مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

أي فأينما توجهوا إلى القبلة فثم مرضاة الله (إِنَّ اللهَ واسِعٌ) برحمته يريد التوسعة على عباده (عَلِيمٌ) (١١٥) بمصالحهم وأعمالهم في الأماكن كلها أي إن الله تعالى أراد تحويل المؤمنين عن استقبال بيت المقدس إلى الكعبة فبيّن تعالى أن المشرق والمغرب وجميع الجهات مملوكة له تعالى ، فأينما أمركم الله باستقباله فهو القبلة لأن القبلة ليست قبلة لذاتها بل إن الله تعالى جعلها قبلة ، فإن جعل الكعبة قبلة فلا تنكروا ذلك لأنه تعالى يدبر عباده وكيف يريد. وقال ابن عباس : لما حولت القبلة عن بيت المقدس أنكر اليهود ذلك فنزلت هذه الآية ردا عليهم. وقال أبو مسلم : إن اليهود إنما استقبلوا بيت المقدس لأنهم اعتقدوا أن الله تعالى صعد السماء من الصخرة والنصارى إنما استقبلوا المشرق لأن عيسى عليه‌السلام ولد هناك فرد الله عليهم بهذه الآية : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ) أي صنع (وَلَداً).

وقرأ ابن عامر «قالوا» بغير واو قبل القاف أي قالت اليهود : عزير ابن الله. وقالت النصارى : المسيح ابن الله. وقال مشركوا العرب : الملائكة بنات الله. فقال الله تعالى ردا عليهم : (سُبْحانَهُ) وهي كلمة تنزيه ينزه الله تعالى بها نفسه عما قالوه (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) والملكية تنافي الوالدية أي ليس الأمر كما زعموا بل هو خالق جميع الموجودات التي من جملتها عزير والمسيح والملائكة (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) (١١٦) أي كل ما في السموات والأرض مطيعون له لا يستعصي شيء منهم على تكوينه ومشيئته فالطاعة هنا طاعة الإرادة لا طاعة العبادة (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي موجودهما بلا مثال (وَإِذا قَضى أَمْراً) أي إذا أراد إيجاد شيء (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١١٧) أي أحدث فيحدث. وقوله «كن» تمثيل لسهولة حصول المقدورات بحسب تعلق مشيئته تعالى وتصوير لسرعة حدوثها من غير توقف كطاعة المأمور المطيع للآمر القوي المطاع ، ولا يكون من المأمور الآباء. وقرأ ابن عامر «كن فيكون» بالنصب في كل القرآن إلا في موضعين في أول آل عمران في قوله تعالى : (كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) [آل عمران : ٣]. وفي الأنعام في قوله تعالى : (كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُ) [الأنعام : ٧٣] فإنه رفعها. وقرأ الكسائي بالنصب في النحل ويس ، وبالرفع في سائر القرآن. والباقون بالرفع في كل القرآن. أما النصب فعلى جواب الأمر ، وأما الرفع فإما على أنه خبر مبتدأ محذوف أي فهو يكون أو معطوف على «يقول» أو معطوف على «كن» من حيث المعنى كما هو قول الفارسي. (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم اليهود منهم رافع بن حرملة كما أخرجه جرير عن ابن عباس أو النصارى كما قاله مجاهد ووصفهم بعدم العلم لعدم علمهم بالتوحيد والنبوة كما ينبغي ، أو هم كفار العرب كما أخرج عن قتادة (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) أي هلا يكلمنا الله مشافهة من غير واسطة بالأمر والنهي كما يكلم الملائكة أو موسى وهو ينص على نبوتك وهذا منهم استكبار (أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) أي فإن كان الله تعالى لا يفعل ذلك فلم لا يخصك بآية ومعجزة تأتينا ـ وهذا منهم إنكار في كون القرآن آية

٤١

ومعجزة لأنهم لو أقروا بكونه معجزة لاستحال أن يقولوا ذلك ـ ثم أجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله : (كَذلِكَ) أي مثل ذلك القول الشنيع الصادر عن العناد (قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي من كفار الأمم الماضية لأنبيائهم (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) في التشديد وطلب الآيات فقالوا : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ١٥٣] وقالوا : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) [البقرة : ٦١] وقالوا : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً) [الأعراف : ١٣٨] وقالوا : (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) [المائدة : ١١٢]. (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) أي توافقت قلوبهم مع آبائهم واستوت كلمتهم في الكفر والعناد (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ) أي نزلناها بينة (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (١١٨) أي يطلبون اليقين. وحاصل هذا الجواب من الله تعالى أنا قد أيدنا قول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمعجزات وبينا صحة قوله بالآيات وهي القرآن وسائر المعجزات فكان طلب هذه الزوائد من باب التعنت وإذا كان كذلك لم يجب إجابتها. (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) أي إنا أرسلناك ملتبسا بالقرآن والدين لتكون مبشرا لمن اتبعك واهتدى بدينك ، ومنذرا لمن كفر بك وضل عن دينك ، أو المعنى إنا أرسلناك صادقا حال كونك بشيرا لمن صدّقك بالثواب ، ونذيرا لمن كذّبك بالعذاب (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) (١١٩).

قرأ الجمهور برفع التاء واللام على الخبر أي ولست بمسؤول عنهم ما لهم لم يؤمنوا بما أنزل عليك بعد ما بلغت ما أرسلت به. وقرأ نافع بالجزم وفتح التاء على النهي أي لا تسأل عن حال كفار أهل الكتاب التي تكون لهم في القيامة ولا يمكنك في هذه الدار الاطلاع عليها وذلك إعلام بكمال شدة عقوبة الكفار فلا يستطيع السامع أن يسمع خبرها (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) أي لن ترضى عنك يهود المدينة ولو خليتهم وشأنهم حتى تتبع دينهم وقبلتهم ، ولن ترضى عنك نصارى نجران ولو تركتهم ودينهم حتى تتبع ملتهم وقبلتهم (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) أي قل لهم يا أشرف الخلق ردا لقولهم لك لن ترضى عنك حتى تتبع ديننا إن دين الله هو الإسلام ، وإن قبلة الله هي الكعبة (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ) على سبيل التقدير أو المراد من هذا الخطاب أمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَهْواءَهُمْ) أي أقوالهم التي هي أهواء النفس وهي المعبر عنها أولا بقوله تعالى : (مِلَّتَهُمْ) إذ هم الذين ينتسبون إليها. أما الشريعة الحقيقية من الله فقد غيروها تغييرا ، أي والله لئن اتبعت ملتهم وقبلتهم (بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي من الدين المعلوم صحته في أن دين الله هو الإسلام وقبلة الله هي الكعبة (ما لَكَ مِنَ اللهِ) أي من عذاب الله (مِنْ وَلِيٍ) أي قريب ينفعك (وَلا نَصِيرٍ) (١٢٠) يمنعك منه. (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) عبد الله بن سلام وأصحابه وبحيرا الراهب ، وأصحابه والنجاشي وأصحابه (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) أي يقرءونه كما أنزل لا يغيرونه ولا يبدلون ما فيه من نعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتدبرون في معانيه ويخضعون عند تلاوته ويبينون أمره ونهيه لمن سألهم (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بكتابهم ، وبمتشابهه ويتوقفون فيما أشكل عليهم منه ويفوضونه

٤٢

إلى الله تعالى ويعملون بمحكمه (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) أي بالكتاب المؤتى بأن يغيره (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١٢١) حيث اشتروا الكفر بالإيمان. (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) ومن جملة النعمة : التوراة وذكر النعمة إنما يكون بشكرها ، وشكرها الإيمان بجميع ما فيها ، ومن لازم الإيمان بها الإيمان بنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن نعت النبي من جملة ما فيها (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ) بالإسلام (عَلَى الْعالَمِينَ) (١٢٢) أي الموجودين في زمانكم (وَاتَّقُوا يَوْماً) أي اخشوا عذاب يوم (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) من عذاب الله (وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ) أي فداء (وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (١٢٣) أي يمنعون مما يريد الله بهم ، ثم ذكر الله تعالى قصة إبراهيم توبيخا لأهل الملل المخالفين ، وذلك لأن إبراهيم يعترف بفضله جميع الطوائف قديما وحديثا ، فالمشركون كانوا متشرفين بأنهم من أولاده. ومن ساكني حرمه ، وخادمي بيته ، وأهل الكتاب من اليهود والنصارى كانوا متشرفين بأنهم من أولاده فحكى الله تعالى عن إبراهيم عليه‌السلام أمورا توجب على المشركين واليهود والنصارى قبول قول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والانقياد لشرعه ، لأن ما أوجبه الله تعالى على إبراهيم جاء به محمد كأفعال الحج واستقبال الكعبة وفي ذلك حجة عليهم فقال تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) أي بأوامر ونواه. قيل : قال ابن عباس وقتادة : هي مناسك الحج كالإحرام والطواف والسعي والرمي.

