مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

واحدة وهي الإسلام بحيث لا يختلف فيه أحد ولكن لم يشأ ذلك (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (١١٨) (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) أي ولا يزالون مخالفين لدين الحق إلا قوما قد هداهم الله تعالى بفضله إليه فلم يخالفوه (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) أي وللمذكور من الاختلاف والرحمة خلق الناس كافة فإن الله تعالى خلق أهل الباطل وجعلهم مختلفين ، ومصيرهم النار. وخلق أهل الحق وجعلهم متفقين ومصيرهم الجنة. (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) أي ثبت قول ربك (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١١٩) أي من كفارهما أجمعين (وَكُلًّا) أي كل نبأ (نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ) أي من أخبارهم وما جرى لهم مع قومهم (ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) أي ما نقوي به قلبك لتصير على أذى قومك وتتأسى بالرسل الذين خلوا من قبلك (وَجاءَكَ فِي هذِهِ) الأنباء المقصوصة عليك (الْحَقُ) أي البراهين الدالة على التوحيد والنوبة (وَمَوْعِظَةٌ) أي تنفير عن الدنيا (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (١٢٠) أي إرشاد لهم إلى الأعمال الصالحة (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) بهذا الحق (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي ثابتين على حالتكم وهي الكفر (إِنَّا عامِلُونَ) (١٢١) على حالتنا وهي الإيمان. أو المعنى افعلوا كل ما تقدرون عليه في حقي من الشر فنحن عاملون على قدرتنا. والمراد بهذا الأمر : التهديد (وَانْتَظِرُوا) ما يعدكم الشيطان به من الخذلان (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (١٢٢) ما وعدنا الرحمن من أنواع الغفران والإحسان (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإن علمه تعالى نافذ في جميع الكليات والجزئيات والحاضرات والغائبات عن العباد (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) أي أمر الخلق كلهم في الدنيا والآخرة (فَاعْبُدْهُ) أي فاشتغل بالعبادات الجسدانية والروحانية أما العبادات الجسدانية فأفضل الحركات الصلاة وأكمل السكنات الصيام وأنفع البر الصدقة وأما العبادات الروحانية فهي الفكر والتأمل في عجائب صنع الله في ملكوت السموات والأرض (وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) أي ثق به تعالى في جميع أمورك فإنه كافيك (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (١٢٣).

وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالتاء على الخطاب ، أي فإنه تعالى لا يضيع طاعات المطيعين ، ولا يهمل أحوال المتمردين الجاحدين ، وذلك بأن يحضروا في موقف القيامة ويحاسبوا على النقير والقمطير ، ويعاتبوا في الصغير والكبير ، ثم يحصل عاقبة الأمر فريق في الجنة وفريق في السعير.

٥٢١

سورة يوسف

مكية ، مائة وإحدى عشرة آية ، ألف وسبعمائة وخمس

وتسعون كلمة ، سبعة آلاف وثلاثمائة وسبعة أحرف

بسم الله الرحمن الرحيم

وعن ابن عباس أنه قال : سألت اليهود النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : حدثنا عن أمر يعقوب وولده ، وشأن يوسف. فنزلت هذه السورة (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) (١) أي تلك الآيات التي نزلت إليك في هذه السورة المسماة (الر) هي آيات الكتاب المبين وهو القرآن الذي بين الهدى وقصص الأولين (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) أي هذا الكتاب الذي فيه قصه يوسف في حال كونه (قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٢) أي لكي تفهموا معانيه في أمر الدين فتعلموا أن قصه كذلك ممن لم يتعلم القصص معجز لا يتصور إلا بالإيحاء. (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) أي بسبب إيحائنا إليك يا أكرم الرسل هذه السورة لما فيه من العبر من أنه لا مانع من قدرة الله تعالى ، وأن الحسد سبب للخذلان ، وأن الصبر مفتاح الفرج (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ) أي وإنه أي الشأن كنت من قبل إيحائنا إليك هذه السورة (لَمِنَ الْغافِلِينَ) (٣) عن هذه القصة لم تخطر ببالك ولم تقرع سمعك قط (إِذْ قالَ يُوسُفُ) منصوب بقال : يا بني ، أي قال يعقوب : يا بني وقت قول يوسف له : كيت وكيت أو بدل من أحسن القصص بدل اشتمال (لِأَبِيهِ) يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام (يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ) في منام النهار (أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٤). قال وهب : رأى يوسف عليه‌السلام وهو ابن سبع سنين أن إحدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة وإذا عصا صغيرة وثبت عليها حتى ابتلعتها ، فذكر ذلك لأبيه فقال : إياك أن تذكر هذا لإخوتك ، ثم رأى وهو ابن ثنتي عشرة الشمس والقمر والكواكب تسجد له فقصها على أبيه فقال : لا تذكرها لهم فيبغوا لك الغوائل.

روي عن جابر رضي‌الله‌عنه أن يهوديا جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد أخبرني عن النجوم التي رآهن يوسف عليه‌السلام ، فسكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزل جبريل عليه‌السلام فأخبره بذلك فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لليهودي : «إذا أخبرتك بذلك هل تسلم» فقال : نعم ، قال : «جريان ، والطارق ،

٥٢٢

والذيال ، وقابس ، وعمودان ، والفليق ، والمصبح ، والضروخ ، والفرغ ، ووثاب ، وذو الكتفين رآها يوسف عليه‌السلام ، والشمس والقمر نزلن من السماء وسجدن له» (١) فقال اليهودي : إي والله إنها لأسماؤها ، (قالَ) أي يعقوب ليوسف في السر (يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) أي فيفعلوا لأجل هلاكك كيدا خفيا عن فهمك لا تتصدى لمدافعته (إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ) أي لنبي آدم (عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٥) أي ظاهر العداوة فلا يقصر في إضلال إخوتك وحملهم على الحسد وما لا خير فيه كما فعل بآدم وحواء ، وإخوة يوسف الذين يخشى غوائلهم ، الأحد عشر هم يهوذا وروبيل وشمعون ، ولاوى ، وربالون ، ويشجر ، ودينة فهؤلاء بنو يعقوب من ليا بنت خالته ، ودان ونفتالى ، وجاد وآشر فهؤلاء بنوه من سريتين زلفة وبلهة ، وأما بنيامين فهو شقيق يوسف وأمهما راحيل التي تزوجها يعقوب بعد وفاة أختها ليا ، (وَكَذلِكَ) أي كما اجتباك لهذه الرؤية الدالة على كبر شأنك (يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) للنبوة (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي تعبير الرؤيا إذ هي أحاديث الملك إن كانت صادقة ، وأحاديث النفس والشيطان إن كانت كاذبة ، (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بسعادات الدنيا والآخرة ، أما سعادات الدنيا : فالإكثار من الأولاد والخدم والأتباع والتوسع في المال والجاه ، والإجلال في قلوب الخلق وحسن الثناء ، وأما سعادات الآخرة : فالعلوم الكثيرة والأخلاق الفاضلة والاستغراق في معرفة الله تعالى (وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) أي أولاده (كَما أَتَمَّها) أي نعمته (عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل هذا الوقت (إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) عطف بيان لأبويك (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٦) فالله أعلم حيث يجعل رسالته ومقدس عن العبث فلا يضع النبوة إلا في نفس قدسية وهذا يقتضي حصول النبوة لأولاد يعقوب ، وأيضا إن رؤية يوسف إخوته كواكب دليل على مصير أمرهم إلى النبوة ، فإن الكواكب يهتدى بأنوارها. وكانت تأويلها بأحد عشر نفسا لهم فضل يستضيء بعلمهم ودينهم أهل الأرض ، لأنه لا شيء أضوأ من الكواكب. وأما ما وقع منهم في حق يوسف فهو قبل النبوة ، فالعصمة من المعاصي إنما تعتبر وقت النبوة لا قبلها على خلاف في ذلك. (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ) أي في قصتهم (آياتٌ) أي عبرات (لِلسَّائِلِينَ) (٧) أي لكل من سأل عن قصتهم وعرفها أو للطالبين للآيات المعتبرين بها فإنهم المنتفعون بها دون من عداهم (إِذْ قالُوا) أي بعض العشرة لبعضهم (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ) الشقيق بنيامين بكسر الباء وفتحها (أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أي والحال أنّا جماعة قائمون بدفع المفاسد والآفات مشتغلون بتحصيل المنافع والخيرات ، وقائمون بمصالح الأب فنحن أحق بزيادة المحبة منهما لفضلنا بذلك وبكوننا أكبر سنا. ونقل عن علي رضي‌الله‌عنه أنه قرأ و «نحن عصبة» بالنصب. (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ) عن رعاية المصالح في الدنيا

__________________

(١) رواه الطبري في التفسير (١٢ : ٩٠).

٥٢٣

(مُبِينٍ) (٨) أي ظاهر الحال وإنما خصص على يوسف أبوه بالبر لأنه كان يرى فيه من آثار الرشد والنجابة ما لم يجد في سائر الأولاد ، ولأنه وإن كان صغيرا كان يخدم أباه بأنواع من الخدمة أعلى مما كان يصدر عن سائر الأولاد.

