مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) وهذه الآية بيان أن الإنسان قليل الصبر عند نزول البلاء ، قليل الشكر عند وجدان النعماء فإذا مسه الضر أقبل على التضرع والدعاء مضطجعا أو قاعدا أو قائما ، مجتهدا في ذلك الدعاء طالبا من الله تعالى إزالة تلك المحنة ، وتبديلها بالمنحة فإذا كشف الله تعالى عنه بالعافية أعرض عن الشكر ولم يتذكر ذلك الضر ولم يعرف قدر الإنعام ، وصار بمنزلة من لم يدع الله تعالى لكشف ضره. فالواجب على العاقل أن يكون صابرا عند نزول البلاء شاكرا عند الفوز بالنعماء ، وأن يكون كثير الدعاء والتضرع في أوقات الراحة والرفاهية حتى يكون مجاب الدعوة في وقت المحنة. وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من سره أن يستجاب له عند الكرب والشدائد فليكثر الدعاء عند الرخاء» (١). (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢) أي هكذا زين لمن بذل العقل والفهم والحواس لأجل لذات الدنيا ، وهي خسيسة جدا في مقابلة سعادات الدار الآخرة ما كانوا يعملون من الإعراض عن الذكر ، والدعاء والانهماك في الشهوات ، والكاف مقحمة للدلالة على زيادة فخامة المشار إليه.(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ) أي الأمم (مِنْ قَبْلِكُمْ) أي من قبل زمانكم يا أهل مكة مثل قوم نوح وعاد وأشباههم (لَمَّا ظَلَمُوا) أي حين فعلوا الظلم بالتكذيب (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالمعجزات الدالة على صدقهم (وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) أي وقد علم الله منهم أنهم يصرون على الكفر (كَذلِكَ) أي مثل الإهلاك الشديد الذي هو الاستئصال بالمرة (نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) (١٣) أي نجزي كل طائفة مجرمين لاشتراكهم لأولئك المهلكين في الجرائم التي هي تكذيب الرسول (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ) يا أهل مكة (خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد إهلاك أولئك القرون (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (١٤) أي لنعاملكم معاملة من يطلب العلم بما يكون منكم من خير أو شر فنجازيكم على حسب عملكم (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ) أي أهل مكة الوليد بن المخزومي ، والعاص بن وائل السهمي ، والأسود بن المطلب ، والأسود بن عبد يغوث ، والحارث بن الحنظلة ، (آياتُنا) الدالة على بطلان الشرك (بَيِّناتٍ) أي ظاهرة في دلالتها على وحدانيتنا وصحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا) أي لا يرجون في لقائنا خيرا على طاعة لأنهم لا يؤمنون بالبعث بعد الموت (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا) أي بكتاب آخر على غير ترتيب هذا الكتاب (أَوْ بَدِّلْهُ) بأن تجعل مكان آية العذاب آية رحمة ومكان الحرام حلالا ، ومكان الذم مدحا وإنما قالوا ذلك على سبيل السخرية كقولهم : لو جئتنا بقرآن آخر أو بدلت هذا القرآن لآمنا بك أو على سبيل التجربة حتى إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو فعل ذلك علموا أنه كذاب في قوله : إن هذا القرآن ينزل عليه من عند الله (قُلْ) لهم : (ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) أي ما يستقيم لي أن أغيره من قبل نفسي (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ)

__________________

(١) رواه الحاكم في المستدرك (١ : ٥٤٤).

٤٨١

أي ما أتبع في شيء مما أفعل وأترك إلا ما يوحى إليّ في القرآن من غير تغيير له في شيء أصلا (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) بالإعراض عن اتباع الوحي (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١٥) وهو يوم القيامة (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) أي قل يا أشرف الخلق للذين طلبوا منك تغيير القرآن : لو شاء الله عدم تلاوتي للقرآن عليكم بأن لم ينزله عليّ ولم يأمرني بتلاوته ما تلوته عليكم وما أعلمكم به بواسطتي.

وقرأ الحسن «ولا أدرؤكم به» أي ولا أجعلكم بتلاوته عليكم خصما تدرأونني بالجدال وتكذبونني. وقرأ ابن عباس «ولا أنذرتكم به». وعن ابن كثير و «لأدراكم» بلام التأكيد التي تقع في جواب لو ، أي ولأعلمكم به على لسان غيري فإنه حق لا محيص عنه ولو لم يرسلني الله به لأرسل غيري به (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً) أي فقد مكثت فيما بينكم مقدار أربعين سنة تحفظون أحوالي طرا (مِنْ قَبْلِهِ) أي قبل أن يوحى إليّ هذا القرآن لم آتكم بشيء (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٦) أي ألا تدبرون فلا تعقلون أن القرآن ليس من تلقاء نفسي ، ووجه هذا الاحتجاج أن أولئك الكفار كانوا قد شاهدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أول عمره إلى ذلك الوقت وعلموا أحواله وأنه كان أميا لم يطالع كتابا ولم يتلمذ لأستاذ ، ثم بعد أربعين سنة جاءهم بهذا الكتاب المشتمل على نفائس العلوم وأخبار الماضين وفيه من الأحكام والأدب والفصاحة ما أعجز العلماء والفصحاء عن معارضته وكل من له عقل سليم يعلم أن هذا القرآن لا يحصل إلا بالوحي من الله تعالى (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) أي إني لم أفتر على الله كذبا ولم أكذب عليه في قولي إن هذا القرآن من عند الله ولو لم يكن من عند الله بحيث افتريته على الله لما كان في الدنيا أحد أظلم على نفسه مني فإذا أنكرتم ذلك فقد كذبتم بآيات الله فثبت كونكم أظلم الناس على أنفسكم (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) (١٧) أي لا ينجو من عذاب الله المشركون (وَيَعْبُدُونَ) أي هؤلاء المشركون (مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ) في الدنيا والآخرة (وَلا يَنْفَعُهُمْ) فيهما وهو الأصنام كان أهل الطائف يعبدون اللات وأهل مكة يعبدون عزى ومناة وهبل وإسافا ونائلة (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ) الأوثان (شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) أي فإنهم يزعمون أنهم تشفع لهم في الدنيا في إصلاح معايشهم لأنهم كانوا لا يعتقدون بعثا بعد الموت أو تشفع لهم في الآخرة أن يبعثوا لأنهم كانوا شاكين في البعث (قُلْ) تبكيتا لهم : (أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أي أتخبرون الله بالذي لم يعلمه الله ـ وهو شفاعة الأصنام ـ وإذا لم يعلم الله شيئا استحال وجود ذلك الشيء لأنه تعالى لا يعزب عن علمه شيء (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١٨) أي عن شركائهم الذين يعتقدونهم شفعاء لهم عند الله.

وقرأ حمزة والكسائي «تشركون» بالتاء على الخطاب (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً)

٤٨٢

أي كانوا على دين الإسلام من لدن آدم إلى أن قتل قابيل هابيل (فَاخْتَلَفُوا) بأن كفر بعضهم وثبت آخرون على دين الإسلام (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) أي لو لا أنه تعالى أخبر بأنه يبقى التكليف على عباده وإن كانوا كافرين (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بتعجيل الحساب والعقاب لكفرهم ، ولما كان ذلك سببا لزوال التكليف وكان إبقاؤه أصلح أخر الله العقاب إلى الآخرة (فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١٩) أي في الدين الذي اختلفوا بسببه (وَيَقُولُونَ) أي كفار مكة (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ) أي هلا أنزل الله على محمد عليه‌السلام (آيَةٌ) أخرى سوى القرآن (مِنْ رَبِّهِ) دالة على صدق ما يقول كما كان لصالح من الناقة ، ولموسى من العصا (فَقُلْ) لهم في الجواب : (إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) أي إن ما اقترحتموه وزعمتم أنه من لوازم النبوة ، وعلقتم إيمانكم بنزوله هو من الغيوب المختصة بالله تعالى لا علم لي به (فَانْتَظِرُوا) نزوله (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (٢٠) لما يفعل الله بكم لاجترائكم على جحود الآيات القرآنية واقتراح غيرها. (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) أي إن مشركي أهل مكة عادتهم اللجاج والعناد لأنه تعالى سلط عليهم القحط سبع سنين حتى كادوا يهلكون ، فأنزل الله الأمطار النافعة على أراضيهم حتى أخصبت البلاد وعاش الناس بعد ذلك ، ثم إنهم أضافوا تلك المنافع الجليلة إلى الأنواء والكواكب أو الأصنام ، وإذا كان كذلك فبتقدير أن يعطوا ما سألوا من إنزال ما اقترحوه فإنهم لا يؤمنون بل يبقون على كفرهم (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً) أي إن هؤلاء الكفار لما قابلوا نعمة الله بالمكر فالله تعالى قابل مكرهم بمكر أشد من ذلك ، وهو إهلاكهم يوم بدر ، وحصول الفضيحة ، والخزي في الدنيا ، وعذاب شديد يوم القيامة. ومعنى الوصف بالأسرعية أنه تعالى قضى بعقابهم قبل تدبيرهم مكايدهم ، والمكر من الله تعالى إما الاستدراج أو الجزاء على المكر أي إخفاء الكيد (إِنَّ رُسُلَنا) الذين يحفظون أعمالكم (يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) (٢١) أي مكركم. ويعرض عليكم ما في بواطنكم الخبيثة يوم القيامة (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ) مشاة وركبانا (وَالْبَحْرِ).