وقال ابن عباس : هي عشر خصال كانت فرضا في شرعه ، وهي سنة في شرعنا : خمس في الرأس ، وخمس في الجسد. أما التي في الرأس فالمضمضة والاستنشاق والسواك وقص الشارب وفرق الرأس أي فرق شعره إلى الجانب الأيمن والجانب الأيسر ، وأما التي في البدن فالختان وحلق العانة ونتف الإبط وتقليم الأظفار والاستنجاء بالماء. وقرأ ابن عباس وأبو حيوة إبراهيم ربه برفع إبراهيم ونصب ربه ، والمعنى أن إبراهيم دعا ربه بكلمات من الدعاء كفعل المختبر هل يجيبه الله تعالى إليهن أم لا؟ (فَأَتَمَّهُنَ) أي قام بها حق القيام وأداها أحسن التأدية من غير تفريط (قالَ) تعالى له (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) أي قدوة في الدين إلى يوم القيامة. والذي يكون كذلك لا بدّ وأن يكون رسولا من عند الله مستقلا بالشرع وأن يكون نبيا إذ لم يبعث بعده نبي إلا كان من ذريته مأمورا باتباعه في الجملة. (قالَ) أي إبراهيم (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أي واجعل من بعض أولادي أئمة يقتدى بهم في الدين. (قالَ) الله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (١٢٤) أي لا يصيب عهدي بالإمامة والنبوة الكافرين. وكل عاص فإنه ظالم لنفسه.

وقرأ قتادة والأعمش وأبو رجاء «الظالمون» رفعا بالفاعلية و «عهدي» مفعول به وفي هذا دليل على عصمة الأنبياء عليهم‌السلام من الكبائر مطلقا (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ) أي جميع الحرم (مَثابَةً لِلنَّاسِ) أي مرجعا لهم فإنهم يثوبون إليه كل عام بأعيانهم أو بأمثالهم كما قاله الحسن. أو

٤٣

المراد لا ينصرف عنه أحد إلا وهو يتمنى العود إليه كما قاله ابن عباس ومجاهد. أو المعنى جعلنا الكعبة موضع ثواب يثابون بحجه واعتماره (وَأَمْناً) أي موضع أمن لمن يسكنه ويلجأ إليه من الأعداء والخسف والمسخ أو آمنا من حجه من عذاب الآخرة من حيث إن الحج يجب ما قبله وحمل بعضهم هذه الكلمة على الأمر على سبيل التأويل. والمعنى أن الله تعالى أمر الناس بأن يجعلوا ذلك الموضوع آمنا من الغارة والقتل فكان البيت محترما بحكم الله تعالى (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى).

روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن إبراهيم عليه‌السلام كان يبني البيت وإسماعيل يناوله الحجارة ، ويقولان : ربنا نقبل منا إنك أنت السميع العليم فلما ارتفع البنيان وضعف إبراهيم عن وضع الحجارة قام على حجر وهو مقام إبراهيم عليه‌السلام. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم والكسائي و «اتخذوا» بكسر الخاء على صيغة الأمر.

قال قتادة والسدي : أمروا أن يصلوا عنده وعلى هذا فهذه الجملة كلام اعترض في خلال ذكر قصة إبراهيم عليه‌السلام فكأنه تعالى قال : وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا ـ أنتم يا أمة محمد ـ من مقام إبراهيم مصلى. والتقدير أنا لما شرفناه ووصفناه بكونه مثابة للناس وأمنا فاتخذوه قبلة لأنفسكم. وقرأ نافع وابن عامر «واتخذوا» بفتح الخاء على صيغة الماضي فهو إخبار عن ولد إبراهيم إنهم اتخذوا من مقامه مصلى. (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ) أي أمرناهما (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ) أي بأن أسساه على التقوى. وقيل : معناه عرّفا الناس أن بيتي طهرة لهم متى حجوه وزاروه وأقاموا فيه (لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (١٢٥) جمع راكع وساجد. فالمراد بالطائفين : من يقصد البيت حاجا أو معتمرا فيطوف به. وبالعاكفين : من يقيم هناك ويجاور. وبالركع السجود : من يصلي هناك. قال عطاء : فإذا كان الشخص طائفا فهو من الطائفين ، وإذا كان جالسا فهو من العاكفين ، وإذا كان مصليا فهو من الركع السجود ثم إذا فسرنا الطائفين بالغرباء فحينئذ تدل الآية على أن الطواف للغرباء أفضل من الصلاة.

روي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء أن الطواف لأهل الأمصار أفضل والصلاة لأهل مكة أفضل. (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا) الحرم (بَلَداً آمِناً) أي كثيرا لخصب فإن الدنيا إذا طلبت ليتقوى بها على الدين كان ذلك من أعظم أركان الدين فإذا كان البلد آمنا وحصل فيه الخصب تفرغ أهله لطاعة الله تعالى وأيضا إن الخصب مما يدعو الإنسان إلى تلك البلدة فهو سبب اتصاله في الطاعة (وَارْزُقْ أَهْلَهُ) أي الحرم (مِنَ الثَّمَراتِ) وقد حصل في مكة الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد.

روي أن الطائف كانت من مدائن الشام في أردن فلما دعا إبراهيم بهذا الدعاء أمر الله تعالى

٤٤

جبريل عليه‌السلام حتى قطعها من أصلها وأدارها حول البيت سبعا ، ثم وضعها موضعها الآن فمنها أكثر ثمرات مكة (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) بدل من أهله بدل البعض خصهم سيدنا إبراهيم بالدعاء مراعاة لحسن الأدب وفي ذلك ترغيب لقومه في الإيمان. (قالَ) تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ) أي أرزقه (فَأُمَتِّعُهُ) بالرزق (قَلِيلاً) أي مدة عمره. وقرأ ابن عباس بسكون الميم. (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ) أي ألجئه في الآخرة (إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٢٦) هي النار (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) أي وإذ يرفع إبراهيم وإسماعيل الجدران التي هي من البيت أي التي هي بعضه المستتر من الأرض. قيل : بنى إبراهيم البيت من خمسة أجبل : طور سيناء ، وطور زيتا ، ولبنان والجودي ، وأسسه من حراء. وجاء جبريل عليه‌السلام بالحجر الأسود من السماء وكان ياقوتة بيضاء من يواقيت الجنة فلما لمسته الحيض في الجاهلية اسود. يقولان : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) بناءنا بيتك (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) لدعائنا (الْعَلِيمُ) (١٢٧) بنياتنا في جميع أعمالنا (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ) أي مخلصين (لَكَ) بالتوحيد والعبادة لا نعبد إلا إياك (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) أي واجعل بعض أولادنا جماعة مخلصة لك (وَأَرِنا مَناسِكَنا) أي علمنا سنن حجنا (وَتُبْ عَلَيْنا) أي تجاوز عن تقصيرنا والعبد وإن اجتهد في طاعة ربه فإنه لا ينفك عن التقصير من بعض الوجوه إما على سبيل السهو أو على سبيل ترك الأولى فكان هذا الدعاء لأجل ذلك (إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ) أي المتجاوز لمن تاب (الرَّحِيمُ) (١٢٨) به (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ) أي في ذريتنا (رَسُولاً مِنْهُمْ) أي من أنفسهم وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولذلك قال : «أنا دعوة أبي إبراهيم» (١). أخرجه أحمد من حديث العرباض بن سارية وغيره. (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ) أي يذكرهم بالآيات ويدعوهم إليها ويحملهم على الإيمان بها (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) أي يأمرهم بتلاوة الكتاب ويعلمهم معاني الكتاب وحقائقه (وَالْحِكْمَةَ) قال الشافعي رضي‌الله‌عنه : الحكمة سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قول قتادة. (وَيُزَكِّيهِمْ) أي يطهرهم من شركهم (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) أي القادر الذي لا يغلب (الْحَكِيمُ) (١٢٩) أي العالم الذي لا يجهل شيئا. هاهنا سؤال : ما الحكمة في ذكر إبراهيم مع محمد في باب الصلاة حيث يقال : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؟

فجوابه : أن إبراهيم دعا لمحمد بهذه الدعوة فأجرى الله ذكر إبراهيم على ألسنة أمة محمد إلى يوم القيامة أداء عن حق واجب على محمد لإبراهيم.

