الوضوح (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) أي للذين أجابوا ربهم إلى ما دعاهم إليه من التوحيد والتزام

٥٥٧

الشرائع الواردة على لسان رسوله المنفعة الدائمة الخالصة عن شوائب المضرة ، المقرونة بالإجلال ؛ وهي الجنة (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ) أي والأشقياء الذين عاندوا الحق الجلي لو أن لهم ما في الأرض من أصناف الأموال جميعا لجعلوا ما في الأرض ، ومثله فداء أنفسهم من العذاب ، لأن محبوب كل إنسان ذاته فإذا كانت في ضرر وكان مالكا لكل شيء فإنه يرضى أن يجعل جميع ملكه فداء لها لأنه حب ما سواها ليكون وسيلة إلى مصالحها (أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ) بأن يحاسبوا بكل ذنب فلا يغفر منه شيء (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) (١٨) أي المستقر هي (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى) أي أفمن يعلم أن القرآن الذي مثل بالماء النازل من السماء وبالأبريز الخالص في المنفعة هو الحق كمن لا يعلم! (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (١٩) أي إنما يتعظ بالقرآن وينتفع بهذه الأمثلة ذوو العقول الذين يطلبون من كل صورة معناها (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) أي بما كلف الله العبد به فيدخل فيه الإتيان بجميع المأمورات والوفاء بالعقود في المعاملات وأداء الأمانات (وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) (٢٠) وهو ما التزمه العبد من أنواع الطاعات بحسب اختيار نفسه كالنذر بالطاعات والخيرات (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) وهو رعاية جميع الحقوق الواجبة للعباد فيدخل فيه صلة الرحم والقرابة الثابتة بسبب أخوة الإيمان وعيادة المريض وشهود الجنائز ، وإفشاء السلام على الناس ، والتبسم في وجوههم ، وكف الأذى عنهم ويدخل في العباد كل حيوان حتى الدجاجة والهرة (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) والخشية نوعان : خوف من أن يقع خلل في طاعاته ، وخوف هيبة ، وإن كان العبد في عين طاعته (وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) (٢١) فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا (وَالَّذِينَ صَبَرُوا) على فعل العبادات وعلى ثقل الأمراض والمضار والغموم وعلى ترك المشتهيات (ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) أي طلبا لرضاه خاصة من غير أن ينظروا إلى جانب الخلق رياء وسمعة ، ولا إلى جانب النفس زينة وعجبا ، فكما أن العاشق يرضى بضرب معشوقه لالتذاذه بالنظر إلى وجهه فكذلك العبد يرضى بالمحنة لاستغراقه في معرفة نور الله تعالى (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) وأفردها بالذكر تنبيها على كونها أشرف من سائر العبادات ولا يمتنع إدخال النوافل فيها (وَأَنْفَقُوا) نفقة واجبة ومندوبة (مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا) لمن لم يعرف بالمال أو لمن لا يتهم بترك الزكاة أو عند إعطائه من تمنعه المروءة من أخذه ظاهرا أو في التطوع (وَعَلانِيَةً) لغير ذلك (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي يدفعون المعصية بالتوبة ولا يجازون الشر بالشر بل يجازون الشر بالخير (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) (٢٢) أي عاقبة الدنيا ومرجع أهلها (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) أي يدخل جنات عدن المنعوتون بتلك النعوت الجليلة ، ومن آمن كما آمنوا من أصولهم وإن علوا ذكورا كانوا أو إناثا ، ومن أزواجهم اللاتي متن في عصمتهم وذرياتهم وإن لم يعمل مثل أعمالهم ، لأن الله تعالى جعل من ثواب المطيع سروره بحضور أهله معه في الجنة وإنما يلحق بهم من آمن

