مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ).

قال الحسن ومجاهد والسدي : وهذا خطاب للكفار على سبيل التهكم بهم. وقال السدي : إن المشركين لما أرادوا الخروج إلى بدر أخذوا أستار الكعبة وقالوا : اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين ، وأكرم الحزبين ، وأفضل الدينين. والمعنى إن تستنصروا أيها الكفار لأعلى الجندين فقد جاءكم النصر لأعلاهما وقد زعمتم أنكم الأعلى فالتهكم في المجيء أو فقد جاءكم الهزيمة ، فالتهكم في نفس الفتح ، وإن تنتهوا عن قتال الرسول وعداوته وتكذيبه فهو خير لكم في الدين بالخلاص من العقاب. والفوز بالثواب ، وفي الدنيا بالخلاص من القتل والأسر والنهب ، وإن تعودوا إلى القتال نعد إلى تسليط المسلمين على قتلكم ولن تدفع عنكم جماعتكم شيئا من الضرر ولو كثرت. وقيل : هذا خطاب للمؤمنين ، والمعنى إن تستنصروا أيها المؤمنون فقد جاءكم النصر وإن تنتهوا عن المنازعة في أمر الأنفال وعن طلب الفداء على الأسرى فهو خير لكم ، وإن تعودوا إلى تلك المنازعة نعد إلى ترك نصرتكم ثم لا تنفعكم كثرتكم (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٩).

قرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم «وأن» بفتح الهمزة وهو خبر مبتدأ محذوف ، أي والأمر أن الله مع الكاملين في الإيمان (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في الإجابة إلى الجهاد وإلى ترك المال إذا أمره بتركه (وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) أي ولا تعرضوا عن الرسول أي عن قبول قوله وعن معونته في الجهاد (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) (٢٠) دعاءه إلى الجهاد (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا) بألسنتهم (سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) (٢١) أي إنا قبلنا تكاليف الله تعالى ، والحال أنهم بقلوبهم لا يقبلونها (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (٢٢) أي إن شر كل حيوان في حكم الله تعالى من لا يسمع الحق ولا ينطق به ولا يفقه أمر الله تعالى.

قال ابن عباس : هم نفر من بني عبد الدار بن قصي كانوا يقولون : نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقتلوا جميعا يوم بدر وكانوا أصحاب اللواء ولم يسلم منهم إلا رجلان مصعب بن عمير وسويبط بن حرملة (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) أي ولو حصل في بني عبد الدار خير لأسمعهم الله الحجج والمواعظ سماع تفهم (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ) بعد أن علم أنه لا خير فيهم (لَتَوَلَّوْا) عنها ولم ينتفعوا بها (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٢٣) أي والحال أنهم مكذبون بها. قيل : إن الكفار سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحيى لهم قصي بن كلاب وغيره من أمواتهم ليخبروهم بصحة نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبين الله تعالى أنه لو علم فيهم خيرا وهو انتفاعهم بقول هؤلاء الأموات لأحياهم الله تعالى حتى يسمعوا كلامهم ولكنه تعالى علم منهم أنهم لا يقولون : أحي لنا قصيا فإنه كان شيخا مباركا حتى يشهد لك بالنبوة فنؤمن بك إلا على سبيل العناد والتعنت وإنه لو أسمعهم الله كلام

٤٢١

قصي وغيره لتولوا عن قبول الحق على أدبارهم ولأعرضوا عما سمعوه بقلوبهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) أي أجيبوا الله والرسول بحسن الطاعة إذا دعاكم الرسول إلى ما فيه سبب حياتكم الأبدية من الإيمان أو القرآن أو الجهاد.

وروى أبو هريرة رضي‌الله‌عنه : أن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ على باب أبي بن كعب وهو في الصلاة ، فدعاه ، فعجل في صلاته ، ثم جاء فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم له : «ما منعك عن إجابتي؟» قال : كنت في الصلاة ، قال : «ألم تخبر فيما أوحي إلي (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ)» (١) فقال : لا جرم لا تدعوني إلا أجيبك (وَاعْلَمُوا) يا معشر المؤمنين (أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) أي يحول بين المرء وبين ما يريده بقلبه فإن الأجل يحول دون الأمل ، فكأنه قال تعالى : بادروا إلى الأعمال الصالحة ولا تعتمدوا على ما يقع في قلوبكم من توقع طول البقاء فإن ذلك غير موثوق به.

وقال مجاهد : المراد من القلب هنا العقل ، أي فإن الله يحول بين المرء وعقله ، والمعنى فبادروا إلى الأعمال وأنتم تعقلون فإنكم لا تأمنون زوال العقل والله يحول بين المرء والكافر وطاعته ويحول بين المرء المطيع ومعصيته والقلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر أن يقول : «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» (٢) ولا يستطيع المرء أن يؤمن ولا أن يكفر إلا بإذنه تعالى (وَأَنَّهُ) أي واعلموا أن الشأن (إِلَيْهِ) أي الله تعالى (تُحْشَرُونَ) (٢٤) في الآخرة فيجزيكم بحسب مراتب أعمالكم فسارعوا إلى طاعة الله ورسوله (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) أي واحذروا فتنة إن نزلت بكم لم تقتصروا على الظالمين خاصّة بل تتعدى إليكم جميعا وتصل إلى الصالح والطالح ، وحذر تلك الفتنة بالنهي عن المنكر فالواجب على كل من رآه أن يزيله إذا كان قادرا على ذلك فإذا سكت عليه فكلهم عصاة هذا بفعله وهذا برضاه وقد جعل الله تعالى الراضي بمنزلة العامل فانتظم في العقوبة.