والجواب الثاني : أن إبراهيم سأل ربه بقوله : «واجعل لي لسان صدق في الآخرين» أي أبق لي ثناء حسنا في أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأجابه الله تعالى فقرن بين ذكرهما إبقاء للثناء الحسن على إبراهيم في أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) رواه ابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق (١ : ٣٩) ، والقرطبي في التفسير (٢ : ١٣١).

٤٥

والجواب الثالث : أن إبراهيم كان أبا الملة ، ومحمدا كان أبا الرحمة. وفي قراءة ابن مسعود النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما أنا لكم مثل الوالد»(١). أي في الرأفة والرحمة. فلما وجب لكل واحد منهما حق الأبوة من وجه قرن بين ذكرهما في باب الثناء والصلاة.

والجواب الرابع : أن إبراهيم كان منادي الشريعة في الحج ومحمدا كان منادي الإيمان ، فجمع الله تعالى بينهما في الذكر الجميل (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) أي لا يكره أحد ملة إبراهيم إلا من جهل نفسه وخسر نفسه كما قاله الحسن أي فلم يفكر في نفسه فيستدل بما يجده فيها من آثار الصنعة على وحدانية الله وعلى حكمته ثم يستدل بذلك على صحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا) أي اخترناه في الدنيا للرسالة من دون سائر الخليقة عرفناه الملة التي هي جامعة للتوحيد والعدل والشرائع (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (١٣٠) أي مع آبائه المرسلين في الجنة (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ) عند استدلاله بالكواكب والقمر والشمس واطلاعه أمارات الحدوث فيها وذلك قبل النبوة وقبل البلوغ وذلك حين خرج من السرب (أَسْلِمْ) أي فزد في مقالتك وقل لا إله إلا الله. (قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (١٣١) ويقال : قال له ربه حين دعا قومه إلى التوحيد أسلم أي أخلص دينك وعملك لله قال : أسلمت ، أي أخلصت ديني وعملي لله رب العالمين. ويقال : قال له ربه حين ألقي في النار أسلم نفسك إليّ ، قال : أسلمت نفسي لله رب العالمين ، أي فوضت أمري إليه وقد حقق ذلك حيث لم يستغن بأحد من الملائكة حين ألقي في النار (وَوَصَّى).

وقرأ نافع وابن عامر «وأوصى» بهمزة مفتوحة قبل واو ساكنة (بِها) أي باتباع الملة (إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) وكانوا ثمانية إسماعيل وهو أول أولاده وأمه هاجر القبطية وإسحاق وأمه سارة ، والبقية وهم : مدن ، ومدين ، ويقشان ، وزمران ، وأشبق ، وشوح أمهم قنطوراء الكنعانية تزوجها إبراهيم بعد وفاة سارة. (وَيَعْقُوبُ) والأشهر أنه معطوف على إبراهيم ، ويجوز كونه مبتدأ محذوف الخبر والمعنى أن يعقوب وصى كوصية إبراهيم. وقرئ بالنصب عطفا على نبيه ، والمعنى وصى بها إبراهيم بنيه ونافلته يعقوب (يا بَنِيَ) هو على إضمار القول عند البصريين ومتعلق بوصي عند الكوفيين لأنه في معنى القول (إِنَّ اللهَ اصْطَفى) أي اختار (لَكُمُ الدِّينَ) أي

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب : كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة ، والدارمي في كتاب الطهارة ، باب : الاستنجاء بالأحجار ، وابن ماجة في كتاب الطهارة ، باب : الاستنجاء بالحجارة والنهي عن الروث والرمة ، وأحمد في (م ٢ / ص ٢٤٧).

٤٦

دين الإسلام الذي هو صفوة الأديان (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٣٢) أي فاثبتوا على الإسلام حتى تموتوا مسلمين مخلصين له تعالى بالتوحيد والعبادة.

روي أن اليهود قالوا لرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألست تعلم أن يعقوب أوصى بنيه باليهودية يوم مات فنزلت هذه الآية : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) أي أكنتم يا معشر اليهود حضراء (إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) بما ذا أوصى بنيه باليهودية أو الإسلام أي حضره أسباب الموت (إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) أي أيّ شيء تعبدونه بعد موتي (قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (١٣٣) أي مقرون بالعبادة والتوحيد (تِلْكَ) أي إبراهيم ويعقوب وبنوهما (أُمَّةٌ) أي جماعة (قَدْ خَلَتْ) أي مضت بالموت (لَها) أي لتلك الأمة (ما كَسَبَتْ) من الخير أي جزاؤه (وَلَكُمْ) أي يا معشر اليهود (ما كَسَبْتُمْ) أي جزاء ما كسبتموه من العمل (وَلا تُسْئَلُونَ) يوم القيامة (عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٣٤) كما لا يسألون عن عملكم.روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يا صفية عمة محمد ، يا فاطمة بنت محمد ائتوني يوم القيامة بأعمالكم لا بأنسابكم فإني لا أغني عنكم من الله شيئا» (١). وقال : «ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه» (٢). (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى) أي قالت يهود المدينة للمؤمنين : كونوا هودا أي اتبعوا اليهودية ، وقالت : نصارى نجران للمؤمنين : كونوا نصارى أي اتبعوا النصرانية (تَهْتَدُوا) من الضلالة (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أي قل يا أشرف الخلق بل اتبعوا ملة إبراهيم أي بل نكون أهل ملة إبراهيم (حَنِيفاً) أي مستقيما مخالفا لليهود والنصارى منحرفا عنهما (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٣٥) أي ما كان إبراهيم على دينهم وهذا أعلاه ببطلان دعواهم اتباعه عليه‌السلام مع إشراكهم بقولهم : عزير بن الله والمسيح بن الله (قُولُوا) أيها المؤمنون لهؤلاء اليهود والنصارى الذين قالوا لكم ذلك (آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) وهو القرآن (وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ) من الصحف العشرة (وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) وهم بنو يعقوب وكانوا اثني عشر رجلا ، وهم يوسف وبنيامين ، وروبيل ويهوذا ، وشمعون ولاوى ودان ، ونفتالى وجادور بالون ، ويشجر. ودان والصحف إنما أنزلت على إبراهيم لكن لما كانوا متعبدين بتلك الصحف كانوا داخلين تحت أحكامها فكانت منزلة إليهم أيضا كما أن القرآن منزل إلينا (وَما أُوتِيَ مُوسى) من التوراة

__________________

(١) رواه أبو عوانة في المسند (١ : ٩٥) ، والبيهقي في السنن الكبرى (٩ : ١٣٨) ، والطبراني في المعجم الكبير (١٩ : ٧).

(٢) رواه أبو داود في كتاب العلم ، باب : الحث على طلب العلم ، والترمذي في كتاب القرآن ، باب : ١٠ ، وابن ماجة في المقدّمة ، باب : الحث على طلب العلم ، والدارمي في المقدّمة ، باب : في فضل العلم والعالم ، وأحمد في (م ٢ / ص ٢٥٢).

