مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : لما أسر العباس يوم بدر أقبل عليه المسلمون فعيّروه بكفره بالله وقطيعة الرحم وأغلظ علي عليه القول فقال العباس : تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا! فقال له علي : ألكم محاسن؟ قال : نعم ، نحن أفضل منكم إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ـ أي نخدمها ـ ونسقي الحجيج ، ونفك العاني ـ أي الأسير ـ فنزلت هذه الآية (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ) أي إنما يصح أن يعمر المساجد عمارة يعتد بها (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) لأن المساجد موضع يعبدون الله فيه ، فمن لم يكن مؤمنا بالله لا يبني موضعا يعبد الله فيه (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) لأن الاشتغال بعبادة الله لا تفيد إلا في القيامة فمن أنكر القيامة لم يعبد ، ومن لم يعبد الله لم يبن بناء لعبادة الله تعالى (وَأَقامَ الصَّلاةَ) فإن المقصود الأعظم من بناء المساجد إقامة الصلوات (وَآتَى الزَّكاةَ) وإنما اعتبر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في عمارة المسجد ، لأن الإنسان إذا كان مقيما للصلاة فإنه يحضر في المسجد فتحصل عمارة المسجد بذلك المسجد ، وإذا كان مؤتيا للزكاة فإنه يحضر في المسجد طوائف الفقراء والمساكين لطلب أخذ الزكاة فتحصل عمارة المسجد بذلك الحضور (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) في باب الدين بأن لا يختار علي رضا الله تعالى رضا غيره (فَعَسى أُولئِكَ) المنعوتون بتلك النعوت الجميلة (أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (١٨) إلى مطالبهم من الجنة وما فيها وعن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من ألف المسجد ألفه الله تعالى». وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان»(١) (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في طاعة الله يوم بدر أي أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام في الفضيلة وعلو الدرجة كمن آمن بالله إلخ. ويقوي هذا التأويل قراءة عبد الله بن الزبير سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام.

قال ابن عباس : إن عليا لما أغلظ الكلام على العباس قال العباس : إن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد فلقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج فنزلت هذه الآية (لا يَسْتَوُونَ) أي الفريقان (عِنْدَ اللهِ) في الفضل (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٩) لأنفسهم فإنهم خلقوا للإيمان وهم رضوا بالكفر (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ) أي الذين جمعوا بين هذه الصفات الثلاثة أعلى رتبة وأكثر كرامة عند الله ممن لم يجمع بينها (وَأُولئِكَ) المنعوتون بتلك النعوت الفاضلة (هُمُ الْفائِزُونَ) (٢٠) بسعادة الدنيا والآخرة (يُبَشِّرُهُمْ) أي هؤلاء المؤمنين المهاجرين المجاهدين (رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ) أي بمنفعة

__________________

(١) رواه التبريزي في مشكاة المصابيح (٧٢٣٥) ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (٥ : ٤٥٦) ، والعجلوني في كشف الخفاء (١ : ٩٣).

٤٤١

خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم من قبل الله تعالى وذلك هو حد الثواب (وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ) أي منافع خالصة عن المكدرات (مُقِيمٌ) (٢١) أي دائمة غير منقطعة (خالِدِينَ فِيها) أي الجنات (أَبَداً) أي لا يخرجون منها (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (٢٢) لما وصف الله المؤمنين بثلاث صفات الإيمان والهجرة والجهاد بالنفس والمال قابلهم على ذلك بالتبشير بثلاث ، وبدأ بالرحمة التي هي النجاة من النيران في مقابلة الإيمان وثنى بالرضوان الذي هو نهاية الإحسان في مقابلة ترك الأوطان ، ثم ثلث بالجنات التي هي المنافع العظيمة في مقابلة الجهاد الذي فيه بذل الأنفس والأموال ، وإنّما خصوا بالأجر العظيم لأن إيمانهم أعظم الإيمان (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ) أي بطانة تفشون إليهم أسراركم (إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ) أي اختاروه (عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ) في الدين (فَأُولئِكَ) المتولون (هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢٣) أي فهو مشرك مثلهم لأنه رضي بشركهم والرضا بالكفر كفر ، كما أن الرضا بالفسق فسق.

قيل : إن الله تعالى لما أمر المؤمنين بالتبري عن المشركين قالوا : كيف تمكن المقاطعة التامة بين الرجل وابنه وأمه وأخيه؟ فذكر الله تعالى أن الانقطاع عن الآباء والأولاد والإخوان واجب بسبب الكفر (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ) أي أهلكم الأدنون الذين تعاشرونهم.

وقرأ أبو بكر عن عاصم «وعشيراتكم» بالجمع (وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها) أي اكتسبتموها (وَتِجارَةٌ) أي أمتعة اشتريتموها للتجارة والربح (تَخْشَوْنَ كَسادَها) أي عدم رواجها (وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها) أي منازل تعجبكم الإقامة فيها (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) بالحب الاختياري (وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ) أي طاعته (فَتَرَبَّصُوا) نزلت هذه الآية لما قال جماعة من المؤمنين : يا رسول الله كيف يمكن البراءة منهم بالكلية ، وإن هذه البراءة توجب انقطاعنا عن آباءنا وإخواننا وعشيرتنا ، وذهاب تجارتنا ، وهلاك أموالنا ، وخراب ديارنا؟ فبين الله تعالى أنه يجب تحمل جميع هذه المضار الدنيوية ليبقى الدين سليما ، وذكر أنه إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية أولى من طاعة الله وطاعة رسوله ومن المجاهدة في سبيل الله فتربصوا بما تحبون (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) وهي عقوبة عاجلة أو آجلة (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٢٤) أي الخارجين عن طاعته إلى معصيته (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) وهي مشاهد الحروب كوقعات بدر وقريظة ، والنضير والحديبية ، وخيبر ، وفتح مكة (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) أي واذكروا يوم قتالكم هوازن في حنين. فهوازن قبيلة حليمة السعدية ، وحنين واد بينه وبين مكة ثمانية عشر ميلا ، وذلك لما فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة وقد بقيت أيام من شهر رمضان خرج في شوال في تلك السنة وهي سنة ثمان متوجها إلى حنين لقتال هوازن وثقيف (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ

٤٤٢

كَثْرَتُكُمْ) وهم اثنا عشر ألفا : عشرة من المهاجرين والأنصار الذين فتحوا مكة ، وألفان من الطلقاء وهم الأسراء الذين أخذوا يوم فتح مكة وأطلقوا ـ وهم أسلموا بعد فتحها في هذه المدة اليسيرة بين هوازن وثقيف ـ وأربعة آلاف ومعهم أمداد سائر العرب. فلما التقوا قال رجل من المسلمين اسمه سلمة بن سلامة الأنصاري : لن تغلب اليوم من قلة أي من أجلها افتخارا بكثرتهم أي نحن كثيرون فلا نغلب ، فأحزنت هذه الكلمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) أي فلم تعطكم تلك الكثرة ما تدفعون به حاجتكم شيئا من الدفع ، أي فلما أعجبوا بكثرتهم صاروا منهزمين (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) أي إنكم لشدة الخوف ضاقت عليكم الأرض فلم تجدوا فيها موضعا يصلح لفراركم عن عدوكم (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) (٢٥) أي منهزمين من الله. وقال البراء بن عازب : كانت هوازن رماة فلما حملنا عليهم انكشفوا وأكببنا على الغنائم فاستقبلونا بالسهام ، وانكشف المسلمون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبق معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا عمه العباس وهو آخذ بلجام بغلته ، وابن عمه أبو سفيان بن الحرث وهو آخذ بركابه ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم يركض بغلته الشهباء نحو الكفار لا يبالي وهو يقول : «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب» ثم قال للعباس : «ناد المهاجرين والأنصار». وكان العباس رجلا صيتا ، فجعل ينادي : يا عباد الله ، يا أصحاب الشجرة ، يا أصحاب سورة البقرة. فجاء المسلمون حين سمعوا صوته عنقا واحدا ، وأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده كفا من الحصى فرماهم بها وقال : «شاهت الوجوه» فما زال أمرهم مدبرا وحدهم كليلا حتى هزمهم الله تعالى ولم يبق منهم يومئذ أحد إلا وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب فذلك قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) أي رحمته التي يحصل بها سكون وثبات وأمن (عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ)