قال شمعون : ودان والباقون كانوا راضين إلا من قال : لا تقتلوا إلخ. (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) يحصل اليأس من اجتماعه مع أبيه (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) أي يقبل عليكم أبوكم بكليته ولا يلتفت إلى غيركم (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد يوسف من قتله أو تغريبه في أرض بعيدة (قَوْماً صالِحِينَ) (٩) أي تائبين إلى الله تعالى من الكبائر ومتفرقين لإصلاح أمور دنياكم وصالحين مع أبيكم بإصلاح ما بينكم وبينه (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) أي من إخوة يوسف هو يهوذا فإنه أقدمهم في الرأي والفضل وأقربهم إلى يوسف سنا (لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ).

وقال قتادة : القائل لإخوته روبيل حتى قال : القتل كبيرة عظيمة (وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) أي في قعره.

وقرأ نافع «غيابات» بالجمع في الموضعين. قال قتادة : الجب هنا هو بئر بيت المقدس. وقال وهب : هو في أرض الأردن. وقال ابن زيد : هو بحيرة طبرية. (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) أي يرفعه بعض طائفة تسير في الأرض (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) (١٠) بمشورتي ولم يقطع القول عليهم بل إنما عرض عليهم ذلك تأليفا لقلبهم وحذرا من نسبتهم له إلى الافتيات أو إن كنتم فاعلين ما عزمتم عليه من إزالته من عند أبيه ولا بد فافعلوا هذا القدر أي إلقاءه في البئر. والأولى أن لا تفعلوا شيئا من القتل والتغريب. (قالُوا) لأبيهم إعمالا للحيلة في الوصول إلى مقاصدهم مستفهمين على وجه التعجب لأنه علم منهم السوء ، وهذا مبني على مقدمات محذوفة ، وذلك أنهم قالوا أولا ليوسف : اخرج معنا ، إلى الصحراء إلى مواشينا فنستبق ونصيد ، وقالوا له : سل أباك أن يرسلك معنا ، فسأله فتوقف يعقوب فقالوا له : (يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ) أي أيّ شيء ثبت لك لا تجعلنا أمناء عليه مع أنه أخونا وأنك أبونا ونحن بنوك (وَ) الحال (وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) (١١) أي لعاطفون عليه قائمون بمصلحته وبحفظه ، أي هم أظهروا عند أبيهم أنهم في غاية المحبة ليوسف وفي غاية الشفقة عليه (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً) إلى الصحراء (يَرْتَعْ) أي نتسع في أكل الفواكه ونحوها (وَيَلْعَبْ) بالاستباق والانتضال تمرينا لقتال الأعداء ، وبالإقدام على المباحات لأجل انشراح الصدر لا للهو.

وقرأ نافع وعاصم وحمزة ، والكسائي بمثناة تحتية على إسناد الفعل ليوسف لأنهم سألوا إرسال يوسف معهم ليفرح هو باللعب لا ليفرحوا به (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١٢) من أن يناله مكروه (قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) أي ليؤلم قلبي ذهابكم به لأني لا أصبر عنه ساعة (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) لكثرة الذئب في تلك الأرض. (وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) (١٣) لاشتغالكم بالاتساع

٥٢٤

في الملاذ وبنحو التناضل (قالُوا) : لأبيهم. (لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أي جماعة كثيرة عشرة تكفي الخطوب بآرائنا (إِنَّا إِذاً) أي إذا لم نقدر على حفظ أخينا (لَخاسِرُونَ) (١٤) أي لقوم عاجزون وهذا جواب عن عذر يعقوب الثاني وأما عذره الأول فلم يجيبوا عنه لكون غرضهم إيقاعه في الحزن ، ولكون حقدهم بسبب ذلك العذر وهو شدة حبه له فتغافلوا عنه (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) أي فأرسله معهم فلما ذهبوا به وعزموا على جعله في ظلمة البئر فجعلوه فيها.

قال السدي : إن يوسف عليه‌السلام لما برز مع إخوته أظهروا له العداوة الشديدة وجعل هذا الأخ يضر به فيستغيث بالآخر فيضربه ولا يرى فيهم رحيما ، فضربوه حتى كادوا يقتلونه وهو يقول : يا يعقوب لو تعلم ما يصنع بابنك لأباك فقال يهوذا : أليس قد أعطيتموني موثقا أن لا تقتلوه. فانطلقوا به إلى الجب يدلونه فيه وهو متعلق بشفير البئر فنزعوا قميصه وكان غرضهم أن يلطخوه بالدم ويعرضوه على يعقوب. فقال لهم : ردوا علي قميصي لأتوارى به. فقالوا : ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا لتؤنسك ، ثم دلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه ليموت ، وكان في البئر ماء فسقط فيه ، ثم آوى إلى صخرة فقام بها وهو يبكي ، فنادوه فظن أن رحمة أدركتهم فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة ، فقام يهوذا فمنعهم من ذلك ، وكان يهوذا يأتيه بالطعام وبقي فيها ثلاث ليال.

وروي أنه عليه‌السلام لما ألقي في الجب قال : يا شاهدا غير غائب ويا قريبا غير بعيد ، ويا غالبا غير مغلوب اجعل لي من أمري فرجا ومخرجا.

وروي أن إبراهيم عليه‌السلام لما ألقي في النار جرد عن ثيابه فجاءه جبريل عليه‌السلام بقميص من حرير الجنة وألبسه إياه ، فدفعه إبراهيم إلى إسحاق ، ودفعه إسحاق إلى يعقوب فجعله يعقوب في تميمة وعلقها في عنق يوسف ، فجاءه جبريل فأخرجه من التميمة وألبسه إياه.

وروي أن جبريل قال له : إذا رهبت شيئا فقل : يا صريخ المستصرخين ويا غوث المستغيثين ، ويا مفرج كرب المكروبين قد ترى مكاني وتعلم حالي ولا يخفى عليك شيء من أمري. فلما قالها يوسف حفته الملائكة واستأنس في الجب. (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) في الجب إزالة لوحشته عن قلبه ، وتبشيرا له بما يؤول إليه أمره. وكان ابن سبع عشرة سنة. (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا) أي لتخبرن يا يوسف إخوتك بصنيعهم هذا بك بعد هذا اليوم (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١٥) في ذلك الوقت أنك يوسف حتى تخبرهم لعلو شأنك وبعد حالك عن أوهامك. والمقصود تقوية قلبه بأنه سيحصل له الخلاص عن هذه المحنة ويصيرون تحت قهره وقدرته. (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) (١٦) أي لما طرحوا يوسف في الجب رجعوا إلى أبيهم وقت العشاء في ظلمة الليل متباكين.

وقرئ «عشيا» بالتصغير «لعشي» أي آخر النهار. وقرئ «عشى» بالضم والقصر جمع

٥٢٥

أعشى فعند ذلك فزع يعقوب. وقال هل أصابكم في غنمكم شيء قالوا : لا ، قال : وأنّى يوسف. (قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) يسابق بعضنا بعضا في الرمي.

روي أن في قراءة عبد الله «إنا ذهبنا ننتضل» (وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا) من ثياب وأزواد وغيرهما ليحفظه (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) أي بمصدق لنا في هذه المقالة (وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) (١٧) أي ولو كنا عندك موصوفين بالصدق والثقة لشدة محبتك ليوسف فكيف وأنت سيئ الظن بنا غير واثق بقولنا : (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ) أي فوق قميص يوسف (بِدَمٍ كَذِبٍ) أي بدم ملابس لكذب.