٤٧

(وَعِيسى) من الإنجيل (وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) من كتبهم والمعجزات (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) كدأب اليهود والنصارى آمنوا ببعض وكفروا ببعض بل نؤمن بجميعهم (وَنَحْنُ لَهُ) أي لله (مُسْلِمُونَ) (١٣٦) أي مخلصون (فَإِنْ آمَنُوا) أي اليهود والنصارى (بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) أي فإن آمنوا بالتوراة من غير تصحيف وتحريف كما أنكم آمنتم بالقرآن من غير تصحيف وتحريف فقد اهتدوا لأنهم يتوصلون بذلك إلى معرفة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أو المعنى فإن صاروا مؤمنين بمثل ما به صرتم مؤمنين فقد اهتدوا من الضلالة بدين محمد وإبراهيم (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن الإيمان بالنبيين وكتبهم (فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ) أي فإنما هم مستقرون في خلاف عظيم بعيد من الحق (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) أي سيكفيك الله شقاقهم وقد أنجز الله تعالى وعده بقتل بني قريظة وسبيهم وإجلاء بني النضير وضرب الجزية عليهم (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١٣٧) فيدرك ما يقولون وما يضمرون وقادر على عقوبتهم (صِبْغَةَ اللهِ) أي اطلبوا صبغة الله وهي دين الإسلام عبّر بها عن الدين لكونه تطهير للمؤمنين من أوضار الكفر وحلية تزينهم بآثارهم الجميلة ومتداخلا في قلوبهم كما أن شأن الصبغ بالنسبة إلى أي ثوب كذلك كما قيل : إنما سمي دين الله بصبغة الله لأن اليهود تصبغ أولادها يهودا ، والنصارى تصبغ أولادها نصارى. بمعنى إنهم يلقنونهم فيصبغونهم بذلك لما يشربون في قلوبهم. فقال تعالى : (صِبْغَةَ اللهِ) أي اتبعوا دين الله. (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) أي لا صبغة أحسن من صبغته تعالى لأنه تعالى يصبغ عباده بالإيمان ويطهرهم به من أوساخ الكفر (وَنَحْنُ لَهُ) أي لله الذي أعطانا تلك النعمة الجليلة (عابِدُونَ) (١٣٨) شكرا لها ولسائر نعمه (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ) أي في شأن الله أن اصطفى رسوله من العرب لا منكم وتقولون : لو أنزل الله على أحد لأنزل عليكم وترونكم أحق بالنبوة منا (وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) فإنه أعلم بتدبير خلقه وبمن يصلح للرسالة وبمن لا يصلح لها فلا تعترضوا على ربكم فإن العبد ليس له أن يعترض على ربه بل يجب عليه تفويض الأمر بالكلية له (وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) أي لا يرجع إلينا من أفعالكم ضرر وإنما مرادنا نصحكم وإرشادكم (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) (١٣٩) في العبودية ولستم كذلك فنحن أولى بالاصطفاء (أَمْ تَقُولُونَ).

قرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالتاء على المخاطبة فـ «أم» يحتمل أن تكون متصلة معادلة للهمزة والتقدير بأيّ الحجتين تتعلقون في أمرنا بالتوحيد أم باتباع دين الأنبياء ، وأن تكون منقطعة مقدرة ببل والهمزة دالة على الانتقال من التوبيخ على المحاجة إلى التوبيخ على الافتراء على الأنبياء عليهم‌السلام. وقرأه الباقون بالياء على صيغة الغيبة فـ «أم» منقطعة غير داخلة تحت الأمر واردة من الله تعالى توبيخا لهم لا من جهة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نهج الالتفات. (إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ) أي أولاد يعقوب (كانُوا) قبل نزول التوراة والإنجيل (هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ) يا أشرف الخلق لهم : (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ) بدينهم (أَمِ

٤٨

اللهُ) فإن الله أعلم وخبره أصدق وقد أخبر في التوراة والإنجيل وفي القرآن على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم كانوا مسلمين مبرئين من اليهودية والنصرانية (وَمَنْ أَظْلَمُ) أي لا أحد أظلم (مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً) ثابتة (عِنْدَهُ) كائنة (مِنَ اللهِ) وهو شهادته تعالى لإبراهيم عليه‌السلام بدين الإسلام والبراءة من اليهودية والنصرانية وهم اليهود (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (١٤٠) أي تكتمون من الشهادة (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٤١) هذا تكرير ليكون وعظا لليهود وزجرا لهم حتى لا يتكلموا على فضل الآباء فكل واحد يؤخذ بعمله (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) أي الجهال الذي خفت أحلامهم (مِنَ النَّاسِ) وهم اليهود كما قاله ابن عباس ومجاهد لإنكار النسخ وكراهة التوجه إلى الكعبة.

والقائل منهم رفاعة بن قيس وقردم بن عمرو ، وكعب بن الأشرف ، ورافع بن حرملة والحجاج بن عمرو والربيع بن أبي الحقيق. وقيل : هم المنافقون كما قاله السدي لمجرد الاستهزاء والطعن. وقيل : هم مشركو العرب كما قاله ابن عباس والبراء بن عازب والحسن والأصم للطعن في الدين (ما وَلَّاهُمْ) أي أيّ شيء صرف المؤمنين (عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) وهي بيت المقدس (قُلْ) لهم يا أشرف الخلق (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي الجهات كلها ملكا والخلق عبيده لا يختص به مكان وإنما العبرة بامتثال أمره لا بخصوص المكان (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٤٢) أي موصل إلى سعادة الدارين وقد هدانا إلى ذلك حيث أمرنا بالتوجه إلى بيت المقدس تارة وإلى الكعبة تارة أخرى (وَكَذلِكَ) أي كما هديناكم إلى قبلة هي أوسط القبل (جَعَلْناكُمْ) يا أمة محمد (أُمَّةً وَسَطاً) أي خيارا عدولا ممدوحين بالعلم والعمل (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) يوم القيامة أن رسلهم بلغتهم (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) أي يشهد بعدالتكم.

روي أن الأمم يجحدون تبليغ الأنبياء فيطالب الله تعالى الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا وهو أعلم. فيقولون : أمة محمد يشهدون لنا فيؤتى بأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيشهدون فتقول الأمم الماضية : من أين عرفتم وأنتم بعدنا؟ فيقولون : علمنا ذلك بأخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق فيؤتى بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم وقيل : معنى قوله تعالى : ويكون الرسول عليكم شهيدا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ادعى على أمته أنه بلغهم تقبل منه هذه الدعوى ولا يطالب بشهيد يشهد له فسميت دعواه شهادة من حيث قبولها وعدم توقفها على شيء آخر (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) أي وما صيرنا لك القبلة الآن الجهة التي كنت عليها أولا وهي الكعبة إلا لنعاملهم معاملة من يمتحنهم ونعلم حينئذ من يتبع الرسول في التوجه إلى ما أمر به ممن يرتد عن دين الإسلام. وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي إلى الكعبة فلما هاجر أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس تألفا لليهود فصلى إليها سبعة عشر شهرا

٤٩

ثم حوّل إلى الكعبة وارتد قوم من المسلمين إلى اليهودية وقالوا : رجع محمد إلى دين آبائه (وَإِنْ) هي المخففة من الثقيلة أي وإنها (كانَتْ) أي التولية إلى الكعبة (لَكَبِيرَةً) أي شاقة على الناس (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) منهم وهم الثابتون على الإيمان (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) أي ثباتكم على الإيمان بل أعد لكم الثواب العظيم.

وقيل : إيمانكم بالقبلة المنسوخة وصلاتكم إليها ، أي فإن الله لا يضيع تصديقكم بوجوب تلك الصلاة (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ) أي بالمؤمنين (لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١٤٣) فلا يدع صلاتهم إلى بيت المقدس. (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) فـ «قد» للتكثير أي كثيرا نرى تصرف نظرك في جهة السماء انتظارا للوحي وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يترجى من ربه أن يحوله إلى الكعبة لأنها قبلة إبراهيم أبيه وأدعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرة لهم ، ولمخالفة اليهود فكان ينتظر نزول جبريل بالوحي بالتحويل (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) أي فلنحولنك في الصلاة إلى القبلة تحبها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها في قلبك (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي فاصرف جملة بدنك تلقاء الكعبة أي استقبل عينها بصدرك في الصلاة وإن كنت بعيدا عنها والمراد بالمسجد الحرام هنا الكعبة كما هو في أكثر الروايات. وقال آخرون : المراد بالمسجد الحرام جميع المسجد الحرام.

