مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

خلافته فلم يقبلها ، فلما ولي عثمان أتاه بها فلم يقبلها ، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان وإنما امتنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أخذ تلك الصدقة لأن المقصود من الأخذ غير حاصل في ثعلبة مع نفاقه لقوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) [التوبة : ١٠٣] (أَلَمْ يَعْلَمُوا) أي المنافقون (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ) وهو ما تنطوي عليه صدورهم (وَنَجْواهُمْ) وهو ما يفاوض به بعضهم بعضا فيما بينهم (وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (٧٨) أي ما غاب عن الخلق (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) أي ويطعنون على الذين لا يجدون إلا طاقتهم (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ) أي ويهزئون بالفريق الأخير بقلة الصدقة (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) وهذه الجملة خبر للموصول.

وقال الأصم : أي قبل الله من هؤلاء المنافقين ما أظهروه من أعمال البر مع أنه لا يثيبهم عليها فكان ذلك كالسخرية.

وقال ابن عباس : فتح الله لهم في الآخرة بابا إلى الجنة (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٧٩). قال ابن عباس : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطبهم ذات يوم وحث على أن يجمعوا الصدقات ، فجاءه عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وجاء عمر بنحو ذلك ، وجاء عاصم بن عدي الأنصاري بسبعين وسقا من تمر ، وجاء عثمان بن عفان بصدقة عظيمة ، وجاء أبو عقيل عبد الرحمن بن تيحان بصاع من تمر فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوضعه في الصدقات. فقال المنافقون على وجه الطعن : ما جاءوا بصدقاتهم إلا رياء وسمعة ، وأما أبو عقيل فإنما جاء بصاع ليذكر مع سائر الأكابر والله غني من صاعه فأنزل الله تعالى هذه الآية (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ).

روي أنه لما نزلت الآيات المتقدمة في المنافقين وظهر نفاقهم للمؤمنين جاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعتذرون وقالوا : يا رسول الله استغفر لنا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سأستغفر لكم» واشتغل بالاستغفار لهم ، فنزلت هذه الآية ، فترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الاستغفار. وهذا الأمر تخيير له صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الاستغفار وتركه ، ومعناه إخبار باستواء الأمرين أي إن شئت فاستغفر لهم ، وإن شئت فلا تستغفر لهم فاستغفارك لهم وعدمه سواء (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) وقد شاع استعمال السبعة ، والسبعين والسبعمائة في التكبير لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد فكأنها العدد بأسره فإن عدة مراتبه سبعة آحاد ، عشرات مئين ، آحاد ألوف ، عشرات ألوف ، مئين ألوف ، آحاد ألوف ، الألوف والسبعون عند العرب غاية مستقصاة لأنه عبارة عن جمع السبعة عشر مرات ، والسبعة عدد شريف لأن عدد السموات والأرض ، والبحار ، والأقاليم ، والنجوم ، والأيام ، والأعضاء هو هذا العدد (ذلِكَ) أي امتناع المغفرة لهم ولو بعد المبالغة في الاستغفار (بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي بسبب كفرهم لا لعدم الاعتداد بالاستغفار (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٨٠) أي فإن تجاوزهم عن الحدود مانع من الهداية (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ) أي الذين تركهم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بِمَقْعَدِهِمْ) أي في المدينة (خِلافَ رَسُولِ اللهِ)

٤٦١

أي مخالفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث سار إلى تبوك للجهاد وأقاموا في المدينة (وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) فإن في المجاهدة إتلاف النفس والمال (وَقالُوا) لإخوانهم أو للمؤمنين تثبيطا لهم عن الجهاد ، ونهيا عن المعروف (لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) أي لا تخرجوا إلى الجهاد في الحر الشديد (قُلْ) تجهيلا لهم : (نارُ جَهَنَّمَ) التي ستدخلونها بما فعلتم (أَشَدُّ حَرًّا) مما تحذرون من الحر المعتاد وتحذرون الناس منه (لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) (٨١) أن بعد هذه الدار دارا أخرى ، وأن بعد هذه الحياة الدنيا حياة أخرى (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) وهذا إخبار بأنه ستحصل لهم هذه الحالة ورد بصيغة الأمر أي إنهم وإن فرحوا وضحكوا طول أعمارهم في الدنيا فهو قليل بالنسبة إلى بكائهم وحزنهم في الآخرة ، لأن الدنيا بأسرها قليلة وعقابهم في الآخرة دائم لا ينقطع (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨٢) في الدنيا من النفاق (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ) من غزوة تبوك (إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ) أي المنافقين في المدينة (فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ) معك إلى غزوة أخرى بعد غزوة تبوك (فَقُلْ) لهم يا أشرف الخلق : (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) في سفر من الأسفار (وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) من الأعداء (إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ) عن الغزو (أَوَّلَ مَرَّةٍ) وهي غزوة تبوك (فَاقْعُدُوا) عن الجهاد (مَعَ الْخالِفِينَ) (٨٣) أي النساء والصبيان والرجال العاجزين (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) أي لا تقف عليه للدفن أو للدعاء فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي لأنهم استمروا على الكفر بالله ورسوله في السر مدة حياتهم (وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) (٨٤) أي متمردون في الكفر بالكذب والخداع والمكر. عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما إنه لما اشتكى عبد الله بن أبي سلول عاده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فطلب منه أن يصلي عليه إذا مات ويقوم على قبره ، ثم إنه أرسل إلى الرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطلب منه قميصه ليكفن فيه فأرسل إليه القميص الفوقاني ، فرده وطلب منه الذي يلي جلده ليكفن فيه فأرسله إليه ، فقال عمر رضي‌الله‌عنه : لم تعطي قميصك للرجس النجس؟! فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئا فلعل الله أن يدخل به ألفا في الإسلام». وكان المنافقون لا يفارقون عبد الله فإنه رأسهم فلما رأوه يطلب هذا القميص ويرجو أن ينفعه أسلم منهم يومئذ ألف ، فلما مات عبد الله جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابنه ـ واسمه عبد الله ـ فإنه كان من فضلاء الصحابة وأصدقهم إسلاما ، وأكثرهم عبادة ، وأشرحهم صدرا ، يعرفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعبد الله : «صل عليه وادفنه» (١). فقال : يا رسول الله إن لم تصل عليه لم يصل عليه مسلم ، فقام صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقام عمر فحال بين رسول الله وبين القبلة لئلا يصلي عليه ،

__________________

(١) رواه ابن كثير في التفسير (٨ : ٢٢١).