وقرئ «كذبا» على أنه حال من الضمير أي جاءوا كاذبين أو مفعول له. وقرأت عائشة رضي‌الله‌عنها «بدم كذب» بالدال المهملة أي كدر أو طري. (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أي قال يعقوب : ليس الأمر كما تقولون بل زينت لكم أنفسكم أمرا غير ما تصفون. قيل : لما جاءوا على قميصه بدم جدي وقد ذهلوا عن خرق القميص فلما رأى يعقوب القميص صحيحا قال : كذبتم لو أكله الذئب لخرق قميصه ، وقال بعضهم : بل قتله اللصوص فقال : كيف قتلوه وتركوا قميصه وهم إلى قميصه أحوج منه إلى قتله؟ وقيل : إنهم أتوه بذئب وقالوا : هذا أكله فقال يعقوب : أيها الذئب أنت أكلت ولدي وثمرة فؤادي فأنطقه الله عزوجل وقال : والله ما أكلت ولدك ولا رأيته قط ولا يحل لنا أن نأكل لحوم الأنبياء فقال له يعقوب : فكيف وقعت في أرض كنعان؟ قال : جئت لصلة الرحم قرابة لي فأخذوني وأتوا بي إليك فأطلقه يعقوب. (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي فصبري صبر جميل أو فصبر جميل أولى من الجزع وهو أن لا يشكو البلاء لأحد غير الله تعالى (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ) أي المطلوب منه العون (عَلى ما تَصِفُونَ) (١٨) أي على تحمل ما تصفون من هلاك يوسف وكأن الله تعالى قد مضى على يعقوب أن يوصل إليه تلك الغموم الشديدة ، والهموم العظيمة ليكثر رجوعه إلى الله تعالى وينقطع تعلق فكره عن الدنيا فيصل إلى درجة عالية في العبودية لا يمكن الوصول إليها إلا بتحمل المحن الشديدة والله أعلم. (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ) أي رفقة تسير من جهة مدين يريدون مصر فأخطأوا الطريق فانطلقوا يهيمون في الأرض حتى وقعوا في الأراضي التي فيها الجب ـ وهي أرض دوثن بين مدين ومصر ـ فنزلوا عليه (فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ) أي ساقيهم ليطلب لهم الماء ؛ وهو من يهيئ الأرشية والدلاء فيتقدم الرفقة إلى الماء يقال له : مالك بن ذعر الخزاعي ابن أخي سيدنا شعيب عليه‌السلام وهو رجل من العرب من أهل مدين (فَأَدْلى دَلْوَهُ) أي فأرخى دلوه في جب يوسف فتعلق هو فلم يقدر الساقي على نزعه من البئر فنظر فيه فرأى غلاما قد تعلق بالدلو فنادى أصحابه (قالَ يا بُشْرى) أي يا أصحابي ، وقال الأعمش : إنه دعا امرأة اسمها بشرى.

وقال السدي : إنه نادى صاحبه واسمه بشرى كما قرأه حمزة وعاصم والكسائي بغير ياء

٥٢٦

المتكلم بعد الألف المقصورة ، وقال أبو علي الفارسي : والوجه أن يجعل البشرى اسما للبشارة ، فنادى ذلك بشارة لنفسه كأنه يقول : يا أيتها البشرى هذا الوقت وقتك ولو كنت ممن يخاطب لخوطبت الآن ولأمرت بالحضور ، ويدل على هذا قراءة الباقين «يا بشراي» بفتح ياء المتكلم بعد الياء على الإضافة قالوا : ماذا لك يا مالك؟ قال : (هذا غُلامٌ) أحسن ما يكون من الغلمان. فكان يوسف حسن الوجه ، جعد الشعر ، ضخم العينين ، مستوي الخلق ، أبيض اللون ، غليظ الساعدين ، والعضدين والساقين ، خميص البطن ، صغير السرة. وكان إذا تبسم ظهر النور من ضواحكه ، وإذا تكلم ظهر من ثناياه ولا يستطيع أحد وصفه اه. فاجتمعوا عليه فأخرجوه من الجب بعد مكثه فيها ثلاثة أيام (وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً) أي أخفوه حال كونه متاعا للتجارة ، أي كتم الوارد مالك وأصحابه من بقية القوم وذلك لأنهم قالوا : إن قلنا للسيارة التقطناه شاركونا فيه ، وإن قلنا : اشتريناه سألونا الشركة فالأصوب أن نقول : إن أهل الماء جعلوه بضاعة عندنا على أن نبيعه لهم بمصر (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) (١٩) أي بما ينشأ من عمل إخوة يوسف ليوسف من إيقاعه في البلاء الشديد وهو سبب لوصوله إلى مصر ولتنقله في أحوال إلى أن صار ملك مصر وحصل ذلك الذي رآه في النوم فرحم الله به العباد والبلاد (وَشَرَوْهُ) أي باع يوسف من استخرجوه من البئر (بِثَمَنٍ بَخْسٍ) أي حرام (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) فإنهم في ذلك الزمان كانوا لا يزنون ما كان أقل من أربعين دينارا (وَكانُوا) أي البائعون (فِيهِ) أي في يوسف (مِنَ الزَّاهِدِينَ) (٢٠) أي من الذين لا يرغبون لأنهم خافوا أن يظهر المستحق فينزعه من يدهم فكذلك باعوه من أول مساوم بأوكس الأثمان. (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ) أي في مصر من مالك بن ذعر وكان اشتراؤه بعشرين درهما وحلة ونعلين ، فالذي اشتراه في مصر هو قطفير خازن الملك الريان بن الوليد ، وهو صاحب جنوده ، وقد آمن الملك بيوسف ومات في حياة يوسف عليه‌السلام فملك بعده قابوس بن مصعب ، فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى واشترى ذلك الوزير يوسف وهو ابن سبع عشرة سنة ، وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة ، واستوزره ريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة وآتاه الله الملك والحكمة وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وتوفي وهو ابن مائة عشرين سنة. (لِامْرَأَتِهِ) زليخا. وقال ابن إسحاق : اسمها راعيل بنت رعيائيل : (أَكْرِمِي مَثْواهُ) أي اجعلي منزله عندك كريما حسنا مرضيا : والمعنى أحسني تعهده (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) أي يقوم بإصلاح مهماتنا (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) أي نتبناه ، وكان قطفير لا يأتي النساء (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) أي وكما نجينا يوسف من القتل والجب وجعلنا في قلب الوزير حنوا عليه تعطيه مكانة أي رتبة عالية في أرض مصر (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي تعبير بعض المنامات التي أعظمها رؤيا الملك وصاحبي السجن وهذا عطف على مقدر متعلق بمكنا ، أي جعلنا يوسف وجيها بين أهل مصر ومحببا في قلوبهم لينشأ منه ما جرى بينه وبين امرأة العزيز ولنعلمه بعض تأويل الرؤيا (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) أي أمر نفسه لأنه فعال لما يريد لا دافع لقضائه ولا مانع عن حكمه في

٥٢٧

أرضه وسمائه (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) وهم الكفار (لا يَعْلَمُونَ) (٢١) أن الأمر كله لله وأن قضاء الله غالب فمن تأمل في أحوال الدنيا عرف ذلك (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) وهو ما بين الثلاثين والأربعين (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) أي حكمة عملية وحكمة نظرية ؛ وإنما قدم الحكمة العملية هنا على العلمية لأن أصحاب الرياضات يشتغلون بالحكمة العملية ، ثم يترقون منها إلى الحكمة النظرية. وأما أصحاب الأفكار العقلية والأنظار الروحانية : فإنهم يصلون إلى الحكمة النظرية أولا ، ثم ينزلون منها إلى الحكمة العملية. وطريقة يوسف عليه‌السلام هو الأول لأنه صبر على البلاء والمحنة ففتح الله تعالى عليه أبواب المكاشفات. (وَكَذلِكَ) أي مثل ذلك الجزاء العجيب (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٢٢) أي كل من يحسن في عمله وعن الحسن من أحسن عبادة ربه في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ) أي طلبت زليخا من يوسف أن يجامعها (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) أي أبواب البيت السبعة ، ثم دعته إلى نفسها (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ).

قرأ نافع وابن عامر في رواية ابن ذكوان «هيت» بكسر الهاء وفتح التاء ، وقرأ ابن كثير «هيت» بضم التاء وفتحها مع فتح الهاء ، وقرأ هشام بن عمار عن أبي عامر «هئت لك» بكسر الهاء وبالهمزة الساكنة وضم التاء ، والباقون بفتح الهاء وإسكان الياء وفتح التاء وإن قرئ «هيت» بفتح الهاء والتاء أو ضم التاء فمعناه تعال وبادر أنالك وإن قرأت بكسر الهاء ، ثم بالهمزة الساكنة وضم التاء فمعناه تهيأت لك (قالَ) يوسف : (مَعاذَ اللهِ) أي أعوذ بالله معاذا مما تدعينني إليه (إِنَّهُ) أي الشأن العظيم (رَبِّي) أي سيدي العزيز (أَحْسَنَ مَثْوايَ) أي تعهدي حيث أمرك بإكرامي فلا يليق بالعقل أن أجازيه على ذلك الإحسان بالخيانة في حرمه (إِنَّهُ) أي الشأن (لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (٢٣) أي المجازون للإحسان بالإساءة (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) أي قصدت زليخا مخالطة يوسف مع التصميم وقصد مخالطتها بمقتضى الطبيعة البشرية وشهوة الشباب لا بقصد اختياري وذلك مما لا يدخل تحت التكليف بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من الله تعالى من يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهم ولهذا قال بعض أهل الحقائق : الهم قسمان : هم ثابت وهو إذا كان معه عزم وعقد ورضا ـ مثل هم امرأة العزيز ـ فالعبد مأخوذ به. وهم عارض وهو الخطرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم ـ مثل هم يوسف عليه‌السلام ـ والعبد غير مأخوذ به ما لم يتكلم أو يعمل (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) أي لو لا أن أيقن بحجة ربه الدالة على كمال قبح الزنا وجواب لو لا محذوف. أي لو لا مشاهدته برهان ربه في شأن الزنا لجرى على موجب ميله الجبلي ، لكنه حيث كان البرهان الذي هو الحكم والعلم حاضرا لديه حضور من يراه بالعين فلم يهم أصلا. والحاصل أن هذا البرهان عند المحققين المثبتين لعصمة الأنبياء هو حجة الله تعالى في تحريم الزنا والعلم بما على الزاني من العقاب ، أو المراد برؤية البرهان حصول الأخلاق الحميدة وتذكير الأحوال الرادعة لهم عن الإقدام على المنكرات.