وقال آخرون : والمراد به الحرم كله. روي عن ابن عباس أنه قال : البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب وهذا قول مالك (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) أي في أيّ موضع كنتم يا أمة محمد منه برّ أو بحر ، مشرق أو مغرب فاصرفوا وجوهكم تلقاء المسجد الحرام الذي هو بمعنى الكعبة (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) هم أحبار اليهود وعلماء النصارى (لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ) أي التولي إلى الكعبة (الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) لمعاينتهم لما هو مسطور في كتبهم من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي إلى القبلتين ، ولكن يكتمونه (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (١٤٤). قرأه ابن عامر وحمزة والكسائي بالتاء إما خطاب للمسلمين أي وما الله بساه عما تعملون أيها المسلمون من امتثال أمر القبلة ، وإما خطاب لأهل الكتاب. أي وما الله بغافل عما تكتمون يا أهل الكتاب خبر الرسول وخبر القبلة. وقرأ الباقون بالياء على أنه راجع لهؤلاء (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) أي والله لئن جئت الذين أعطوا الكتاب اليهود والنصارى بكل حجة قطعية دالة على صدقك في أن تحولك بأمر من الله ما صلوا إلى قبلتك وما دخلوا في دينك (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) أي اليهود والنصارى وهذا بيان أن هذه القبلة لا تصير منسوخة وحسم أطماع أهل الكتاب. وقرئ بتابع قبلتهم بالإضافة (وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) فلليهود بيت المقدس وللنصارى المشرق (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) أي الأمور التي

٥٠

يحبونها منك (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي الوحي في أمر القبلة بأنك لا تعود إلى قبلتهم (إِنَّكَ إِذاً) أي إنك لو فعلت ذلك على سبيل تقدير المستحيل وقوعه (لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (١٤٥) لأنفسهم (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) أي أعطيناهم علم التوراة (يَعْرِفُونَهُ) أي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معرفة جلية يميّزون بينه وبين غيره (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) لا تشتبه عليهم أبناؤهم وأبناء غيرهم. قال عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه لعبد الله بن سلام رضي‌الله‌عنه : كيف هذه المعرفة المذكورة في هذه الآية فقال عبد الله : يا عمر لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ، ومعرفتي بمحمد أشد من معرفتي بابني. فقال عمر : فكيف ذلك؟ فقال : أشهد أنه رسول الله حقا وقد نعته الله تعالى في كتابنا ولا أدري ما تصنع النساء ، فقبّل عمر رأسه وقال : وفقك الله يا أبا سلام فقد صدقت (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ) أي من أهل الكتاب (لَيَكْتُمُونَ الْحَقَ) أي أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (١٤٦) أن صفة محمد مكتوبة في التوراة والإنجيل وأن كتمان الحق معصية (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) مبتدأ وخبر أي الحق الذي أنت عليه يا رسول الله كائن من ربك ويحتمل أن الحق خبر مبتدأ محذوف أي ما كتموه هو الحق ، وقرأ علي رضي‌الله‌عنه الحق من ربك بالنصب على أنه بدل من الأول أو مفعول ليعلمون (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (١٤٧) أي الشاكين في أن علماء أهل الكتاب علموا صحة نبوّتك وشريعتك (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ).

قال بعضهم : أي لكل قوم من المسلمين جهة من الكعبة يصلي إليها جنوبية أو شمالية ، أو شرقية أو غربية. وقال آخرون : ولكل واحد من الرسل وأصحاب الشرائع جهة قبلة فقبلة المقربين العرش ، وقبلة الروحانيين الكرسي ، وقبلة الكروبيين البيت المعمور ، وقبلة الأنبياء الذين قبلك حتى عيسى عليه‌السلام بيت المقدس ، وقبلتك الكعبة وهي قبلة إبراهيم (هُوَ) أي الله (مُوَلِّيها) أي أمر بأن يستقبلها ، في قراءة عبد الله بن عامر النخعي هو مولاها وهي قراءة ابن عباس وأبي جعفر محمد بن علي الباقر. والمعنى هو أي كل قوم مولى لتلك الجهة ، وقرئ ولكل وجهة بالإضافة (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) أي فبادروا يا أمة محمد إلى الطاعات وقبول أوامرها (أَيْنَ ما تَكُونُوا) أي في أيّ موضع تكونوا من بر أو بحر (يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) أي يجمعكم الله يوم القيامة فيجزيكم على الخيرات (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٤٨) من جمعكم وغيره (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) أي من أيّ مكان خرجت إليه للسفر (فَوَلِّ وَجْهَكَ) عند صلاتك (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ) أي هذا الأمر (لَلْحَقُ) أي الثابت الموافق للحكمة (مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (١٤٩) قرأه أبو عمرو بالياء على الغيبة وهو راجع للكفار أي من إنكار أمر القبلة والباقون بالتاء على الخطاب (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) في أسفارك ومغازيك من المنازل القريبة والبعيدة (فَوَلِّ وَجْهَكَ) في الصلاة (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي تلقاءه (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ) من أقطار الأرض مقيمين أو مسافرين في بر أو بحر (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) في الصلاة من محالكم (شَطْرَهُ) أي المسجد

٥١

الحرام وكرر الله تعالى أمر التولي لشطر المسجد الحرام ثلاث مرات لتأكيد أمر القبلة ، لأن النسخ من مظان الفتنة والشبهة مع أنه تعالى علّق بكل آية فائدة أما في الآية الأولى فبين أن أهل الكتاب يعلمون أن أمر نبوة محمد وأمر هذه القبلة حق لأنهم شاهدوا ذلك في التوراة والإنجيل ، وأما في الآية الثانية فبين أنه تعالى يشهد أن ذلك حق وشهادة الله بكونه حقا مغايرا لعلم أهل الكتاب بكونه حقا ، وأما في الآية الثالثة فبين أنه تعالى قطع حجة اليهود والمشركين ، وذلك قوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ) أي اليهود والمشركين (عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) أي مجادلة في التولي. والمعنى أن التولية عن الصخرة تدفع احتجاج اليهود بأن محمدا يجحد ديننا ويتبع قبلتنا ، وذلك مدفوع بأن المنعوت في التوراة قبلته صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكعبة وتدفع احتجاج المشركين بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدّعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) أي إلا المعاندين منهم فإنهم يقولون ما تحول إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه وحبا لبلده (فَلا تَخْشَوْهُمْ) أي فلا تخافوا مطاعنتهم في قبلتكم فإنهم لا يضرونكم (وَاخْشَوْنِي) أي احذروا عقابي فلا تخالفوا أمري (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) بالقبلة كما أتممت عليكم بالدين (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٥٠) إلى الحق (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ) أي من نسبكم وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا إما متعلق بما قبله أي ولأتم نعمتي عليكم في أمر القبلة كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول. وإما متعلق بما بعده أي كما ذكرتكم بالإرسال فاذكروني (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا) أي يقرأ عليكم القرآن بالأمر والنهي (وَيُزَكِّيكُمْ) أي يطهركم من الذنوب بالتوحيد والصدقة (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ) أي معاني القرآن (وَالْحِكْمَةَ) أي السنة (وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (١٥١) أي يعلمكم أخبار الأمم الماضية وقصص الأنبياء وأخبار الحوادث المستقبلة (فَاذْكُرُونِي) باللسان والقلب والجوارح فالصلاة مشتملة على الثلاثة.

فالأول : كالتسبيح والتكبير. والثاني : كالخشوع وتدبر القراءة. والثالث : كالركوع والسجود. (أَذْكُرْكُمْ) بالإحسان والرحمة والنعمة في الدنيا والآخرة (وَاشْكُرُوا لِي) نعمتي بالطاعة (وَلا تَكْفُرُونِ) (١٥٢) أي لا تتركوا شكرها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا) على تمحيص الذنوب (بِالصَّبْرِ) على أداء فرائض الله وترك المعاصي وعلى المرازي (وَالصَّلاةِ) أي بكثرة صلاة التطوع في الليل والنهار (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (١٥٣) بالنصر (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ) كسائر الأموات (بَلْ أَحْياءٌ) أي بل هم كإحياء أهل الجنة في الجنة يرزقون من التحف (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) (١٥٤) بحياتهم وحالهم.

قال ابن عباس : نزلت الآية في قتلى بدر وقتل من المسلمين يومئذ أربعة عشر رجلا : ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار. فالمهاجرون : عبيدة بن الحرث بن عبد المطلب وعمرو بن أبي وقاص ، وذو الشمالين ، وعمرو بن نفيلة ، وعامر بن بكر ، ومهجع بن عبد الله. والأنصار : سعيد بن خيثمة ، وقيس بن عبد المنذر ، وزيد بن الحرث ، وتميم بن الهمام ، ورافع بن

٥٢

المعلى ، وحارثة بن سراقة ، ومعوذ بن عفراء ، وعوف بن عفراء. وكان الناس يقولون : مات فلان ومات فلان ، فنهى الله تعالى أن يقال فيهم إنهم ماتوا. وقال آخرون : إن الكفار والمنافقين قالوا : إن الناس يقتلون أنفسهم طلبا لمرضاة محمد من غير فائدة فنزلت تلك الآية (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) أي والله لنصيبنكم إصابة من يختبر أحوالكم أتصبرون على البلاء وتستسلمون للقضاء أم لا؟ (بِشَيْءٍ) أي بقليل (مِنَ الْخَوْفِ) من العدو (وَالْجُوعِ) في قحط السنين (وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ) بالهلاك (وَالْأَنْفُسِ) بالقتل والموت (وَالثَّمَراتِ) بالجوانح.