وقرأ ابن عامر «ينشركم» بنون ساكنة فشين معجمة مضمومة أي يبسطكم (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) أي السفن (وَجَرَيْنَ) أي السفن (بِهِمْ) أي بالذين فيها (بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) موافقة للمقصود (وَفَرِحُوا بِها) أي بتلك الريح فرحا تاما (جاءَتْها) أي تلقت تلك الريح الطيبة (رِيحٌ عاصِفٌ) أي شديد أزعجت سفينتهم (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ) العظيم الذي أرجف قلوبهم (مِنْ كُلِّ مَكانٍ) أي ناحية (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) أي ظنوا القرب من الهلاك (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي من غير أن يشركوا معه تعالى شيئا من آلهتهم ، أي وهم مقرون بوحدانية الله وربوبيته لأجل علمهم بأنه لا ينجيهم من ذلك إلا الله تعالى فيكون إيمانهم جاريا مجرى الإيمان الاضطراري قائلين : والله (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ) الشدائد (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (٢٢) لنعمك (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ) من هذه البلية العظيمة (إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي يترقون في الفساد والجراءة على الله تعالى بالكفر والمعاصي (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا).

٤٨٣

قرأ الأكثرون : «متاع» بالرفع «فبغيكم» مبتدأ و «متاع» خبره ، أو «على أنفسكم» خبره ، و «متاع» خبر محذوف ، أي إن ظلم بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا وهي مدة حياتكم لا بقاء لها ، أو أن الظلم لبعضكم كائن عليكم في الحقيقة لا على الذين تظلمون عليهم وهو منفعة سريعة الزوال. وقرأ حفص عن عاصم بنصب متاع على أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر ، أي تتمتعون متاع أو مصدر وقع موقع الحال أي متمتعين بالحياة الدنيا (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ) بعد الموت (فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٣) في الدنيا من البغي أي قصد الاستعلاء بالظلم فنجازيكم على أعمالكم (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) أي لأنه إذا نزل المطر يثبت بسببه أنواع كثيرة من النبات وتكون تلك الأنواع مختلطة (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ) من البقول والزروع والحشيش (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها) أي حتى إذا جعلت الأرض آخذة لباسها من كل نبات (وَازَّيَّنَتْ) بجميع الألوان الممكنة في الزينة من حمرة وخضرة وصفرة وذهبية وبياض (وَظَنَّ أَهْلُها) أي أهل النبات الموجودة في الأرض (أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) أي على تحصيل ثماره وعلى حصاده (أَتاها) أي نبات الأرض (أَمْرُنا) بهلاكنا بنار أو برد أو ريح (لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها) أي نبات الأرض (حَصِيداً) أي شبيها بالمقلوع فلا شيء على الأرض (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) أي كأن تلك النباتات لم تكن قائمة على ظهر الأرض في الزمن الماضي. والمعنى أن هذه الحياة الدنيا التي ينتفع بها المرء مثل النبات الذي لما عظم الرجاء في الانتفاع به وقع اليأس منه بالهلاك ، والمتمسك بالدنيا إذا نال منها بغيته أتاه الموت بغتة فسلبه ما هو فيه من نعيم الدنيا ولذتها. (كَذلِكَ) أي مثل ذلك التفصيل (نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي نبين الآيات القرآنية في فناء الدنيا (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٢٤) ويقفون على معانيها (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ).

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «مثلي ومثلكم شبه سيد بني دارا ووضع مائدة وأرسل داعيا ، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المائدة ورضي عنه السيد ، ومن لم يجب لم يدخل ولم يأكل ولم يرض عنه السيد» (١). فالله السيد والدارين الإسلام ، والمائدة الجنة ، والداعي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان بحيث يسمع كل الخلائق ـ إلا الثقلين ـ أيها الناس. هلموا إلى ربكم والله يدعو إلى دار السلام» (٢). (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢٥) أي إجابة تلك الدعوة (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) أي

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الاعتصام ، باب : الاقتداء بسنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والدارمي في المقدمة ، باب : صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الكتب قبل مبعثه.

(٢) رواه المنذري في الترغيب والترهيب (٢ : ٤٩).

٤٨٤

أتوا بالمأمور به واجتنبوا المنهيات (الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) أي نضرة الوجوه ورؤية الله تعالى. وعن ابن عباس : أن الحسنى هي الحسنة والزيادة عشر أمثالها. وعن علي : الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة (وَلا يَرْهَقُ) أي لا يعلو (وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ) أي سواد (وَلا ذِلَّةٌ) أي أثر هوان (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٦) أي دائمون بلا انتقال (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) أي الكفر والمعاصي (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) من غير زيادة بعدل الله تعالى (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي ويعلو أنفسهم ذلة عظيمة (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) أي ما لهم عاصم من عذاب الله (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) أي كأن الوجوه ألبست سوادا من الليل لفرط سوادها (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٧) (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) أي نحشر الكل حال اجتماعهم لا يتخلف منهم أحد وهو يوم القيامة (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) أي نقول للمشركين من بينهم : (مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ) أي الزموا أنتم ومن عبدتموه من دون الله مكانكم حتى تسألوا وتنظروا ما يفعل بكم (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) أي فباعدنا بين المشركين ومعبوداتهم بعد الجمع في الموقف ، وتبرأ شركاؤهم منهم ومن عبادتهم (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ) لهؤلاء المشركين (ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) (٢٨) بأمرنا وإرادتنا إنما كنتم تعبدون أهواءكم وشياطينكم الذين أغووكم فإنها الآمرة لكم بالإشراك (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) (٢٩) أي إنا كنا عن عبادتكم لجاهلين لا نعلمها ولا نرضى بها (هُنالِكَ) أي في ذلك المقام أو في ذلك الوقت (تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) بالتاء ، فالباء على القراءة المشهورة أي تذوق كل نفس سعيدة أو شقية ما قدمت من عمل فتعلم نفعه وضره.

وقرأ حمزة والكسائي «تتلو» بتاءين أي تقرأ كل نفس في صحيفة أعمالها ما قدمت من خير أو شر أو تتبع ما أسلفت ، لأن عملها هو الذي يهديها إلى طريق الجنة أو إلى طريق النار.

وقرأ عاصم «نبلو كل نفس» بالنون والباء ونصب «كل» ، أي نختبر كل نفس بسبب اختبار ما أسلفت من العمل ، أي نفعل بها فعل المختبر ، أو المعنى نصيب بالبلاء ـ الذي هو العذاب ـ كل نفس عاصية بسبب ما أسلفت من الشر (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) أي أعرض الذين أشركوا عن المولى الباطل ورجعوا إلى المولى الحق وأقروا بألوهيته بعد أن كانوا في الدنيا يعبدون غيره ، وردوا إلى حكمه (وَضَلَّ عَنْهُمْ) أي ضاع عنهم في الموقف (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٣٠) أي يدعون أن معبوداتهم آلهة وأنها تشفع لهم (قُلْ) لأولئك المشركين : (مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي رزقا مبتدأ منهما (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) أي بل من يستطيع خلق الأسماع والأبصار ومن يحفظهما من الآفات.