٤٦٢

فنزلت هذه الآية فامتنع صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الصلاة عليه وإنما دفع القميص إليه تطييبا لقلب ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي وإكراما له ، لأنه كان من الصالحين ، ولأن العباس عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أخذ أسيرا ببدر لم يجدوا له قميصا وكان رجلا طويلا فكساه عبد الله بن أبي قميصه بأمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ) بتمتيعهم بالأموال والأولاد (أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا) بمكابدتهم الشدائد في شأنها (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) (٨٥) أي فيموتوا كافرين باشتغالهم بالتمتع بها (وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) من القرآن مشتملة على الأمر (أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ) في التخلف عن الغزو (أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ) أي ذوو السعة في المال والقدرة على الجهاد بالبدن من رؤساء المنافقين عبد الله بن أبي وجد بن قيس ومعتب بن قيس (وَقالُوا ذَرْنا) يا محمد (نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ) (٨٦) أي من الضعفاء من الناس ، والساكنين في البلد بغير عذر (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) أي مع النساء اللاتي يلزمن البيوت (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي منعت من حصول الإيمان (فَهُمْ) بسبب ذلك (لا يَفْقَهُونَ) (٨٧) أي لا يفهمون أسرار حكمة الله في الأمر بالجهاد (لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أي إن تخلف هؤلاء المنافقون عن العزو فقد توجه إليه من هو خير منهم وأخلص نية واعتقادا (وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ) أي منافع الدارين : النصر والغنيمة في الدنيا ، والجنة والكرامة في الآخرة. (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٨٨) أي المتخلصون من السخط والعذاب (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ) أي هيأ لهم في الآخرة (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي مقيمين في الجنة (ذلِكَ) أي نيل الكرامة العظمى (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٨٩) الذي لا فوز وراءه (وَجاءَ) إليك يا أشرف الخلق (الْمُعَذِّرُونَ) أي الذين أتوا بأعذار كاذبة وتكلفوا عذرا بباطل (مِنَ الْأَعْرابِ) أي من بني غفار (لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) بالتخلف عن غزوة تبوك فلم يعذرهم الله (وَقَعَدَ) عن الجهاد بغير إذن (الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في ادعائهم الإيمان وهم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا إلى الرسول ولم يعتذروا. (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) أي المعذرين لا من أسلم منهم (عَذابٌ أَلِيمٌ) (٩٠) في الدنيا بالقتل ، وفي الآخرة بالنار. (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ) كالشيوخ (وَلا عَلَى الْمَرْضى) من الشباب (وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ) في الجهاد من الزاد والراحلة لفقرهم كمزينة وجهينة وبني عذرة (حَرَجٌ) أي إثم في التخلف عن الجهاد (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) أي آمنوا بهما وأطاعوا لهما في السر والعلن (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) أي ليس عليهم طريق إلى ذمهم (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٩١) (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) (٩٢) أي وليس على من أتوك يسألوك أن تحملهم إلى غزوة تبوك ، ثم خرجوا من عندك يبكون لعدم وجدان ما ينفقون في الجهاد سبيل في لومهم ، ولذلك سموا البكائين ، وهم سبعة من الأنصار : معقل بن يسار ، وصخر بن خنساء ، وعبد الله بن كعب ، وسالم بن عمير ،

٤٦٣

وثعلبة بن عنمة ، وعبد الله بن مغفل ، وعبد الله بن زيد فإنهم أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : نذرنا الخروج فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغز معك فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا أجد ما أحملكم عليه» (١) فتولوا وهم يبكون ، فحمل العباس منهم اثنين ، وعثمان ثلاثة زيادة على الجيش الذي جهزه وهو ألف وحمل يامين بن عمرو النضري اثنين (إِنَّمَا السَّبِيلُ) بالمعاتبة (عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ) في التخلف (وَهُمْ أَغْنِياءُ) أي قادرون على أهبة الخروج معك (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) أي رضوا بالدناءة والانتظام في جملة النساء (وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ) لأجل ذلك الطبع (لا يَعْلَمُونَ) (٩٣) ما في الجهاد من منافع الدين والدنيا (يَعْتَذِرُونَ) أي هؤلاء المنافقون وهم بضع وثمانون رجلا (إِلَيْكُمْ) في التخلف (إِذا رَجَعْتُمْ) من عزوة تبوك (إِلَيْهِمْ) بالأعذار الباطلة. (قُلْ) يا أشرف الخلق لهم : (لا تَعْتَذِرُوا) بما عندكم من المعاذير (لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) أي لن نصدقكم فيما تقولون من العلل أبدا (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) أي قد أعلمنا الله بعض أحوالكم مما في ضمائركم من الخبث والنفاق والمكر (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) أي وسيقع عملكم معلوما لله ولرسوله هل تبقون على نفاقكم أم تتوبون منه (ثُمَّ تُرَدُّونَ) يوم القيامة (إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) للجزاء مما ظهر منكم من الأعمال (فَيُنَبِّئُكُمْ) عند وقوفكم بين يديه (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٩٤) في الدنيا. أي فيجازيكم عليه (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ) أي إذا رجعتم إليهم من تبوك أنهم معذورون في التخلف (لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) أي لتعرضوا عن ذمهم إعراض الصفح (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) إعراض المقت وترك الكلام. قال مقاتل : قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قدم المدينة : «لا تجالسوهم ولا تكلموهم» (٢) (إِنَّهُمْ رِجْسٌ) أي إن خبث باطنهم رجس روحاني ، فكما يجب على الإنسان الاحتراز عن الأرجاس الجسمانية يجب الاحتراز عن الأرجاس الروحانية حذرا من أن يميل طبع الإنسان إلى الأعمال القبيحة (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) أي وكفتهم النار توبيخا فلا تتكلفوا أنتم في ذلك (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٩٥) في الدنيا من فنون السيئات (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) بالحلف وتستديموا عليهم ما كنتم تفعلون بهم (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) (٩٦) أي فإن رضيتم أيها المؤمنون عنهم بما حلفوا لكم فلا ينفعهم رضاكم ، لأن الله ساخط عليهم ولا أثر لرضاكم لكون إرادتكم مخالفة لإرادة الله تعالى وذلك لا يجوز. (الْأَعْرابُ) أي جنس أهل البدو (أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) من أهل الحضر لتوحشهم واستيلاء

__________________

(١) رواه البيهقي في دلائل النبوة (٥ : ٣١٨) ، والسيوطي في الدر المنثور (٣ : ٢٦٨) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٣ : ٤٨٥).

(٢) رواه ابن الجوزي في زاد المسير (٣ : ٤٧٨).

٤٦٤

الهواء الحار اليابس عليهم ، وبعدهم عن أهل العلم (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) أي أحق بأن لا يعلموا مقادير التكاليف والأحكام (وَاللهُ عَلِيمٌ) بما في قلوب خلقه (حَكِيمٌ) (٩٧) فيما فرض من فرائضه (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً) أي من الأعراب أسد وغطفان من يعتقد أن الذي ينفقه في سبيل الله خسران لأنه لا ينفق إلا رياء وخوفا من المسلمين لا لوجه الله (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) أي ينتظر أن تتقلب الأمور عليكم بموت الرسول ، وأن يعلو عليكم المشركون فيتخلص مما ابتلى به من الإنفاق (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) أي عليهم يدور البلاء والحزن فلا يرون في محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودينه إلا ما يحزنهم (وَاللهُ سَمِيعٌ) لقولهم عند الإنفاق من كلام لا خير فيه (عَلِيمٌ) (٩٨) بنياتهم الفاسدة (وَمِنَ الْأَعْرابِ) مزينة وجهينة وأسلم (مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) في السر والعلانية (وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) أي ويأخذ لنفسه ما ينفقه في سبيل الله سببا لحصول القربات إلى الله في الدرجات وسببا لحصول دعوات الرسول ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم (أَلا) أي تنبهوا (إِنَّها) أي إن نفقتهم (قُرْبَةٌ لَهُمْ) إلى الله في الدرجات (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) أي جنته ، وهذا تفسير للقربة ووعد لهم بإحاطة رحمته الواسعة ، كما أن قوله تعالى : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) تهديد للأولين عقب الدعاء عليهم ، والسين للدلالة على تحقيق الوقوع (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لسيئاتهم (رَحِيمٌ) (٩٩) بهم حيث وفقهم لهذه الطاعات.

وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أسلم وغفار وشيء من جهينة ومزينة خير عند الله يوم القيامة من تميم وأسد بن خزيمة وهوازن وغطفان» (١). (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) أي في الهجرة والنصرة (مِنَ الْمُهاجِرِينَ) هم الذين صلوا إلى القبلتين وشهدوا بدرا كما قاله ابن عباس (وَالْأَنْصارِ) وهم الذين بايعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة العقبة الأولى : وكانوا سبعة نفر. والعقبة الثانية : وكانوا اثني عشر رجلا. والعقبة الثالثة : وكانوا سبعين رجلا والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ) أي الفريقين (بِإِحْسانٍ) وهم الذين يذكرون المهاجرين والأنصار بالجنة والرحمة والدعاء لهم ويذكرون محاسنهم (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) لأعمالهم وكثرة طاعاتهم (وَرَضُوا عَنْهُ) لما أفاض عليهم من نعمه الجليلة في الدنيا والآخرة ، والسابقون مبتدأ وخبره جملة رضي‌الله‌عنهم (وَأَعَدَّ لَهُمْ) في الآخرة (جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ).