واعلم أنه لما شق الإعراض عن مخالطة الآباء والأبناء والإخوان والأزواج ، وعن الأموال والمساكن على القلوب مشقة عظيمة ذكر الله تعالى ما يدل على أن من ترك الدنيا لأجل الدين فإنه يوصله إلى مطلوبه من الدنيا أيضا وضرب الله تعالى لهذا مثلا وذلك أن عسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في واقعة حنين كانوا في غاية الكثرة والقوة ، فلما أعجبوا بكثرتهم صاروا منهزمين ، ثم في حال الانهزام لمّا تضرعوا إلى الله قوّاهم به حتى هزموا عسكر الكفار. وذلك يدل على أن الإنسان متى اعتمد على الدنيا فاته الدين والدنيا ، ومتى أطاع الله ورجح الدين على الدنيا أتاه الدين والدنيا على أحسن الوجوه فكان ذكر هذا تسلية لأولئك الذين أمرهم الله بمقاطعة الآباء والأبناء والأموال والمساكن لأجل مصلحة الدين ، ووعدا لهم على سبيل الرمز بأنهم إن فعلوا ذلك فالله تعالى يوصلهم إلى أقاربهم وأموالهم على أحسن الوجوه. (وَأَنْزَلَ) من السماء (جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) أي بأبصارهم. وهم الملائكة عليهم البياض على خيول بلق لتقوية قلوب المؤمنين بإلقاء الخواطر الحسنة في قلوبهم وإلقاء الرعب في قلوب المشركين (وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالقتل والأسر

٤٤٣

وهم قوم مالك بن عوف الدهماني ، وقوم كنانة بن عبد ياليل الثقفي (وَذلِكَ) التعذيب (جَزاءُ الْكافِرِينَ) (٢٦) في الدنيا لكفرهم (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي ما جرى عليهم من الخذلان (عَلى مَنْ يَشاءُ) أن يتوب عليه منهم أي يوفقه للإسلام (وَاللهُ غَفُورٌ) لمن تاب (رَحِيمٌ) (٢٧) لمن آمن وعمل صالحا.

روي أن ناسا منهم جاءوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبايعوه على الإسلام وقالوا : يا رسول الله أنت خير الناس وأبر الناس ، وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن عندي ما ترون إن خير القول أصدقه اختاروا إما ذراريكم ونساءكم ، وإما أموالكم». قالوا : ما كنا نعدل بالأحساب شيئا ، وهي مفاخر آبائه من الذراري والنساء. فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إن هؤلاء جاءونا مسلمين وإنا خيّرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئا فمن كان بيده أسير وطابت نفسه أن يرده فشأنه ـ أي فيلزم شأنه ـ ومن لا ، فليعطنا وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه» قالوا : قد رضينا وسلمنا. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنا لا ندري لعل فيكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا» (١) ، فرفعت إليه العرفاء أنهم قد رضوا ولم تقع غنيمة أعظم من غنيمتهم فقد كان فيها من الإبل اثنا عشر ألفا ، ومن الغنم ما لا يحصى عددا ، ومن الأسرى ستة آلاف من نسائهم وصبيانهم وكان فيها غير ذلك (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) أي ذوو نجس لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) أي جميع الحرم (بَعْدَ عامِهِمْ هذا) وهي السنة التي حصل فيها النداء بالبراءة من المشركين ، وهي السنة التاسعة من الهجرة ولما امتنع المشركون من دخول الحرم وكانوا يتّجرون ويأتون مكة بالطعام ، وكانت معايش أهل مكة من التجارات فخافوا الفقر وضيق العيش وذكروا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنزل الله تعالى قوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) أي فقرا بسبب منع الكفار (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي عطائه من وجه آخر (إِنْ شاءَ) فأرسل الله تعالى السماء عليهم مدرارا أغزر بها خيرهم وأكثر ميرهم ، وأسلم أهل جدة ، وحنين ، وصنعاء ، وتبالة وجرش فحملوا الطعام إلى مكة وكفاهم الله الحاجة مما كانوا يخافون إلى مبايعة الكفار ، فأغناهم بالفيء والجزية (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بأحوالكم وبمصالحكم (حَكِيمٌ) (٢٨) فلا يعطى ولا يمنع إلا عن حكمة وصواب لما فرغ من الكلام على مشركي العرب بقوله تعالى : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ) [التوبة : ١] إلى هنا أخذ يتكلم على أهل الكتابين فقال : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) فاليهود يعتقدون التجسيم والتشبيه. والنصارى يعتقدون الحلول ، وهم يعتقدون بعثة الأرواح دون الأجساد ، ويعتقدون أن أهل الجنة لا يأكلون ، ولا يشربون ، ولا ينكحون ، وهم يكذبون أكثر الأنبياء

__________________

(١) رواه الطبري في التفسير (١٠ : ٧٢) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (٢ : ١١٢).

٤٤٤

(وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) أي لا يعملون بما في التوراة والإنجيل بل حرّفوهما وأتوا بأحكام كثيرة من قبل أنفسهم (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ) أي لا يعتقدون صحة دين الإسلام الذي هو الدين الحق (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) التوراة والإنجيل وهم اليهود والنصارى.

قال مجاهد : نزلت هذه الآية حين أمر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتال الروم فغزا بعد نزولها غزوة تبوك (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) أي حتى يقبلوا أن يعطوا ما يعطى المعاهد على عهده (عَنْ يَدٍ) أي عن غني فلا تجب الجزية على الفقير العاجز ، أو عن إنعام عليهم لأن ترك أرواحهم عليهم بقبول الجزية منهم نعمة عظيمة (وَهُمْ صاغِرُونَ) (٢٩) أي أذلاء منقادون لحكم الإسلام. (وَقالَتِ الْيَهُودُ) سلام بن مشكم ونعمان بن قيس ، ومالك بن الصيف أو فنحاص بن عازوراء : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ). وسبب هذا القول أن اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى عليه‌السلام فأضاعوا التوراة ، وعملوا بغير الحق فرفع الله عنهم التابوت الذي فيه التوراة ، وأنساهم التوراة ومحاها من قلوبهم ، فتضرع عزير إلى الله تعالى ودعاه أن يرد إليه التوراة ، فبينما هو يصلي مبتهلا إلى الله تعالى إذ نزل نور من السماء فدخل جوفه فعادت التوراة إليه فأعلم قومه وقال : يا قوم قد آتاني الله التوراة وردها عليّ فتعلموا منه عن ظهر لسانه ، ثم إن التابوت نزل بعد ذهابه منهم فلما رأوا التابوت عرضوا ما كان يعلمهم عزيز على ما في التابوت فوجدوه مثله فقالوا : ما جمع الله التوراة في صدر عزيز وهو غلام إلا لأنه ابنه (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ).

روي أن أتباع عيسى كانوا على الدين الحق بعد رفع عيسى عليه‌السلام إحدى وثمانين سنة يصلون إلى القبلة ويصومون رمضان حتى وقع حرب بينهم وبين اليهود وكان في اليهود رجل شجاع يقال له : بولص قتل جماعة من أصحاب عيسى عليه‌السلام ، ثم قال بولص لليهود : إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا والنار مصيرنا ، فنحن مغبونون إن دخلنا النار ودخلوا الجنة ، فإني سأحتال وأضلهم حتى يدخلوا النار معنا ، ثم إنه أتى إلى النصارى فقالوا له : من أنت؟ قال : أنا عدوكم بولص قد نوديت من السماء : إنه ليست لك توبة حتى تتنصر وقد تبت ، فأدخله النصارى الكنيسة ومكث سنة في بيت فيها ولم يخرج منه حتى تعلم الإنجيل ثم خرج وقال : قد نوديت : إن الله قد قبل توبتك فصدقوه وأحبوه وعلا شأنه فيهم ، ثم إنه عهد إلى أربعة رجال : اسم واحد نسطور ، والآخر يعقوب ، والآخر ملكان ، والآخر من أهل الروم ، فعلّم نسطور أن عيسى ومريم والله آلهة ثلاثة ، وعلّم يعقوب أن عيسى ليس بإنسان وأنه ابن الله ، وعلّم ملكان أن عيسى هو الله لم يزل ولا يزال عيسى ، وعلم رجلا آخر من الروم اللاهوت والناسوت وقال : ما كان عيسى إنسانا ولا جسما ولكنه الله ، ثم دعا كل واحد منهم في الخلوة وقال له : أنت خليفتي فادع الناس لما علمتك وأمره أن يذهب إلى ناحية من البلاد ، ولقد رأيت عيسى في المنام ورضي عني وإني غدا