وعلامة الرضا بالمنكر : عدم التألم من الخلل الذي يقع في الدين بفعل المعاصي فلا يتحقق كون الإنسان كارها له إلا إذا تألم له تألمه لفقد ماله أو ولده فكل من لم يكن بهذه الحالة فهو راض بالمنكر فتعمه العقوبة والمصيبة بهذا الاعتبار (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢٥) ولذلك يصيب بالعذاب من لم يباشر سببه ، والمعنى الزموا الاستقامة خوفا من عذاب الله تعالى (وَاذْكُرُوا) يا معشر المهاجرين (إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) في العدد في أول الإسلام (مُسْتَضْعَفُونَ فِي

__________________

(١) رواه ابن حجر في فتح الباري (٨ : ٣٠٧).

(٢) رواه الترمذي في كتاب الدعوات ، باب : ٨٩ ، وابن ماجة في كتاب الدعاء ، باب : دعاء الرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأحمد في (م ٤ / ص ١٨٢).

٤٢٢

الْأَرْضِ) أي مقهورون في أرض مكة (تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) تخافون إذا خرجتم من البلد أن تأخذكم مشركو العرب بسرعة لشدة عداوتهم لكم ولقربهم منكم (فَآواكُمْ) أي نقلكم إلى المدينة فصرتم آمنين من كفار مكة (وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ) أي قواكم بنصرته يوم بدر (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي من الغنائم وهي كانت محرمة على من كان قبل هذه الأمة (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٢٦) هذه النعم العظيمة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) في الدين وفي الإشارة إلى بني قريظة أن لا تنزلوا على حكم سعد بن معاذ (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) فيما بينكم (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢٧) أن ما وقع منكم خيانة.

روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاصر يهود بني قريظة خمسا وعشرين ليلة حتى أجهدهم الحصار فسألوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصلح كما صالح بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم في أذرعات وأريحا من الشام ، فأبى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ ، فأبوا وقالوا : أرسل إلينا أبا لبابة وهو رفاعة بن عبد المنذر نستشيره في أمرنا وكان مناصحا لهم لأن ماله وعياله عندهم ، فأرسله إليهم فقالوا : يا أبا لبابة ما ترى لنا أننزل على حكم سعد بن معاذ فينا فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه أي حكم سعد هو القتل فلا تفعلوا فكان منه خيانة لله ورسوله (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) أي محنة من الله تعالى ليبلوكم فيهم فلا يحملنكم حبهم على الخيانة كأبي لبابة لأنه يشغل القلب بالدنيا ويصيّره حجابا عن خدمة المولى (وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (٢٨) فإن سعادات الآخرة خير من سعادات الدنيا لأنها أعظم في الشرف وفي المدة لأنها تبقى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) أي نجاة مما تخافون في الدارين (وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) أي يسترها في الدنيا (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) أي يزلها في الآخرة (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٢٩) على عباده بالمغفرة والجنة (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي واذكر يا أشرف الخلق وقت احتيالهم بك في إيصال الضرر والهلاك (لِيُثْبِتُوكَ) أي ليسجنوك أو ليثبتوك بالوثائق كما قرئ ليقيدوك (أَوْ يَقْتُلُوكَ) بسيوفهم (أَوْ يُخْرِجُوكَ) من مكة (وَيَمْكُرُونَ) أي يريدون هلاكك يا أكرم الرسل (وَيَمْكُرُ اللهُ) أي يرد مكرهم عليهم ، وذلك بأن أخرجهم إلى بدر وقلل المسلمين في أعينهم حتى حملوا عليهم فلقوا ما لقوا (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٣٠) أي أقواهم فكل مكر يبطل في مقابلة فعل الله تعالى.

قال المفسرون : إن مشركي قريش عرفوا لما أسلمت الأنصار أن أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يظهر ، فاجتمع نفر من كبار قريش في دار الندوة. أي في الدار التي يقع فيها الاجتماع للتحدث ورؤوسهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو سفيان وطعيمة بن عدي ، وجبير بن معطم والحرث بن عامر ، والنضر بن الحرث ، وأبو البحتري بن هشام ، وزمعة بن الأسود ، وحكيم بن حزام ، وأبو جهل ، وأمية بن خلف ، ونبيهة ومنبه ابنا الحجاج ودخل عليهم إبليس في صورة شيخ وقال : أنا من أهل