قال الشافعي رضي‌الله‌عنه : الخوف : خوف الله ، والجوع : صيام شهر رمضان ، والنقص من الأموال : الزكاة والصدقات ، والنقص من الأنفس : الأمراض ، ومن الثمرات : موت الأولاد. (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (١٥٥) الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل من يتأتى منه البشارة. (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا) باللسان والقلب معا (إِنَّا لِلَّهِ) أي نحن عبيد الله (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) (١٥٦) بعد الموت. قال أبو بكر الوراق : «إنا لله» إقرار منا بالملك له تعالى وإنا إليه راجعون إقرار على أنفسنا بالهلاك (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ) أي مغفرة (مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) أي لطف (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (١٥٧) للاسترجاع حيث سلموا لقضاء الله تعالى (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) أي من علامات مواضع العبادات لله بالحج والعمرة. (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) أي فلا إثم عليه في أن يسعى بينهما سبعا.

قال ابن عباس : كان على الصفا صنم اسمه أساف ، وعلى المروة صنم آخر اسمه نائلة. وكان أهل الجاهلية يطوفون بهما ويتمسحون بهما فلما جاء الإسلام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين فأذن الله تعالى فيه وأخبر أنه من شعائر الله لا من شعائر الجاهلية (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) أي زاد على ما فرض الله عليه من حج أو عمرة حتى طاف بالصفا والمروة تطوعا (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ) أي مجاز على الطاعة (عَلِيمٌ) (١٥٨) أي يعلم قدر الجزاء فلا يبخس المستحق حقه. (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ) هي كل ما أنزله الله على الأنبياء (وَالْهُدى) أي ما يهدى في وجوب اتباعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإيمان به من الدلائل العقلية والنقلية (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ) أي لبني إسرائيل (فِي الْكِتابِ) أي التوراة (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ) أي يبعدهم من رحمته (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (١٥٩) أي يسألون الله أن يلعنهم ويقولون : اللهم العنهم ، وهؤلاء دواب الأرض. كذا قال مجاهد أخرجه سعيد بن منصور وغيره. وقال قتادة والربيع هم الملائكة والمؤمنون أخرجه ابن جرير. (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) أي ندموا على ما فعلوا (وَأَصْلَحُوا) بالعزم على عدم العود (وَبَيَّنُوا) ما كتموه (فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) أي أقبل توبتهم (وَأَنَا التَّوَّابُ) أي القابل لتوبة من تاب (الرَّحِيمُ) (١٦٠) أي المبالغ في نشر الرحمة لمن مات على التوبة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالكتمان وغيره (وَماتُوا وَهُمْ

٥٣

كُفَّارٌ) بالله ورسوله (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١٦١) حتى أهل دينهم فإنهم يوم القيامة يلعن بعضهم بعضا (خالِدِينَ فِيها) أي اللعنة (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) طرفة عين (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) (١٦٢) أي يؤجلون من العذاب فإذا استمهلوا لا يمهلون ، وإذا استغاثوا لا يغاثون (وَإِلهُكُمْ) أي المستحق منكم العبادة (إِلهٌ واحِدٌ) أي فرد في الإلهية (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا معبود لنا موجود إلّا الإله الواحد (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) (١٦٣) خبران آخران للمبتدأ ، فالرحمن المبالغ في النعمة والرحيم كثير النعمة (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (١٦٤) اعلم أنه تعالى لما حكم بالوحدانية ذكر ثمانية أنواع من الدلائل التي يمكن أن يستدل بها على وجوده تعالى وعلى براءته من الأنداد.

النوع الأول : السموات والأرض والآيات في السماء هي : سمكها وارتفاعها بغير عمد ولا علاقة وما يرى فيها من الشمس والقمر والنجوم ، والآيات في الأرض مدّها وبسطها على الماء ، وما يرى فيها من الجبال والبحار والمعادن والجواهر والأنهار والأشجار ، والثمار.

النوع الثاني : الليل والنهار والآيات فيهما تعاقبهما بالمجيء والذهاب ، واختلافهما في الطول والقصر ، والزيادة والنقصان. والنور والظلمة وانتظام أحوال العباد في معاشهم بالراحة في الليل والسعي في الكسب في النهار.

النوع الثالث : السفن والآيات فيها جريانها على وجه الماء وهي موقرة بالأثقال والرحال فلا ترسب ، وجريانها بالريح مقبلة ومدبرة وتسخير البحر لحمل السفن مع قوة سلطان الماء ، وهيجان البحر فلا ينجي منه إلا الله تعالى.

النوع الرابع : ركوب السفن والحمل عليها في التجارة والآيات في ذلك أن الله تعالى لو لم يقو قلوب من يركب هذه السفن لما تمّ الغرض في تجاراتهم ومنافعهم ، وأيضا فإن الله تعالى خصّ كل قطر من أقطار العالم بشيء معين فصار ذلك سببا يدعوهم إلى اقتحام الأخطار في الأسفار من ركوب السفن وجوف البحر وغير ذلك فالحامل ينتفع لأنه يربح والمحمول إليه ينتفع بما حمل إليه.

النوع الخامس : نزول المطر من السماء والآيات في ذلك أن الله جعل الماء سببا لحياة جميع الموجودات من حيوان ونبات ، وأنه ينزله عند الحاجة إليه بمقدار المنفعة وعند الاستسقاء وينزله بمكان دون مكان.

٥٤

النوع السادس : انتشار كل دابة في الأرض والآيات في ذلك أن جنس الإنسان يرجع إلى أصل واحد وهو آدم مع ما فيهم من الاختلاف في الصور والأشكال والألوان والألسنة والطبائع والأخلاق والأوصاف إلى غير ذلك ، ثم يقاس على بني آدم سائر الحيوان.

النوع السابع : الريح والآيات فيه أنه جسم لطيف لا يمسك ولا يرى ، وهو مع ذلك في غاية القوة بحيث يقلع الشجر والصخر ويخرب البنيان وهو مع ذلك حياة الوجود فلو أمسك طرفة عين لمات كل ذي روح وأنتن على ما وجه الأرض.

النوع الثامن : السحاب والآيات في ذلك أن السحاب مع ما فيه من المياه العظيمة التي تسيل منها الأودية العظيمة يبقى معلقا بين السماء والأرض بلا علاقة تمسكه ولا دعامة تسنده.

قال القاضي زكريا : إن السحاب من شجرة مثمرة في الجنة والمطر من بحر تحت العرش (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً) أي ومن الكفار من يعبد من غير الله أوثانا (يُحِبُّونَهُمْ) حبا كائنا (كَحُبِّ اللهِ) أي كحبهم لله تعالى أي يسوّون بينه تعالى وبين الأصنام في الطاعة والتعظيم أو يحبون عبادتهم أصنامهم كحب المؤمنين إلى الله تعالى بالعبادة (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) من الكفار لأصنامهم فإن المؤمنين لا يتضرعون إلا إلى الله تعالى بخلاف المشركين فإنهم يعدلون إلى الله عند الحاجة وعند زوال الحاجة يرجعون إلى الأصنام. (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) (١٦٥).

قرأ الجمهور ولو يرى بالياء المنقوطة من تحت مع فتح الهمزة من أن عند القراء السبع. والمعنى لو لم يعلم الذين أشركوا بالله شدة عذاب الله وقوته لما اتخذوا من دونه أندادا ، وعلى قراءة بعض القراء غير السبع بكسر الهمزة من إن كان التقدير ولو يعلم الذين ظلموا بعبادة الأصنام عجزها حال مشاهدتها عذاب الله لقالوا : إن القوة لله. وقرأ نافع وابن عامر «ترى» بالتاء المنقوطة من فوق مع فتح الهمزة على الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب والمعنى ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب ، ترى أن القوة لله جميعا ولو كسرت الهمزة كان المعنى ولو ترى الذين أشركوا إذ يرون العذاب لقلت : إن القوة لله جميعا. وقرأ ابن عامر يرون بضم الياء (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا) أي القادة وهم الرؤساء من مشركي الإنس (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) أي السفلة (وَرَأَوُا الْعَذابَ) أي وقد رأى القادة والسفلة العذاب في الآخرة (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) (١٦٦) أي تقطعت عنهم المواصلات والأرحام والأعمال والعهود والألفة بينهم أي أنكر القادة إضلال السفلة يوم القيامة حين يجمعهم الله (وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) أي السفلة (لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) أي ليت لنا رجعة إلى الدنيا (فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ) أي القادة هناك (كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا) اليوم (كَذلِكَ) أي كما أراهم

٥٥

الله شدة عذابه (يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ) أي ندامات شديدة (عَلَيْهِمْ) أي على تفريطهم (وَما هُمْ) أي القادة والسفلة (بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (١٦٧) بعد دخولها (يا أَيُّهَا النَّاسُ).