وعن علي رضي الله تعالى عنه كان يقول : سبحان من بصر بشحم ، وأسمع بعظم ، وأنطق بلحم (وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) أي ومن يقدر أن يخرج الإنسان من

٤٨٥

النطفة ، والطائر من البيضة ، وأن يخرج النطفة من الإنسان ، والبيضة من الطائر (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي من يدبر أحوال العالم جميعا (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) أي إن الرسول إذا سألهم عن مدبر هذه الأحوال كانوا يعرفون الله وهم الذين قالوا في عبادتهم للأصنام : إنها تقربنا إلى الله وإنها تشفع عند الله وكانوا يعلمون أنها لا تنفع ولا تضر ، فعند ذلك قال الله تعالى لرسوله (فَقُلْ) عند ذلك تبكيتا لهم (أَفَلا تَتَّقُونَ) (٣١) أي أتعلمون ذلك فلا تتقون أن تجعلوا هذه الأوثان شركاء لله في العبودية مع اعترافكم بأن كل الخيرات في الدنيا والآخرة إنما تحصل من رحمة الله وبأن هذه الأوثان لا تنفع ولا تضر ألبتة (فَذلِكُمُ اللهُ) أي فمن هذه قدرته ورحمته هو الله (رَبُّكُمُ الْحَقُ) أي الثابت ربوبيته ثباتا لا ريب فيه (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) أي ليس غير الحق إلا الضلال أي فإذا ثبت أن عبادة الله حق ثبت أن عبادة غيره من الأصنام ضلال محض إذ لا واسطة بينهما (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (٣٢) أي فكيف تمالون من التوحيد إلى الإشراك وعبادة الأصنام (كَذلِكَ) أي مثل صرفهم عن الحق بعد الإقرار به (حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) أي حكمه (عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) أي خرجوا عن حد الصلاح (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٣٣) بدل من كلمة بدل كل من كل (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ) أي هل من الأصنام التي أثبتم شركتها لله في استحقاق العبادة (مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) أي ينشئ المخلوقات من العدم (ثُمَّ يُعِيدُهُ) في القيامة للجزاء ولما لم يقدروا على الجواب أمر الله رسوله أن ينوب عنهم في الجواب فقال (قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (٣٤) أي فكيف تقبلون من الحق إلى الباطل (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) أي إلى ما فيه صلاح أمركم فإن أدنى مراتب المعبودية هداية المعبود لعابديه إلى ذلك (قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِ) دون غيره وذلك بنصب الأدلة وإرسال الرسال وإنزال الكتب وبالتوفيق للنظر (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) وهو الله تعالى (أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ) أي حقيق أن يطاع ويعبد (أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) أي أم من لا ينتقل إلى مكان إلا أن ينقل إليه لأن الأصنام خالية عن الحياة والقدرة ، أو المعنى أم من لا يهتدي في حال من الأحوال إلا في حال هدايته تعالى له وهذا حال أشراف شركائهم من الملائكة والمسيح وعزير عليهم‌السلام.

وقرأ ابن كثير وابن عامر وورش عن نافع «أم من لا يهدي» بفتح الياء والهاء وتشديد الدال. وقرأ عاصم وحفص بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال. وقرأ حماد ويحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم بكسر الياء والهاء. وقرأ حمزة والكسائي «يهدي» ساكنة الهاء. (فَما لَكُمْ) أي أيّ شيء ثبت لكم في اتخاذكم هؤلاء شركاء لله تعالى فإنهم عاجزون عن هداية أنفسهم فكيف يمكن أن يهدوا غيرهم (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٣٥) أي كيف تحكمون بالباطل وتجعلون لله شركاء (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) أي ما يتبع أكثرهم في معتقداتهم إلا ظنا واهيا أما بعضهم فقد يتبعون العلم فيقفون على بطلان الشرك لكن لا يقبلون العلم عنادا ، وفي ذلك دليل على أن تحصيل العلم في الأصول واجب ، والاكتفاء بالتقليد والظن غير جائز (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِ) أي عن العلم (شَيْئاً) من

٤٨٦

الإغناء في العقائد (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) (٣٦) من الاتباع للظنون الفاسدة والإعراض عن البراهين القاطعة (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) أي وما صح أن يكون هذا القرآن المشحون بفنون الحجج الناطقة ببطلان الشرك وحقية التوحيد مفترى من الخلق (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي ولكن القرآن تصديق الذي قبله من الكتب الإلهية المنزلة على الأنبياء قبله (وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ) أي وتفصيل جميع العلوم العقلي والنقلي الذي يمتنع حصوله في سائر الكتب (لا رَيْبَ فِيهِ) أي منتفيا عنه الريب (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٣٧) أي كائنا من رب العالمين (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي أيقرون بالقرآن بل يقول كفار مكة اختلق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن من تلقاء نفسه (قُلْ) لهم إظهارا لبطلان مقالتهم الفاسدة (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) أي إن كان الأمر كما تقولون فأتوا بسورة مثل القرآن في الفصاحة وحسن الصياغة ، وقوة المعنى على وجه الافتراء فإنكم مثلي في العربية والفصاحة ، وأشد تمرنا مني في النظم والعبارة (وَادْعُوا) للمعاونة (مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) دعاءه (مِنْ دُونِ اللهِ) أي من سائر خلق الله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣٨) في أني افتريته (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) أي بل كذبوا بما لم يدرك علمهم به مسرعين في ذلك من غير أن يتدبروا فيه ولم يبلغ أذهانهم معانيه الرائقة المنبئة عن علو شأنه (كَذلِكَ) أي مثل ذلك التكذيب من غير تدبر (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ما كذبوا من المعجزات التي ظهرت على أيدي أنبيائهم (فَانْظُرْ) يا أشرف الخلق (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) (٣٩) فإنهم طلبوا الدنيا وتركوا الآخرة فلما ماتوا فاتتهم الدنيا والآخرة فبقوا في الخسار العظيم (وَمِنْهُمْ) أي ومن هؤلاء المكذبين (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) أي القرآن عند الإحاطة بعلمه أي إما يعتقد بحقية القرآن فقط بأن يصدق به في نفسه ويعلم أنه حق ولكن يعاند ، وإما سيؤمن به ويتوب عن الكفر (وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ) أي بأن لا يصدق به في نفسه لفرط غباوته أو لسخافة عقله وعجزه عن تخليص علوم عن مخالطة الظنون أو بأن يموت على كفره وهم المستمرون على اتباع الظن من غير انقياد للحق (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) (٤٠) أي بالمصرين على الكفر من المعاندين والشاكين (وَإِنْ كَذَّبُوكَ) أي أصروا على تكذيبك بعد إلزام الحجة بالتحدي (فَقُلْ) لهم : (لِي عَمَلِي) من الإيمان وجزاء ثوابه (وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) من الشرك وجزاء عقابه (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) (٤١) أي لا تؤاخذون بعملي ولا أؤاخذ بعلمكم (وَمِنْهُمْ) أي من هؤلاء المشركين (مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) عند قراءتك القرآن وتعليمك الشرائع (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ) أي أأنت تقدر على إسماع الصم (وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) (٤٢) أي ولو انضم إلى صممهم عدم عقلهم (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) أي من يعاين دلائل صدقك (أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ) أي أعقب ذلك أنت تهديهم (وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) (٤٣) أي لا يستبصرون بقلوبهم ولا يعتبرون (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) أي بسبب حواسهم وعقولهم (وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٤٤) بإفساد الحواس والعقول وتفويت منافعها عليها فإن الفعل منسوب إليهم