٤٤٥

أذبح نفسي لمرضاة عيسى ، ثم دخل المذبح فذبح نفسه فتفرقوا ودعوا الناس إلى مذاهبهم واختلفوا ووقع القتال فكان ذلك سبب قولهم المسيح ابن الله (ذلِكَ) أي ما صدر عنهم (قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) أي مجردا عن برهان وهو فارغ من معنى معتبر (يُضاهِؤُنَ) أي يشبهون في الشناعة (قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) أي من قبلهم أي يشابه قول اليهود والنصارى قول المشركين : الملائكة بنات الله. وقول أهل مكة : اللات والعزى ومناة بنات الله. كما قالت اليهود : عزير ابن الله. وكذلك قال بعض النصارى : المسيح ابن الله ، وقال بعضهم : شريكه ، وقال بعضهم : هو الله ، وقال بعضهم : ثالث ثلاثة (قاتَلَهُمُ اللهُ) دعاء عليهم بالإهلاك أو تعجب من شناعة قولهم : (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٣٠) أي كيف يصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل حتى يجعلوا لله ولدا ، وهذا التعجب راجع إلى الخلق لأن الله تعالى لا يتعجب من شيء (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) أي اتخذ اليهود علماءهم من ولد هارون ، واتخذ النصارى علماءهم من أصحاب الصوامع أربابا من دون الله بأن أطاعوهم في تحريم ما أحله الله تعالى وتحليل ما حرمه أو بالسجود لهم (وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) أي اتخذه النصارى ربا معبودا بعد ما قالوا : إنه ابن الله (وَما أُمِرُوا) أي والحال أن هؤلاء الكفار ما أمروا في التوراة والإنجيل (إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) عظيم الشأن هو الله تعالى (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) صفة ثانية لا لها (سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٣١) أي تنزه الله تعالى عن أن يكون له شريك في التكليف وفي كونه معبودا ومسجودا له وفي وجوب نهاية التعظيم والإجلال (يُرِيدُونَ) أي رؤساء اليهود والنصارى (أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) أي دلائل الله المنيرة الدالة على وحدانيته وتنزهه عن الشركاء والأولاد ، أي يريدون أن يردوا القرآن فيما نطق به من التوحيد والتنزه عن الشركاء والأولاد ومن الشرائع من أمر الحل والحرمة (بِأَفْواهِهِمْ) أي بأقوالهم الباطلة (وَيَأْبَى اللهُ) أي لا يريد (إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) بإعلاء كلمة التوحيد وإعزاز دين الإسلام (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (٣٢) وجواب «لو» محذوف ، أي ولو كره الكافرون تمام نوره لأتمه ولم يبال بكراهتهم. (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بِالْهُدى) أي ملتبسا بالقرآن (وَدِينِ الْحَقِ) أي دين الإسلام (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي ليعلي الله دين الإسلام على الأديان كلها وهو أن لا يعبد الله طلا به فإن المسلمين قد قهروا اليهود وأخرجوهم من بلاد العرب وغلبوا النصارى على بلاد الشام وما والاها إلى ناحية الروم والغرب ، وغلبوا المجوس على ملكهم ، وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم مما يلي الترك والهند فثبت أن الذي أخبر الله عنه في هذه الآية قد حصل وكان ذلك إخبارا عن الغيب فكان معجزا.

وروي عن أبي هريرة أنه قال : هذا وعد من الله بأنه تعالى يجعل الإسلام غالبا على جميع الأديان ، وتمام هذا إنما يحصل عند خروج عيسى فلا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام (وَلَو

٤٤٦

كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٣٣) ذلك الإظهار والوصف بالشرك بعد الوصف بالكفر للدلالة على أنهم ضموا الكفر بالرسول إلى الكفر بالله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ) أي علماء اليهود (وَالرُّهْبانِ) أي علماء النصارى (لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) أي ليأخذون الأموال من سفلتهم بطريق الرشوة في تخفيف الأحكام والمسامحة في الشرائع (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي لأنهم يمنعون عن متابعة الأخيار من الخلق والعلماء في ذلك في الزمان في المسلك المقرر في التوراة والإنجيل ، وفي زمان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يبالغون في المنع عن متابعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم في منهجه الصحيح بجميع وجوه المكر والخداع (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) أي يجمعونهما (وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) أي ولا يخرجون من حملة كل واحد منهما سواء كانت آنية أو دنانير ودراهم ما وجب إخراجه عن تلك الجملة من الزكاة والكفارات ونفقة الحج والجمعة ، ومما يجب إخراجه في الدين والحقوق ونفقة الأهل والعيال وضمان المتلفات وأروش الجنايات (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣٤) أي فأخبرهم يا أشرف الخلق بعذاب أليم هو مذكور في قوله تعالى : (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ) أي يوم توقد على تلك الأموال التي هي الذهب والفضة نار ذات حرّ شديد في نار جهنم (فَتُكْوى بِها) أي فتحرق بتلك الأموال (جِباهُهُمْ) أي جهة أمامهم كلها (وَجُنُوبُهُمْ) من اليمين واليسار (وَظُهُورُهُمْ) يقال لهم : (هذا) أي الكي (ما كَنَزْتُمْ) أي جزاء ما جمعتم من الأموال (لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (٣٥) أي فذوقوا جزاء ما كنتم تمنعون حقوق الله تعالى في أموالكم (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ) القمرية التي تؤدى فيها الزكاة وعليها يدور فلك الأحكام الشرعية (عِنْدَ اللهِ) أي في حكمه (اثْنا عَشَرَ شَهْراً) وأيام هذه الشهور ثلاثمائة وخمسة وخمسون يوما ، والسنة الشمسية ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم ، فتنقص السنة الهلالية عن السنة الشمسية عشرة أيام وربع يوم ، فبسبب هذا النقصان تنتقل الشهور القمرية من فصل إلى فصل آخر فيقع الصوم والحج تارة في الشتاء وتارة في الصيف (فِي كِتابِ اللهِ) أي في اللوح المحفوظ (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وهذه الظروف الثلاثة أبدل البعض من البعض ، والتقدير أن عدة الشهور اثنا عشر شهرا عند الله في كتاب الله يوم خلق السموات ، أي منذ خلق الله الإحرام والأزمنة أي إن ذلك العدد ثابت في علم الله وفي كتاب الله من أول ما خلق الله تعالى العالم (مِنْها) أي من تلك الشهور الاثني عشر (أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) هي ذو القعدة ، وذو الحجة والمحرم ورجب (ذلِكَ) أي عدة الشهور (الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي الحساب الصحيح (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَ) أي في الأربعة الحرم (أَنْفُسَكُمْ) بإتيان المعاصي فإنه أعظم وزرا كإتيانها في الحرم.

وقال ابن عباس : فلا تظلموا في الشهور الاثني عشر أنفسكم ، وذلك منع الإنسان عن إتيان الفساد في جميع العمر (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) أي قاتلوا

٤٤٧

المشركين بأجمعكم مجتمعين على قتالهم في جميع الأشهر كما إنهم يقاتلونكم على هذه الصفة وكونوا عباد الله متوفقين في مقاتلة الأعداء (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (٣٦) أي مع أوليائه الذين يخشونه في أداء الطاعات واجتناب المحرمات (إِنَّمَا النَّسِيءُ) أي إنما تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر (زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) لأن ضم هذا العمل إلى الأنواع المتقدمة من الكفر زيادة في الكفر (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا).

قرأ حفص وحمزة والكسائي «يضل» بالبناء للمفعول. والباقون بفتح الياء على البناء للفاعل. وقرأ أبو عمرو في رواية من طريق ابن مقسم ويعقوب من العشرة بضم الياء وكسر الضاد. والمعنى حينئذ يضل بهذا التأخير الذين كفروا تابعيهم والآخذين بأقوالهم (يُحِلُّونَهُ عاماً) أي يحلون التأخير عاما وهو العام الذي يريدون أن يقاتلوا في المحرم (وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً) أي ويحرمون التأخير عاما آخر ، وهو العام الذي يتركون المحرم على تحريمه. وسبب هذا التأخير أن العرب كانت تعظم الأشهر الأربعة وكان ذلك شريعة ثابتة من زمان إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام وكانت عامة معايشهم من الصيد والغارة والحروب فشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية وقالوا : إن توالت ثلاثة أشهر حرم لا نصيب فيها شيئا لهلكنا وكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه ويستحلون المحرم (لِيُواطِؤُا) أي ليوافقوا (عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) من الأشهر الأربعة (فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ) بخصوصه.

قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : إنهم ما أحلوا شهرا من الحرام إلا حرموا مكانه شهرا من الحلال ، ولم يحرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الحرام لأجل أن يكون عدد الأشهر الحرم أربعة مطابقة لما ذكره الله تعالى.

قال الكلبي : أول من فعل ذلك رجل من كنانة يقال له : نعيم بن ثعلبة وكان يقوم ويخطب في الموسم ويقول : إن صفر العام حرام فإذا قال ذلك حلوا الأوتار ونزعوا الأسنة والأزجة ، وإن قال : حلال ، عقدوا الأوتار وشدوا الأزجة وأغاروا. وقيل : هو جنادة بن عوف الكناني وكان مطاعا في الجاهلية كان يقول على جمل في الموسم بأعلى صوته : إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه ، ثم يقوم في العام القابل فيقول : إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه وقيل : هو رجل من كنانة يقال له : القلمس قال قائلهم :

ومنا ناسئ الشهر قلمس

وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : أول من سن النسيء عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ). قال ابن عباس : أي زين الشيطان لهم هذا العمل حتى حسبوا هذا

٤٤٨

القبيح حسنا (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٣٧) أي لا يرشدهم إلى دينه لما سبق لهم في الأزل أنهم من أهل النار (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) أي أيّ شيء ثبت لكم من الأعذار حال كونكم متثاقلين ومشتهين الإقامة في أرضكم في وقت قول الرسول لكم : أخرجوا إلى الغزو في طاعة الله.

روي أن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك مكان على طرف الشام بينه وبين المدينة أربع عشرة مرحلة ويقال لها : غزوة العسر وغزوة الفاضحة ، وكانت في رجب في السنة التاسعة من الهجرة بعد رجوعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الطائف إلى المدينة ، وسببها ما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أن هرقل جمع أهل الروم وأهل الشام وإنهم قدموا مقدماتهم إلى البلقاء ، فأمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه بالجهاد وبعث إلى مكة وقبائل العرب وحضّ أهل الغنى على النفقة والحمل في سبيل الله ، وهي آخر غزواته فجهز عثمان عشرة آلاف ، وأنفق عليها عشرة آلاف دينار غير الإبل والخيل وهي : تسعمائة بعير ومائة فرس ، وغير الزاد وما يتعلق بذلك ، وأول من جاء بالنفقة : أبو بكر فجاء بجميع ماله أربعة آلاف درهم ، وجاء عمر بنصف ماله ، وجاء ابن عوف بمائة أوقية ، وجاء العباس بمال كثير ، وكذا طلحة والأغنياء. وبعثت النساء بكل ما يقدرن عليه من حليهن. فلما تجهز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالناس وهم ثلاثون ألفا وكانت الخيل عشرة آلاف فرس خلف على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري وتخلف عبد الله بن أبي ومن كان معه من المنافقين بعد أن خرجوا إلى ثنية الوداع وكان من تخلف عشر قبائل وإنما تباطأ الناس في خروجهم للقتال لشدة الزمان في قحط وضيق عيش ، ولبعد المسافة والحاجة إلى الاستعداد الزائد على ما جرت به العادة في سائر الغزوات ولشدة الحر في ذلك الوقت ، ولمهابة عسكر الروم ، ولإدراك الثمار في المدينة في ذلك الوقت فاقتضى اجتماع هذه الأسباب تثاقل الناس عن ذلك الغزو (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا) وغرورها (مِنَ الْآخِرَةِ) أي بدل نعيم الآخرة (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) (٣٨) أي فما التمتع بلذائذ الدنيا في مقابلة نعيم الآخرة إلا قليل لأن سعادة الدنيا بالنسبة إلى سعادة الآخرة كالقطرة في البحر ، وترك الخير الكثير لأجل السرور القليل سفه (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ) الله (عَذاباً أَلِيماً) أي إن لم تخرجوا إلى ما طلب الخروج منكم إليه يهلككم الله بسبب فظيع هائل كقحط ونحوه (وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) أي يأتي بعد إهلاككم بدلكم بقوم مطيعين مؤثرين للآخرة على الدنيا كأهل اليمن وأبناء فارس (وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) أي لا يضر الله جلوسكم شيئا لأنه غني عن العالمين أو لا يضر الرسول تثاقلكم في نصرة دينه أصلا ، لأن الله عصمه من الناس (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣٩) فيقدر على نصر نبيه ودينه ولو من غير واسطة (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) أي إن لم تنصروا محمدا فسينصره الله الذي قد نصره حين لم يكن معه إلا

٤٤٩

رجل واحد إذ جعله كفار مكة مثل المضطر إلى الخروج حيث أذن له صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الخروج حين هموا بقتله حال كونه أحد اثنين ، والآخر أبو بكر الصديق إذ هما في غار جبل ثور إذ يقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بكر الصديق : «لا تحزن إن الله معيننا» (١) وكان الصديق قد حزن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا على نفسه فقال له : يا رسول الله إذا مت أنا فأنا رجل واحد وإذا مت أنت هلكت الأمة والدين.

روي أن قريشا ومن بمكة من المشركين تعاقدوا على قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمره الله تعالى أن يخرج أول الليل إلى الغار ، وخرج هو وأبو بكر أول الليل إلى الغار ، وأمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا أن يضطجع على فراشه ليمنع السواد من طلبه حتى يبلغ إلى ما أمر الله به ، فلما وصل إلى الغار دخل أبو بكر فيه أولا يلتمس ما فيه فقال له النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما لك؟» فقال : بأبي أنت وأمي ، الغار مأوى السباع والهوام فإن كان فيه شيء كان بي لا بك ، وكان في الغار جحر فوضع عقبه عليه لئلا يخرج ما يؤذي الرسول فلما طلب المشركون الأثر وقربوا بكى أبو بكر خوفا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تحزن إن الله معنا بنصره» (٢). فجعل يمسح الدموع عن خده.

وروي لما دخلا الغار بعث الله تعالى حمامتين فباضتا في أسفله ، والعنكبوت نسجت عليه فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم أعم أبصارهم» (٣) فجعلوا يترددون حول الغار ولا يرون أحدا (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) أي أمنته التي تسكن عندها القلوب (عَلَيْهِ) أي على صاحبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبي بكر الصدّيق (وَأَيَّدَهُ) أي أعانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) وهم الملائكة النازلون يوم بدر والأحزاب وحنين وهذه الجملة معطوفة على جملة «نصره الله» (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى) أي جعل الله يوم بدر كلمة الشرك سافلة حقيرة (وَكَلِمَةُ اللهِ) أي قوله لا إله إلا الله (هِيَ الْعُلْيا) أي الغالبة الظاهرة (وَاللهُ عَزِيزٌ) أي قاهر غالب (حَكِيمٌ) (٤٠) أي لا يفعل إلا الصواب (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) أي اخرجوا مع نبيكم إلى غزوة تبوك خفافا في الخروج لنشاطكم له وثقالا عنه لمشقته عليكم (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي جاهدوا في طاعة الله بما أمكن لكم إما بكليهما أو بأحدهما (ذلِكُمْ) أي الجهاد (خَيْرٌ لَكُمْ) أي خير عظيم في نفسه لكم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٤١) أن الجهاد خير فبادروا إليه (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ) أي لو كان ما دعوا إليه متاعا قريب المنال سهل المأخذ وسفرا متوسطا بين

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، باب : مناقب المهاجرين وفضلهم إلخ ، ومسلم في كتاب الزهد ، باب : ٧٥ ، وأحمد في (م ١ / ص ٣) وفيه «معنا» بدل «معيننا».

(٢) رواه البخاري في كتاب أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، باب : مناقب المهاجرين وفضلهم إلخ ، ومسلم في كتاب الزهد ، باب : ٧٥ ، وأحمد في (م ١ / ص ٣).

(٣) رواه ابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (٧٦).