٥٢٨

وقيل : إن البرهان هو النبوة المانعة من إتيان الفواحش. وقيل : إنه عليه‌السلام رأى مكتوبا في سقف البيت ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا. وأما الذين نسبوا المعصية إلى يوسف فقالوا : إنه رأى يعقوب عاضا على إبهامه أو هتف به هاتف وقال له : لا تعمل عمل السفهاء واسمك في ديوان الأنبياء ، أو تمثل له يعقوب فضرب في صدره فخرجت منيه من أنامله أو رأى كفا من غير ذراع مكتوبا فيه (وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً) [يونس : ٦١] ، الآية. (كَذلِكَ) أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ) أي مقدمات الفاحشة من القبلة والنظر بشهوة (وَالْفَحْشاءَ) أي الزنا (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (٢٤). قرأه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بكسر اللام في جميع القرآن أي الذين أخلصوا دينهم الله تعالى ، والباقون بفتح اللام أي الذين اختارهم الله تعالى لطاعته بأن عصمهم عما هو قادح فيها أو أخلصهم من كل سوء (وَاسْتَبَقَا الْبابَ) أي تسابقا إلى الباب البراني الذي هو المخلص فإن سبق يوسف فتح الباب للخروج وإن سبقت زليخا أمسكت الباب لمنع الخروج (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) أي شقت قميص يوسف من خلف بنصفين من وسطه إلى قدميه فغلبها يوسف وخرج وخرجت خلفه (وَأَلْفَيا سَيِّدَها) أي صادفا زوجها قطفير (لَدَى الْبابِ) أي البراني.

روى كعب رضي‌الله‌عنه : أنه لما هرب يوسف عليه‌السلام صار فراش القفل يتناثر حتى خرج من الأبواب (قالَتْ) لزوجها خائفة من التهمة (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) قيل : إن يوسف أراد أن يضربها ويدفعها عن نفسه وكان ذلك بالنسبة إليها جاريا مجرى السوء فذكرت كلاما مبهما ، ثم خافت أن يقتله العزيز وهي شديدة الحب له فقالت : (إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢٥) أي ليس جزاؤه إلا السجن أو الضرب الوجيع ، وإنما أخرت ذكر الضرب لأن المحب لا يشتهي إيلام المحبوب وإنما أرادت أن يسجن يوما أو أقل على سبيل التخفيف ، أما الحبس الطويل فلا يعبر عنه بهذه العبارة بل يقال : يجب أن يجعل من المسجونين (قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) ولم يقل هذه ولا تلك لفرط استحيائه ـ وهو أدب حسن حيث أتى بلفظ الغيبة ـ ولم يكن يوسف يريد أن يهتك سترها ، ولكن لما لطخت عرضه احتاج إلى إزالة هذه التهمة عن نفسه فصرّح بالأمر فقال : هي طالبتني للمواتاة (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) وهو ابن داية زليخا أو ابن خال لها وكان عمره شهرين أنطقه الله تعالى لبراءة يوسف. وروي أن العزيز اشترى يوسف ، بوزنه ذهبا ووزنه فضة ، ووزنه لؤلؤا ، ووزنه مرجانا ، ووزنه مسكا ، ووزنه عنبرا فلما ذهب به إلى البيت شغفت به زليخا فقالت لحاضنتها : ما الحيلة؟ فقالت لها : يا سيدتي لو نظر إليك لكان أسرع حبا منك إليه ، ولو رأى حسنك وجمالك وصفاء لونك ما قرّ له قرار دونك فقالت : وكيف ذلك؟ فقالت : مكنيني من الأموال ، فقالت : خزائني بين يديك فخذي ما شئت لا حساب عليك وأمرت بإحضار أهل البناء والهندسة ، وقالت : أريد بيتا يرى الوجه في سقفه وفي حيطانه كما يرى في

٥٢٩

المرآة المصقولة فقالوا : نعم ، فبنوا لها بيتا سمته القيطون ، فلما تم دعت المصور وأمرته بصنع سرير من ذهب مرصّع بالجواهر واليواقيت ، وفرشته بالديباج والسندس ، وصوّرت صورة يوسف وزليخا متعانقين ، ثم زينت زليخا وخرجت إلى يوسف مستعجلة وقالت : يا يوسف أجب سيدتك فإنها تدعوك في بيتها القيطون ، وكان سميعا مطيعا ، وكان بيده قضيب من ذهب يلعب به فرماه وأسرع لباب البيت فلما وضع قدمه الواحدة أحس قلبه بالشر وأراد الرجوع فأسرعت زليخا إليه وجرته للسرير فغمض عينيه ، وأطرق رأسه ، وبكى حياء من الله تعالى وراودته عن نفسه فأبى ، فقالت له : لم تخالف أمري؟ فقال : خوفا من الله وإكراما لسيدي الذي أحلني محل أولاده ، فقالت : أما إلهك فأنا أعطيك جميع الأموال تصدّق بها لربك ليغفر لك هذا الذنب ، وأما سيدك فأنا أطعمه السم حتى يهرى لحمه وأكون أنا وأموالي ملكك ، فقام وبادر إلى الباب من غير أن يكون بينه وبينها سبب من الأسباب فجذبته مزقت قميصه من خلفه وهو فار ، فوافق ذلك الوقت أن العزيز مر بالباب ، فنظر العزيز لزليخا فرآها مزينة حاسرة عن وجهها ، ونظر إلى يوسف فرآه منكس الرأس ، باكي العين. فوقف متحيرا في أمرهما ينظر إليه مرة ، وإليها مرة ، فقالت له : إن غلامك هذا يريد أن يخونك في أهلك أي شيء جزاؤه أن يسجن أو عذاب أليم. فقال له العزيز : يا يوسف ما كان هذا جزائي منك أحللتك محل أولادي وتخونني في أهلي! فقال يوسف عليه‌السلام : إن لي شاهدا يشهد لي بالبراءة فقال له : أين الشاهد وليس معكما في البيت ثالث؟ فقال : هذا الطفل يشهد لي بالبراءة ، فأوحى الله لجبريل أن اهبط على الطفل وشق له لسانه حتى يشهد لعبدي يوسف بالبراءة فعند ذلك تنحنح الطفل وقال : أيها الملك إن عندي في أمرك هذا ما لك فيه فرج ومخرج ، انظر إلى قميص الغلام العبراني (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ) أي شق من قدام (فَصَدَقَتْ) أي فقد صدقت المرأة (وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ) (٢٦) في قوله : هي راودتني (وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) أي من خلف (فَكَذَبَتْ) أي فقد كذبت المرأة في دعواها (وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٢٧) في قوله : هي راودتني (فَلَمَّا رَأى) أي زوجها (قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ) لها زوجها قطفير وقد قطع بصدقه وكذبها (إِنَّهُ) أي هذا القذف له في ضمن قولك : ما جزاء من أراد بأهلك سوءا (مِنْ كَيْدِكُنَ) أي من جنس مكركن أيتها النساء (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) (٢٨) لأن لهن في هذا الباب من الحيل ما لا يكون للرجال ولأن كيدهن في هذا الباب يورث من العار ما لا يورثه كيد الرجال (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) أي يا يوسف أعرض عن ذكر هذه الواقعة حتى لا ينتشر خبرها ولا يحصل العار العظيم بسببها ، واكتمه فقد ظهر صدقك ونزاهتك ، (اسْتَغْفِرِي) يا زليخا (لِذَنْبِكِ) الذي صدر عنك أي توبي إلى الله تعالى مما رميت يوسف به وهو بريء منه (إِنَّكِ كُنْتِ) بسبب ذلك (مِنَ الْخاطِئِينَ) (٢٩). في هذا القول الذي لا يليق بمقام الأنبياء وكان العزيز رجلا حليما ، فاكتفى بهذا القدر من مؤاخذتها ، وكان قليل الغيرة قال : في البحر أن

٥٣٠

تربة مصر تقتضي هذا ولهذا لا ينشأ فيها الأسد ولو دخل فيها ما يبقى ، ثم أخبرت زليخا بعض النساء بما حصل لها وأمرتهن بالكتم فلم يكتمن بل أشعن الأمر. (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ) أي أشعن الأمر في مصر : (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ) أي الملك قطفير (تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) أي وقال جماعة من النساء : وكن خمسا وهن امرأة صاحب دواب الملك وامرأة صاحب سجنه ، وامرأة خبازه ، وامرأة صاحب مطبخه ، وامرأة ساقيه فتحدثن فيما بينهن وقلن : امرأة العزيز تراود عبدها الكنعاني عن نفسه وهو يمتنع منها (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) أي قد شق فتاها شغاف قلبها من جهة الحب.