٤٢٣

نجد ، وتشاوروا في أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال عمرو بن هشام : قيدوه وسدوا باب البيت غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه حتى يهلك كما هلك من قبله من الشعراء. فقال إبليس : لا مصلحة فيه لأنه يغضب له قومه فنسفك فيه الدماء. فقال أبو البحتري بن هشام : أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه لكم ، فقال إبليس : لا مصلحة فيه لأنه يجمع طائفة على نفسه ويقاتلكم بهم ، وقال أبو جهل : الرأي أن نجمع من كل قبيلة رجلا فيضربوه بأسيافهم ضربة واحدة فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على محاربة قريش كلها ، فيرضون بأخذ الدية. فقال إبليس : هذا هو الرأي الصواب. فأوحى الله تعالى إلى نبيه بذلك وأمره أن لا يبيت في مضجعه ، وأذن له في الهجرة إلى المدينة ، وأمر عليا أن يبيت في مضجعه وقال له : تسج ببردتي فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه وهم المشركون بالولوج عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصاحت امرأة من الدار فقال بعضهم لبعض : إنها لسبة في العرب أن يتحدثوا عنا أنا تسورنا الحيطان على بنات العم وهتكنا سر حرمتنا ، وباتوا مترصدين على الباب ، ثم خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الباب وأخذ تعالى أبصارهم عنه فأخذ قبضة من تراب ونثره على رؤوسهم كلهم ومضى هو وأبو بكر إلى الغار ، فلما أصبحوا ساروا إلى مضجعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأبصروا عليا فقالوا له : وأين صاحبك؟ فقال : لا أدري. فاقتصوا أثره ، فلما بلغوا الغار رأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا : لو دخله لم تنسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاثا من الليالي ثم قدم المدينة (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) أي القرآن (قالُوا قَدْ سَمِعْنا) ما قال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٣١) أي ما هذا القرآن إلا ما كتب الأولون من القصص.

روي أن النضر بن الحرث خرج إلى الحيرة بلدة بقرى الكوفة تاجرا ، واشترى أحاديث كليلة ودمنة وكان يقعد مع المستهزئين وهو منهم فيقرأ عليهم أساطير الأولين ، كالفرس والروم وكان يزعم أنها مثل ما يذكره محمد من قصص الأولين وإسناد القول إلى الكل مع أن القائل هو النضر لما أنه كان رئيسهم وقاضيهم وهو الذي يقولون بقوله ويأخذون برأيه. (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا) أي الذي يقوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (هُوَ الْحَقَ) بالنصب خبر كان ودخلت هو للفصل (مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) عقوبة على إنكارنا (أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣٢) غير الحجارة قاله النضر استهزاء وقد أسره المقداد يوم بدر فقتله النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو قاله أبو جهل وقد ذبحه ابن مسعود يوم بدر (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) أي لا يفعل الله بهؤلاء الكفار عذاب الاستئصال ما دام سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاضرا معهم تعظيما له ، وأيضا إن عادة الله مع جميع الأنبياء المتقدمين لم يعذب أهل قرية إلا بعد أن يخرج رسولهم منها كما كان في حق هود وصالح ولوط (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (٣٣) أي وما كان الله معذب هؤلاء الكفار وفيهم مؤمنون يستغفرون لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خرج من مكة بقي فيها من لم يستطع الهجرة من مكة من المسلمين (وَما

٤٢٤

لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي ولا مانع من إهلاك الله لهم بعد ما خرجت من بينهم وحالهم يمنعونك والمسلمين عن الطواف ببيت الله يوم الحديبية (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) أي والحال أنهم ما كانوا أولياء المسجد وهذا رد لقولهم : نحن ولاة البيت والحرم فنصد من نشاء وندخل من نشاء (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) أي ما أولياء المسجد إلا الذين يتحرزون عن المنكرات كما كانوا يفعلونه عند البيت من المكاء والتصدية ، ومن كانت هذه حاله لم يكن وليا للمسجد الحرام بل هم أهل لأن يقتلوا بالسيف ويحاربوا (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٣٤) أنه لا ولاية لهم عليه (وَما كانَ صَلاتُهُمْ) أي عبادتهم (عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً) أي صفيرا (وَتَصْدِيَةً) أي تصفيقا أي ما كان شيء مما يعدونه عبادة إلا هذين الفعلين.

قال ابن عباس : كانت قريش يطوفون بالبيت عراة مشبكين بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون بإحدى اليدين بالأخرى (فَذُوقُوا الْعَذابَ) أي عذاب السيف يوم بدر (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (٣٥) بالقرآن وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي عن دينه.

قال مقاتل والكلبي : نزلت هذه الآية في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلا من كبار قريش أبي جهل وأصحابه يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزر. وقال سعيد بن جبير ومجاهد : نزلت في أبي سفيان وكان استأجر ليوم أحد ألفين من الأحابيش سوى من استجاش من العرب وأنفق فيهم أربعين أوقية ، والأوقية اثنان وأربعون مثقالا ، وأخرج ابن إسحاق عن مشايخه أنها نزلت في أبي سفيان ومن كان له في العير من قريش تجارة (فَسَيُنْفِقُونَها) أي أموالهم (ثُمَّ تَكُونُ) أي الأموال (عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) أي ندامة لفواتها وفوات قصدهم من نصرتهم على محمد (ثُمَّ يُغْلَبُونَ) آخر الأمر (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي أصروا على الكفر أبو جهل وأصحابه (إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) (٣٦) أي يساقون يوم القيامة (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) أي ليميز الله الفريق الخبيث من الكفار من الفريق الطيب من المؤمنين و «اللام» متعلقة بـ «يحشرون» أو بـ «يغلبون» ، أو المعنى ليميز الله نفقة الكافر على عداوة محمد من نفقة المؤمن في جهاد الكفار كإنفاق أبي بكر وعثمان في نصرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقرأ حمزة والكسائي : ليميز بضم الياء الأولى وفتح الميم وتشديد الياء المكسورة (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ) أي ويجعل الفريق الخبيث بعضه على بعض (فَيَرْكُمَهُ) أي فيجمعه (جَمِيعاً) لفرط ازدحامهم (فَيَجْعَلَهُ) أي يطرحه (فِي جَهَنَّمَ). وقيل : المعنى يضم الله تعالى تلك الأموال الخبيثة بعضها إلى بعض فيلقيها في جهنم ويعذبهم بها (أُولئِكَ) أي