وقرأ ابن كثير «من تحتها» بكلمة «من» كما في سائر المواضع وعلى هذا لزم صلة الميم في المواضع الثلاثة ، والباقون بغير كلمة «من» وفتح التاء. (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي من غير انتهاء

__________________

(١) رواه أحمد في (م ٢ / ص ٤٢٠).

٤٦٥

(ذلِكَ) أي الرضوان والجنات (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١٠٠) أي النجاة الوافرة (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ) أي حول بلدتكم (مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ) وهم جهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار وكانوا نازلين حول المدينة (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) أي من أهل المدينة كعبد الله ابن أبي وأصحابه من ثبتوا على النفاق ولم يتوبوا عنه (لا تَعْلَمُهُمْ) أي لا تعلم نفاقهم مع قوة خاطرك وصفاء. نفسك لشدة إبطان الكفر وإظهار الإخلاص (نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) أي نحن نعلم سرائرهم التي في ضمائرهم (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) بعذاب الدنيا بجميع أقسامه وعذاب القبر (ثُمَّ يُرَدُّونَ) في الآخرة (إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) (١٠١) هو النار المؤبدة (وَآخَرُونَ) أي ومن أهل المدينة قوم آخرون أبو لبابة مروان ابن عبد المنذر ، وأوس بن ثعلبة ووديعة بن حزام (اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) أي أقروا بذنوبهم وأظهروا الندامة على التخلف (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً) وهو خروجهم مع الرسول إلى سائر الغزوات (وَآخَرَ سَيِّئاً) وهو تخلفهم من غزوة تبوك أي خلطوا كل واحد من العمل الصالح والعمل السيء بالآخر (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) أي ثبت أن يقبل الله توبتهم (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٠٢) يتجاوز عن سيئات التائب ويتفضل عليه (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) أي لما أظهروا التوبة عن تخلفهم عن غزوة تبوك وهم أقروا بأن السبب المؤدي لذلك التخلف حبهم للأموال أمر الله رسوله أن يأخذ منهم الزكوات الواجبة عليهم فكأنه قيل لهم : إنما يظهر صحة قولكم في ادعاء هذه التوبة لو أخرجتم الزكاة الواجبة بانشراح قلب ، لأن الدعوى إنما يشهد عليها الامتحان ، فعند الامتحان يكرم الرجل أو يهان فإن أدوا تلك الزكوات عن طيبة النفس ظهر كونهم صادقين في تلك التوبة وإلا فهم كاذبون (تُطَهِّرُهُمْ) أي تطهرهم أنت أيها الآخذ بأخذها منهم عن نجاسة الذنوب (وَتُزَكِّيهِمْ بِها) أي ترفعهم بتلك الصدقة حسناتهم إلى مراتب المخلصين وتثني عليهم عند إخراجها إلى الفقراء وتجعل النقصان الحاصل بسبب إخراج قدر الزكاة سببا لزيادة البركة (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) أي ادع لهم.

قال الشافعي رضي‌الله‌عنه والسنة للإمام : إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق ويقول : آجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت وجعله لك طهورا (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) أي إن دعاءك يوجب طمأنينة قلوبهم (وَاللهُ سَمِيعٌ) لقولهم (عَلِيمٌ) (١٠٣) بنياتهم.

قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «صلاتك» على التوحيد. والباقون «صلواتك» على الجمع. (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) أي ألم يعلم أولئك التائبون قبل توبتهم وصدقتهم أن الله يقبل التوبة الصحيحة عن عباده المخلصين ، ويقبل الصدقات الصادرة عن خلوص النية (وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١٠٤) أي وأ لم يعلموا أنه تعالى المنفرد ببلوغ الغاية القصوى من قبول التوبة وإيصال الرحمة (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) أي وقل يا أشرف الخلق اعملوا ما تشاؤون من الأعمال فسيرى الله عملكم خيرا كان

٤٦٦

أو شرا ، ويراه رسوله باطلاع الله إياه على أعمالكم ، ويراه المؤمنون بقذف الله تعالى في قلوبهم من محبة الصالحين وبغض المفسدين فإن لعملكم في الدنيا حكما ، وفي الآخرة حكما. أما حكمه في الدنيا فإنه يراه الله والرسول والمسلمون ، فإن كان طاعة حصل منه الثناء العظيم في الدنيا والثواب العظيم في الآخرة ، وإن كان معصية حصل منه الذم العظيم في الدنيا ، والعقاب الشديد في الآخرة ، وهذا ترغيب عظيم للمطيعين وترهيب عظيم للمذنبين. وفي الخبر : «لو أن رجلا عمل في صخرة لا باب لها ولا كوة لخرج عمله إلى الناس كائنا ما كان» (١) (وَسَتُرَدُّونَ) بعد الموت (إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ).

والمراد من الرد تعريف عقاب الخزي والفضيحة (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٠٥) في الدنيا أي فيعرفكم أحوال أعمالكم من خير وشر فيجازيكم عليها لأن المجازاة من الله تعالى في الآخرة لا تحصل إلا بعد التعريف ليعرف كل أحد أن الذي وصل إليه عدل لا ظلم (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ).

قرأ ابن كثير وأبو عمرو ، وابن عامر وأبو بكر عن عاصم «مرجئون» بهمزة مضمومة وبعدها واو ساكنة. والباقون «مرجون» بدون تلك الهمزة أي ومن أهل المدينة قوم من المتخلفين غير المعترفين مؤخرون عن قبول التوبة (لِأَمْرِ اللهِ) أي لحكمه.

قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : نزلت هذه الآية في كعب بن مالك ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية لم يسارعوا إلى التوبة والاعتذار. فنزل قوله تعالى : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) فوقف الرسول أمرهم بعد نزول هذه الآية خمسين ليلة بقدر مدة التخلف ـ إذ كانت غيبته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المدينة خمسين ليلة ـ ونهى الناس عن مجالستهم ، وأمرهم باعتزال نسائهم وإرسالهن أهاليهن لأنه لما تمتعوا بالراحة في المدينة مع تعب غيرهم في السفر عوقبوا بهجرهم تلك المدة فلما مضى خمسون يوما نزلت توبتهم بقوله تعالى : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِ) [التوبة : ١١٧] وبقوله تعالى : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) [التوبة : ١١٨] (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) وهذه الجملة في محل نصب على الحال ، أي منهم هؤلاء إما معذبين وإما متوبا عليهم ، وهؤلاء القوم كانوا نادمين على تأخرهم عن الغزو ولم يحكم الله بكونهم تائبين بل قال : إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ، فلعلهم خافوا من أمر الرسول بإيذائهم أو خافوا من الخجلة والفضيحة ، وعلى هذا التقدير فتوبتهم غير صحيحة فاستمر عدم قبول التوبة إلى أن سهل أحوال الخلق في قدحهم ومدحهم عندهم ، فعند ذلك ندموا على المعصية لنفس كونها معصية ، وعند

__________________

(١) رواه الحاكم في المستدرك (٤ : ٣١٤) ، والتبريزي في مشكاة المصابيح (٥٣٣٥) ، والسيوطي في الدر المنثور (١ : ٧٨).