٤٨٧

بسبب الكسب ، وإن كان قد سبق قضاء الله وقدره فيهم وتقدير الشقاوة عليهم لا يكون ظلما منه تعالى لأنه يتصرف في ملكه كيف يشاء والخلق كلهم عبيده وكل من تصرف في ملكه لا يكون ظالما (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ) أي وأنذر المشركين المنكرين للعبث يوم يحشرهم في الموقف مشبهين من لم يلبث في الدنيا ولم يتقلب في نعيمها إلا مقدار ساعة من النهار فإن عاقبة الكافر خالصة مقرونة بالإهانة ، ولذات الدنيا مع خساستها لم تكن خالصة بل كانت مخلوطة بالهمومات الكثيرة ، وكانت تلك اللذات مغلوبة بالمؤلمات والآفات وكانت لم تحصل إلا في بعض الأوقات ، أما آلام الآخرة فهي سرمدية لا تنقطع ألبتة ونسبة عمر جميع الدنيا إلى الآخرة الأبدية أقل من الجزء الذي لا يتجزأ بالنسبة إلى ألف ألف عالم مثل العالم الموجود ، فمتى قوبلت الخيرات الحاصلة بسبب الحياة العاجلة بالآفات الحاصلة للكافر وجدت أقل من اللذة بالنسبة إلى جميع العالم (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) أي يوبخ بعضهم بعضا فيقول كل فريق للآخر : أنت أضللتني يوم كذا وزينت لي الفعل الفلاني من القبائح (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (٤٥) أي قد هلكوا بتكذيبهم بالبعث بعد الموت ، وضلوا وما كانوا عارفين لطريق النجاة وهذه شهادة من الله تعالى على خسرانهم (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) أي وإن أريناك بعض العذاب الذي نعدهم به بأن نعجله لهم في حياتك في الدنيا فتراه ، وإن توفيناك قبل نزول العذاب بهم فإنك ستراه في الآخرة لأن العذاب لا يفوتهم بل ننزله بهم في الآخرة (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) (٤٦) أي ثم الله معاقب على ما يفعلونه. وقرئ ثمة أي هناك (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) من الأمم الماضية (رَسُولٌ) يبعث إليهم بشريعة خاصة مناسبة لأحوالهم ليدعوهم إلى الحق (فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ) فبلغهم ما أرسل إليهم ، فكذبه بعضهم وصدقه بعضهم (قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل ، أي فصل بينهم وحكم بهلاك المكذبين وبنجاة الرسول ومن صدقه (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٤٧) في ذلك القضاء بتعذيبهم لأنه بجرمهم (وَيَقُولُونَ) أي قال : كل أهل دين لرسولهم على وجه التكذيب للرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخبرهم من نزول العذاب للأعداء (مَتى هذَا الْوَعْدُ) الذي تعدنا بنزول العذاب (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤٨) في أنه يأتينا (قُلْ) يا أشرف الخلق لقومك الذين استعجلوا نزول العذاب على طريقة الاستهزاء به والإنكار (لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً) أي لا أقدر على دفع ضر ولا جلب نفع لنفسي (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أي ولكن ما شاء الله من ذلك كائن (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) أي وقت معين خاص بهم (إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) أي وقت هلاكهم (فَلا يَسْتَأْخِرُونَ) عن ذلك الأجل (ساعَةً) أي شيئا قليلا من الزمان (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٤٩) عليه (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) (٥٠) أي قل للذين يستعجلون العذاب أخبروني عن عذاب الله إن أتاكم وقت اشتغالكم بالنوم أو عند اشتغالكم بمشاغلكم أي شيء تستعجلون من عذاب الله وليس شيء من العذاب يستعجله عاقل إذ العذاب كله مر المذاق موجب لنفار الطبع منه (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) أي أبعد ما وقع العذاب بكم حقيقة

٤٨٨

آمنتم به حين لا ينفعكم الإيمان (آلْآنَ) تؤمنون بالعذاب (وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ) أي بالعذاب (تَسْتَعْجِلُونَ) (٥١) أي تكذبون فإن استعجالهم كان على جهة التكذيب والإنكار (ثُمَّ قِيلَ) يوم القيامة على لسان ملائكة العذاب (لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أي وضعوا الكفر والتكذيب موضع الإيمان والتصديق (ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) أي العذاب المؤلم على الدوام (هَلْ تُجْزَوْنَ) في الآخرة (إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (٥٢) في الدنيا من أصناف الكفر والمعاصي ، وهذا استثناء مفرغ والجار والمجرور مفعول ثان «لتجزون» والأول قائم مقام الفعل.

تنبيه : أين ما ذكر الله تعالى العذاب ذكر هذه العلة كأن سائلا يقول : يا رب العزة أنت الغني عن الكل فكيف يليق برحمتك هذا التشديد؟ فهو تعالى يقول : ما أنا عاملته بهذه المعاملة ابتداء بل هذا وصل إليه جزاء على عمله الباطل. (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ) أي يستخبرونك يا أشرف الخلق ـ والقائل حيي بن أخطب ـ لما قدم مكة بطريق الاستهزاء والإنكار : (أَحَقٌّ هُوَ) أي ما تعدنا من نزول العذاب علينا في الدنيا ، وما تعدنا من البعث والقيامة. (قُلْ) لهم في الجواب هذه الأمور الثلاثة غير ملتفت إلى استهزائهم : (إِي وَرَبِّي) فـ «إي» من حروف الجواب بمعنى «نعم» في القسم خاصة كما أن «هل» بمعنى «قد» في الاستفهام خاصة. (إِنَّهُ) أي العذاب الموعود (لَحَقٌ) أي لثابت (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) (٥٣) لمن وعدكم بالعذاب أن ينزله عليكم (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ) وهو لا حق بكم بالشرك أو غيره من أنواع الظلم ولو مرة (ما فِي الْأَرْضِ) أي ما في الدنيا من الأموال (لَافْتَدَتْ بِهِ) أي لفادت بما في الدنيا نفسها من عذاب الله (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أي أخفوا الندامة على ترك الإيمان حين عاينوا العذاب فلم يقدروا على أن ينطقوا بشيء لشدة الأهوال وفظاعة الحال (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي بين الظالمين بالشرك وغيره (بِالْقِسْطِ) أي بالعدل (وَهُمْ) أي الظالمون (لا يُظْلَمُونَ) (٥٤) فيما فعل بهم من العذاب (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ما وجد فيهما (أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي إن جميع ما وعد الله به ثابت لا بد أن يقع ، ووعده تعالى مطابق للواقع (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٥٥) أي غافلون عن هذه الدلائل (هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ) في الدنيا (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٥٦) بعد الموت للجزاء (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٥٧) أي قد جاءكم كتاب فيه بيان ما ينفع المكلف وما يضره ودواء للقلوب وهدي إلى الحق ورحمة للمؤمنين بإنجائهم من الضلال إلى نور الإيمان وتخلصهم من دركات النيران إلى درجات الجنان. والحاصل أن الموعظة إشارة إلى تطهير الظاهر عمّا لا ينبغي وهو الشريعة ، والشفاء إشارة إلى تطهير الباطن عن العقائد الفاسدة ، والأخلاق الذميمة وهو الطريقة ، والهدي إشارة إلى ظهور نور الحق في قلوب الصديقين وهو الحقيقة والرحمة إشارة إلى بلوغ الكمال (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) أي فليفرحوا بتلك النعم لا من حيث هي بل من حيث إنها بفضل الله وبرحمة الله. قال الصديقون :

٤٨٩

من فرح بنعمة الله من حيث إنها تلك النعمة فهو مشرك ، أما من فرح بنعمة الله من حيث إنّها من الله كان فرحه بالله وذلك غاية الكمال ونهاية السعادة.

وقال أبو سعيد الخدري : فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله. (هُوَ) أي المذكور من فضل الله ورحمته (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (٥٨) من الدنيا لأن الآخرة أبقى. وقرأ ابن عامر بالتاء على الخطاب ، وأما «فليفرحوا» فبالياء التحتية عند السبعة ولا يقرؤه بالتاء الفوقية إلا يعقوب من العشرة كما هو مروي عن زيد بن ثابت. والمعنى فبذلك فلتفرحوا يا أصحاب محمد هو خير مما يجمع الكفار (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني (ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ) أي الذي خلقه الله لكم من حرث وأنعام (فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً) أي فحكمتم بأن بعض الرزق حرام وبعضه حلال مع كون كله حلالا (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) فقل تأكيد الأمر بالاستخبار أي أخبروني الله أمركم بذلك الحكم فأنتم ممتثلون بأمره تعالى؟ (أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (٥٩) أي أم لم يأذن لكم في ذلك بل على الله تكذبون بنسبة ذلك إليه (وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي أيّ شيء ظنهم يوم عرض الأفعال والأقوال أيحسبون أنهم لا يسألون عن افترائهم أو لا يجازون عليه ولأجل ذلك يفعلون ما يفعلون! كلا إنهم لفي أشد العذاب لأن معصيتهم أشد المعاصي (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) بإعطاء العقل وإرسال الرسل وإنزال الكتب ، وإمهالهم على سوء أفعالهم (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) (٦٠) تلك النعم فلا يستعملون العقل في التأمل في دلائل الله تعالى ولا يقبلون دعوة أنبياء الله تعالى ولا ينتفعون باستماع كتب الله (وَما تَكُونُ) يا أشرف الخلق (فِي شَأْنٍ) أي أمر من أمور الدنيا (وَما تَتْلُوا مِنْهُ) أي الشأن (مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ) أي أيّ عمل كان (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ) أي تشرعون (فِيهِ) أي في ذلك المذكور (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أي ولا يغيب عن علم ربك ما يساوي في الثقل نملة صغيرة أو هباء في دائرة الوجود.