٤٢٥

الذين كفروا (هُمُ الْخاسِرُونَ) (٣٧) أي الكاملون في الغبن (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أبي سفيان وأصحابه أي قل يا أشرف الخلق لأجلهم : (إِنْ يَنْتَهُوا) عن الكفر وعداوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) من الذنوب قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الإسلام يجب ما قبله» (١) (وَإِنْ يَعُودُوا) إلى الكفر ومعاداة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي وإن يرتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه ويرجعوا للكفر وقتال النبي ننتقم منهم بالعذاب (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) (٣٨) أي لأنه قد سبقت سيرة الأولين الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتدمير كما جرى على أهل بدر (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) أي قاتلوا كفار أهل مكة لئلا توجد فتنة فقد خرج المسلمون إلى الحبشة وتآمرت قريش أن يفتنوا المؤمنين بمكة عن دينهم حين بايعت الأنصار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيعة العقبة ، وليكون الدين كله لله في أرض مكة وما حولها لا يعبد غيره (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الكفر وسائر المعاصي بالتوبة والإيمان (فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٣٩) أي عالم لا يخفى عليه شيء يوصل إليهم ثوابهم (وَإِنْ تَوَلَّوْا) عن التوبة والإيمان (فَاعْلَمُوا) يا معشر المؤمنين (أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ) أي حافظكم ورافع البلاء عنكم (نِعْمَ الْمَوْلى) أي الولي بالحفظ (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (٤٠) لا يغلب من نصره وكل من كان في حماية الله تعالى كان آمنا من الآفات مصونا عن المخوّفات ، والمعنى وإن تولوا عن الإيمان فلا تخشوا بأسهم لأن الله مولاكم (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) أي واعلموا يا معشر المؤمنين أن الذي أصبتموه كائنا من شيء قليلا كان أو كثيرا ، فواجب أن لله خمسه بمعنى أنه تعالى أمر بقسمته على هؤلاء الخمسة فذكر الله للتعظيم. وقوله : إن لله خمسه خبر مبتدأ محذوف أي فكون خمسه لله واجب وهذه الجملة خبر لـ «أن» (وَلِلرَّسُولِ) أما بعد وفاته فيصرف سهمه إلى مصالح المسلمين عند الشافعي. وقال أبو حنيفة : سهمه ساقط بسبب موته. وقال مالك : مفوض إلى رأي الإمام (وَلِذِي الْقُرْبى) أي ولقرابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بني هاشم وبني المطلب دون من عداهم من أغنيائهم وفقرائهم يقسم الخمس بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين ، (وَالْيَتامى) أي الذين مات آباؤهم وهم فقراء غير يتامى بني عبد المطلب (وَالْمَساكِينِ) أي ذوي الحاجة من المسلمين (وَابْنِ السَّبِيلِ) أي المحتاج في سفره ولا معصية بسفره (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الآيات والملائكة والفتح (يَوْمَ الْفُرْقانِ) أي يوم بدر سمي به لفرقه بين الحق والباطل ، وهو منصوب بـ «أنزلنا» أو بـ «آمنتم» (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) أي الفريقان من المسلمين والكافرين وهو بدل من يوم الفرقان أو منصوب بالفرقان. والمعنى إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزّل على محمد يوم بدر فاعلموا أن خمس الغنيمة مصروف إلى هذه الوجوه الخمسة فاقطعوا أطماعكم عنه واقنعوا بالأخماس الأربعة (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤١) يقدر

__________________

(١) رواه السيوطي في الدر المنثور (٣ : ١٥٤).