٤٦٧

ذلك صحت توبتهم ، وكلمة «إما» للشك بالنسبة لاعتقاد العباد ، والمراد منه : ليكن أمرهم على الخوف والرجاء فجعل أناس يقولون : هلكوا إذا لم ينزل الله لهم عذرا. وأناس يقولون : عسى الله أن يغفر لهم ، فالناس مختلفون في شأنهم فصاروا عندهم مرجئين لأمر الله تعالى (وَاللهُ عَلِيمٌ) بما في قلوب هؤلاء المؤمنين (حَكِيمٌ) (١٠٦) فيما يحكم فيهم وفيما يفعل بهم (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً) أي ومنهم الذين بنوا مسجدا وكانوا اثني عشر رجلا من المنافقين لإضرار أهل مسجد قباء (وَكُفْراً) أي ولتقوية الكفر بالطعن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودين الإسلام (وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) الذين كانوا يصلون في مسجد قباء أي لكي يصلي طائفة من المؤمنين في ذلك المسجد فيؤدي ذلك إلى اختلاف الكلمة (وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي انتظارا لأبي عامر الراهب الفاسق (مِنْ قَبْلُ) متعلق باتخذوا أي اتخذوا ذلك المسجد من قبل أن ينافق بالتخلف حيث كانوا بنوه قبل غزوة تبوك ، وكان أبو عامر قد تنصّر في الجاهلية وترهّب ـ أي لبس المسوح ـ وطلب العلم ، فلما قدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة عاده لأنه زالت رئاسته وقال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد : «لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم». ولم يزل يقاتله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن خرج هاربا إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح وابنوا لي مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر وآت من عنده بجند ، فأخرج محمدا وأصحابه من المدينة فبنوا هذا المسجد إلى جنب مسجد قباء وانتظروا مجيء أبي عامر ليصلي بهم في ذلك المسجد (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) أي قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الإحسان إلى المؤمنين وهو الرفق بهم في التوسعة على أهل الضعف والعلة والعجز عن الذهاب إلى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (١٠٧) في حلفهم (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) أي لا تصل في ذلك المسجد أبدا.

روي أنه لما قفل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوة تبوك نزل بذي أوان وهو موضع قريب من المدينة فأتاه المنافقون وسألوه إتيان مسجدهم ، فنزلت عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشيا فقال لهم : «انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه» (١) ففعلوا ذلك وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجعل ذلك الموضوع مكان كناسة تلقى فيها الجيف والقمامة ، ومات أبو عامر الفاسق بالشام بقنسرين غريبا وحيدا (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى) أي بنى أصله على طاعة الله تعالى وذكره (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) من أيام تأسيسه فقد أسس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسجد قباء وصلى فيه أيام مقامه بقباء وهي يوم الإثنين ، والثلاثاء ، والأربعاء ، والخميس ، وخرج صبيحة الجمعة فدخل المدينة (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) أي أن تصلي فيه ذلك

__________________

(١) رواه ابن الجوزي في زاد المسير (٣ : ٤٩٩) ، والقرطبي في التفسير (٨ : ٥٣) ، والواحدي في أسباب النزول (١٧٦).

٤٦٨

المسجد (فِيهِ) أي في هذا المسجد (رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) من الأحداث والجنابات والنجاسات ، وسائر النجاسات وهم : بنو عامر بن عوف الذين بنوه (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (١٠٨) أي يرضى عنهم.

روى ابن خزيمة عن عويمر ابن ساعدة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال : «إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تطهرون به» (١)؟ أي الذي تحصلون الطهارة بسببه. قالوا : والله يا رسول الله ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود ، وكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا. وفي حديث رواه البزار فقالوا : في جواب سؤاله لهم : نتبع الحجارة بالماء فقال : «هو ذاك فعليكموه» (٢). (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ) أي أبعد ما علم حالهم من أسس بنيان دينه على قاعدة قوية هي الخوف من عقاب الله والرغبة في ثوابه (خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ) أي أم من أسس بنيان دينه على طرف مسيل متصدع وهو كفر بالله وإضرار بعباد الله (فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ) أي فسقط المسيل مصاحبا له أي للمؤسس في قعر نار جهنم أي مثل الضلال مثل شفا جرف هار من أودية جهنم فكان قريب السقوط ولكونه على طرف جهنم كان إذا انهار فإنما ينهار في قعر جهنم.

وقرأ نافع وابن عامر «أسس» مبنيا للمفعول ، وبنيانه بالرفع نائب الفاعل (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٠٩) أي لا يغفر للمنافقين ولا ينجيهم (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) أي لا يزال مسجدهم سبب شك في الدين لأن المنافقين عظم فرحهم ببناء مسجد الضرار فلما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتخريبه ثقل ذلك عليهم وازداد بغضهم له وازداد ارتيابهم في نبوته ، وعظم خوفهم منه في جميع الأوقات ، وصاروا مرتابين في أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل يخلي سبيلهم أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم؟! (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ).

وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة بفتح التاء والطاء المشددة. والباقون بضم التاء مبني للمجهول. وعن ابن كثير بفتح الطاء وسكون القاف على الخطاب وقلوبهم بالنصب أي إلا أن تجعل قلوبهم قطعا بالسيف. وقرأ الحسن ومجاهد وقتادة ويعقوب «إلى أن تقطع» ، وأبو حيوة كذلك إلا أنه قرأ بضم التاء وفتح القاف وكسر الطاء مشددة على الخطاب للرسول ، و «قلوبهم» بالنصب ، وفي قراءة عبد الله ولو قطعت قلوبهم بالبناء للمجهول وعن طلحة ولو قطعت قلوبهم على الخطاب. والمعنى أن هذه الريبة باقية في قلوبهم أبدا ويموتون على هذا النفاق ، و «إلا» بمعنى إلى بدليل القراءة الشاذة (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوالهم (حَكِيمٌ) (١١٠) في

__________________

(١) رواه ابن ماجة في كتاب الطهارة ، باب : الاستنجاء بالماء ، وأحمد في (م ٣ / ص ٤٢٢).

(٢) رواه ابن ماجة في كتاب الطهارة ، باب : الاستنجاء بالماء ، والدار قطني في (ج ١ / ص ٦٢).

٤٦٩

الأحكام التي يحكم بها عليهم (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) وهذا استئناف لبيان البيع الذي يستلزمه الشراء كأنه قيل : كيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة؟ فقيل : يقاتلون في سبيل الله ، أي يبذلون أنفسهم وأموالهم في طاعة الله والمؤمن متى قاتل في سبيل الله حتى يقتله كافر وأنفق ماله في سبيل الله فإنه يأخذ من الله في الآخرة الجنة جزاء لما فعل وهو تسليم المبيع من الأنفس والأموال (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ).

قرأ حمزة والكسائي بتقديم المبني للمفعول على المبني للفاعل ، والباقون بعكسه فمعنى تقديم الفاعل على المفعول أنهم يقتلون الكفار ولا يرجعون عنهم إلى أن يصيروا مقتولين وأما تقديم المفعول على الفاعل فالمعنى أن طائفة كبيرة من المسلمين وإن صاروا مقتولين لم يصر ذلك رادعا للباقين عن المقاتلة بل يبقون بعد ذلك مقاتلين مع الأعداء قاتلين لهم بقدر الإمكان (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) أي وعدهم الله وعدا ثابتا على الله (فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) أي لا أحد أوفى بعهده من الله تعالى (فَاسْتَبْشِرُوا) أي فافرحوا غاية الفرح (بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) أي بجهادكم الذي فزتم به بالجنة (وَذلِكَ) أي الجنة التي هي ثمن بذل الأنفس والأموال (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١١١) أي فلا فوز أعظم منه (التَّائِبُونَ) وهو رفع على المدح ، أي هم التائبون من كل معصية كما يدل عليه قراءة عبد الله بن مسعود ، وأبي ، والأعمش «التائبين» بالياء إلى قوله تعالى : «والحافظين» إما نصبا على المدح أو جرا صفة للمؤمنين ، ويجوز أن يكون التائبون رفعا على البدل من الواو في يقاتلون.

واعلم أن التوبة المقبولة إنما تحصل باجتماع أربعة أمور :

أولها : احتراق القلب عند صدور المعصية.