وقرأ جماعة من الصحابة والتابعين «شغفها» بالعين المهملة أي قد أحرق حبها فتاها حجاب قلبها. والمعنى أن اشتغالها بحبه صار حجابا بينها وبين كل ما سوى هذه المحبة فلا يخطر ببالها إلا هو (إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٣٠) أي إنا نعلمها في ضلال واضح عن طريق الرشد بسبب حبها إياه (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَ) أي قولهن المستدعي لنظرهن إلى وجه يوسف (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَ) أي أرادت إظهار عذرها فاتخذت مأدبة ودعت أربعين امرأة من أشرف مدينتها فيهن الخمس المذكورات (وَأَعْتَدَتْ) أي أحضرت (لَهُنَّ مُتَّكَأً) أي وسائد يتكئن عليها ، هذا «إن» قرئت مشددة فإن قرئت مخففة فمعناها اترنجة فإنهم كانوا يتكئون على المسانيد عند الطعام والشراب والحديث على عادة المتكبرين ولذلك جاء النهي عنه في الحديث وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا آكل متكئا». (وَآتَتْ) أي أعطت (كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) لأجل أكل الفاكهة واللحم لأنهم كانوا لا يأكلون من اللحم إلا ما يقطعون بسكاكينهم (وَقالَتِ) أي زليخا ليوسف وهي مشغولات بأعمال الخناجر في الطعام : (اخْرُجْ عَلَيْهِنَ) أي ابرز لهن ومر عليهن فإن يوسف عليه‌السلام ما قدر على مخالفتها خوفا منها (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) أي أعظمنه وهبنه ودهشن عند رؤيته من شدة جماله وقيل : معنى أكبرن أي حضن والهاء إما للسكت أو ضمير راجع إلى يوسف على حذف اللام ، أي حضن له من شدة الشبق وأيضا إن المرأة إذا فزعت فربما أسقطت ولدها فحاضت ويقال : أكبرت المرأة أي دخلت في الكبر وذلك إذا حاضت ، لأنها بالحيض تخرج من حد الصغر إلى حد الكبر (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) أي جرحن أيديهن حتى سال الدم ولم يجدن الألم لفرط دهشتهن وشغل قلوبهن بيوسف (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) أي تنزيها لله تعالى من العجز حيث قدر على خلق جميل مثل هذا (ما هذا بَشَراً) أي ليس يوسف آدميا.

وقرأ ابن مسعود «ما هذا بشر» بالرفع. وقرئ «ما هذا بشرى» أي ما هو بعبد مملوك للبشر حاصل بشراء (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) (٣١) على الله فإنه قد ثبت في العقول أنه لا شيء أحسن من الملك كما ثبت فيها أن لا شيء أقبح من الشيطان.

٥٣١

وقيل : إن النسوة لما رأين يوسف لم يلتفت إليهن ألبتة ، ورأين عليه هيبة النبوة والرسالة وسيما الطهارة قلن : إنا ما رأينا فيه أثرا من آثار الشهوة ولا صفة من الإنسانية فهذا قد تطهر عن جميع الصفات المغروزة في البشر وقد ترقى عن حد الإنسانية ودخل في الملكية (قالَتْ) أي زليخا لهن : (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) أي فهذا الذي ترينه هو ذلك العبد الكنعاني الذي عيبتنني في الافتتان به قبل أن تتصورنه حق تصوره ولو حصلت صورته في خيالكن لتركتن هذه الملامة (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) حسبما سمعتن وقلتن (فَاسْتَعْصَمَ) أي فامتنع عني بالعفة (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ) أي إن لم يفعل يوسف مقتضى أمري إياه من قضاء شهوتي (لَيُسْجَنَنَ) أي ليعاقبن بالحبس (وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) (٣٢) أي من الذليلين في السجن فقلن ليوسف : أطع مولاتك (قالَ) أي يوسف مناجيا لربه عزوجل : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَ) أي يا رب دخول السجن أحب عندي (مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) من مواتاتها التي تؤدي إلى الشقاء والعذاب الأليم (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ) بالتثبيت على العصمة فإن كل واحدة منهن كانت ترغب يوسف على موافقة زليخا وتخوّفه على مخالفتها (أَصْبُ إِلَيْهِنَ) أي أمل إلى إجابتهن على قضية الطبيعة البشرية وحكم القوة الشهوية (وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٣٣) أي وأصر من الذين لا يعملون بعلمهم (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ) دعاءه الذي في ضمن قوله وإلا تصرف عني إلخ فإن فيه التجاء إلى الله تعالى جريا على سنن الأنبياء والصالحين في قصر نيل الخيرات وطلب النجاة من الشرور على جناب الله تعالى كقول المستغيث أدركني وإلا هلكت (فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ) حسب دعائه وثبته على العصمة والعفة حتى وطّن نفسه على مشقة السجن (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لدعاء المتضرعين إليه (الْعَلِيمُ) (٣٤) للنيات فيجيب ما طاب منه العزم (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ) أي ثم ظهر للعزيز وأصحابه المشاركين له في الرأي من بعد ما رأوا الشواهد الدالة على براءة يوسف عليه‌السلام كشهادة الصبي ، وقد القميص من دبر وقطع النساء أيديهن سجنه عليه‌السلام قائلين والله (لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) (٣٥) أي إلى انقطاع مقالة الناس في المدينة فإن زليخا لما أيست من يوسف بجميع حيلها كي تحمله على موافقة مرادها قالت لزوجها : إن هذا العبد العبراني فضحني في الناس يقول لهم : إني راودته عن نفسه فإما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر إليهم وإما أن تسجنه ، فسجنه (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ) أي عبدان لملك مصر الكبير وهو الريان بن الوليد العمليق سمى أحدهما : وهو صاحب شرابه سرهم ، وسمى الآخر وهو صاحب مطبخه برهم.

وقيل : اسم الأول : مرطش ، والثاني : رأسان ، وسبب سجنهما أن جماعة من أهل مصر أرادوا قتل الملك فجعلوا لهما رشوة على أن يسما الملك في طعامه وشرابه فأجاباهم إلى ذلك ، ثم إن الساقي ندم ورجع عن ذلك وقبل الخباز الرشوة وسمّ الطعام ، فلما حضر الخبز بين يدي

٥٣٢

الملك قال الساقي : لا تأكل أيها الملك فإن الخبز مسموم وقال الخباز : لا تشرب أيها الملك فإن الشراب مسموم ، فقال الملك للساقي : اشربه فشربه ، فلم يضره وقال الخباز : كل من الطعام فأبى فأطعم من ذلك الطعام دابة فهلكت فأمر بحبسهما فاتفق أنهما دخلا مع يوسف فلما دخل السجن جعل ينشر علمه ويقول : إني أعبر الأحلام (قالَ أَحَدُهُما) وهو صاحب شراب الملك (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) أي إني رأيت نفسي أعصر عنبا وأسقي الملك (وَقالَ الْآخَرُ) وهو الخباز (إِنِّي أَرانِي) أي رأيتني (أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ) أي أخبرنا بتفسير رؤيانا (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٣٦) أي من العالمين بتفسير الرؤيا ومن المحسنين إلى أهل السجن فيسليهم ويقول : اصبروا وأبشروا تؤجروا فقالوا : بارك الله فيك يا فتى ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك لقد بورك لنا في جوارك فمن أنت يا فتى؟ فقال : أنا يوسف ابن صفي الله يعقوب ابن ذبيح الله إسحاق ابن خليل الله إبراهيم. فقال له : صاحب السجن يا فتى والله لو استطعت خليت سبيلك ولكني أحسن جوارك واختر أي بيوت السجن شئت ، أي إن الساقي قال لسيدنا يوسف : أيها العالم إني رأيت في المنام كأني في بستان وفيه شجرة عنب فيها ثلاثة أغصان وعليها ثلاثة عناقيد من العنب فجنيتها وكأن كأس الملك في يدي فعصرتها وسقيت الملك فشربه. وقال الخباز : إني رأيت في المنام كأني أخرج من مطبخ الملك وعلى رأسي ثلاث سلال من الخبز فوقع طير على أعلاها وأكل منها ولما قصا عليه الرؤيا كره أن يعبرها لهما حين سألاه لما علم ما فيها من المكروه لأحدهما فأعرض عن سؤالهما وأخذ في غيره من إظهار المعجزة والنبوة والدعاء إلى التوحيد لأنه علم أن أحدهما هالك فأراد أن يدخله في الإسلام فبدأ بإظهار المعجزة لهذا السبب (قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ) أي لا يأتيكما طعام ترزقانه في منزلكما على حسب عادتكما المطردة إلا أخبرتكما بعاقبته فهو يفيد الصحة أو السقم وبلونه وجنسه (قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) وكيف لا أعلم تعبير رؤياكما وهذا راجع إلى أن يوسف ادعى الإخبار عن الغيب وهو يجري مجرى قول عيسى : وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم (ذلِكُما) أي هذا التأويل والإخبار بالمغيبات (مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) بالوحي والإلهام لا على جهة الكهانة والنجوم (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) (٣٧) أي إني امتنعت عن دين قوم لا يؤمنون بالله وبالبعث بعد الموت (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) وإنما قال يوسف : ذلك ترغيبا لصاحبيه في الإيمان والتوحيد وتنفيرا لهما عمّا كانا عليه من الشرك والضلال. (ما كانَ) أي لا يصح (لَنا) معاشر الأنبياء (أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي أيّ شيء كان من ملك أو جني أو إنسي فضلا عن أن نشرك به صنما لا يسمع ولا يبصر (ذلِكَ) أي التوحيد الذي هو ترك الإشراك (مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا) بالوحي (وَعَلَى النَّاسِ) بإرسالنا إليهم (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) (٣٨) أي لا يوحدون الله تعالى (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ) أي يا