وقرأ الكسائي بكسر الزاي (وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ) أي الذرة (وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٦١) أي في لوح محفوظ. وقرأ حمزة بالرفع على الابتداء والخبر. والباقون بالنصب على أن لا نافية للجنس وما بعدها اسمها وخبرها (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) في الدارين من لحوق مكروه (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦٢) من فوات مطلوب (الَّذِينَ آمَنُوا) بكل ما جاء من عند الله تعالى (وَكانُوا يَتَّقُونَ) (٦٣) والتقوى هنا التجنب عن كل إثم والتنزه عن كل ما يشغل السر عن الله تعالى والتبتل إليه تعالى بالكلية وهذا تفسير للأولياء (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) فالبشرى في الدنيا محبة الناس لهم وذكرهم إياهم بالثناء الحسن ، والرؤيا الصالحة ، وبشرى الملائكة لهم عند الموت وفي الآخرة تلقى الملائكة إياهم مبشرين بالفوز والكرامة ، وبياض

٤٩٠

الوجوه ، وإعطاء الصحف بأيمانهم وما يقرءون منها ومن غير ذلك من البشارات (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) أي لا خلف في أقواله (ذلِكَ) أي حصول البشرى لهم في الدارين (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٦٤) الذي لا فوز وراءه (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) أي لا تحزن بما يتفوهون به في شأنك مما لا خير فيه ، ولا تبال بتكذيبهم وتشاورهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك.

وقرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) أي إن القوة لله جميعا فهو يعصمك منهم وينصرك عليهم حتى تكون أقوى منهم (هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٦٥) أي يسمع ما يقولون في حقك ويعلم ما يعزمون عليه وهو مكافؤهم بذلك (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) من الملائكة والثقلين ، وإذا كان هؤلاء في ملكه تعالى فالجمادات أحق أن لا تكون شركاء له تعالى (وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ) أي وما يتبع الذين يعبدون من دون الله آلهة شركاء فـ «آلهة» مفعول «يدعون» و «شركاء» مفعول «يتبع» (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) أي إن المشركين ما اتبعوا شريك الله تعالى إنما اتبعوا شيئا ظنوه شريكا لله تعالى (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (٦٦) أي ما هم إلا يكذبون فيما ينسبونه إليه تعالى ويقدرون أن معبوداتهم شركاء تقديرا باطلا (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي هو الذي صيّر لكم الليل لتستريحوا فيه من تعب النهار والنهار مضيئا لتهتدوا به في حوائجكم بالإبصار ولتتحركوا فيه لمعاشكم (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي الجعل (لَآياتٍ) أي لعبرات (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (٦٧) مواعظ القرآن فيعلمون بذلك أن الذي خلق هذه الأشياء كلها هو الله المنفرد بالوحدانية في الوجود (قالُوا) أي كفار مكة : (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) أي الملائكة بنات الله (سُبْحانَهُ) قال تعالى ذلك تنزيها لنفسه عما نسبوه إليه وتعجيبا من كلمتهم الحمقاء (هُوَ الْغَنِيُ) عن كل شيء في كل شيء (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) من ناطق وصامت ملكا وخلقا (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا) أي ما عندكم حجة بهذا القول الباطل (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٦٨) أي أتنسبون إليه تعالى ما لا يجوز نسبته إليه تعالى جهلا منكم (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (٦٩) أي لا يصلون إلى مقاصدهم وكل من قال في ذات الله تعالى وصفاته قولا بغير علم ، وبغير حجة بينة كان داخلا في هذا الوعيد (مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٧٠) أي حياتهم متاع قليل في الدنيا ، ثم لا بد من الموت وعند الموت لا بد من الرجوع إلى الله ، وعند هذا الرجوع لا بد وأن يذيقهم الله العذاب الشديد بسبب كونهم كافرين فأين هم من الفلاح؟ (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) أي المشركين (نَبَأَ نُوحٍ) أي خبره مع قومه الذين هم أشباه قومك في العناد ليصير داعيا إلى مفارقة الإنكار للتوحيد والنبوة (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) وهم بنو قابيل (يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ) أي ثقل (عَلَيْكُمْ مَقامِي) أي مكثي فيكم مدة طويلة (وَتَذْكِيرِي) أي وعظي إياكم (بِآياتِ اللهِ) أي بحجته (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) أي فوضت أمري

٤٩١

إلى الله (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) أي فاعزموا على أمركم الذي تريدون بي من السعي في إهلاكي (وَشُرَكاءَكُمْ) أي وادعوا من يشاركونكم في الدين والقول ، أو ادعوا أوثانكم التي سميتموها بالآلهة وتقدير «ادعوا» هو كما في مصحف أبي ، ويصح أن يكون و «شركاءكم» مفعولا معه من الضمير في «فأجمعوا». وقرأه الحسن وجماعة من القراء بالرفع عطفا عليه (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) أي خفيا. وليكن ظاهرا (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَ) أي أدوا إليّ ذلك الأمر الذي تريدون بي ونفذوه إليّ (وَلا تُنْظِرُونِ) (٧١) أي لا تمهلون بعد إعلامكم إياي ما اتفقتم عليه (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) أي إن أعرضتم عن نصيحتي فلا ضير علي لأني ما سألتكم بمقابلة وعظي من أجر تؤدونه إليّ حتى يؤدي ذلك إلى إعراضكم (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) أي ما ثوابي على التذكير إلا عليه تعالى يثيبني به آمنتم أو توليتم (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٧٢) أي وإني مأمور بالاستسلام لكل ما يصل إليّ منكم لأجل هذه الدعوة (فَكَذَّبُوهُ) أي استمروا على تكذيب نوح بعد ما بين لهم المحجة (فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) أي السفينة من المسلمين من الغرق وكانوا أربعين رجلا وأربعين امرأة (وَجَعَلْناهُمْ) أي أصحاب نوح (خَلائِفَ) من الهالكين بالغرق فيسكنون في الأرض (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) بالطوفان (فَانْظُرْ) يا أشرف الخلق (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) (٧٣) أي كيف صار آخر أمر الذين أنذرتهم الرسل فلم يؤمنوا (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ) كان منهم هود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب (فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي فجاء كل رسول قومه المخصوصين بالمعجزات الدالة على صدق ما قالوا (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أي فما كانوا ليصدقوا بما كذبوا به من أصول الشرائع التي أجمعت عليها الرسل قاطبة. ودعوا أممهم إليها من قبل مجيء رسلهم أي كانت حالهم بعد مجيء الرسل كحالهم قبل ذلك كأن لم يبعث إليهم أحد (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الطبع (نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) (٧٤) أي المتجاوزين عن الحدود في كل زمن (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد أولئك الرسل (مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي وأشراف قومه (بِآياتِنا) أي التسع : اليد ، والعصا ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والسنين ، وطمس الأموال ، (فَاسْتَكْبَرُوا) أي فأتياهم فبلغاهم الرسالة فاستكبروا عن اتباعهما أي ادعوا الكبر من غير استحقاق (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) (٧٥) أي دوي آثام عظام فلذلك اجترءوا على الاستهانة برسالة الله تعالى (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) وهو العصا واليد البيضاء (قالُوا) من فرط عنادهم (إِنَّ هذا) أي الذي جاء به موسى (لَسِحْرٌ مُبِينٌ) (٧٦) أي ظاهر يعرفه كل أحد (قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ) ما تقولون من أنه سحر (أَسِحْرٌ هذا) أي أسحر هذا الذي أمره واضح مكشوف وشأنه مشاهد معروف (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) (٧٧) أي والحال أنه لا يفلح فاعلو السحر وهذه جملة حالية من الواو في أتقولون (قالُوا) لموسى وهارون عاجزين عن المحاجة (أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا) أي لتصرفنا (عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أي من عبادة الأصنام

٤٩٢

(وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ) أي الملك والعز (فِي الْأَرْضِ) أي أرض مصر (وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) (٧٨) أي بمصدقين (وَقالَ فِرْعَوْنُ) لملئه : (ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) (٧٩) بفنون السحر حاذق فيه.