٤٢٦

على نصر القليل على الكثير (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) وهو بدل ثان من يوم الفرقان أي إذ أنتم كائنون في شط الوادي القربى من المدينة (وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى) أي والمشركون في شفير الوادي البعدي منها (وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أي العير التي خرجوا لها التي يقودها أبو سفيان وأصحابه كائنون بمكان أسفل منكم على ساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ) أنتم وأهل مكة على القتال (لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) أي لخالف بعضكم بعضا في الميعاد هيبة منهم لكثرتهم وقلتكم (وَلكِنْ) جمع الله بينكم على هذه الحال بغير ميعاد (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) أي ليمضي أمرا كان مفعولا في علمه وهو النصرة والغنيمة للنبي وأصحابه والهزيمة والقتل لأبي جهل وأصحابه ويكون استيلاء المؤمنين على المشركين معجزة دالة على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) وهو بدل من ليقضي أي ليموت من مات عن بينة عاينها ويعيش من يعيش عن بينة شاهدها لئلا يكون له حجة ومعذرة أو ليصدر كفر من كفر وإيمان من آمن عن وضوح بينة (وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ) لدعائكم (عَلِيمٌ) (٤٢) بحاجتكم وضعفكم فأصلح مهمكم (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ) قبل يوم بدر (قَلِيلاً) مع كثرتهم فأخبر بذلك أصحابه فقالوا : رؤيا النبي حق ، فصار بذلك تشجيعا للمؤمنين (وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ) أي ولو أراك الله المشركين كثيرا لذكرته للقوم ولو سمعوا ذلك لجبنوا (وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) أي لاختلفتم في أمر القتال ولتفرقت آراؤكم في الفرار والثبات (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) أي سلمكم من المخالفة فيما بينكم (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٤٣) أي بالخطرات التي تقع في القلوب من الصبر والجزع والجراءة والجبن ولذلك دبر ما دبر (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً) أي وإذ يبصركم أيها المؤمنون إياهم قليلا حتى قال ابن مسعود لمن في جنبه : أتراهم سبعين؟ فقال : أراهم مائة ، وهم في نفس الأمر ألف تصديقا لرؤيا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولتزداد جراءة المؤمنين عليهم (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) حتى قال أبو جهل : إنما أصحاب محمد أكلة جزور ، أي قليل يشبعهم جزور واحد ، فلا تقتلوهم واربطوهم بالحبال ، وقلل الله عدد المؤمنين في أعين المشركين قبل التحام الحرب لئلا يبالغ الكفار في تحصيل الاستعداد والحذر فيصير ذلك سببا لانكسارهم ، فلما التحم القتال أرى الكفار المسلمين مثلي الكفار ، وكانوا ألفا فرأوا المسلمين قدر ألفين ليهابوا ، وتضعف قلوبهم (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) أي ليصير سببا لاستيلاء المؤمنين عليهم (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٤٤) بالبناء للمفعول أي ترد وللفاعل أي تصير ويصرف الله الأمور كلها كيفما يريد ولا تجري على ما يظنه العبيد (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) أي إذا حاربتم جماعة من الكفرة فجدوا في المحاربة ولا تنهزموا (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) بالقلب واللسان في أثناء القتال ومن الذكر ما يقع حال القتال من التكبير (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٤٥) أي تفوزون بمرامكم من النصرة والمثوبة (وَأَطِيعُوا اللهَ

٤٢٧

وَرَسُولَهُ) في أمر القتال وغيره (وَلا تَنازَعُوا) أي لا تختلفوا في أمر الحرب (فَتَفْشَلُوا) أي فتجبنوا (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) أي شدتكم (وَاصْبِرُوا) على شدائد الحرب (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٤٦) بالنصرة والكلاءة (وَلا تَكُونُوا) في الاستكبار والفخر (كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) مكة لحماية العير (بَطَراً) أي شديد المرح (وَرِئاءَ النَّاسِ) أي ولثناء الناس عليهم بالشجاعة والسماحة ، وذلك أن قريشا خرجوا من مكة لحفظ الغير ، فلما بلغوا جحفة أتاهم رسول أبي سفيان وقال : ارجعوا إلى مكة فقد سلمت عيركم. فأبوا إلا إظهار آثار الجلادة ، وأيضا لما وردوا الجحفة بعث الحقاف الكناني إلى أبي جهل وهو صديق له بهدايا مع ابن له ، فلما أتاه قال : إن أبي يقول لك : إن شئت أن أمدك بالرجال أمددنك ، وإن شئت أن أزحف إليك بمن معي من قرابتي فعلت. فقال أبو جهل : قل لأبيك جزاك الله خيرا إن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد فو الله ما لنا بالله من طاقة ، وإن كنا نقاتل الناس فو الله إن بنا على الناس لقوة ، والله ما نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدرا فنشرب فيها الخمور وتعزف علينا القيان ، وتنحر الجزور في بدر فيقنى الناس علينا بالشجاعة والسماحة وقد بدلهم الله شرب الخمور بشرب كأس الموت ، وبدّل ضرب الجواري على نحو الدفوف بنوح النائحات ، وبدّل نحر الجزور بنحر رقابهم حيث قتل منهم سبعون وأسر سبعون.

واعلم أن النعم إذا كثرت من الله تعالى على العبد فإن صرفها إلى مرضاته تعالى وعرف أنها من الله تعالى فذاك هو الشكر ، وأما إن توسل بها إلى المفاخرة على الأقران والمغالبة بالكثرة على أهل الزمان فذاك هو البطر. (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي ويمنعون الناس من الدخول في دين الله ، وهذا معطوف على «بطرا» ، وإنما ذكر البطر والرياء بصيغة الاسم ، والصد بصيغة الفعل لأن أبا جهل ورهطه كانوا مجبولين على المفاخرة والرياء ، وأما صدّهم عن سبيل الله فإنما حصل في الزمان الذي ادعى سيدنا محمد النبوة (وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (٤٧) أي والله أعلم بما في دواخل القلوب وهذا كالتهديد عن التصنع فإن الإنسان بما أظهر من نفسه أن الحامل له إلى ذلك الفعل طلب مرضاة الله تعالى مع أنه لا يكون الأمر في الحقيقة كذلك (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) أي واذكر وقت تزيين الشيطان أعمالهم في معاداة المؤمنين وخروجهم من مكة فإن المشركين حين أرادوا المسير إلى بدر خافوا من بني بكر بن كنانة لأنهم كانوا قتلوا منهم واحدا فلم يأمنوا أن يأتوهم من ورائهم فتصور لهم إبليس بصورة سراقة بن مالك بن جعشم وهو من بني بكر بن كنانة ، وكان من أشرافهم في جند من الشياطين ومعه راية (وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ) أي لا غالب عليكم اليوم من بني كنانة ومن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه (وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) أي حافظكم من مضرتهم (فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ) أي التقى الجمعان جمع المؤمنين وجمع الكافرين بحيث رأت كل واحدة الأخرى ، ورأى إبليس نزول الملائكة من السماء (نَكَصَ عَلى