قال ابن عباس : نزلت الآية في الذين حرموا على أنفسهم السوائب والوصائل والبحائر وهم قوم من ثقيف ، وبني عامر بن صعصعة ، وخزاعة ، وبني مدلج (كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ) أي من الحرث والأنعام (حَلالاً طَيِّباً) أي مباحا بأن لا يكون متعلقا به حق الغير (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي لا تقتدوا طرق وساوس الشيطان في تحريم الحرث والأنعام (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (١٦٨) أي ظاهر العداوة عند ذوي البصيرة (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ) أي القبيح من الذنوب التي لا حد فيها (وَالْفَحْشاءِ) أي المعاصي التي فيها حد (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (١٦٩) أي وبأن تفتروا على الله ما لا تعلمون أن الله تعالى حرم هذا وذاك (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) أي لمشركي العرب (اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) من التوحيد وتحليل الطيبات (قالُوا) لا نتبعه (بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أي ما وجدناهم عليه من عبادة الأصنام وتحريم الطيبات ونحو ذلك قال الله تعالى : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ) أي أيتبعونهم وإن كان آباؤهم (لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً) من الدين (وَلا يَهْتَدُونَ) (١٧٠) إلى الحق (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) أي وصفة الذين كفروا في اتباعهم آباءهم وتقليدهم لهم كصفة الراعي الذي يصوت على ما لا يسمع من البهائم فإنها لا تسمع إلا صوت الراعي من غير فهم لكلامه أصلا ، فكما أن الكلام مع البهائم عبث عديم الفائدة فكذا التقليد. ويقال : مثل الذين كفروا في قلة عقلهم في عبادتهم للأوثان كمثل الراعي الذي يتكلم مع البهائم فكما يحكم على الراعي بقلة العقل فكذا هؤلاء (صُمٌ) لأنهم لم يسمعوا الحق (بُكْمٌ) لأنهم لم يستجيبوا لما دعوا إليه (عُمْيٌ) لأنهم أعرضوا عن الدلائل (فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (١٧١) أي لا يفقهون أمر الله ودعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما لا تفهم البهائم كلام الراعي (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أي كلوا من حلالات ما أعطيناكم من الحرث والأنعام (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) على ما رزقكم من الطيبات (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (١٧٢) أي إن صح أنكم تخصونه بالعبادة وتقرون أنه تعالى هو المنعم لا غير فإن الشكر رأس العبادات (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) أي أكلها والانتفاع بها وهي التي ماتت على غير ذكاة أما السمك والجراد فهما خارجان عنهما باستثناء الشرع كخروج الطحال من الدم (وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) أي جميع أجزائه وإنما خصّ اللحم لأنه المقصود بالأكل (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) فما موصول وبه نائب الفاعل والباء بمعنى في مع حذف مضاف. والمعنى وما صيح في ذبحه لغير الله والكفار يرفعون الصوت لآلهتهم عند الذبح.

وقال الربيع بن أنس وابن زيد : والمعنى وما ذكر عليه غير اسم الله وعلى هذا فغير الله نائب

٥٦

الفاعل واللام صلة. قال العلماء : لو أن مسلما ذبح ذبيحة وقصد بذبحها التقرب إلى غير الله صار مرتدا وذبيحته ذبيحة مرتد (فَمَنِ اضْطُرَّ) أي أحوج إلى أكل ما ذكر بأنه أصابه جوع شديد ولم يجد حلالا يسدّ به الرمق أو أكره على تناول ذلك (غَيْرَ باغٍ) أي غير طالب للذة (وَلا عادٍ) أي متجاوز سد الجوعة كما نقل عن الحسن وقتادة والربيع ، ومجاهد وابن زيد. وقيل : غير باغ على الوالي ولا عاد على المسلمين بقطع الطريق وعلى هذا لا يباح للعاصي بالسفر وهو ظاهر مذهب الشافعي وقول أحمد رحمهما‌الله (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) في أكل ما ذكر. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لمن أكل في حال الاضطرار (رَحِيمٌ) (١٧٣) حيث أباح في تناول قدر الحاجة (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ) المشتمل على الأحكام من المحللات والمحرمات وعلى نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَيَشْتَرُونَ بِهِ) أي بالكتمان (ثَمَناً قَلِيلاً) أي عوضا حقيرا (أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) أي إلا الحرام الذي هو سبب النار يوم القيامة (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) بكلام طيب (يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ) أي لا يطهرهم من دنس الذنوب (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٧٤) يخلص ألمه إلى قلوبهم (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ) أي أولئك الكاتمون اختاروا ما تجب به النار على ما تجب به الجنة (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) (١٧٥) أي فما أجرأهم على النار (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) أي ذلك الوعيد معلوم لهم بسبب أن الله نزل الكتاب بالصدق أو ذلك العذاب بسبب أن الله نزل الكتاب ببيان الحق وهم قد حرفوا تأويله (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ) بأن آمنوا ببعض كتب الله تعالى وكفروا ببعضها (لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) (١٧٦) أي لفي خلاف بعيد عن الهدى (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) في الصلاة (قِبَلَ الْمَشْرِقِ) أي جهة الكعبة (وَالْمَغْرِبِ) أي جهة بيت المقدس.

وقرأ حفص وحمزة بنصب «البر» على أنه خبر مقدم (وَلكِنَّ الْبِرَّ) ولكن الشخص البر (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) أي مع حب المال وهو أن يؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر (ذَوِي الْقُرْبى) أي القرابة (وَالْيَتامى) أي المحاويج منهم (وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) أي مار الطريق (وَالسَّائِلِينَ) أي الذين ألجأتهم الحاجة إلى السؤال (وَفِي الرِّقابِ) أي في المكاتبين. وقيل : في اشتراء الرقاب لإعتاقها (وَأَقامَ الصَّلاةَ) المفروضة منها (وَآتَى الزَّكاةَ) أي المفروضة (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ) عطف على من آمن (إِذا عاهَدُوا) فيما بينهم وبين الله وفيما بينهم وبين الناس (وَالصَّابِرِينَ) مفعول لفعل محذوف كاذكر (فِي الْبَأْساءِ) أي الخوف والبلايا والشدائد (وَالضَّرَّاءِ) أي الأمراض والأوجاع والجوع (وَحِينَ الْبَأْسِ) أي وقت شدة القتال في سبيل الله (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) في الدين وطلب البر (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (١٧٧) عن الكفر.

٥٧

تنبيه : قوله «ليس البر» هو اسم جامع لكل طاعة ، ثم قوله : ولكن البر هو اسم فاعل والأصل برر بكسر الراء الأولى فلما أريد الإدغام نقلت كسرة الراء إلى الباء بعد سلب حركتها أو مصدر بمعنى اسم الفاعل الذي هو البار كما هو القراءة الشاذة ، واختلف في المخاطب بهذه الآية. فقال بعضهم : المراد مخاطبة اليهود لما شددوا في الثبات على التوجه جهة بيت المقدس.فقال تعالى : ليس البر هذه الطريقة ولكن البر من آمن بالله. وقال بعضهم : بل المراد مخاطبة المؤمنين لما ظنوا أنهم قد نالوا البغية بالتوجه إلى الكعبة من حيث كانوا يحبون ذلك فخوطبوا بهذا الكلام. وقال بعضهم : بل هو خطاب للكل. وقال الله تعالى : إن صفة البر لا تحصل بمجرد استقبال المشرق والمغرب بل البر لا يحصل إلا عند مجموع أمور.

أحدها : الإيمان بالله فأهل الكتاب أخلّوا بذلك فإن اليهود قالوا بالتجسيم ووصفوا الله تعالى بالبخل ، وقالوا عزير ابن الله. وأن النصارى قالوا : المسيح ابن الله.

وثانيها : الإيمان باليوم الآخر ، فاليهود أخلّوا بهذا الإيمان حيث قالوا : لن تمسنا النار إلا أياما معدودة والنصارى أنكروا المعاد الجسماني.