٤٥٠

القريب والبعيد لاتبعوك في الخروج إلى تبوك طمعا في تلك المنافع (وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) أي المسافة التي تقطع بمشقة فتخلفوا عن الجهاد بسبب إنهم كانوا يستعظمون غزو الروم فكانوا كالآيسين من الفوز بالغنيمة (وَسَيَحْلِفُونَ) أي المتخلفون عن الغزو عند رجوعك من تبوك وهم عبد الله بن أبي ، وجد بن قيس ، ومعتب بن قشير وأصحابهم قائلين (بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا) بالزاد والراحلة (لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) إلى غزوة تبوك (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) بسبب الحلف الكاذب فإن الأيمان الكاذبة توجب الهلاك ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اليمين الغموس تدع الديار بلاقع». (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (٤٢) في أيمانهم لأنهم كانوا مستطيعين الخروج (عَفَا اللهُ عَنْكَ) يا أشرف الخلق ما وقع منك من ترك الأولى والأكمل (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) أي لأي سبب أذنت لهم في التخلف (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) في اعتذارهم بعدم الاستطاعة من جهة المال أو من جهة البدن (وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) (٤٣).

في ذلك قال ابن عباس : لم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرف المنافقين يومئذ حتى نزلت سورة براءة (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أي ليس من عادة المؤمنين الخلص أن يستأذنوك في أن يجاهدوا فضلا عن أن يستأذنوك في التخلف عنه ، وكان الأكابر من المهاجرين والأنصار يقولون : لا نستأذن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجهاد فإن ربنا ندبنا إليه مرة بعد أخرى ، فأي فائدة في الاستئذان ولنجاهد معه بأموالنا وأنفسنا ، وكانوا بحيث لو أمرهم الرسول بالقعود لشق عليهم ذلك (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) (٤٤) الذين يسارعون إلى طاعته (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي إنما يستأذنك يا أشرف الخلق في التخلف عن الجهاد من غير عذر المنافقون فإنهم لا يرجون ثوابا ولا يخافون عقابا (وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ) أي شكت قلوبهم في الدين (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) (٤٥) أي فهم حال كونهم في شكهم المستقر في قلوبهم يتحيرون لا مع الكفار ولا مع المؤمنين (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ) إلى الغزو معك (لَأَعَدُّوا لَهُ) أي للخروج (عُدَّةً) أي أهبة من الزاد والراحلة والسلاح (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) أي ولكن لم يرض الله نهوضهم للخروج معك (فَثَبَّطَهُمْ) أي حبسهم بالكسل (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) (٤٦) أي تخلفوا مع المتخلفين والقائل الشيطان بوسوسته أو بعضهم لبعض ، أو هو أمر النّبيّ بذلك أمر توبيخ أو ألقاه الله تعالى كراهة الخروج في قلوبهم فلا قول بالفعل لا من الله ولا من النّبيّ (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ) أي معكم (ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) أي فسادا (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) أي ولساروا على الإبل وسطكم ولأسرعوا بينكم بالنمائم (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) أي يطلبون لكم ما تفتنون به بإلقاء الرعب في قلوبكم وبإفساد نياتكم (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) أي فيكم قوم ضعفة يسمعون للمنافقين (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (٤٧) لأنفسهم بسبب نفاقهم ولغيرهم بسبب أنهم سعوا في إلقاء غيره في وجوه الآفات (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ) أي من

٤٥١

قبل واقعة تبوك كما فعل عبد الله بن أبي يوم أحد حيث انصرف مع أصحابه عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) أي اجتهدوا في الحيلة عليك وفي إبطال أمرك (حَتَّى جاءَ الْحَقُ) أي استمر هؤلاء المنافقون على إثارة الفتنة وتنفير الناس عن قبول الدين حتى جاء النصر الإلهي وكثر المؤمنون (وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ) أي غلب دينه بظهور الأسباب التي تقوي شرع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَهُمْ كارِهُونَ) (٤٨) أي والحال أنهم كارهون لمجيء هذا الحق وظهور أمر الله (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي) أي ومن المنافقين وهو الجد بن قيس من يقول للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ائذن لي في القعود في المدينة ولا توقعني في الإثم بأن لا تأذن لي فإنك إن منعتني من القعود وقعدت بغير إذنك وقعت في الإثم. وروي أن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما تجهز إلى غزوة تبوك قال للجد بن قيس : «يا أبا وهب هل لك في جلاد بني الأصفر» ـ أي في جهاد ملوك الروم ـ فقال الجد : يا رسول الله قد علمت الأنصار أني مغرم بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر وإني أخشى إن رأيتهن لا أصبر عنهن ولكني أعينك بمال فاتركني (أَلا) أي تنبهوا (فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) أي إنهم في عين الفتنة وقعوا فإن أعظم أنواع الفتنة الكفر بالله ورسوله ، والتمرد عن قبول التكليف وهم خائفون من نزول آيات في بيان نفاقهم (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (٤٩) أي جامعة لهم يوم القيامة من كل جانب. وقيل : إن أسباب تلك الإحاطة حاصلة في الحال ، فكأنهم في وسطها لأنهم كانوا محرومين عن كل السعادات وإنهم اشتهروا بين الناس بالنفاق والطعن في الدين ، وقصد الرسول بكل سوء. وكانوا يشاهدون أن دولة الإسلام أبدا في الترقي. وكانوا في أشد الخوف على أنفسهم وأولادهم وأموالهم. (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) أي إن تصبك في بعض الغزوات حسنة من ظفر أو غنيمة أو انقياد بعض ملوك الأطراف يحزنهم ذلك (وَإِنْ تُصِبْكَ) في بعض الغزوات (مُصِيبَةٌ) أي شدة وإن صغرت (يَقُولُوا) متبجحين برأيهم : (قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا) أي حذرنا بالاعتزال عن المسلمين والتخلف عنهم والمداراة مع الكفرة (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل هذه المصيبة (وَيَتَوَلَّوْا) عن مقام التحدث بذلك إلى أهاليهم (وَهُمْ فَرِحُونَ) (٥٠) بما أصابك من المصيبة وبسلامتهم منها. (قُلْ) يا أشرف الخلق للمنافقين بيانا لبطلان اعتقادهم : (لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) أي لن يصيبنا خير ولا شر ولا رخاء ، ولا شدة ولا خوف ، ولا أمن إلا وهو مقدر علينا مكتوب عند الله فإذا صرنا مغلوبين صرنا مستحقين للأجر العظيم ، وإن صرنا غالبين صرنا مستحقين للثواب في الآخرة وفزنا بالمال الكثير والثناء الجميل في الدنيا (هُوَ) أي الله (مَوْلانا) يحسن منه التصرف في العالم كيف شاء فإن أوصل إلى بعض عبيده أنواعا من المصائب فإنه يجب الرضا بها (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (٥١) أي فالواجب على المؤمن أن يفوّض أمره إلى الله وأن يرضى بفعله تعالى وأن يطمع من فضله تعالى ورحمته. (قُلْ) يا أشرف الخلق للمنافقين : (هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) أي ما تنتظرون

٤٥٢

بنا إلا إحدى الحالتين الشريفتين ، النصر أو الشهادة ، وذلك لأن المسلم إذا ذهب إلى الغزو فإن صار مغلوبا مقتولا بالاسم الحسن في الدنيا وهي الرجولية والشوكة وبالثواب العظيم الذي أعده الله للشهداء في الآخرة وإن صار غالبا فاز في الدنيا بالمال الحلال والاسم الجميل وفي الآخرة بالثواب العظيم (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ) إحدى الحالتين الخسيستين إما (أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ) كأن ينزل عليكم صاعقة من السماء كما نزلت على عاد وثمود (أَوْ) بعذاب (بِأَيْدِينا) وهو القتل على الكفر ، أي إن المنافق إذا قعد في بيته كان مذموما منسوبا إلى الجبن ، وضعف القلب والرضا بأمر يشاركه فيه النسوان والصبيان والعاجزون ، ثم يكون أبدا خائفا على نفسه وولده وماله ، وإن أذن الله في قتله وقع في القتل والأسر والنهب مع الذل وإن مات انتقل إلى العذاب الدائم في الآخرة (فَتَرَبَّصُوا) بنا إحدى الحالتين الشريفتين (إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) (٥٢) وقوعكم في إحدى الحالتين الخسيستين (قُلْ) يا أشرف الخلق لهذا المنافق وأمثاله وهذه الآية نزلت في الجد بن قيس حين قال للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ائذن لي في القعود وهذا ما لي أعينك به (أَنْفِقُوا) أموالكم (طَوْعاً) أي من غير إلزام من الله ورسوله (أَوْ كَرْهاً) أي إلزاما منهما.

وسمي الإلزام إكراها لأن إلزام المنافقين بالإنفاق كان شاقا عليهم كالإكراه.

وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي النساء والأحقاف «كرها» بضم الكاف. وقرأ عاصم وابن عامر في الأحقاف بالضم من المشقة وفي النساء والتوبة بالفتح من الإكراه. والباقون بفتح الكاف في جميع ذلك (لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) والأمر هنا بمعنى الخير أي نفقتكم غير مقبولة سواء كانت طوعا أو كرها (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) (٥٣) أي منافقين فإنهم كافرون في الباطن (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى) أي لا يأتونها في حال من الأحوال إلا حال كونهم متثاقلين فإن هذا المنافق إن كان في جماعة صلى ، وإن كان وحده لم يصل لأنه يصلي طاعة لأمر الله وإنما يصلي خوفا من مذمة الناس (وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) (٥٤) أي لا رغبة لهم فإنهم لا ينفقون لغرض الطاعة بل رعاية للمصلحة الظاهرة حتى إنهم كانوا يعدون الإنفاق مغرما بينهم (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) والمراد بهذا الخطاب جميع المؤمنين. والمعنى ولا تعجبوا بأموال المنافقين وأولادهم (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها) أي بالأموال والأولاد (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وسبب كون المال والولد عذابا في الدنيا هو ما يحصل من المتاعب والمشاق في تحصيلهما فإذا حصلا ازداد التعب وتحمل المشاق في حفظهما ويزداد الغم والخوف بسبب المصائب الواقعة فيهما ، وهم اعتقدوا أنه لا سعادة إلا في هذه الخيرات العاجلة ، فالمال والولد عذاب على المنافق في الدنيا دون المؤمن لأنه علم أنه يثاب بالمصائب الحاصلة له في الدنيا (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) (٥٥) أي يريد الله أن

٤٥٣

تخرج أرواحهم والحال أنهم كافرون فيكون عذابهم في الآخرة أشد العذاب (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) أي يحلف المنافقون للمؤمنين إذا جالسوهم إنهم على دينكم (وَما هُمْ مِنْكُمْ) أي ليسوا على دينكم (وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) (٥٦) أي يخافون القتل فأظهروا الإيمان وأسروا النفاق (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً) أي حرزا يلجئون إليه تحصنا منكم من رأس جبل أو قلعة أو جزيرة (أَوْ مَغاراتٍ) أي كهوفا في الجبل يخفون فيها أنفسهم (أَوْ مُدَّخَلاً) أي سربا تحت الأرض كالآبار يندسون فيه (لَوَلَّوْا) أي لصرفوا وجوههم (إِلَيْهِ) أي إلى أحد هذه الوجوه الثلاثة التي هي شر الأمكنة (وَهُمْ يَجْمَحُونَ) (٥٧) أي يسرعون إسراعا لا يرد وجوههم شيء لشدة تأذيهم من الرسول ومن المسلمين (وَمِنْهُمْ) أي المنافقين أبي الأحوص وأصحابه (مَنْ يَلْمِزُكَ) أي من يعيبك سرا (فِي الصَّدَقاتِ) قالوا لم يقسم بيننا بالسوية والله ما يعطيها محمد إلا من أحب ولا يؤثرها إلا هواه فنزلت هذه الآية (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها) أي الصدقات قدر ما يريدون في الكثرة (رَضُوا) بالقسمة (وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها) قدر ما يريدون (إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) (٥٨) أي يفاجئون السخط فإن رضاهم وسخطهم لطلب النصيب لا لأجل الدين (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) من الصدقات وطابت نفوسهم وإن قل (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) أي كفانا ذلك (سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ) أي سيغنينا الله من فضله برزقه فيعطينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكثر مما أعطانا اليوم (إِنَّا إِلَى اللهِ) أي إلى طاعته وإحسانه (راغِبُونَ) (٥٩) لكان ذلك أعود عليهم.

ونقل أن عيسى عليه‌السلام مرّ بقوم يذكرون الله تعالى فقال : ما الذي يحملكم عليه؟ قالوا : الخوف من عقاب الله. فقال : أصبتم. ثم مرّ على قوم آخرين يذكرون الله تعالى فقال : ما الذي يحملكم عليه؟ فقالوا : الرغبة في الثواب. فقال : أصبتم. ومرّ على قوم ثالث مشتغلين بالذكر ، فسألهم ، فقالوا : لا نذكره للخوف من العقاب ولا للرغبة في الثواب بل لإظهار ذلة العبودية وعزة الربوبية وتشريف القلب بمعرفته ، وتشريف اللسان بالألفاظ الدالة على صفات قدسه وعزته فقال : أنتم المحبون المحققون. (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) أي إنما الزكوات مصروفة للفقراء وهم المحتاجون الذين لا يجدون شيئا ولا يسألون الناس وهم أهل صفة مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانوا نحو أربعمائة رجل لا منزل لهم ، والمساكين هم الطوافون الذين يسألون الناس كما قاله ابن عباس ، ومن سأل وجد فكان المسكين أقل حاجة (وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) وهم السعاة لجباية الصدقة وهؤلاء يعطون من الصدقات بقدر أجور أعمالهم وهو قول الشافعي وعبد الله بن عمر وابن زيد.

وقال مجاهد والضحاك : يعطون الثمن من الصدقات (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) وهم أصناف : صنف دخلوا في الإسلام ونيتهم ضعيفة فيتألفون ليثبتوا ، وآخرون لهم شرف في قومهم يطلب

٤٥٤

بتألفهم إسلام نظرائهم وأثبت الشافعي والأصحاب سهم هذين الصنفين وصنف يراد بتألفهم أن يجاهدوا من يليهم من الكفار أو من مانعي الزكاة ويقبضوا زكاتهم ، وهذان في معنى الغزاة والعاملين وعلى هذا فيسقط سهم المؤلفة بالكلية لكن يجوز صرفه إليهما كما أفتى به الماوردي (وَفِي الرِّقابِ) أي وفي فك الرقاب فسهمهم موضوع في المكاتبين ليعتقوا به كما هو مذهب الشافعي والليث بن سعد أو موضوع لعتق الرقاب يشترى به عبيد فيعتقون كما هو مذهب مالك وأحمد وإسحاق.

وقال الزهري : سهم الرقاب نصفان : نصف للمكاتبين من المسلمين ، ونصف يشترى به رقاب ممن صلوا وصاموا وقدم إسلامهم فيعتقون من الزكاة (وَالْغارِمِينَ) أي المديونين في طاعة الله (وَفِي سَبِيلِ اللهِ) ويجوز للغازي أن يأخذ من مال الزكاة وإن كان غنيا كما هو مذهب الشافعي ، ومالك ، وإسحاق ، وأبي عبيد. وقال أبو حنيفة وصاحباه : لا يعطى الغازي إلا إذا كان محتاجا. ونقل القفال عن بعض الفقهاء : أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد لأن قوله تعالى في سبيل الله عام في الكل (وَابْنِ السَّبِيلِ) وهو الذي يريد السفر في غير معصية فيعجز عن بلوغ سفره إلا بمعونة ، ويصرف مال الزكاة إلى الأصناف الأربعة :

الأول : حتى يتصرفوا فيه كما شاءوا. وفي الأربعة الأخيرة : لا يصرف المال إليهم بل يصرف المال إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة ، ومذهب أبي حنيفة أنه يجوز صرف الصدقة إلى بعض هؤلاء الأصناف كما هو قول عمر وحذيفة وابن عباس وسعيد بن جبير. وقال الشافعي : لا بد من صرفها إلى الأصناف الثمانية كما هو قول عكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز. (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) أي فرض الله الصدقات لهؤلاء فريضة والمقصود من هذا التأكيد تحريم إخراج الزكاة عن الأصناف (وَاللهُ عَلِيمٌ) فيعلم بمقادير المصالح (حَكِيمٌ) (٦٠) لا يشرع إلا ما هو الأصوب الأصلح (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ).

روي أن جماعة من المنافقين حذام بن خالد وإياس بن قيس ، وسماك بن يزيد وعبيد بن مالك ، والجلاس بن سويد ، ووديعة بن ثابت ذكروا النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما لا ينبغي من القول ثم قالوا : إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير ، وكان عندهم غلام يقال له : عامر بن قيس ثم أتى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبره فدعاهم وسألهم ، فأنكروا وحلفوا أن عامرا كذاب ، وحلف عامر أنهم كذبة فصدقهم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعل عامر يدعو ويقول : «اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب» فأنزل الله هذه الآية ومقصود المنافقين بقولهم هو أذن أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس له ذكاء بل هو سليم القلب سريع الاغترار بكل ما يسمع (قُلْ) يا أشرف الخلق لهؤلاء المنافقين (أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ).