٥٣٣

صاحبي في السجن أو يا ساكني السجن كما قيل لسكان الجنة أصحاب الجنة (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ) أي مختلفون في الكبر والصغر واللون من ذهب وفضة وحديد وصفر وخشب وحجارة وغير ذلك (خَيْرٌ) لكما (أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٣٩) أي هذه الأصنام معمولة ومقهورة فإن الإنسان إذا أراد كسرها قدر عليها فهي مقهورة ولا ينتظر حصول منفعة من جهتها وإله العالم فعال قهار قادر على إيصال الخيرات ودفع الآفات. والمراد أعبادة آلهة شتى مقهورة خير. أم عبادة الله المتوحد بالألوهية الغالب على خلقه ولا يغالب خير. (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ) أي من غير الله شيئا (إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) أي إلا ذوات. أوجدتم وآباؤكم لها أسماء آلهة بمحض ضلالتكم (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها) أي بتلك التسمية المتتبعة للعبادة (مِنْ سُلْطانٍ) أي من حجة تدل على صحتها وتحقيق مسمياتها في تلك الذوات فكأنكم لا تعبدون إلا الأسماء المجردة عن الذوات. والمعنى أنكم سميتم ما لم يدل على استحقاقه الألوهية عقل ولا نقل آلهة ثم أخذتم تعبدونها باعتبار ما تطلقون عليها (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أي ليس الحكم في أمر العبادة إلا لله فليس لغير الله حكم واجب القبول ولا أمر واجب الالتزام (أَمَرَ) على ألسنة الأنبياء عليهم‌السلام (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) لأن العبادة نهاية التعظيم فلا تليق إلا بمن حصل منه نهاية الأنعام وهو الله تعالى لأن منه الخلق والإحياء والرزق والهداية ، ونعم الله كثيرة وجهات إحسانه إلى الخلق غير متناهية (ذلِكَ) أي تخصيصه تعالى بالعبادة (الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي الذي تعاضدت عليه البراهين عقلا ونقلا (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٤٠) أن ذلك هو الدين المستقيم لجهلهم بتلك البراهين ولما فرغ سيدنا يوسف من الدعاء إلى عبادة الله تعالى رجع إلى تعبير رؤياهما فقال : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما) وهو الشرابي (فَيَسْقِي رَبَّهُ) أي سيده (خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ) وهو الخباز (فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ).

روي أن الساقي لما قصّ رؤياه على يوسف قال له : ما أحسن ما رأيت. أما الكرم : فهو العمل الذي كنت فيه ، وأما العنب : فهو عزك في ذلك العمل ، وأما الأغصان الثلاثة : فثلاثة أيام يوجه إليك الملك عند انقضائهن ، وأما العنب الذي عصرت وناولت الملك : فهو أن يردك إلى عملك فتصير كما كنت بل أحسن ، ولما قص الخباز رؤياه على يوسف قال له : بئسما رأيت. أما خروجك من المطبخ : فهو أن تخرج من عملك ، وأما ثلاث سلال : فهي ثلاثة أيام تكون في السجن ، وأما أكل الطير من رأسك : فهو أن يخرجك الملك بعد ثلاثة أيام ويصلبك وتأكل الطير من رأسك ففزعا لتعبير رؤيا الخباز وقالا جميعا : ما رأينا شيئا إنما كنا نلعب فقال لهما يوسف : (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) (٤١) أي تم الأمر الذي تسألان عنه رأيتما أو لم تريا فكما قلتما وقلت لكما كذلك يكون (وَقالَ) أي يوسف عليه‌السلام (لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ) أي للرجل الذي ظنه ناجيا من القتل (مِنْهُمَا) أي من صاحبيه وهو الساقي : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) أي عند سيدك الملك الكبير فقل له : إن في السجن غلاما يحبس ظلما خمس سنين (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) أي أنسى الشيطان بوسوسته الشرابي ذكره ليوسف عند الملك. ويقال : فأنسى الشيطان يوسف أن يذكر ربه حتى طلب

٥٣٤

الفرج من مخلوق مثله وذلك غفلة عرضت ليوسف عليه‌السلام فإن الاستعانة بالناس في دفع الظلم جائزة في الشريعة ، إلا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فالأولى بالصديقين أن لا يشتغلوا إلا بمسبب الأسباب ولذلك جوزي يوسف بسنتين في الحبس كما قال تعالى : (فَلَبِثَ) أي يوسف (فِي السِّجْنِ) بسبب ذلك القول (بِضْعَ سِنِينَ) (٤٢) أي سبع سنين خمس منها قبل ذلك القول وثنتان بعده هذا هو الصحيح (وَقالَ الْمَلِكُ) الريان بن الوليد (إِنِّي أَرى) أي رأيت في منامي (سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ) قد خرجن من النهر ثم خرج منه بعدهن سبع بقرات مهازيل (يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ) أي ابتلعت العجاف السمان ودخلن في بطونهن ولم يتبين على العجاف شيء منهن (وَ) إني أرى (وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ) أي قد انعقد حبها (وَأُخَرَ) أي وسبعا أخر (يابِساتٍ) أي قد بلغت أوان الحصد فالتوت اليابسات على الخضر حتى علون عليهن ولم يبق من خضرتهن شيء فقلق الملك لما رأى الناقص الضعيف قد استولى على القوي الكامل حتى غلبه فجمع سحرته كهنته ومعبريه وأخبرهم بما رأى في منامه وسألهم عن تأويلها فأعجزهم الله تعالى عن تأويل هذه الرؤيا ليكون ذلك سببا لخلاص يوسف من السجن فهذا هو قوله : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) أي السحرة والكهنة والمعبرون للرؤيا (أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ) أي بينوا لي تعبير رؤياي هذه (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) (٤٣) أي إن كنتم تعلمون بانتقال الرؤيا من الصور الخيالية إلى المعاني النفسانية التي هي مثالها (قالُوا) أي أشراف العلماء والحكماء : (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) أي هذه الرؤيا مختلطة من أشياء كثيرة لا حقيقة لها (وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ) أي المنامات الباطلة التي لا أصل لها (بِعالِمِينَ) (٤٤) أي لأنه لا تأويل لها وإنما التأويل للرؤيا الصادقة. (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما) أي الذي خلص من السجن من صاحبي يوسف بعد أن جلس بين يدي الملك أي قال الشرابي للملك إن في الحبس رجلا فاضلا صالحا كثير العلم ، كثير الطاعة قصصت أنا والخباز عليه منامين فذكر تأويلهما فصدق في الكل وما أخطأ في حرف فإن أذنت مضيت إليه وجئتك بالجواب (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) أي تذكر الشرابي يوسف بعد مدة طويلة. وقرأ الأشهب العقيلي «بعد أمة» بكسر الهمزة أي بعد ما أنعم عليه بالنجاة.

وقرئ «بعد أمه» بفتح الهمزة والميم ، ثم بالهاء أي بعد نسيان. (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ) أي أنا أخبرك أيها الملك بتعبير رؤياك (فَأَرْسِلُونِ) (٤٥) إلى السجن فأرسله إليه فأتى يوسف فقال له : (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) أي البالغ في الصدق (أَفْتِنا) أي بين لنا (فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ) من البقر (عِجافٌ) في (وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ) في سبع (وَأُخَرَ) من السنابل (يابِساتٍ) أي في رؤيا ذلك رآها الملك (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ) أي أعود إلى الملك وجماعته بفتواك (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) (٤٦) فضلك وعلمك فإن الساقي علم عجز سائر المعبرين عن جواب هذه المسألة فخاف أن يعجز يوسف عنه أيضا (قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً) أي متتابعة على عادتكم في الزراعة (فَما حَصَدْتُمْ) من الزرع في كل سنة (فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ) أي كوافره ولا تدوسوه لئلا يقع

٥٣٥

فيه السوس فإن ذلك أبقى له على طول الزمان (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) (٤٧) أي إلا كل ما أردتم أكله فدوسوه في تلك السنين وهذا تأويل السبع السمان والسبع الخضر (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد السبع سنين المخصبة (سَبْعٌ شِدادٌ) أي سبع سنين قحطة صعاب على الناس وهذا تأويل السبع العجاف والسبع اليابسات (يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَ) أي تأكلون الحب المزروع وقت السنين المخصبة المتروك في سنبله في السنين المجدبة (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ) (٤٨) أي تدخرون للبذر فأكل ما جمع أيام السنين المخصبة في السنين المجدبة تأويل ابتلاع العجاف السمان (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد السنين المجدبة (عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ) أي ينقذ الناس من كرب الجدب (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) (٤٩) ما من عادته أن يعصر من العنب والقصب والزيتون والسمسم ونحوها من الفواكه لكثرتها.