٤٢٨

عَقِبَيْهِ) أي رجع إلى خلفه هاربا (وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ) فكان إبليس في صف المشركين وهو آخذ بيد الحارث بن هشام فقال له الحارث : إلى أين تترك نصرتنا في هذه الحالة؟ قال إبليس : (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) وأرى جبريل بين يدي النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي يده اللجام يقود الفرس ولم تروه ، ودفع إبليس في صدر الحارث و (إِنِّي أَخافُ اللهَ) أن يهلكني بتسليط الملائكة عليّ. وقيل : لما رأى إبليس الملائكة ينزلون من السماء خاف أن يكون الوقت الذي أنظر إليه قد حضر ، فقال ما قال إشفاقا على نفسه (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٤٨) قاله الشيطان بسطا لعذره ، وحينئذ فهو تعليل أو مستأنف من محض كلامه تعالى تهديدا لإبليس (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) وهم قوم من الأوس والخزرج (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شك وهم قوم من قريش أسلموا ولم يقو إسلامهم في قلوبهم ولم يهاجروا منهم : عتبة بن ربيعة ، وقيس بن الوليد ، وأبو قيس الفاكه ، والحارث بن زمعة ، وعدي بن أمية ، والعاص بن منبه ، والعامل في «إذ زيّن» أو اذكر مقدرا (غَرَّ هؤُلاءِ) أي محمدا وأصحابه (دِينُهُمْ) فإنهم خرجوا وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر يقاتلون ألف رجل وما ذاك إلا أنهم اعتمدوا على دينهم. وقال هؤلاء : لما خرج قريش لحرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نخرج مع قومنا فإن كان محمد في كثرة خرجنا إليه ، وإن كان في قلة أقمنا في قومنا ، فلما خرجوا مع قريش ورأوا قلة المسلمين وكثرة الكفّار رجعوا للكفر وقالوا ذلك القول ، وقتلوا جميعا مع المشركين يوم بدر ولم يحضر منافق في بدر مع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا واحد وهو عبد الله بن أبي (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٤٩) أي ومن يعول على إحسان الله ويثق بفضله ويسلم أمره إلى الله فإن الله حافظه وناصره ، لأنه عزيز لا يغلبه شيء ، حكيم يوصل العذاب إلى أعدائه والرحمة إلى أوليائه (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) أي ولو رأيت يا أشرف الخلق الكفرة حين يتوفاهم الملائكة في بدر (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) ويقولون لهم : (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (٥٠) أي النار لأنه كان مع الملائكة مقامع ، وكلما ضربوا بها التهبت النار منها في الأجزاء. وجواب «لو» محذوف أي لرأيت أمرا فظيعا لا يكاد يوصف. (ذلِكَ) العذاب (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) أي بسبب ما عملت أيديكم من الكفر والمعاصي (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٥١) أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من جهتهم (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي عادة كفار قريش فيما فعلوه من الكفر ، وما فعل بهم من العذاب كعادة آل فرعون وقوم ونوح وعاد وأضرابهم من الكفر والعناد في ذلك (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) أي أنكروا الدلائل الإلهية ، وهذه الجملة تفسير لدأب كفار قريش (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) أي بسبب ذنوبهم (إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) بالأخذ (شَدِيدُ الْعِقابِ) (٥٢) أي إذا عاقب (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) أي تعذيب الكفرة بما قدمت أيديهم بسبب أن الله لم يكن مغيرا نعمة أنعم بها عليهم ـ كالعقل وإزالة الموانع ـ حتى يغيروا أحوالهم ، فإذا صرفوا تلك النعمة إلى الفسق

٤٢٩

والكفر فقد غيروا نعمة الله تعالى على أنفسهم فاستحقوا تبديل النعم بالنقم والمنح بالمحن (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٥٣) أي وبسبب أنه تعال يسمع ويعلم جميع ما يأتون وما يذرون (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي حتى يغيروا ما بأنفسهم تغييرا كائنا كتغيير الأمم الماضية (كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) أي كذب آل فرعون ومن قبلهم بأنه تعالى رباهم وأنعم عليهم فأنكروا دلائل التربية والإحسان مع كثرتها وتواليها عليهم كما كذب أهل مكة ذلك (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) أي أهلكنا بعضهم بالرجفة وبعضهم بالخسف ، وبعضهم بالحجارة ، وبعضهم بالريح ، وبعضهم بالمسخ كذلك أهلكنا كفار قريش بالسيف (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) (٥٤) أي وكل من الفرق المكذبة كانوا ظالمين لأنفسهم بالكفر والمعصية ، ولأنبيائهم بالتكذيب ، ولسائر الناس بالإيذاء والإيحاش ، فالله تعالى إنما أهلكهم بسبب ظلمهم. اللهم أهلك الظالمين وطهر وجه الأرض منهم ، فلا يقدر أحد على دفعهم إلا أنت فادفع يا قهار يا جبار يا منتقم (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٥٥) أي إن شر الخلق في حكم الله وعلمه الذين أصروا على الكفر فهم لا يرجى منهم إيمان (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) أي من مرات المعاهدة.