ثانيها : الندم على ما مضى.

ثالثها : العزم على الترك في المستقبل.

رابعها : أن يكون الحامل له على هذه الأمور الثلاثة طلب رضوان الله تعالى وعبوديته فإن كان غرضه منها دفع مذمة الناس وتحصيل مدحهم أو لغرض آخر من الأغراض الدنيوية فليس بتائب ، ولا بد من رد المظالم إلى أهلها إن كانت (الْعابِدُونَ).

قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : الذين يريدون عبادة الله واجبة عليهم (الْحامِدُونَ) أي الذين يقومون بحق شكر الله تعالى على نعمه دينا ودنيا ويجعلون إظهار ذلك عادة لهم (السَّائِحُونَ) أي الصائمون لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سياحة أمتي الصيام» (١). وقال عكرمة : أي طلاب

__________________

(١) رواه القرطبي في التفسير (٨ : ٢٧٠).

٤٧٠

العلم فإنهم ينتقلون من بلد إلى بلد (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) أي المصلون الصلوات الخمس (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) أي بالإيمان والطاعة (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي عن الشرك والمعاصي (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) أي لتكاليف الله المتعلقة بالعبادات وبالمعاملات (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (١١٢) الموصوفين بهذه الصفات بالجنة (ما كانَ لِلنَّبِيِ) أي ما جاز لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) أي ذوي قرابات لهم (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (١١٣) أي أهل النار بأن ماتوا على الكفر وسبب نزول هذه الآية استغفار ناس لآبائهم الذين ماتوا على الكفر.

روي عن علي رضي‌الله‌عنه أنه قال : سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت : أتستغفر لأبويك وهما مشركان؟ قال : أليس قد استغفر إبراهيم لأبيه! فذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزل : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية ، فروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما قال : كان المسلمون يستغفرون لآبائهم المشركين حتى نزلت هذه الآية فلما نزلت أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم ولم ينهوا أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا ثم أنزل الله (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) أي إلا لأجل موعدة وعدها إبراهيم إياه بقوله : لأستغفرن لك ، أي لأطلبن مغفرة لك بالتوفيق للإيمان فإنه يمحو ما قبله (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ) أي إنه مستمر على الكفر ومات عليه (تَبَرَّأَ مِنْهُ) أي ترك الاستغفار له أي إن إبراهيم استغفر لأبيه ما كان حيا فلما مات أمسك عن الاستغفار له.

وروى ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال : لما مرض أبو طالب أتاه النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال المسلمون : هذا محمد يستغفر لعمه وقد استغفر إبراهيم لأبيه فاستغفروا لقراباتهم من المشركين ، فأنزل الله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية. ثم أنزل وما كان استغفار إبراهيم الآية.

وروى ابن جرير عن عمرو بن دينار أن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى ينهاني عنه ربّي» (١) ، فقال أصحابه : لنستغفرن لآبائنا كما استغفر النبي لعمه ، فأنزل الله (ما كانَ لِلنَّبِيِ) الآية إلى قوله تعالى (تَبَرَّأَ مِنْهُ) فظهر بهذه الأخبار أن الآية نزلت في استغفار المسلمين لأقاربهم المشركين لا في حق أبي طالب ، لأن هذه السورة كلها مدنية نزلت بعد تبوك ، وبينها وبين موت أبي طالب نحو اثني عشر سنة ، وأيضا إن عم إبراهيم آزر كان يتخذ أصناما آلهة ولم ينقل عن أبي طالب أنه اتخذ أصناما آلهة وعبد حجرا أو نهى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب التفسير ، باب : تفسير سورة ٩ ، وأحمد في (م ١ / ص ١٣١).

٤٧١

عبادة ربه وإنما هو ترك النطق بالشهادتين لخوف مسبة لا للعناد للإسلام ، أو ترك بعض الواجبات ومع ذلك قلبه مشحون بتصديق النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومثل هذا ناج في الآخرة على مقتضى ديننا فلا يليق بالحكمة ، ولا بمحاسن الشريعة الغرّاء ، ولا بقواعد الأثمة من أهل الكلام أن يكون هو وآزر ـ عم إبراهيم ـ في مرتبة واحدة فإن أبا طالب رباه صلى‌الله‌عليه‌وسلم صغيرا وآواه كبيرا ، ونصّره وعزره ، ووقره ، وذب عنه ، ومدحه ، ووصى باتباعه. وأما ما روي أن عليا ضحك على المنبر ثم قال : ذكرت قول أبي طالب ظهر علينا وأنا أصلي ببطن نخلة فقال : ماذا تصنعان؟ فدعاه النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإسلام فقال : ما بالذي تقول من بأس ولكن والله لا يعلوني استي أبدا. فهذا في أول الإسلام قبل أن تفرض الصلاة ، وقد قرأ بأنه لا بأس بالتوحيد وإباؤه عن صلاة النفل لا يدل على إبائه عن التوحيد ، ليس في حديث عمرو بن دينار السابق دلالة قطعية على شركه ، وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك فلا أزال أستغفر لأبي طالب» (١) فهذا يمكن أن يكون معناه أن إبراهيم استغفر لأبيه مع شركه فكيف لا أستغفر أنا لأبي طالب مع خطيئته دون الشرك فلا أزال أستغفر له حتى ينهاني عنه ربي ولم ينه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل نهى عن الاستغفار للمشركين لا لخصوص عمه كما صرح بهذا ما روي عن قتادة أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سألوه عن الاستغفار لآبائهم فقال : «والله إني لأستغفرن لأبي ـ أي لعمي ـ كما استغفر إبراهيم لأبيه». فأنزل الله (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن لا أستغفر لمن كان كافرا» (٢) فقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني لأستغفرن لأبي» ولم يقل : أمرت أن لا أستغفر له بل قال : «لمن مات مشركا» جواب لسؤال أصحابه مع إشارة خفية إلى أن عمه لم يكن مشركا والله أعلم. (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ) أي كثير الدعاء والتضرع (حَلِيمٌ) (١١٤) أي صبور على المحنة (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) أي ما يجب أن يحترزوا عنه أي لما نزل المنع من الاستغفار للمشركين خاف المؤمنون من المؤاخذة بما صدر عنهم منه قبل المنع وقد مات قوم منهم قبل النهي عن الاستغفار فوقع الخوف في قلوب المسلمين على من مات منهم أنه كيف يكون حالهم ، فأزال الله تعالى ذلك الخوف عنهم بهذه الآية وبين أنه تعالى لا يؤاخذهم بعمل إلا بعد أن يبين لهم أنه يجب عليهم أن يحترزوا عنه أي وما كان الله ليقضي عليكم بالضلال بسبب استغفاركم لموتاكم المشركين بعد أن رزقكم الهداية ووفقكم للإيمان به وبرسوله حتى يبين لكم بالوحي ما يجب الاحتراز عنه من محظورات الدين فلا تنزجروا عما نهيتم عنه (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١١٥) فيعلم حاجتهم إلى بيان قبح ما لا يستقل العقل في معرفته فبين لهم ذلك (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من غير شريك

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب التفسير ، باب : تفسير سورة ٩ ، وأحمد في (م ١ / ص ١٣١).

(٢) رواه السيوطي في الدر المنثور (٣ : ٢٨٣).