وقيل : معنى يعصرون يحلبون الضروع. وقيل : معناه يمطرون. وقيل : معناه ينجون من الشدة وعلى هذين يقرأ بالبناء للمفعول. وهذا من مدلولات المنام ، لأنه لما كانت العجاف سبعا دل ذلك على أن السنين المجدبة لا تزيد على هذا العدد ، فالحاصل بعده هو الخصب على العادة الإلهية حيث يوسع الله على عباده بعد تضييقه عليهم فلما رجع الشرابي إلى الملك وأخبره بما ذكره يوسف استحسنه الملك (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) أي بيوسف لما علم من فضله وعلمه فرجع الساقي إلى يوسف (فَلَمَّا جاءَهُ) أي يوسف (الرَّسُولُ) وقال له : أجب الملك. (قالَ) أي يوسف له : (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) أي إلى سيدك الملك الكبير (فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) أي فاسأل الملك بأن يفتش عن شأن النسوة ليعلم براءتي عن تلك التهمة ، وإنما لم يخرج يوسف من السجن في الحال لأنه لو خرج قبل ظهور براءته من تلك التهمة عند الملك فلربما يقدر الحاسد على أن يتوسل إلى الطعن فيه بعد خروجه (إِنَّ رَبِّي) أي سيدي ومربيّ ، وهو ذلك الملك (بِكَيْدِهِنَ) أي بمكرهن (عَلِيمٌ) (٥٠) فلما أبى يوسف أن يخرج من السجن قبل تبين الأمر رجع الرسول إلى الملك فأخبره بما قال يوسف عليه‌السلام ، فأمر الملك بإحضارهن وكانت زليخا معهن ، (قالَ) أي الملك مخاطبا لهن لأن كل واحدة منهن راودت يوسف لأجل امرأة العزيز بقولها ليوسف أطع مولاتك : (ما خَطْبُكُنَ) أي ما شأنكن (إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) أي خادعتنه هل وجدتن فيه ميلا إلى قولكن (قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) أي تنزيها له (ما عَلِمْنا عَلَيْهِ) أي يوسف (مِنْ سُوءٍ) أي من خيانة في شيء من الأشياء (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ) أي الآن تبين الحق ليوسف (أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) أي أنا دعوته إلى نفسي (وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) (٥١) أي في قوله : حين افتريت عليه هي راودتني عن نفسي وإنما أقرت زليخا بذنبها ، وأشهدت لبراءة يوسف عن الذنب مكافأة على فعل يوسف حيث ترك ذكرها. وقال : ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن مع أن الفتن كلها إنما نشأت من جهتها وقد عرفت أن ذلك لرعاية حقها ولتعظيمها

٥٣٦

ولإخفاء الأمر عليها فجاء الرسول إلى يوسف فأخبره بجواب النسوة وبقول زليخا فقال يوسف وهو في السجن : (ذلِكَ) أي الذي فعلت من ردي الرسول لطلب البراءة إنما كان (لِيَعْلَمَ) أي الملك الصغير الذي هو قطفير زوج زليخا (أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ) في حرمته كما زعمه (بِالْغَيْبِ) أي وأنا غائب عنه أو هو غائب عني (وَ) ليعلم (أَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) (٥٢) أي لا ينفذه ولو كنت خائنا لما خلصني الله تعالى من هذه الورطة (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) أي والحال أني لم أقصد بذلك تنزيه نفسي من الزلل وبراءتها منه (إِنَّ النَّفْسَ) البشرية (لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) أي ميالة إلى القبائح راغبة في المعصية. ولما كان قوله ذلك ليعلم أني لم أخنه جاريا مجرى مدح النفس استدركه بقوله : وما أبرئ نفسي أي لا أمدحها (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) أي إلا نفسا عصمها ربي من الوقوع في المهالك (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ) للهم الذي هممت به (رَحِيمٌ) (٥٣) لمن تاب وهذا ما عليه أكثر المفسرين. وقال بعضهم من اسم الإشارة إلى هنا من كلام امرأة العزيز. والمعنى ذلك الذي قلت ليعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب ، أي أني لم أقل في يوسف وهو في السجن خلاف الحق فإني وإن أحلت الذنب عليه عند حضوره ما أحلت الذنب عليه عند غيبته وأن الله لا يهدي كيد الخائنين ، أي لا يرضاه فإني لما أقدمت على المكر لا شك افتضحت ، وأن يوسف لما كان بريئا من الذنب لا شك طهره الله عنه وما أبرئ نفسي مع ذلك من الخيانة حيث راودته وقلت في حقه ما قلت ، وأودعته في السجن.

ومقصود زليخا بهذا الكلام الاعتذار مما كان ، وتنزيه يوسف من الذنب إن كل نفس لأمارة بالسوء إلا نفسا رحمها الله بالعصمة ـ كنفس يوسف عليه‌السلام ـ إن ربي غفور لمن استغفر من ذنبه ، رحيم له. فعلى هذا يكون تأتيه عليه‌السلام في الخروج من السجن لعدم رضاه ملاقاة الملك حتى يتبين أنه إنما سجن بظلم عظيم مع ما له من نباهة الشأن ليتلقاه الملك بما يليق به من الإجلال وقد حصل ذلك. (وَقالَ الْمَلِكُ) أي الكبير وهو الريان : (ائْتُونِي بِهِ) أي بيوسف (أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) أي أجعله خاصا بي دون العزيز.

روي أن الرسول قال ليوسف عليه‌السلام : «قم إلى الملك متنظفا من درن السجن بالثياب النظيفة والهيئة الحسنة» فكتب على باب السجن هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء ، فلما أراد الدخول على الملك قال : اللهم إني أسألك بخيرك من خيره ، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره ، ثم دخل على الملك فسلم عليه بالعربية فقال له الملك : ما هذا اللسان؟ قال : لسان عمي إسماعيل ، ثم دعا له بالعبرانية فقال له : وما هذا اللسان؟ قال : هذا لسان آبائي وكان الملك يتكلم بسبعين لغة ولم يعرف هذين اللسانين وكان الملك كلما كلمه بلسان أجابه يوسف به وزاد عليه بالعربية والعبرانية.

٥٣٧

وروي أنه لما رآه الملك شابا وهو في ذلك الوقت ابن ثلاثين سنة قال للشرابي : أهذا هو الذي علم تأويل رؤياي؟ قال : نعم ، فأقبل على يوسف وقال : إني أحب أن أسمع تأويل الرؤيا منك شفاها فأجاب بذلك الجواب شفاها وشهد قلبه بصحته فذلك قوله تعالى : (فَلَمَّا كَلَّمَهُ) أي كلم الملك يوسف (قالَ) أي الملك : (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ) أي ذو منزلة رفيعة (أَمِينٌ) (٥٤) أي ذو أمانة على كل شيء فما ترى أيها الصديق (قالَ) أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعا كثيرا ، وتبني الخزائن وتجمع فيها الطعام فإذا جاءت السنون المجدبة بعنا الغلات فيحصل بهذا الطريق مال عظيم فقال الملك : ومن لي بهذا الشغل فقال يوسف : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) أي ولني أمر خزائن أرض مصر (إِنِّي حَفِيظٌ) لما وليتني ولجميع مصالح الناس (عَلِيمٌ) (٥٥) بوجوه التصرف في الأموال وبجميع ألسن الغرباء الذين يأتونني وفي هذا دليل على جواز طلب الولاية إذا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل وإن كان الطلب من يد الكافر (وَكَذلِكَ) أي مثل ذلك الأنعام الذي أنعمنا عليه من تقريبنا إياه من قلب الملك وإنجائنا إياه من غم الحبس (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) أي أقدرناه على ما يريد برفع الموانع في أرض مصر (يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) أي نازلا في أي موضع يريد يوسف من بلادها.

روي أنها كانت أربعين فرسخا في أربعين فرسخا.