قال ابن عباس : هم قريظة ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عاهد يهود بني قريظة أن لا يحاربوه ولا يعاونوا عليه فنقضوا العهد وأعانوا عليه مشركي مكة بالسلاح في يوم بدر ، ثم قالوا : نسينا وأخطأنا ، ثم عاهدهم مرة ثانية فنقضوا العهد أيضا ، وساعدوا معهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الخندق ، وانطلق كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم على محاربة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) (٥٦) عن نقض العهد (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (٥٧) أي إن تظفرن بهؤلاء الكفار الذين ينقضون العهد في أثناء الحرب فافعل بهم فعلا من القتل والتعذيب يفرق بسببهم من خلفهم من أهل مكة واليمن أي إذا فعلت بقريظة العقوبة فرقت شمل قريش إذ يخافون منك أن تفعل بهم مثل ما فعلت بحلفائهم ـ وهم قريظة ـ فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يفرقهم في ذلك الوقت تفريقا عنيفا موجبا للاضطراب (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) أي وإن تعلمن من قوم من المعاهدين نقض عهد بأمارات ظاهرة فاطرح إليهم عهدهم على طريق ظاهر مستو ، بأن تعلمهم قبل حربك إياهم أنك قطعت ما بينك وبينهم من الوصلة حتى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد سواء ، ولا تبادرهم الحرب وهم على توهّم بقاء العهد فيكون ذلك خيانة منك (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) (٥٨) في العهود. والحاصل إن ظهرت الخيانة بأمارات ظاهرة من غير أمر مستفيض وجب على الإمام أن ينبذ إليهم العهد ويعلمهم الحرب ، وذلك كما في قريظة فإنهم عاهدوا النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وأما إذا ظهر نقض العهد ظهورا مقطوعا به فلا حاجة للإمام إلى نبذ العهد

٤٣٠

وإعلامهم بالحرب بل يفعل كما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأهل مكة فإنهم لما نقضوا العهد بقتل خزاعة وهم في ذمة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصل إليهم جيش النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمر الظهران وذلك على أربع فراسخ من مكة (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا).

قرأ ابن عامر وحفص عن عاصم بالياء التحتية ، أي ولا يحسبنّ الذين كفروا من قريش أنفسهم فاتوا من عذابنا بهر بهم يوم بدر. وقرأ الباقون بالتاء الفوقانية على مخاطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي ولا تحسبن يا أشرف الخلق الذين كفروا الذين خلصوا منك في بدر فائتين من عذابنا (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) (٥٩) أي إنهم بهذا الفرار لا يعجزون الله من الانتقام منهم إما بالقتل في الدنيا ، وإما بعذاب النار في الآخرة. وقرأ ابن عامر «أنهم» بفتح الهمزة على التعليل (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ). قيل : إنه لما اتفق لأصحاب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قصة بدر أنهم قصدوا الكفار بلا آلة أمرهم الله تعالى أن لا يعودوا لمثله فقال : (وَأَعِدُّوا) إلخ أي هيئوا لحرب الكفار ما استطعتم من كل ما يتقوى به في الحرب من كل ما هو آلة للجهاد ومن الخيل المربوط سواء كان من الفحول أو من الإناث.

وروي أنه كانت الصحابة يستحبون ذكور الخيل عند الصفوف وإناث الخيل عند البيات والغارات (تُرْهِبُونَ بِهِ) أي بذلك الإعداد. وقرئ تخزون (عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) وهم كفار مكة (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) أي من غير كفار مكة من الكفرة (لا تَعْلَمُونَهُمُ) على ما هم عليه من العداوة. أي فإن تكثير آلات الجهاد كما يرهب الأعداء الذين نعلم كونهم أعداء كذلك يرهب الأعداء الذين لا نعلم أنهم أعداء ، سواء كانوا مسلمين أو كفارا (اللهُ يَعْلَمُهُمْ) لا غيره. (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ) قل أو جل (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في طاعة الله في الجهاد وفي سائر وجوه الخيرات (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) أي لا يضيع الله في الآخرة أجره ويعجل عوضه في الدنيا (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (٦٠) أي لا تنقصون من الأجر (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) أي وإن مال الكفار للصلح بوقوع الرهبة في قلوبهم بمشاهدة ما بكم من الاستعداد فاقبله. وقرأ أبو بكر عن عاصم «للسلم» بكسر السين. وقرئ «فاجنح» بضم النون. (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي فوّض الأمر فيما عقدته معهم إلى الله ليكون عونا لك على السلام ، ولكي ينصرك عليهم إذا نقضوا العهد (إِنَّهُ) تعالى : (هُوَ السَّمِيعُ) لما يقولون في خلواتهم من مقالات الخداع ، (الْعَلِيمُ) (٦١) بنياتهم فيؤاخذهم بما يستحقونه ويرد كيدهم في نحرهم (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) أي وإن يريدوا الكفار بإظهار الصلح خديعتك لتكف عنهم فاعلم أن الله كافيك من شرورهم وناصرك عليهم (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ) أي قواك ببصره في سائر أيامك (وَبِالْمُؤْمِنِينَ) (٦٢) من المهاجرين والأنصار (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) أي إن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إلى

٤٣١

قوم تكبرهم شديد حتى لو لطم رجل من قبيلة لطمة قاتل عنه قبيلته حتى يدركوا ثاره ثم إنهم انقلبوا عن تلك الحالة حتى قاتل الرجل أخاه وأباه وابنه ، واتفقوا على الطاعة وصاروا أنصارا. وأيضا كانت الخصومة بين الأوس والخزرج شديدة ، والمحاربة دائمة ، ثم زالت الضغائن وحصلت الألفة ـ فإزالة تلك العداوة الشديدة وتبديلها بالمحبة القوية مما لا يقدر عليها إلا الله تعالى ـ وصارت تلك معجزة ظاهرة على صدق نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (إِنَّهُ) تعالى (عَزِيزٌ) أي قاهر يقلب القلوب من العداوة إلى الصداقة (حَكِيمٌ) (٦٣) أي يفعل ما يفعله مطابقا للمصلحة (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٦٤) أي كفاك الله وكفى أتباعك ناصرا. أو المعنى كفاك الله والمؤمنون. وهذه الآية نزلت في البيداء في غزوة بدر قبل القتال ، فالمراد بالمؤمنين هنا أهل غزوة بدر وهم المهاجرون والأنصار.