وقرأ حمزة والكسائي سحار (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ) أي فأتوا بالسحرة قالوا لموسى : إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين (قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) (٨٠) أي ما معكم من الحبال والعصي (فَلَمَّا أَلْقَوْا) حبالهم وعصيهم واسترهبوا الناس (قالَ) لهم (مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) أي الذي جئتم به هو السحر أي التمويه الذي يظهر بطلانه لا ما سماه فرعون وقومه سحرا فهو من آيات الله تعالى. وقرأ أبو عمرو «السحر» بهمزة الاستفهام بإبدال الهمزة الثانية ألفا ومدها مدا لازما أو بتسهيلها من غير قلب وعلى كليهما تجب الإمالة في موسى ، والمعنى الذي جئتم به أهو السحر أم لا؟ وهو استفهام وجه التحقير والتوبيخ (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) أي سيهلكه بالكلية ويظهر فضيحة صاحبه للناس والسين للتأكيد (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) (٨١) أي لا يكمله (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَ) أي يظهره ويقويه (بِكَلِماتِهِ) أي بوعده لموسى وقضائه (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (٨٢) ذلك (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) أي فما آمن من قوم موسى إلا قليل منهم وهم بنو إسرائيل الذين كانوا بمصر من أولاد يعقوب وذلك أن موسى دعا الآباء إلى دينه فلم يجيبوا خوفا من فرعون وأجابته طائفة من شبانهم مع الخوف (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ) أي مع خوف من فرعون لأنه كان شديد البطش وخوف على رؤساء الذرية فإن أشراف بني إسرائيل كانوا يمنعون أولادهم من إجابة موسى خوفا من فرعون عليهم وعلى أنفسهم (أَنْ يَفْتِنَهُمْ) أي يصرفهم عن الإيمان بتسليط أنواع العذاب عليهم (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ) أي لغالب في أرض مصر (وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) (٨٣) أي المجاوزين الحد بكثرة القتل والتعذيب لمن يخالفه في أمره من الأمور ، وبالكبر حتى ادعى الربوبية واسترق أسباط الأنبياء (وَقالَ مُوسى) لمن آمن به (يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا) ولا تخافوا أحدا غيره (إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) (٨٤) أي منقادين لأمره تعالى.

قال الفقهاء : الشرط المتأخر يجب أن يكون متقدما ، مثاله : قول الرجل لامرأته : إن دخلت الدار فأنت طالق ، إن كلمت زيدا فمجموع قوله : إن دخلت الدار فأنت طالق مشروط بقوله : إن كلمت زيدا ، والمشروط متأخر عن الشرط ، فكأنه يقول لامرأته : حال ما كلمت زيدا إن دخلت الدار فأنت طالق ، فلو حصل هذا التعليق قبل أن كلمت المرأة زيدا لم يقع الطلاق فقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) يقتضي أن يكون كونهم مسلمين شرطا لأن يصيروا مخاطبين بقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا) فكأنه تعالى يقول للمسلم حال إسلامه : إن كنت من المؤمنين بالله فعلى الله توكل والأمر كذلك ، لأن الإسلام هو

٤٩٣

الانقياد لتكاليف الله وترك التمرد ، والإيمان هو معرفة القلب بأن واجب الوجود لذاته واحد وما سواه محدث تحت تصرفه وإذا حصلت هاتان الحالتان فعند ذلك يفوض العبد جميع أموره إلى الله تعالى ويحصل في القلب نور التوكل على الله تعالى (فَقالُوا) مجيبين له عليه‌السلام : (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) ولا نلتفت إلى أحد سواه ، ثم دعوا ربهم قائلين (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٨٥) أي لا تجعلنا مفتونين لهم أي لا تمكنهم من أن يحملونا بالقهر على أن ننصرف عن هذا الدين الحق الذي قبلناه (وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٨٦) أي خلصنا برحمتك من أيدي فرعون وقومه ومن سوء جوارهم وشؤم مصاحبتهم (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً) أي اجعلا بمصر بيوتا لقومكما ومرجعا ترجعون إليه للعبادة (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أي مصلى (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) في بيوتكم إن موسى ومن معه كانوا في أول أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم لئلا يظهروا على الكفرة فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم كما كان المؤمنون في أول الإسلام بمكة على هذه الحالة (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (٨٧) بالنصر في الدنيا وبالجنة في العقبى وخصّ الله تعالى موسى بالبشارة ، لأنه الأصل في الرسالة ، وهارون تبع له. (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ) أي أشراف قومه (زِينَةً) أي ما يتزين به من اللباس والمراكب ونحوها. (وَأَمْوالاً) كثيرة من الذهب والفضة وغيرهما (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) دعا عليهم بلفظ الأمر. والمعنى ربنا ابتلهم بالضلال عن سبيلك (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ).

قال ابن عباس : بلغنا أن الدراهم والدنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا وأنصافا وأثلاثا وجعل سكرهم حجارة (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي اجعلها قاسية ومربوطة حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان (فَلا يُؤْمِنُوا) جواب للدعاء أو دعاء بلفظ النهي ، أو عطف على «ليضلوا» (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٨٨) وإذا دعا موسى عليهم بهذا الدعاء لما علم أن سابق قضاء الله وقدره فيهم أنهم لا يؤمنون فوافق دعاء موسى ما قدر وقضى عليهم. (قالَ) الله لموسى وهارون : (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) فموسى كان يدعو هارون كان يؤمن والتأمين دعاء ، وحصول المدعو به بعد أربعين سنة لأن فرعون لبث بعد هذا الدعاء أربعين سنة (فَاسْتَقِيما) أي فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة وإلزام الحجة ولا تستعجلا (وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٨٩) بعادات الله تعالى في تعليق الأمور بالمصالح والحكم ، أي ولا تسلكا طريق الجاهلين الذين يظنون أنه متى كان الدعاء مجابا كان المقصود حاصلا في الحال ، والاستعجال وعدم الوثوق بوعد الله يصدران من الجهال. (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) أي جعلناهم مجاوزين بحر السويس بأن جعلناه يبسا وحفظناهم حتى بلغوا الشط.

قال أهل التفسير : اجتمع يعقوب وبنوه على يوسف وهم اثنان وتسعون ، وخرج بنوه مع

٤٩٤

موسى من مصر وهم ستمائة ألف ، وذلك لما أجاب الله دعاء موسى وهارون أمرهما بالخروج ببني إسرائيل من مصر فخرجوا ، وقد كان فرعون غافلا عن ذلك ، فلما سمع بخروجهم خرج بجنوده في طلبهم فلما أدركهم قالوا لموسى : أين المخلص والبحر أمامنا والعدو وراءنا؟ فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه ، فانفلق ، فقطعه موسى وبنو إسرائيل ، فلحقهم فرعون وكان على حصان أدهم ، وكان معه ثمانية آلاف حصان على لون حصانه سوى سائر الألوان ، وكان يقدمهم جبريل على فرس أنثى وميكائيل يسوقهم حتى لا يشذ منهم أحد ، فدنا جبريل بفرسه فلما وجد الحصان ريح الأنثى لم يتمالك فرعون من أمره شيئا فنزل البحر وتبعه جنوده حتى إذا اكتملوا جميعا في البحر وهمّ أولهم بالخروج انطبق البحر عليهم (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً) أي مفرطين في محبة قتلهم ومجاوزين الحد (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ) أي بأن الشأن (لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٩٠) أي الذين أسلموا نفوسهم لله فقال له جبريل : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (٩١) أي آلآن تؤمن وتتوب وقد صنعت التوبة في وقتها ، وآثرت دنياك الفانية على الآخرة الباقية ، وقد كنت من الغالين في الضلال والإضلال عن الإيمان ، ولم يقبل ذلك من فرعون لأنه إنما آمن عند نزول العذاب وإنما أقر بعزة الربوبية ووحدانية الله تعالى ولم يقر بنبوة موسى ولأن ذلك الإقرار كان مبينا على محض التقليد وهو كان دهريا منكرا لوجود الصانع ، وإنما ذكر هذه الكلمة ليتوسل بها إلى دفع تلك البلية الحاضرة (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) أي نلقيك على نجوة من الأرض وهي المكان المرتفع بدرعك وكانت له درع من الذهب يعرف بها.