وقرأ ابن كثير «نشاء» بالنون مسندا إلى الله تعالى. روي أنه لما تمت السنة من يوم سأل يوسف الإمارة دعاه الملك فتوجه وأخرج خاتم الملك وجعله في إصبعه وقلده بسيفه ، وجعل له سريرا من ذهب مكللا بالدر والياقوت ، طوله ثلاثون ذراعا وعرضه عشرة أذرع عليه ستون فراشا وضرب له عليه حلة من إستبرق فقال يوسف عليه‌السلام : أما السرير فأشد به ملكك ، وأما الخاتم فأدبر به أمرك ، وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي فقال الملك : وضعته إجلالا لك وإقرارا بفضلك وأمره أن يخرج فخرج متوجا لونه كالثلج ووجهه كالقمر يرى الناظر وجهه فيه من صفاء لونه فانطلق حتى جلس على ذلك السرير ودانت له الملوك وفوض الملك الأكبر إليه ملكه وأمر مصر وعزل قطفير عما كان عليه وجعل يوسف مكانه ومات قطفير بعد ذلك فزوجه عليه‌السلام الملك امرأته زليخا ، فلما دخل يوسف عليها قال لها : أليس هذا خيرا مما كنت تريدين قالت : أيها الصدّيق لا تلمني فإني كنت امرأة حسناء ناعمة ؛ كما ترى ، وكان صاحبي لا يأتي النساء ، وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك ، فغلبتني نفسي وعصمك الله. فأصابها يوسف فوجدها عذراء فولدت له ذكرين أفراثم وميشا ، فاستولى يوسف على ملك مصر وأقام فيها العدل وأحبه الرجال والنساء ، وأسلم على يديه الملك وكثير من الناس ، وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام في السنة الأولى : بالدنانير والدراهم. وفي الثانية : بالحلي والجواهر. وفي

٥٣٨

الثالثة : بالدواب. وفي الرابعة : بالجواري والعبيد. وفي الخامسة : بالضياع والعقار. وفي السادسة : بأولادهم وفي السابعة : برقابهم حتى لم يبق بمصر حر ولا حرة إلا صار عبدا له عليه‌السلام. فقال أهل مصر : ما رأينا كاليوم ملكا أجل وأعظم من يوسف. فقال يوسف للملك : كيف رأيت صنع الله بي فيما خولني فما ترى في هؤلاء؟ قال الملك : الرأي رأيك ونحن لك تبع. قال : فإني أشهد الله وأشهدك أني قد أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم ، وكان يوسف لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير تقسيطا بين الناس ومات الملك في حياة يوسف (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا) أي بعطائنا في الدنيا من الملك والغني وغيرهما من النعم (مَنْ نَشاءُ) من عبادنا (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (٥٦) لأن إضاعة الأجر إما أن تكون للعجز أو للجهل أو للبخل والكل ممتنع في حق الله تعالى فكانت الإضاعة ممتنعة (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) (٥٧) أي ولأجر المحسنين وهم الذين آمنوا بالله والكتب والرسل ، واتقوا الفواحش في الآخرة خير لهم. والمراد أن يوسف وإن كان قد وصل إلى الدرجات الرفيعة في الدنيا فثوابه الذي أعده الله له في الآخرة أفضل وأكمل وقد ثبت أن الله تعالى شهد بأن يوسف عليه‌السلام كان من المتقين ومن المحسنين ومن المخلصين (وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ) إلى مصر وهم عشرة ليمتاروا أي لما وصل القحط إلى البلدة التي يسكنها يعقوب عليه‌السلام وهي ثغور الشام من أرض فلسطين قال لبنيه : إن بمصر ملكا صالحا يبيع الطعام فتجهزوا إليه واقصدوه لتشتروا منه ما تحتاجون إليه من الطعام ، فخرجوا غير بنيامين حتى قدموا مصر (فَدَخَلُوا عَلَيْهِ) أي على يوسف وهو في مجلس ولايته (فَعَرَفَهُمْ) بأول نظرة نظر إليهم لقوة فهمه (وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (٥٨) أي والحال أنهم لا يعرفونه لطول المدة فبين أن ألقوه في الجب ودخولهم عليه أربعون سنة ، ولأنهم رأوه جالسا على سرير الملك وعليه ثياب حرير وفي عنقه طوق من ذهب ، وعلى رأسه تاج من ذهب ، فكلموه بالعبرانية فقال لهم : من أنتم وأيّ شيء أقدمكم بلادي؟ فقالوا : قدمنا لأخذ الميرة ، ونحن قوم رعاة من أهل الشام ، أصابنا الجهد. فقال : لعلكم عيون تطلعون على عوراتنا وتخبرون بها أعداءنا. فقالوا : معاذ الله ، قال : من أين أنتم؟ قالوا : من بلاد كنعان نحن إخوة بنو أب واحد وهو شيخ كبير صدّيق ، نبي من أنبياء الله اسمه يعقوب ، قال : كم أنتم؟ قالوا : كنا اثني عشر فهلك منا واحدا ، فقال : كم أنتم هاهنا؟ قالوا : عشرة. قال : فأين الحادي عشر؟ قالوا : هو عند أبيه يتسلى به عن الهالك ، لأنه أخوه الشقيق. قال : فمن لم يشهد لكم أنكم لستم عيونا وأن ما تقولون حق؟ قالوا : نحن ببلاد غربة لا يعرفنا فيها أحد فيشهد لنا! قال : فأتوني بأخيكم الذي من أبيكم إن كنتم صادقين فأنا أكتفي بذلك منكم. قالوا : إن أبانا يحزن لفراقه. قال : فاتركوا بعضكم عندي رهينة حتى تأتوني به ، فاقترعوا فيما بينهم فأصابت القرعة شمعون وكان أحسنهم رأيا في يوسف في أمر الجب فتركوه عنده فأمر بإنزالهم وإكرامهم (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) أي فلما أوقر

٥٣٩

يوسف إبلهم بالميرة وأصلحهم بالزاد وما يحتاج إليه المسافر (قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) إذا رجعتم لتمتاروا مرة أخرى لأعلم صدقكم فيما قلتم : إن لنا أخا من أبينا عند أبينا. (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) أي أتمه وأزيدكم حمل بعير آخر لأجل أخيكم وحملا آخر لأبيكم لأنهم قالوا : إن لنا أبا شيخا كبيرا وأخا آخر بقي معه ، لأن يوسف لا يزيد لأحد على حمل بعير (وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) (٥٩) أي خير المضيفين فإنه عليه‌السلام كان قد أحسن ضيافتهم مدة إقامتهم عنده (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ) أي بأخيكم من أبيكم إذا عدتم مرة أخرى (فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي) أي فلا طعام لكم يكال عندي (وَلا تَقْرَبُونِ) (٦٠) أي لا تدخلوا بلادي فضلا عن وصولكم إلى (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) أي سنطلبه من أبيه ونحتال على أن ننزعه من يده (وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) (٦١) ما أمرتنا به من أن نجيئك بأخينا فإنهم كانوا محتاجين إلى تحصيل الطعام ولا يمكن إلا من عنده (وَقالَ لِفِتْيانِهِ) أي لخدامه الكيالين.

وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «لفتيانه» بالألف والنون. والباقون «لفتيته» بالتاء من غير الألف. (اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ) أي دسوا دراهمهم التي اشتروا بها الطعام في أوعيتهم التي يحملون فيها الطعام (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها) أي لكي يعرفوا بضاعتهم (إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ) أي إذا رجعوا إلى أبيهم وفرغوا أوعيهم (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٦٢) أي لعل معرفتهم ذلك تدعوهم إلى الرجوع إلينا ، لأنهم إذا علموا أن ذلك من سخاء يوسف بعثهم على العود عليه والرغبة في معاملته وأيضا أن سيدنا يوسف يخاف من أن لا يكون عند أبيه من الدراهم ما يرجعون به مرة أخرى (فَلَمَّا رَجَعُوا) أي إخوة يوسف غير شمعون (إِلى أَبِيهِمْ) بكنعان (قالُوا) قبل أن يشتغلوا بفتح المتاع : (يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) أي حكم العزيز بمنع الطعام بعد هذه المرة إن لم يذهب معنا بنيامين إليه ، (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا) بنيامين إلى مصر. وقال يعقوب : أين شمعون؟ قالوا : ارتهنه ملك مصر وأخبروه بالقصة (نَكْتَلْ) أي نرفع المانع من الكيل بسببه ونكتل بسببه من الطعام ما نشاء.

وقرأ حمزة والكسائي «يكتل» بالياء أي يكتل أخونا لنفسه مع اكتيالنا. (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٦٣) من أن يصيبه مكروه وضامنون برده إليك (قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) أي قال لهم يعقوب : كيف آمنكم على بنيامين وقد فعلتم بأخيه يوسف ما فعلتم وإنكم ذكرتم مثل هذا الكلام بعينه في يوسف وضمنتم لي حفظه فما فعلتم فلما لم يحصل الأمن والحفظ هناك فكيف يحصل هاهنا وإنما أفوّض الأمر إلى الله (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً) منكم.

قرأ حفص وحمزة والكسائي بفتح الحاء وبألف بعدها على التمييز أي حفظ الله بنيامين خير من حفظكم. وقرأ الباقون «حفظا» بكسر الحاء وسكون الفاء. وقرأ الأعمش «فالله خير حافظا».

٥٤٠