٤٥٥

قرأ عاصم في رواية الأعمش ، وعبد الرحمن عن أبي بكر عنه «أذن خير» مرفوعين ، أي إن كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما تقولون : إنه أذن فأذن يقبل منكم خير لكم من أن يكذبكم. والباقون بالإضافة أي هو أذن خير لا أذن شر ، أي يصدقكم بالخير لا بالكذب. ثم بيّن الله كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أذن خير بقوله : (يُؤْمِنُ بِاللهِ) لما قام عنده من الأدلة (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي ويرضى لهم ويصدقهم لما علم فيهم من الخلوص (وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) أي وهو رفق بالذين أظهروا الإيمان منكم حيث لا يكشف أسرارهم.

وقرأ حمزة «ورحمة» بالجر عطفا على خير. وقرأ ابن عامر «ورحمة» بالنصب علة لمحذوف ، أي ويأذن لكم رحمة (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ) بقولهم هو أذن ونحوه (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٦١) في الدنيا والآخرة (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) أي إنهم حلفوا على أنهم ما قالوا ما حكي عنهم ليرضوا المؤمنين بيمينهم (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) أي والحال أنه تعالى ورسوله أحق بالإرضاء منكم وكان من الواجب أن يرضوهما بالإخلاص والتوبة والمتابعة وإيفاء حقوقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في باب الإجلال مشهدا ومغيبا لا بإتيانهم بالأيمان الفاجرة (إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) (٦٢) فليرضوا الله ورسوله بالطاعة فإنهما أحق بالإرضاء (أَلَمْ يَعْلَمُوا) أي أولئك المنافقون جلاس وأصحابه (أَنَّهُ) أي الشأن (مَنْ يُحادِدِ اللهَ) أي من يخالف الله (وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) أي فحق أن له نار جهنم أي فيكون نار جهنم له أمر ثابت (خالِداً فِيها ذلِكَ) أي العذاب الخالد (الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) (٦٣) أي الندم الشديد وهي ثمرات نفاقهم (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) أي يخاف المنافقون أن تنزل في شأنهم سورة تذيع ما كانوا يخفونه من أسرارهم إذاعة ظاهرة فتنتشر فيما بين الناس فيسمعونها من أفواه الرجال فكأن السورة تخبرهم بها وهم كانوا إذا سمعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر كل شيء ويقول : إنه بطريق الوحي يكذبونه ويستهزئون به (قُلِ اسْتَهْزِؤُا) أي افعلوا الاستهزاء بمحمد والقرآن (إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) (٦٤) أي فإن الله مظهر ما تحذرونه من إنزال السورة (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ).

قال الحسن وقتادة : لما سار الرسول إلى تبوك قال المنافقون بينهم : أتراه يظهر على الشام ويأخذ حصونها وقصورها ، هيهات هيهات ، فعند رجوعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعاهم وقال : أنتم القائلون بكذا وكذا فقالوا : ما كان ذلك بالجد في قلوبنا وإنما كنا نتحدث ونضحك فيما بيننا (قُلْ أَبِاللهِ) أي بتكاليف الله (وَآياتِهِ) أي وبالقرآن وبسائر ما يدل على الدين (وَرَسُولِهِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) (٦٥) (لا تَعْتَذِرُوا) أي لا تذكروا هذا العذر في دفع هذا الجرم (قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) أي وقد ظهر كفركم للمؤمنين بالطعن في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن كنتم عندهم مسلمين (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً).

٤٥٦

قرأ عاصم «نعف» و «نعذب» بالنون مبنيا للفاعل و «طائفة» بالنصب. والباقون «يعف» بالياء و «تعذب» بالتاء بالبناء للمفعول ، و «طائفة» بالرفع.

روي أن الطائفتين كانوا ثلاثة فالواحد : طائفة وهو : جهير بن حمير. والاثنان : طائفة وهما وديعة بن جذام ، وجد بن قيس. فالذي عفى عنه جهير بن حمير لأنه كان ضحك معهم ولم يستهزئ معهم فلما نزلت هذه الآية تاب من نفاقه وقال : اللهم إني لا أزال أسمع آية تقشعر منها الجلود وتخفق منها القلوب ، اللهم اجعل وفاتي قتلا في سبيلك لا يقول أحد أنا غسلت ، أنا كفنت ، أنا دفنت فأصيب يوم اليمامة فلم يعرف أحد من المسلمين مصرعه (بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) (٦٦) أي مستمرين على النفاق والاستهزاء فأوجب التعذيب (الْمُنافِقُونَ) وكانوا ثلاثمائة (وَالْمُنافِقاتُ) وكن مائة وسبعين (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي متشابهون في صفة النفاق والأفعال الخبيثة (يَأْمُرُونَ) أي يأمر بعضهم بعضا (بِالْمُنْكَرِ) أي بالكفر والمعاصي (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) أي عن الإيمان والطاعة (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) عن كل خير من زكاة وصدقة وإنفاق في سبيل الله (نَسُوا اللهَ) أي تركوا أمر الله (فَنَسِيَهُمْ) أي فجازاهم بتركهم من رحمته (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٦٧) أي الكاملون في الفسق الذي هو الانسلاخ من كل خير (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ) أي المجاهرين بالكفر (نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) فالنار المخلدة من أعظم العقوبات (هِيَ حَسْبُهُمْ) أي تلك العقوبة كافية ولا شيء أبلغ منها ولا يمكن الزيادة عليها (وَلَعَنَهُمُ اللهُ) أي أهانهم الله بالذم ملحقا بتلك العقوبة (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) (٦٨) غير النار كالزمهرير وكمقاساة تعب النفاق في الدنيا إذ هم دائما في حذر من أن يطلع المسلمون على نفاقهم (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي فعلكم أيها المنافقون كفعل الكفار الذين كانوا قبلكم في الأمر بالمنكر ، والنهي عن المعروف ، وقبض الأيدي عن الخيرات (كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً) في الأبدان (وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) أي فتمتعوا مدة بنصيبهم من لذات الدنيا (فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ) أي فأنتم أيها المنافقون استمتعتم بنصيبكم استمتاعا كاستمتاع الكفار الذين من قبلكم بحظوظهم الخسيسة من الشهوات الفانية (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) أي وتلبستم بتكذيب الأنبياء في السر وبالمكر والغدر بهم كالتلبس الذي تلبسوا به من تكذيب أنبياء الله والغدر بهم (أُولئِكَ) الموصوفون بالأفعال الذميمة (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي بطلت حسناتهم بسبب الفقر والانتقال من العز إلى الذل ، ومن القوة إلى الضعف ، وبسبب الموت في الآخرة بسبب أنهم يعاقبون أشد العقاب (وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٦٩) حيث أتعبوا أنفسهم في الرد على الأنبياء فما وجدوا منه إلا فوات الخيرات في الدنيا والآخرة ، وإلا حصول العقاب في الدنيا والآخرة (أَلَمْ يَأْتِهِمْ) أي

٤٥٧

المنافقين (نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ) أي المنقلبات التي جعل الله عالي القرى سافلها (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي المعجزات فكذبوهم فعجّل الله هلاكهم. والله أهلك قوم نوح بالغرق وعادا ـ قوم هود ـ بإرسال الريح العقيم ، وثمود ـ قوم صالح ـ بإرسال الصيحة والصاعقة ، وقوم إبراهيم بالهدم وسلب النعمة عنهم ، وبتسليط البعوضة على دماغ نمروذ ، وقوم شعيب بالظلة أو بالرجفة ، وقوم لوط بالخسف وبجعل عالي أرضهم سافلها وبإمطار الحجارة ، وإنما ذكر الله تعالى هذه الطوائف الستة لأن آثارهم باقية وبلادهم قريبة من بلاد العرب وهي : الشام ، والعراق ، واليمن فكانوا يمرون عليها ويعرفون أخبار أهلها (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) بإيصال العذاب إليهم لأنهم استحقوه بسبب أفعالهم القبيحة (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٧٠) بالكفر وتكذيب الأنبياء (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) بسبب المشاركة في الاستدلال والتوفيق والهداية (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) أي بالإيمان بالله ورسوله واتباع أمره (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي الشرك والمعاصي (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي المفروضة بإتمام الأركان والشروط (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) الواجبة عليهم (وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) في كل أمر ونهي في السر والعلانية (أُولئِكَ) الموصوفون بهذه الصفات (سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) أي يفيض عليهم آثار رحمته ، والسين للتوكيد والمبالغة (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) أي لا يمنع من مراده في عباده من رحمة أو عقوبة (حَكِيمٌ) (٧١) أي مدبر أمر عباده على ما يقتضيه العدل والصواب (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي تجري من تحت شجرها ومساكنها أنهار الخمر والماء والعسل واللبن (خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) وهي قصور من اللؤلؤ والزبرجد والياقوت الأحمر (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) وهي أبهى أماكن الجنات وأسناها.