٥٥٨

من أهلهم وإن لم يبلغ مبلغ فضلهم كرامة لهم وتعظيما لشأنهم وهو دليل على أن الدرجة تعلو بالشفاعة وقوله : «جنات عدن» بيان لـ «عقبى» أو خبر مبتدأ مضمر. (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) (٢٣) لكل واحد منهم خيمة من درة مجوفة لها أربعة آلاف باب لكل باب مصراع من ذهب يدخل عليهم من كل باب ملائكة يقولون لهم : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي سلمكم الله دعاء لهم وبشارة بدوام السلامة (بِما صَبَرْتُمْ) متعلق بعليكم أو بمحذوف أي هذه الكرامة العظمى بسبب صبركم على الطاعات ، وترك المحرمات ، وعلى المحن (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (٢٤) أي نعم عاقبة الدار التي كنتم عملتم فيها هذه الكرامات التي ترونها (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) أي لا يعملون مقتضى الأدلة (مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) أي من بعد أن وثق الله تلك الأدلة ، أو المعنى يتركون فرائض الله من بعد توكيده (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) أي ما أوجب الله وصله فيدخل فيه وصل الرسول بمعاونة دينه ووصل سائر من له حق (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالدعاء إلى غير دين الله وبالظلم في النفوس والأموال (أُولئِكَ) أي الموصوفون بالقبائح (لَهُمُ اللَّعْنَةُ) أي الأبعاد من خيري الدنيا والآخرة إلى نقمة (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (٢٥) أي سوء عاقبة الدنيا (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) أي يوسعه (لِمَنْ يَشاءُ) من عباده (وَيَقْدِرُ) أي يعطي من يشاء منهم بقدر كفايته لا يفضل عنه شيء أي إن فتح باب الرزق في الدنيا لا تعلق له بالكفر والإيمان ، بل هو متعلق بمجرد مشيئته تعالى فقد يوسع على الكافر استدراجا ، ويضيق على المؤمن امتحانا لصبره وتكفيرا لذنوبه ، فالدنيا دار امتحان (وَفَرِحُوا) أي فرح من بسط الله له رزقه من كفار مكة فرح بطر (بِالْحَياةِ الدُّنْيا) لا فرح سرور بفضل الله تعالى (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) (٢٦) أي إنهم رضوا بحظ الدنيا معرضين عن نعيم الآخرة ، والحال أن ما بطروا به في مقابلة ما أعرضوا عنه شيء قليل النفع سريع النفاد كمتاع البيت وزاد الراعي (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي أهل مكة (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي هلا أنزل على محمد من ربه علامة لنبوته كما كانت للرسل الأولين (قُلْ) لهؤلاء المعاندين : (إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) عن دينه (وَيَهْدِي إِلَيْهِ) أي يرشد إلى دينه (مَنْ أَنابَ) (٢٧) أي من أقبل إليه أي ما أعظم عنادكم في الآيات التي ظهرت على يد الرسول إن الله يضل من كان على صفتكم من شدة الشكيمة على الكفر فلا سبيل إلى اهتدائهم وإن أنزلت عليهم كل آية طلبوها ، ويهدي إليه بأدنى آية جاء بها الرسول من كان على خلاف صفتكم (الَّذِينَ آمَنُوا) بما جاء به الرسول (وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) أي بكلام الله أي إن علم المؤمنين بكون القرآن معجزا يوجب حصول الطمأنينة لهم في كون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبيا حقا من عند الله وإن شكهم في أنهم أتوا بالطاعات كاملة يوجب الوجل في قلوبهم. (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (٢٨) أي إن الإكسير إذا وقعت منه ذرة على الجسم النحاسي انقلب ذهبا باقيا على كر الأزمان ، فإكسير جلال الله تعالى إذا وقع في القلب أولى أن يقلبه جوهرا صافيا نورانيا لا يقبل التغير (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ).

٥٥٩

روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «طوبى شجرة في الجنة غرسها الله بيده تنبت الحلي والحلل وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة». ويقال : طوبى شجرة في الجنة ساقها من ذهب وثمرها من كل لون ، وثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها فتنبت الحلي والحلل وأصلها في دار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأغصانها متدليات في كل دار وغرفة في الجنة وتحتها كثبان المسك والعنبر والزعفران وينبع من أصلها عينان الكافور والسلسبيل (وَحُسْنُ مَآبٍ) (٢٩) أي مقر (كَذلِكَ) أي مثل إرسالنا الأنبياء إلى أمم وإعطائنا إياهم كتبا تتلى عليهم (أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ) أي إلى جماعة كثيرة (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ) أي قد تقدمتها أمم كثيرة (لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ) أي على أمتك (الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) فلما ذا اقترحوا غيره (وَهُمْ) أي والحال أن أمتك (يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) الذي رحمته وسعت كل شيء وما بهم من نعمة فمنه وكفروا بنعمته في إرسال مثلك إليهم وفي إنزال هذا القرآن المعجز عليهم.

روى الضحاك عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اسجدوا للرحمن» أي اخضعوا بالصلاة وغيرها للرحمن أي الذي لا نعمة لكم إلا منه قالوا : وما الرحمن؟ متجاهلين في معرفته فضلا عن معرفة نعمته معبرين بأداة ما لا يعقل. قال الله تعالى : (قُلْ) لهم يا أشرف الخلق : (هُوَ) أي الرحمن الذي أنكرتم معرفته (رَبِّي) أي خالقي ، ومبلغي إلى مراتب الكمال (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا مستحق للعبادة سواه. (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في جميع أموري لا على أحد سواه (وَإِلَيْهِ مَتابِ) (٣٠) أي مرجعي في الآخرة. (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ) أي زعزعت بتلاوته (الْجِبالُ) من أماكنها كما فعل ذلك بالطور لموسى عليه‌السلام (أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) أي شققت وجعلت أنهارا وعيونا كما فعل بالحجر حين ضربه موسى بعصاه أو جعلت قطعا بعيدة (أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) بعد أن أحييت بقراءته عليها كما أحييت لعيسى عليه‌السلام لكان هو هذا القرآن لكونه ينطوي على عجائب آثار قدرة الله تعالى.

روي أن أهل مكة منهم أبو جهل بن هشام وعبد الله بن أمية قعدوا في فناء الكعبة فأتاهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرض الإسلام عليهم ، فقال له عبد الله بن أمية المخزومي : إن سرّك أن نتبعك فسير جبال مكة بالقرآن فادفعها عنا حتى ينفسح المكان علينا ، لأنها ضيقة لمزارعنا ، واجعل لنا فيها أنهارا وعيونا لنغرس الأشجار ، ونزرع ، فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حيث سخّر له الجبال تسير معه ، أو سخر لنا الريح لنركبها إلى الشام لميرتنا وحوائجنا ، ونرجع في يومنا كما سخرت لسليمان فلست بأهون على ربك من سليمان كما زعمت أو أحيي لنا جدك قصيا لنسأله أحق ما تقول أم باطل؟ فإن عيسى كان يحيي الموتى ولست بأهون على الله منه فأنزل الله تعالى هذه الآية (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً) إلخ (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) أي بل الله الأمر الذي يدور عليه فلك

٥٦٠