وثالثها : الإيمان بالملائكة ، فاليهود أخلّوا بذلك حيث أظهروا عداوة جبريل عليه‌السلام.

ورابعها : الإيمان بكتب الله ، فاليهود والنصارى قد أخلّوا بذلك حيث لم يقبلوا القرآن.

وخامسها : الإيمان بالنبيين ، واليهود أخلّوا بذلك حيث قتلوا الأنبياء وطعنوا في نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وسادسها : بذل الأموال على وفق أمر الله تعالى ، واليهود أخلّوا بذلك لأنهم يلقون الشبهات لطلب المال القليل.

وسابعها : إقامة الصلوات والزكوات ، فاليهود كانوا يمنعون الناس منهما.

وثامنها : الوفاء بالعهد ، واليهود نقضوا العهد (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) أي فرض عليكم المماثلة وصفا وفعلا (فِي الْقَتْلى) أي بسبب قتل القتلى عند مطالبة الولي بالقصاص (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) أي الحر يقتل بقتل الحر لا بقتل العبد (وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) وبالحر من باب أولى (وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) وبيّنت الأحاديث أنه يقتل أحد النوعين الذكر والأنثى بالآخر ويعتبر أن لا يفضل القاتل القتيل بالدين والأصلية والحرية. (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) أي فمن سهل له من أولياء الدم من أخيه الذي هو القاتل شيء من المال فعلى ولي الدم مطالبة ذلك المال من ذلك القاتل من غير تشديد بالمطالبة ، وعلى القاتل أداء الدية إلى ولي الدم من غير

٥٨

مماطلة وبخس بل على بشر وطلاقة ، وقول جميل ومعنى هذه الآية إن الله تعالى حثّ الأولياء إذا دعوا إلى الصلح من الدم على الدية كلها أو بعضها أن يرضوا به ويعفو عن القود. (ذلِكَ) أي الحكم من جواز القصاص والعفو عنه على الدية (تَخْفِيفٌ) في حقكم (مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) للقاتل من القتل لأن العفو وأخذ الدية محرمان على اليهود بل فرض عليهم القصاص وحده والقصاص والدية محرمان على النصارى بل فرض عليهم العفو على الإطلاق وفي ذلك تضييق على كل من الوارث والقاتل ، وهذه الأمة مخيّرة بين الثلاث : القصاص ، والدية ، والعفو تيسيرا عليهم (فَمَنِ اعْتَدى) أي جاوز الحد (بَعْدَ ذلِكَ) أي بعد بيان كيفية القصاص والدية (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٧٨) أي شديد الألم في الآخرة (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) أي ولكم في مشروعية القصاص حياة لأن من أراد قتل الشخص إذا علم القصاص ارتدع عن القتل فيتسبب لحياة نفسين ولأن الجماعة يقتلون بالواحد فتنتشر الفتنة بينهم فإذا اقتص من القاتل سلم الباقون فيكون ذلك سببا لحياتهم (يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي ذوي العقول الخالية من الهوى (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٧٩) أي لكي تتقوا المساهمة في أمره وترك المحافظة عليه. (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ) أي فرض عليكم الوصية للوالدين والأولاد كما قاله عبد الرحمن بن زيد أو الرحم غير الوالدين ، كما قاله ابن عباس ومجاهد بالعدل بحسب استحقاقهم فلا يفضل الغني ولا يتجاوز الثلث إذا ظهرت على أحدكم أمارات الموت كالمرض المخوف إن ترك مالا.

قال الأصم : إنهم كانوا يوصون للأبعدين طلبا للفخر والشرف ويتركون الأقارب في الفقر والمسكنة فأوجب الله تعالى في أول الإسلام الوصية لهؤلاء منعا للقوم عمّا كانوا اعتادوه (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (١٨٠) أي حق ذلك حقا على الموحدين (فَمَنْ بَدَّلَهُ) أي الوصية من وصي وشاهد إما بإنكار الوصية من أصلها أو بالنقص فيها أو بتبديل صفتها أو غير ذلك (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) أي بعد علم الوصية (فَإِنَّما إِثْمُهُ) أي التبديل (عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) أي الوصية لا على الميت لأنهم خانوا وخالفوا حكم الشرع (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لوصية الميت (عَلِيمٌ) (١٨١) بالمبدل فيجازي الميت بالخير والمبدل بالشر (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ) قرأه شعبة وحمزة والكسائي بفتح الواو وتشديد الصاد أي من علم من ميت (جَنَفاً) أي ميلا عن الحق بالخطإ في الوصية (أَوْ إِثْماً) أي عمدا في الميل في الوصية (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) أي فعل ما فيه الصلاح بين الوصي والموصى لهم برده إلى الثلث والعدل (فَلا إِثْمَ) أي على من علم ذلك في هذا الصلح وإن كان فيه تبديل لأنه تبديل باطل بحق بخلاف الأول (عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) للميت إن جار وأخطأ للوصي (رَحِيمٌ) (١٨٢) للوصي حيث رخص عليه الرد إلى الثلث والعدل. ومعنى الآية بأن الميت إذا أخطأ في وصيته أو جار فيها متعمدا فلا إثم على من علم ذلك أن يغيّره ويرده إلى الصلاح بعد موته وهذا قول ابن عباس وقتادة والربيع. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) من الأنبياء عليهم

٥٩

الصلاة والسلام والأمم من لدن آدم عليه‌السلام (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٨٣) أي تتقون الله بصومكم وترككم للشهوات فالرغبة في المطعوم والمنكوح أشد من الرغبة في غيرهما والاتقاء عنهما أشق فإذا سهل عليكم اتقاء الله بتركهما كان اتقاء الله بترك غيرهما أسهل وأخف أو المعنى لعلكم تتقون ترك المحافظة على الصوم بسبب عظم درجاته (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) أي في أيام مقدرات بعدد معلوم ثلاثين يوما وهي رمضان (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) مرضا يضره الصوم ولو في أثناء اليوم (أَوْ عَلى سَفَرٍ) أي مستقرا على سفر قصر (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أي فعليه إن أفطر صوم عدة أيام المرض والسفر أي بقدر ما أفطر من رمضان ولو مفرقا. وعن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال : إن الله تعالى لم يرخص لكم في فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه إن شئت فواتر وإن شئت ففرّق.

وروي أن رجلا قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم علي أيام من رمضان أفيجزيني أن أقضيها متفرقة؟ فقال له : «أ رأيت لو كان عليك دين فقضيته الدرهم والدرهمين أما كان يجزيك؟» قال : نعم. قال : «فالله أحق أن يعفو ويصفح»(١). وعن عائشة أن حمزة الأسلمي سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله هل أصوم على السفر؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صم إن شئت وأفطر إن شئت»(٢).

وروى الشافعي أن عطاء قال لابن عباس أقصر إلى عرفة؟ فقال : لا ، فقال : إلى مر الظهران؟ فقال : لا ، لكن اقصر إلى جدة وعسفان والطائف. قال مالك : بين مكة وجدة وعسفان أربعة برد. (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) أي وعلى المطيقين للصيام إن أفطروا (فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) أي قدر ما يأكله في يوم وهو مد من غالب قوت بلده. وقرأ نافع وابن عامر بإضافة فدية وجمع مساكين. قال ابن عمر وسلمة بن الأكوع وغيرهما : إن هذه الآية منسوخة وذلك أنهم كانوا في صدر الإسلام مخيّرين بين الصيام والفدية ، وإنما خيّرهم الله تعالى بينهما لأنهم كانوا لم يتعودوا الصيام فاشتد عليهم فرخص الله لهم في الإفطار. وقيل : إن هذه الآية نزلت في حق الشيخ

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الصوم ، باب : من مات وعليه صوم ، «بما معناه» ، ومسلم في كتاب الصيام ، باب : ١٥٤.

(٢) رواه البخاري في كتاب الصوم ، باب : الصوم في السفر والإفطار ، ومسلم في كتاب الصيام ، باب : ١٠٣ ، والدارمي في كتاب الصوم ، باب : الصوم في السفر ، وأبو داود في كتاب الصوم ، باب : الصوم في السفر ، والنسائي في كتاب الصيام ، باب : ذكر الاختلاف على سليمان بن يسار ، وابن ماجة في كتاب الصيام ، باب : ما جاء في الصوم في السفر ، والموطأ في كتاب السفر ، باب : ما جاء في الصيام في السفر ، وأحمد في (م ٦ / ص ٤٦ ، ١٩٣).

٦٠