وقال عبد الله بن عمر إن في الجنة قصرا يقال له : عدن ، حوله البروج والمروج ، وله خمسة آلاف باب ، على كل باب خمسة آلاف حوراء لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد ، (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) مما هم فيه إذ عليه يدور فوز كل خير وسعادة.

وروي أنه تعالى يقول لأهل الجنة : «هل رضيتم» فيقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك! فيقول : «أنا أعطيكم أفضل من ذلك». قالوا : وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال : «أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا».

وقرأ شعبة «رضوان» بضم الراء. والباقون بالكسر (ذلِكَ) أي المذكور من الأمور الثلاثة (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٧٢) لا ما يطلبه المنافقون والكفار من التنعم بطيبات الدنيا (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ) أي المجاهرين بالسيف (وَالْمُنافِقِينَ) أي الساترين كفرهم بظهور الإسلام بإظهار الحجة لا

٤٥٨

بالسيف لنطقهم بكلمتي الشهادة (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أي اشدد على كلا الفريقين بالفعل والقول (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٧٣) هي وهذه الجملة مستأنفة لبيان عاقبة أمرهم (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) بتوافقهم على فتك النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطعنهم على نبوته (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) أي أظهروا الكفر وجاهروا بالحرب بعد أن أظهروا الإسلام (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا).

روي أن المنافقين هموا بقتله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند رجوعه من تبوك : وهم خمسة عشر رجلا قد اتفقوا على أن يدفعوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن راحلته ليقع في الوادي فيموت ، فأخبره الله بما دبروه ، فلما وصل إلى العقبة التي بين تبوك والمدينة نادى مناديه بأمره : إن رسول الله يريد أن يسلك العقبة فلا يسلكها أحد غيره ، واسلكوا يا معشر الجن بطن الوادي فإنه أسهل لكم وأوسع فسلك الناس بطن الوادي ، وسلك النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم العقبة وكان ذلك في ليلة مظلمة فجاء المنافقون وتلثموا وسلكوا العقبة ، وكان النبي قد أمر عمار بن ياسر أن يأخذ بزمام ناقته ويقودها ، وأمر حذيفة أن يسوقها من خلفها. فبينما النبي يسير في العقبة إذ زحمه المنافقون فنفرت ناقته حتى سقط بعض متاعه ، فصرخ بهم ، فولوا مدبرين وعلموا أنه اطلع على مكرهم ، فانحطوا من العقبة مسرعين إلى بطن الوادي ، واختلطوا بالناس ، فصار حذيفة يضرب الناقة فقال له النبيّ : «هل عرفت أحدا منهم». قال : لا ، فإنهم كانوا متلثمين والليلة مظلمة. قال : «هل علمت مرادهم؟» قال : لا ، قال النبي : «إنهم مكروا وأرادوا أن يسيروا معي في العقبة فيزحمونني عنها وإن الله أخبرني بهم وبمكرهم» (١) فلما أصبح جمعهم وأخبرهم بما مكروا به فحلفوا بالله ما قالوا بتكذيب النبي ونسبه إلى التصنع في ادعاء الرسالة ، ولا أرادوا فتكه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي وما أنكروا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا من الأشياء إلا أغناه الله تعالى إياهم من فضله فإن هؤلاء المنافقين كانوا قبل قدوم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحرزون الغنيمة ، وبعد قدومه أخذوا الغنائم وفازوا بالأموال ووجدوا الدولة وقتل للجلاس مولى فأمر له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بديته اثني عشر ألفا فاستغنى ، وذلك يوجب عليهم أن يكونوا محبين له صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجتهدين في بذل النفس والمال لأجله فعملوا بضد الواجب ، فوضعوا موضع شكره صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن كرهوه وعابوه (فَإِنْ يَتُوبُوا) من النفاق كما وقع للجلاس بن سويد فإنه تاب وحسنت توبته (يَكُ) أي التوب (خَيْراً لَهُمْ) في الدارين (وَإِنْ يَتَوَلَّوْا) أي يعرضوا عن التوبة (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا) بقتلهم وسبي أولادهم وأزواجهم ، واغتنام أموالهم لأنه لما ظهر كفرهم بين الناس صاروا مثل أهل الحرب فيحل قتالهم (وَالْآخِرَةِ) بالنار وغيرها من أفانين العقاب (وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) مع سعتها (مِنْ وَلِيٍ) أي حافظ (وَلا نَصِيرٍ) (٧٤) ينقذهم من العذاب

__________________

(١) رواه البيهقي في دلائل النبوة (٥ : ٢٥٧) ، والسيوطي في الدر المنثور (٣ : ٢٥٩).

٤٥٩

(وَمِنْهُمْ) أي المنافقين (مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٧٥) (فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا) بإجرامهم على العهد (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٧٦) بقلوبهم عن أوامر الله تعالى (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ) أي فأورثهم البخل نفاقا متمكنا في قلوبهم أي فارتدوا عن الإسلام وصاروا منافقين (إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) أي إلى يوم موتهم الذين يلقون فيه جزاء عملهم وهو يوم القيامة (بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ) أي بسبب إخلافهم الله الوعد من التصدق والصلاح (وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) (٧٧) أي وبسبب كونهم مستمرين على الكذب في وعدهم.

روي أن ثعلبة بن حاطب كان صحيح الإسلام في ابتداء أمره وصار منافقا في آخر أمره وكان ملازما لمسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى لقب بحمامة المسجد ، ثم رآه النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسرع الخروج من المسجد عقب الصلاة فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما لك تفعل فعل المنافقين؟» فقال : إني افتقرت ولي ولامرأتي ثوب أجيء به للصلاة ، ثم أذهب فأنزعه لتلبسه وتصلي به فجاء ثعلبة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه» ثم أتاه بعد ذلك فقال : يا رسول الله ادع الله أم يرزقني مالا فقال له رسول الله : «أما لك في أسوة حسنة ، والذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت» ثم أتاه بعد ذلك وقال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا ، والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه ، فدعا له فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود ، حتى ضاقت بها المدينة ، فنزل واديا من أوديتها فجعل يصلي الظهر والعصر مع رسول الله ، ويصلي في غنمه باقي الصلوات ، ثم نمت وكثرت فتباعد من المدينة حتى ترك الصلوات إلا الجمعة ، ثم نمت وكثرت حتى تباعد وترك الجمعة فإذا كان يوم الجمعة يتلقى الناس يسألهم عن الأخبار ثم سأل رسول الله فأخبر بخبره فقال : «يا ويح ثعلبة ثلاثا» فنزل قوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) [التوبة : ١٠٣] فبعث صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلين من بني سليم ومن بني جهينة ، وكتب لهما أسنان الصدقة وقال لهما : «مرّا على ثعلبة بن حاطب فخذا صدقاته» فأتياه وأقرآه كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لهما : ما هذه إلا الجزية أو أخت الجزية فلم يدفع الصدقة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية فقيل له : قد أنزل فيك كذا وكذا فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسأله أن يقبل صدقته فقال : «إن الله منعني من قبول ذلك» فجعل يحثوا التراب على رأسه فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد قلت لك فما أطعتني» (١) فرجع إلى منزله وقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أتى أبا بكر بصدقته ، فلم يقبلها اقتداء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم جاء بهما إلى عمر أيام

__________________

(١) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٨ : ٢٢٥) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٣ : ٤٧٣) ، وابن كثير في التفسير (٤ : ١٢٤) ، والطبري في التفسير (١٠ : ١٣١) ، والقرطبي في التفسير (٨ : ٢٠٩) ، والواحدي في أسباب النزول (١٧١).

٤٦٠