٤٧٢

له فيه (يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) أي متولى الأمور. (وَلا نَصِيرٍ) (١١٦) أي لما أمر الله بالبراءة من الكفار بين أن له ملك السموات والأرض فإذا كان هو ناصرا لكم فهم لا يقدرون على إضراركم أي إنكم صرتم محرومين عن معاونتهم فالإله الذي هو المالك للسموات والأرض والمحيي والمميت ناصركم فلا يضركم أن ينقطعوا عنكم ، والواجب عليكم أن تنقادوا لحكم الله وتكليفه لكونه إلهكم ولكونكم عبيدا له (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) أي في الزمان الذي صعب الأمر عليهم جدا في السفر إلى تبوك وكانت لهم عسرة من الزاد وعسرة من الظهر ، وعسرة من الحر ، وعسرة من الماء فربما مصّ التمرة الواحدة جماعة يتناوبونها حتى لا يبقى من التمرة إلا النواة وكان معهم شيء من شعير مسوس فكان أحدهم إذا وضع اللقمة في فيه أخذ أنفه من نتن اللقمة وكان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم وكانوا قد خرجوا في قيظ شديد وأصابهم فيه عطش شديد حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه ويشربه أي لقد عفى الله عن النبي في إذنه للمنافقين في التخلف عنه في غزوة تبوك وهو شيء صدر عنه من باب ترك الأفضل لا أنه ذنب يوجب عقابا. وعفى الله عن المهاجرين والأنصار من الوساوس التي كانت تقع في قلوبهم في ساعة العسرة كما قال تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) أي من بعد ما قرب أن تميل قلوب بعضهم إلى أن يفارق النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك الغزو لحر شديد ولم ترد الميل عن الدين وربما وقع في قلوب بعضهم أنا لا نقدر على قتال الروم وكيف لنا بالخلاص منها (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) أي عفى الله عنهم ما وقع في قلوبهم من هذه الخواطر والوساوس النفسانية لما صبروا وندموا على ذلك الهم (إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١١٧) فلا يحملوهم ما لا يطيقون من العبادة ويوصل إليهم المنافع (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) أي وتاب الله على الثلاثة الذين أخروا في قبول التوبة عن الطائفة الأولى ابن لبابة وأصحابه وهؤلاء الثلاثة كعب بن مالك الشاعر ، وهلال بن أمية الذي نزلت فيه آية اللعان ومرارة بن الربيع (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) أي أخر أمرهم إلى أن ضاقت الأرض عليهم مع سعتها بسبب مجانبة الأحباء ، ونظر الناس لهم بعين الإهانة لأن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان معرضا عنهم ، ومنع المؤمنين من مكالمتهم وأمرهم باعتزال أزواجهم وبقوا على هذه الحالة خمسين يوما (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) أي ضاقت قلوبهم إذا رجعوا إلى أنفسهم لا يطمئنون بشيء بسبب تأخير أمرهم عن قبول التوبة (وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) أي علموا أنه لا ملجأ لأحد من سخطه تعالى إلا إليه بالتضرع (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) أي ثم وفقهم للتوبة الصحيحة المقبولة (لِيَتُوبُوا) أي ليحصلوا التوبة (إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١١٨) ولما نزلت هذه الآية خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى حجرته وهو عند أم سلمة فقال : «الله أكبر» قد أنزل الله عذر أصحابنا ، فلما صلى الفجر ذكر ذلك لأصحابه وبشّرهم بأن الله تاب عليهم فانطلقوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتلا

٤٧٣

عليهم ما نزل فيهم كعب : توبتي إلى الله تعالى أن أخرج مالي صدقة فقال : «لا». قلت : فنصفه. قال : «لا». قلت : فثلثه. قال : «نعم» (١). (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) في مخالفة أمر الرسول (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (١١٩) أي مع الرسول وأصحابه في الغزوات ، ولا تكونوا جالسين مع المنافقين في البيوت.

وقرئ شاذة «من الصادقين» فعلى هذا فـ «مع» بمعنى «من» ، أي كونوا ملازمين الصدق.

روي أن واحدا جاء إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : إني رجل أريد أن أومن بك إلا أني أحب الخمر ، والزنا ، والسرقة ، والكذب ، والناس يقولون : إنك تحرم هذه الأشياء ، ولا طاقة لي على تركها بأسرها فإن قنعت مني بترك واحد منها آمنت بك. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اترك الكذب» فقبل ذلك ثم أسلم فلما خرج من عند النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرضوا عليه الخمر فقال : إن شربت وسألني الرسول عن شربها وكذبت فقد نقضت العهد وإن صدقت أقام الحد عليّ فتركها ، ثم عرضوا عليه الزنا فجاء ذلك الخاطر فتركه ، وكذا في السرقة فتاب عن الكل فعاد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : ما أحسن ما فعلت لما منعتني عن الكذب انسدت أبواب المعاصي عليّ (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ) أي ما جاز لأهل دار الهجرة ومن حولهم من سكان البوادي (أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) إذا دعاهم وأمرهم لأنه تتعين الإجابة والطاعة لرسول الله وكذلك غيره من الولاة والأئمة إذا ندبوا وعينوا (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) أي ليس لهم أن يكرهوا لأنفسهم ما يرضاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنفسه (ذلِكَ) أي وجوب المشايعة لرسول الله (بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) أي شدة عطش (وَلا نَصَبٌ) أي تعب (وَلا مَخْمَصَةٌ) أي مجاعة شديدة يظهر بها ضمور البطن (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في طريق دينه (وَلا يَطَؤُنَ) أي لا يدوسون بأرجلهم وحوافر خيولهم وأخفاف بعيرهم (مَوْطِئاً) أي دوسا (يَغِيظُ الْكُفَّارَ) أي يغضبهم بذلك (وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً) أي شيئا منا لا أسرا أو قتلا أو هزيمة (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ) أي بكل واحد من الأمور الخمسة (عَمَلٌ صالِحٌ) مستوجب للثواب ومن قصد طاعة الله كان جميع حركاته وسكناته حسنات مكتوبة عند الله (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (١٢٠) أي لا يترك ثوابهم (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً) ولو تمرة أو علاقة سوط (وَلا كَبِيرَةً) كما أنفق عثمان في جيش العسرة (وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً) أي ولا يجاوزون مسلكا في سيرهم (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) أي إلا كتب الله لهم ذلك الإنفاق والسير في الذهاب والرجوع (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢١) أي ليجزيهم الله على أحسن أعمالهم وهو الواجب والمندوب دون المباح ، أو ليجزيهم الله جزاء هو أحسن من

__________________

(١) رواه النسائي في كتاب الوصايا ، باب : الوصية بالثلث ، «بما معناه».