وقرئ «ننجيك» بالحاء أي نلقيك بناحية الساحل (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) أي لمن وراءك آية وهم بنو إسرائيل إذ قالوا : ما مات فرعون وإنما قالوا ذلك لعظمته عندهم ولما حصل في قلوبهم من الرعب من أجله فأمر البحر فألقاه على الساحل أحمر قصيرا كأنه ثور فرآه بنو إسرائيل فعرفوه ، وقرئ «لمن خلفك» فعلا ماضيا أي لتكون لمن يأتي بعدك من الأمم نكالا من الطغيان ، وقرئ «لمن خلفك» بالقاف أي لتكون لخالقك آية كسائر آياته فإن إفراده تعالى إياك بالإلقاء إلى الساحل لإبطال دعوى ألوهيتك لأن الإله لا يموت (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) (٩٢) أي لا يتفكرون فيها (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) أي أسكناهم بعد ما أنجيناهم وأهلكنا أعداءهم منزلا صالحا مرضيا وهو الشام ومصر بلاد البركة والخصب ، وأورثهم الله جميع ما كان تحت أيدي فرعون وقومه (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي اللذائذ (فَمَا اخْتَلَفُوا) في أمر دينهم (حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي حتى قرءوا التوراة فحينئذ تنبهوا للمسائل والمطالب ووقع الاختلاف بينهم (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٩٣) فيميز المحق من المبطل ، والصديق من الزنديق (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُ) أي القرآن (مِنْ رَبِّكَ) في خبر الأولين (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) (٩٤) أي

٤٩٥

الشاكين (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٩٥) أنفسا وأعمالا وهذا كله خطاب للنبي ظاهر ، أو المراد به غيره ممن عنده شك ، ومثل هذا معتاد فإن السلطان الكبير إذا كان له أمير وكان تحت راية ذلك الأمير جمع فإذا أراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص فإنه يوجه الخطاب على ذلك الأمير ليكون ذلك أقوى تأثيرا في قلوبهم. وقيل : هذا الخطاب ليس مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك أن الناس في زمانه كانوا فرقا ثلاثة المصدقون به والمكذبون له والمتوقفون في أمره ، الشاكون فيه فخاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب فقال : إن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد فاسأل أهل الكتاب ليدلوك على صحة نبوته وهم عبد الله بن سلام وعبد الله بن صوريا ، وتميم الداري ، وكعب الأحبار لأنهم هم الذين يوثق بخبرهم (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) أي ثبت عليهم حكمه بأنهم يموتون على الكفر ويخلدون في النار (لا يُؤْمِنُونَ) (٩٦) أبدا إذ لا كذب في كلامه (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) أي ولو جاءتهم الدلالة التي لا حصر لها لأن الدليل لا يهدي إلا بإعانة الله تعالى (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٩٧) كدأب آل فرعون وأشباههم (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا).

قال أبو مالك صاحب ابن عباس : كل ما في كتاب الله تعالى من ذكر «لو لا» فمعناه هلا إلا حرفين فلو لا كانت قرية آمنت فمعناه فما كانت قرية آمنت فلو لا كان من القرون من قبلكم فمعناه فما كان من القرون وتقدير الآية فما كان أهل قرية آمنوا فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس لما آمنوا أول ما رأوا أمارة العذاب صرفنا عنهم العذاب في الحياة الدنيا (وَمَتَّعْناهُمْ) بمتاع الدنيا بعد صرف العذاب عنهم (إِلى حِينٍ) (٩٨) أي إلى وقت انقضاء آجالهم.

روي أن يونس عليه‌السلام بعث إلى نينوى من أرض الموصل فكذبوه فذهب عنهم مغاضبا فلما فقدوه خافوا نزول العذاب فلبسوا المسوح وعجوا أربعين ليلة وكان يونس قال لهم : إن أجلكم أربعون ليلة فقالوا : إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك فلما مضت خمس وثلاثون ليلة ظهر في السماء غيم أسود هائل فظهر منه دخان شديد ، وهبط ذلك الدخان حتى وقع في المدينة ، وسوّد سطوحهم ، فخرجوا إلى الصحراء ، وفرقوا بين النساء وبين الدواب وأولادها ، فحنّ بعضها إلى بعض وعلت الأصوات ، وكثرت التضرعات ، وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا إلى الله تعالى فرحمهم ، وكشف عنهم ، وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء يوم الجمعة. وعن الفضل بن عباس أنهم قالوا : اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم وأجل ، افعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله ، وخرج يونس ينتظر العذاب فلم ير شيئا فقيل له : ارجع إلى قومك. قال : وكيف أرجع إليهم فيجدوني كذابا وكان كل من كذب ولا بينة له قتل فانصرف عنهم مغاضبا فالتقمه الحوت (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) أي مجتمعين على الإيمان لا

٤٩٦

يختلفون فيه لكنه لا يشاؤه (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) على ما لم يشأ الله منهم (حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٩٩) أي لا قدرة لك على التصرف في أحد (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي وما يتأتى لنفس واحدة أن يقع بها إيمان في وقت ما إلا بإرادة الله وبإقداره عليه (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ) أي الكفر (عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (١٠٠) أي الذين لا يستعملون عقولهم بالنظر في الدلائل والمضارع بمعنى الماضي وهو معطوف على مقدر ، والتقدير فأذن الله لبعضهم في الإيمان وجعل الكفر لبعض آخر (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي قل يا أشرف الخلق مخاطبا لأهل مكة : تفكروا أيّ شيء بديع في السموات والأرض من عجائب صنع الله الدالة على وحدته وكمال قدرته (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (١٠١) وما تنفع الدلائل السماوية والأرضية والرسل المنذرون عن قوم لا يؤمنون في علم الله تعالى وحكمه. (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) أي فما ينتظر المشركون إلا عذابا مثل عذاب الأمم الماضية من الكفار (قُلْ فَانْتَظِرُوا) نزول العذاب (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (١٠٢) لذلك (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا) أي أهلكنا الأمم ثم نجينا رسلنا المرسلة إليهم (وَالَّذِينَ آمَنُوا) لأن العذاب لا ينزل إلا على الكفار (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الإنجاء الذي نجينا الرسل ومن آمن بهم (حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) (١٠٣) بك يا أشرف الخلق من كل شدة وعذاب وجب ذلك علينا وجوبا بحسب الوعد والحكم لا بحسب الاستحقاق ، لأن العبد لا يستحق على خالقه شيئا (قُلْ) لجمهور المشركين : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي أهل مكة (إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) الذي أدعوكم إليه ، أي إن كنتم لا تعرفون ديني فأنا أبينه لكم على سبيل التفصيل (فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) في وقت من الأوقات (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) يقبض أرواحكم ثم يفعل بكم ما يفعل من فنون العذاب (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٠٤) بما دل عليه العقل ونطق به الوحي (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) أي وأمرت بتوجيه العقل بالكلية إلى طلب الدين وبالاستقامة في الدين بأداء الفرائض والانتهاء عن القبائح وباستقبال القبلة في الصلاة (حَنِيفاً) أي مائلا إلى الدين ميلا كليا معرضا عمّا سواه إعراضا كليا فقوله : (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) إشارة إلى تحصيل أصل الإيمان. وقوله : (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) إشارة إلى الاستغراق في نور الإيمان. (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٠٥) أي وأمرت بأن لا ألتفت إلى غير ذلك الدين فمن عرف مولاه والتفت بعد ذلك إلى غيره كان ذلك الالتفات شركا هذا هو الذي تسميه أصحاب القلوب بالشرك الخفي (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ) أي لا تعبد من غير الله (ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) فلا نافع إلا الله ولا ضار إلا الله ، ولا حكم إلا لله ، ولا رجوع في الدارين إلا إلى الله وهذه الجملة عطف على جملة الأمر وهي أقم فتكون داخلة في صلة أن المصدرية (فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) (١٠٦) أي لو اشتغلت بطلب المنفعة والمضرة من غير الله فأنت من الواضعين للشيء في غير موضعه وطلب الشبع من الأكل ،

٤٩٧

والري من الشرب لا يقدح في الإخلاص لأن وجود الخبز وصفاته كلها بإيجاد الله وطلب الانتفاع بشيء خلقه الله لذلك لا يكون منافيا للرجوع بالكلية إلى الله إلا أن شرط هذا الإخلاص أن لا يقع بصر عقله على شيء من هذه الموجودات إلا ويشاهد بعين عقله أنها معدومة بذواتها وموجودة بإيجاد الله فحينئذ يرى ما سوى الله عدما محضا بحسب أنفسها ويرى نور وجوده تعالى وفيض إحسانه عاليا على الكل (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) أي إن يصبك بضر كمرض وفقر (فَلا كاشِفَ لَهُ) أي فلا رافع لذلك الضر (إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) أي وإن يرد أن يصيبك بخير فلا دافع لعطيته الذي أرادك به ولم يستثن الله تعالى مع الإرادة ، لأن إرادة الله تعالى قديمة لا تتغير بخلاف مس الضر فإنه صفة فعل.