٤٧٤

أعمالهم وهو الثواب ، فالأحسن صفة عملهم على المعنى الأول وصفة الجزاء على الثاني (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) أي ما استقام لهم أن ينفروا جميعا لنحو غزو وطلب علم فإنه يخل بأمر المعاش هذه الآية إما كلام لا تعلق له بالجهاد ، وإما من بقية أحكام الجهاد (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (١٢٢) فعلى الأول يقال : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) إلى حضرة الرسول ليتفقهوا في الدين بل ذلك غير واجب وغير جائز ، وليس حال النفقة كحال الجهاد معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي يجب أن يخرج فيه كل من لا عذر له فهلا نفر من كل فرقة من فرق الساكنين في البلاد طائفة إلى إلى حضرة الرسول ليتفقهوا في الدين ويعودوا إلى أوطانهم فينذروا قومهم لكي يحذروا عقاب الله تعالى بامتثال أمره واجتناب نهيه ، وعلى هذا التقدير فيكون المراد وجوب الخروج إلى حضرة الرسول للتعلم ، لأنه يحدث كل وقت تكليف جديد أما في زماننا فقد صارت الشريعة مستقرة فإذا أمكنه تحصيل العلم في الوطن لم يكن السفر واجبا. وعلى الاحتمال الثاني يقال : إن النبي لما بالغ في الكشف عن عيون المنافقين في تخلفهم عن غزوة تبوك قال المسلمون : والله لا نتخلف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا عن سرية بعثها ، فلما قدم الرسول المدينة من تبوك وأرسل السرايا إلى الكفار نفر المسلمون جميعا إلى الغزو وتركوا النبي وحده في المدينة فنزلت هذه الآية فالمعنى لا يجوز للمؤمنين أن ينفروا جميعا ويتركوا النبي بل يجب أن ينقسموا قسمين : طائفة تنفر إلى الجهاد وقهر الكفار ، وطائفة تكون مع رسول الله لتعلم العلم والفقه في الدين لأن أحكام الشريعة كانت تتجدد شيئا بعد شيء ، والماكثون يحفظون ما تجدد فإذا قدم الغزاة علموا ما تجدد في غيبتهم وبهذا الطريق يتم أمر الدين ، والمعنى : فهلا نفر من كل فرقة من المقيمين مع رسول الله طائفة إلى جهاد العدو ليتفقه المقيمون في الدين بسبب ملازمتهم خدمة الرسول وليخبروا قومهم الخارجين إلى الجهاد إذا رجع الخارجون من جهادهم إليهم بما حصلوا في أيام غيبتهم من العلوم لكي يحذروا معاصي الله تعالى عند ذلك التعلم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) أي لما أمرهم الله بقتال المشركين كافة أرشدهم إلى الطريق الأصلح وهو أن يبدءوا بقتال الأقرب فالأقرب حتى يصلوا إلى الأبعد فالأبعد ، وبهذا الطريق يحصل الغرض من قتال المشركين كافة فإن أمر الدعوة وقع على هذا الترتيب ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاتل أولا قومه ، ثم انتقل منهم إلى قتال سائر العرب ، ثم إلى قتال أهل الكتاب وهم قريظة والنضير وخيبر وفدك ، ثم انتقل إلى غزو الروم والشام فكان فتحه في زمن الصحابة ثم إنهم انقلبوا إلى العراق (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) أي شدة عظيمة وشجاعة (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (١٢٣) أي معينهم بالنصرة على أعدائهم. والمراد أن يكون الإقدام على الجهاد بسبب تقوى الله ، لا بسبب طلب المال والجاه (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) من سور القرآن والحال أن المنافقين ليسوا حاضرين مجلس نزولها وليس في السورة فضيحة لهم

٤٧٥

(فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ) أي فمن المنافقين فريق يقول لأصحابه استهزاء بالقرآن والمؤمنين (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ) السورة (إِيماناً) قال تعالى تعيينا لحالهم : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) بالله تعالى وبما جاء من عنده (فَزادَتْهُمْ) أي هذه السورة (إِيماناً) بانضمام إيمانهم بما فيها بإيمانهم السابق لأنهم يقرون عند نزولها بأنها حق من عند الله (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (١٢٤) بنزولها لما فيها من المنافع الدينية والدنيوية (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي نفاق وسوء عقيدة (فَزادَتْهُمْ) أي هذه السورة (رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) عقيدة باطلة مضمومة إلى عقيدتهم الباطلة فإنهم كانوا مكذبين بالسور النازلة قبل ذلك ، والآن صاروا مكذبين بهذه السورة الجديدة فقد انضم كفر إلى كفر وإنهم كانوا في العداوة واستنباط وجوه المكر ، والآن ازدادت تلك الأخلاق الذميمة بسبب نزول هذه السورة الجديدة (وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) (١٢٥) وهذه الحالة أقبح من الحالة الأولى فإن الأولى ازدياد الرجاسة وهذه مداومة الكفر وموتهم عليه (أَوَلا يَرَوْنَ) أي المنافقون فالاستفهام للتوبيخ.

وقرأ حمزة بالتاء على الخطاب للمؤمنين فالاستفهام للتعجيب أي ألا ينظرون ولا يرون (أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) أي إنهم يبتلون بأفانين البليات مرارا كثيرة من المرض والجوع ، ومن إظهار الفضيحة على نفاقهم وعلى تخلفهم من الغزو (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) من نفاقهم (وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) (١٢٦) بتلك الفتن الموجبة للتوبة. وقوله تعالى : (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) وما بعده عطف على «لا يرون» داخل تحت الإنكار والتوبيخ على قراءة الجمهور ، وعطف على «يفتنون» على قراءة الجمهور وعطف على قراءة حمزة. (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) فيها بيان حالهم وكانوا حاضرين مجلس نزولها (نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) أي تغامزوا بالعيون يدبرون الهرب ليتخلصوا من تأذي سماعها يقولون بطريق الإشارة (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) من المسلمين إن قمتم من المجلس (ثُمَّ انْصَرَفُوا) جميعا عن مجلس نزول الوحي خوفا من الافتضاح أو غير ذلك (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) عن الإيمان وعن استماع القرآن (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (١٢٧) لسوء الفهم وعدم التدبر (لَقَدْ جاءَكُمْ) أيها العرب (رَسُولٌ) عظيم الشأن (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي من جنسكم بشر عربي قرشي مثلكم.

وقرئ بفتح الفاء أي من أشرفكم وأفضلكم. قيل : هذه قراءة فاطمة وعائشة رضي‌الله‌عنهما. (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) أي شاق شديد على هذا الرسول ما أثمتم فهو يخاف عليكم الوقوع في العذاب (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) في إيمانكم وصلاح حالكم فهو شديد الرغبة على إيصال الخيرات إليكم في الدنيا والآخرة (بِالْمُؤْمِنِينَ) أي بجميعهم (رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١٢٨) فهو تعالى شديد الرحمة بالطائعين منهم ، مريد الإنعام على المذنبين (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي فإن أعرض هؤلاء المنافقون والكفار عن الإيمان والتوبة وناصبوك الحرب (فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ) أي يكفيني

٤٧٦

الله فهو ثقتي (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا حافظ ولا ناصر إلا هو (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي وثقت (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ) أي السرير (الْعَظِيمِ) (١٢٩) فإن جعل صفة للرب فمعنى العظمة هي وجوب الوجود والتقدس عن الحجمية والإجزاء وكمال العلم والقدرة والتنزه عن أن يتمثل في الأوهام وتصل إليه الأفهام ، وإن جعل صفة للعرش فمعنى العظمة كبر الجرم واتساع الجوانب ، ووجوب العرش أمر مشهور والكفار سمعوه من أسلافهم أو من اليهود والنصارى.

٤٧٧

سورة يونس

مكية ، إلا قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ)

فإنها مدنية لأنها نزلت في اليهود ، مائة وتسع آيات ، ألف وثمانمائة وإحدى وأربعون كلمة

سبعة آلاف وخمسمائة وواحد وتسعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) (١) أي تلك الآيات الحاصلة في سورة «الر» هي آيات ذلك الكتاب المحكم الذي لا يمحوه الماء ولا يغيره كرور الدهر. (أَكانَ لِلنَّاسِ) أي لأهل مكة (عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا) أي إيحاؤنا (إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) أي من أهل مكة (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) أي إنه أي الشأن قولنا أنذر الناس أي خوف جميع الناس كافة بالقرآن فإن أهل مكة كانوا يقولون : إن الله ما وجد رسولا إلى خلقه إلا يتيم أبي طالب (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي بأن لهم منزلة رفيعة عند ربهم (قالَ الْكافِرُونَ) أي المتعجبون (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) (٢).

قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي بصيغة اسم الفاعل أي إن الكافرين لما جاءهم رسول منهم فأنذرهم وبشرهم قالوا متعجبين : إن هذا الذي يدّعي أنه رسول وهو سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساحر ظاهر. والباقون «لسحر» بكسر السين وسكون الحاء أي إن هذا القرآن لكذب ظاهر ، ووصف الكفار القرآن بكونه سحرا يدل على عظم القرآن عندهم من حيث تعذر عليهم فيه المعارضة فأرادوا بهذا الكلام أن القرآن كلام مزخرف حسن الظاهر ولكنه باطل في الحقيقة ، وهذا ذم له. أو أرادوا به أنه لكمال فصاحته وتعذر مثله جار مجرى السحر وهذا مدح له وإنما لم يؤمنوا به عنادا (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أي مقدار ستة أيام معلومة (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) وهو الجسم المحيط بسائر الأجسام. والمعنى ثم تصرف الله في ملكه وليس معناه أنه تعالى خلق العرش بعد خلق السموات والأرض لأن تكوين العرش سابق على تخليق السموات والأرضين بدليل قوله تعالى وكان عرشه على الماء ، بل المراد أنه تعالى لما خلق السموات والأرض واستدارت الأفلاك والكواكب ، وجعل بسبب دورانها الفصول الأربعة ففي هذا الوقت قد حصل وجود هذه المخلوقات وهذا ملك الله تعالى إنما حصل بعد تخليق السموات

٤٧٨

والأرض فصحّ إدخال حرف يفيد التراخي على الاستواء على العرش والله أعلم بمراده (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي يقدر على الوجه الأكمل أمر ملكوت السموات والأرض (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) أي إن الله تعالى ينفرد في التدبير فإن تدبيره تعالى للأشياء لا يكون بشفاعة شفيع ولا يستجرئ أحد أن يشفع إليه في شيء إلا بعد إذنه تعالى ولا يدخل أحد في الوجود إلا بعد أن قال تعالى له : كن حتى كان (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) فإن العبادة لا تصلح إلا له وهو المستحق لجميع العبادات لأجل أنه هو المنعم بجميع النعم (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٣) فالتفكر في مخلوقات الله تعالى واجب ، والاستدلال بها على عزته تعالى وعظمته وجلالته أعلى المراتب ، (إِلَيْهِ) تعالى (مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) بالبعث فلا حكم إلا حكمه ولا نافذ إلا أمره (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أي وعدكم الله بالرجوع إليه وعدا وحق ذلك الوعد حقا (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) ليأمرهم بالعبادة ثم يميتهم (ثُمَّ يُعِيدُهُ) من العدم بالبعث (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ) أي بعد لهم. والمراد به هنا الإيمان وهذا تنبيه على أن المقصود بالذات من الإبداء والإعادة هو الإثابة وإيصال الرحمة ، وأما عقاب الكفرة فكأنه داء ساقه إليهم سوء اعتقادهم وسوء أفعالهم (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) أي ماء حار قد انتهى حره (وَعَذابٌ أَلِيمٌ) أي بالغ في الإيلام (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٤) أي بسبب كفرهم. (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) أي الذي خلق الشمس ذات ضياء ، والقمر ذا نور فما بالذات ضوء وما بالعرض نور ، فنور القمر مستفاد من الشمس (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) أي جعل للقمر وهيأ له منازل وهي ثمانية وعشرون منزلا ، وأسماؤها : السرطان ، والبطين ، والثريا ، والدبران ، والهقعة ، والهنعة ، والذراع ، والنثرة ، والطرفة ، والجبهة ، والذبرة ، والصرفة ، والعواء ، والسماك ، والغفر ، والزباني ، والإكليل ، والقلب ، والشولة ، والنعائم ، والبلدة ، وسعد الذابح ، وسعد بلع ، وسعد السعود ، وسعد الأخبية ، وفرغ الدلو المقدّم ، وفرغ الدلو المؤخر ، وبطن الحوت. فينزل القمر كل ليلة في واحد منها على تقدير مستو من ليلة المستهل إلى الثامنة والعشرين فإذا كان في آخر منازل له دق واستقوس ، ثم لا يرى ليلتين أو ليلة إذا نقص الشهر ويكون مقام الشمس في كل منزلة منها ثلاثة عشر يوما (لِتَعْلَمُوا) باعتبار نزول كل منهما في تلك المنازل (عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) أي حساب الأوقات فيمكنكم ترتيب مهمات المعاش من الزراعة والحراثة ومهمات الشتاء والصيف (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ) أي المذكور من الشمس والقمر على تلك الأحوال (إِلَّا بِالْحَقِ) أي الأعلى وفق الحكمة ومطابقة المصلحة في أمور المعاملات والعبادات (يُفَصِّلُ الْآياتِ) أي يذكر هذه الدلائل الباهرة واحدا عقب آخر مع البيان (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٥) الحكمة في إبداع الكائنات فيستدلون بذلك على شؤون مبدعها من الوحدانية ، وكمال القدرة والعلم وفي قوله تعالى : (يُفَصِّلُ) قراءتان : قراءة ابن كثير ، وأبو عمر وحفص عن عاصم بالياء. والباقون بالنون. (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي في تعاقبهما أو في

٤٧٩

تفاوتهما بازدياد وانتقاص ، أو في تفاوتهما بحسب الأمكنة في الطول والقصر (وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من أنواع الموجودات (لَآياتٍ) دالة على وجود الصانع ووحدته وكمال علمه وقدرته (لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) (٦) وخصّ الله تعالى العلامات بالمتقين لأن الداعي إلى التدبير والنظر إنما هو تقوى الله تعالى والحذر من العاقبة (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) أي لا يطمعون في ثوابنا لأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) أي استغرقوا في طلب اللذات الجسمانية (وَاطْمَأَنُّوا بِها) أي سكنوا في الاشتغال بطلب لذات الدنيا (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا) أي دلائل وحدانيتنا الظاهرة في الأكوان (غافِلُونَ) (٧) أي لا يتفكرون فيها أصلا (أُولئِكَ) أي الموصوفون بتلك الصفات (مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨) أي من الأعمال القلبية ومن أنواع المعاصي والسيئات (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي شغلوا قلوبهم وأرواحهم بتحصيل المعرفة (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي شغلوا جوارحهم بالخدمة فعينهم مشغولة بالاعتبار وأذنهم مشغولة بسماع كلام الله تعالى ولسانهم مشغول بذكر الله وجوارحهم مشغولة بنور طاعة الله (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) أي يهديهم إلى الجنة ثوابا لهم على إيمانهم وأعمالهم الصالحة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (٩) أي إنهم يكونون جالسين على سرر مرفوعة في البساتين والأنهار تجري من بين أيديهم (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَ) أي اشتغال أهل الجنة بتقديس الله تعالى وتمجيده والثناء عليه لأجل أن سعادتهم في هذا الذكر (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) أي تحية بعضهم لبعض تكون بالسلام وتحية الملائكة لهم بالسلام (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٠) أي إن أهل الجنة لما عاينوا ما هم فيه من السلامة عن الآفات والمخافات علموا أن كل هذه الأحوال السنية إنما كانت بإحسان الله تعالى عليهم ، فاشتغلوا بالثناء على الله فقالوا : الحمد لله رب العالمين. وإنما وقع الختم على الحمد لأن الاشتغال بشكر النعمة متأخر عن رؤية تلك النعمة ، والمعنى أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمة الله ووجدوا فيها النعم العظيمة وعرفوا أنه تعالى كان صادقا في وعده إياهم بتلك النعم مجدوه تعالى ونعتوه بنعوت الجلال فقالوا : سبحانك اللهم ، أي نسبحك عن الخلف في الوعد والكذب في القول وعمّا لا يليق بحضرتك العلية ، ولما حياهم الله والملائكة بالسلامة عن الآفات وبالفوز بأنواع الكرامات أثنوا عليه تعالى بصفات الإكرام. (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) أي ولو يعجل الله لهم العذاب عند استعجالهم به تعجيلا مثل تعجيله لهم كشف الشدائد عند استعجالهم به لأميتوا وأهلكوا بالمرة وما أمهلوا طرفة عين.

وقرأ ابن عامر «لقضى» بفتح القاف والضاد ، و «أجلهم» بالنصب. وقرأ عبد الله ، «لقضينا إليهم أجلهم». (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١١) أي فنترك الذين لا يؤمنون بالبعث والجزاء مع تمردهم في ضلالتهم يتحيرون في شأنهم (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا

٤٨٠