قال الرازي : وتقديم الإنسان في اللفظ وهو المشار إليه بالخطاب دليل على أن المقصود هو الإنسان أما سائر الخيرات فهي مخلوقة لأجله (يُصِيبُ بِهِ) أي يخص بالفضل الواسع المنتظم لما أرادك به من الخير (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ممن كان أهلا لذلك (وَهُوَ الْغَفُورُ) أي البالغ الستر للذنوب (الرَّحِيمُ) (١٠٧) أي البالغ في الإكرام (قُلْ) مخاطبا لأولئك الكفرة لأجل أن تنقطع معذرتهم (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) وهو القرآن العظيم المشتمل على محاسن الأحكام (فَمَنِ اهْتَدى) بالإيمان به (فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) أي فمنفعة اهتدائه لها خاصة (وَمَنْ ضَلَ) بالإعراض عنه (فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي فوبال الضلال مقصور على نفسه (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) (١٠٨) أي بحفيظ موكول إلى أمركم وإنما أنا بشير ونذير فلا يجب على السعي في إيصالكم إلى الثواب وفي تخليصكم من العذاب (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ) أي يؤمر لك في القرآن من تبليغ الرسالة (وَاصْبِرْ) على ما يطرأ عليك من مشاق التبليغ (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) بالأمر بالقتال (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) (١٠٩) فحكم بالجهاد وبالجزية على أهل الكتاب وأنشد بعضهم في الصبر شعرا فقال :

سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري

 

و أصبر حتى يحكم الله في أمري

سأصبر حتى يعلم الصبر أنني

 

صبرت على شيء أمر من الصبر

٤٩٨

سورة هود

مكية ، مائة وثلاث وعشرون آية ، ألف وتسعمائة وسبع

وأربعون كلمة ، سبعة آلاف وثمانمائة وتسعة عشر حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) أي نظمت نظما رصيفا متقنا (ثُمَّ فُصِّلَتْ) أي جعلت فصولا من دلائل التوحيد والنبوة ، والأحكام ، والمواعظ ، والقصص (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (١) صفة ثانية لكتاب أو صلة للفعلين كأنه تعالى يقول : أحكمت آياته من عند حكيم أي واضع الشيء بالحكمة وفصلت آياته من عند خبير أي عالم بكيفيات الأمور (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) فـ «أن» تفسيرية لفصلت فإنها في معنى القول (إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ) أي من جهة الحكيم الخبير (نَذِيرٌ) بعذابه إن عبدتم غير الله تعالى (وَبَشِيرٌ) (٢) بثوابه إن تمحضتم في عبادته (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) معطوف على أن لا تعبدوا (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي اطلبوا من ربكم ستر ما سلف منكم من الشرك ثم أقبلوا إليه بالطاعة والإخلاص (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي يعشكم عيشا مرضيا إلى وقت مقدر عند الله تعالى وهو آخر أعماركم فمن أخلص لله في القول والعمل عاش في أمن من العذاب وراحة مما يخشاه ، ومن اشتغل بمحبة الله كان انقطاعه عن الخلق أكمل وسروره أتم لأنه آمن من زوال محبوبه ومن كان مشتغلا بحب غير الله كان أبدا في ألم الخوف من فوات المحبوب (وَيُؤْتِ) أي يعط في الدنيا وفي الآخرة (كُلَّ ذِي فَضْلٍ) في الإسلام والطاعة (فَضْلَهُ) أي ثوابه (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي تعرضوا عمّا ألقي إليكم من التوحيد والاستغفار والتوبة (فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) بموجب الشفقة (عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) (٣) هو يوم القيامة (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) ثم البعث للجزاء (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤) فيقدر على تعذيبكم بأفانين العذاب (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) أي تنبه أن الكفار يضمرون خلاف ما يظهرون ليستخفوا من الله تعالى حين يغطون رؤوسهم بثيابهم للاستخفاء.

روي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في الأخنس بن شريق وأصحابه من منافقي مكة وكان رجلا حلو المنطق ، حسن المنظر ، يظهر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويضمر في قلبه العداوة (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ)

٤٩٩

في قلوبهم (وَما يُعْلِنُونَ) بأفواههم (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٥) أي إنّه تعالى مبالغ في الإحاطة بمضمرات جميع الناس وأسرارهم الخفية المستكنة في صدرهم فلا فائدة لهم في استخفائهم (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) أي غذاؤها اللائق بها.

روي أن موسى عليه‌السلام تعلق قلبه بأحوال أهله فأمره الله تعالى أن يضرب بعصاه على صخرة فانشقت وخرجت صخرة ، ثم ضرب بعصاه فانشقت وخرجت صخرة ثانية ، ثم ضرب بعصاه عليها فانشقت وخرجت صخرة ثالثة ، ثم ضربها بعصاه فانشقت فخرجت منها دودة كالذرة ، وفي فيها شيء يجري مجرى الغذاء لها ورفع الله الحجاب عن سمع موسى عليه‌السلام فسمع الدودة تقول سبحان من يراني وسمع كلامي ويعرف مكاني ويذكرني ولا ينساني (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها) أي مكانها في الأرض قبل الموت وبعده (وَمُسْتَوْدَعَها) أي موضعها قبل الاستقرار من صلب أو رحم بيضة (كُلٌ) من الدواب ورزقها ومستقرها ومستودعها وأحوالها (فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٦) أي ثابت في علم الله ومذكور في اللوح المحفوظ (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أي خلق السموات في يومين ، والأرض في يومين ، وما عليها من أنواع الحيوانات والنبات وغير ذلك في يومين (وَكانَ عَرْشُهُ) قبل خلقهما (عَلَى الْماءِ) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كان الله وما كان معه شيء ، ثم كان عرشه على الماء» (١) أي والعرش الذي هو أعظم المخلوقات قد أمسكه الله تعالى فوق سبع سموات من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه وذلك يدل على كمال قدرته تعالى (لِيَبْلُوَكُمْ) أي خلق السموات والأرض وما فيهما ورتب فيها جميع ما تحتاجون إليه من مبادي وجودكم وأسباب معايشكم وأودع فيهما ما تستدلون به على مطالبكم الدينية ليعاملكم معاملة من يختبركم (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أي أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله فإن لكل من القلب والقالب عملا مخصوصا به (وَلَئِنْ قُلْتَ) يا أشرف الخلق لأهل مكة (إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ) أي محيون (مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) منهم (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٧) أي ما هذا القول إلا خديعة منكم وضعتموها لمنع الناس عن لذات الدنيا وإحرازا لهم إلى الاعتقاد لكم والدخول تحت طاعتكم.

وقرأ حمزة والكسائي «إلا ساحر» أي كاذب وحينئذ فاسم الإشارة عائد على النبي أو القرآن (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ) الذي هددهم الرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم به (إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) أي إلى انقراض جماعة من الناس بعد هذا التهديد بالقول (لَيَقُولُنَ) بطريق الاستعجال استهزاء (ما يَحْبِسُهُ)

__________________

(١) رواه الحاكم في المستدرك (٢ : ٣٤١) ، والسيوطي في الدر المنثور (٣ : ٣٢٢) ، والطبري في التفسير (١٢).

٥٠٠