وقيل : نزلت في إسلام عمر بن الخطاب. قال سعيد بن جبير : أسلم مع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة ، ثم أسلم عمر رضي‌الله‌عنه فنزلت هذه الآية ، فعلى هذا القول تكون الآية مكية كتبت في سورة مدنية بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) أي بالغ في حثّهم عليه (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) أي إن يكن منكم عشرون فليصبروا وليجتهدوا في القتال حتى يغلبوا مائتين (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وإنما وجب هذا الحكم عند حصول هذه الشروط : منها : أن يكون المؤمن شديد الأعضاء قويا جلدا. ومنها : أن يكون قوي القلب شديد البأس ، شجاعا غير جبان. ومنها : أن يكون غير متحرف لقتال أو متحيزا إلى فئة ، فعند حصول هذه الشروط وجب على الواحد أن يثبت للعشرة (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (٦٥) متعلق بيغلبوا في الموضعين أي بسبب أنهم قوم جهلة بالله تعالى وباليوم الآخر لا يقاتلون امتثالا لأمر الله تعالى وإعلاء لكلمته وابتغاء لمرضاته ، وإنما يقاتلون للحمية الجاهلية ، وإثارة العدوان. وهم يعتمدون على قوتهم ، والمسلمون يستعينون بربهم بالتضرع ومن كان كذلك كان النصر أليق به (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) في البدن أو في معرفة القتال لا في الدين (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ) أي بإرادته. وهذه الآية دلت على أن ذلك الشرط مفقود في حق هذه الجماعة فلم يثبت ذلك الحكم. وعلى هذا التقدير لم يحصل النسخ ألبتة ، فقد أنكر أبو مسلم الأصفهاني النسخ. (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٦٦) أي إن العشرين إن قدروا على مصابرة المائتين بقي ذلك الحكم ، وإن لم يقدروا على مصابرتهم ، فالحكم المذكور هناك زائل ، وهذا يدل على صحة مذهب أبي مسلم (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) أي ما ينبغي لنبي أن يكون له أسرى من الكفار حتى يقوى ويغلب بل اللائق قتلهم (تُرِيدُونَ) أيها المؤمنون (عَرَضَ الدُّنْيا) أي متاع الدنيا الذي هو الفداء (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) أي إنما يرضى الله ما يفضي إلى

٤٣٢

السعادات الأخروية المصونة عن الزوال (وَاللهُ عَزِيزٌ) يغلب أولياءه على أعدائه (حَكِيمٌ) (٦٧) يعلم ما يليق بكل حال كما أمر بالأثخان ، ونهى عن أخذ الفداء حين كانت الشوكة للمشركين ، وخير بين أخذ الفداء وبين المن لما تحولت الحال وصارت الغلبة للمؤمنين (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٦٨) أي لو لا أنه تعالى حكم في الأزل بالعفو عن هذه الواقعة لأصابكم بسبب ما أخذتم من الفداء عذاب شديد (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) أي قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم حال كونه حلالا مستلذا.

روي أنهم أمسكوا عن الغنائم في بدر ولم يمدوا أيديهم إليها ، فنزلت هذه الآية. (وَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفة أمره ونهيه في المستقبل (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦٩) في الحالة الماضية من استباحة الفداء قبل ورود الإذن من الله تعالى فيه (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى).

قرأ أبو عمرو «من الأسارى» بضم الهمزة وفتح السين بعدها ألف ، وبالإمالة ، أي من الذين أسرتموهم وأخذتم منهم الفداء (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) أي إيمانا وعزما على طاعة الله ورسوله في جميع التكاليف وتوبة عن الكفر وجميع المعاصي (يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) من الفداء (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ما سلف منكم قبل الإيمان (وَاللهُ غَفُورٌ) لمن آمن وتاب من كفره ومعاصيه (رَحِيمٌ) (٧٠) بأهل طاعته.

روي أن العباس كان أسيرا يوم بدر ومعه عشرون أوقية من الذهب أخرجها ليطعم الناس فكان أحد العشرة الذين ضمنوا الطعام لمن خرجوا من مكة إلى بدر فلم تبلغه التوبة حتى أسر ، وأخذ ذلك العشرون منه فقال العباس : كنت مسلما إلا أنهم أكرموني فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن يكن ما تذكره حقا فالله يجزيك ، فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا». قال العباس : فكلمت رسول الله أن يرد ذلك الذهب عليّ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما شيء خرجت به تستعين به علينا فلا». قال العباس : وكلفني الرسول فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية ، وفداء نوفل بن الحارث فقال العباس : يا محمد تتركني أتكفف قريشا ما بقيت؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها : ما أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حادث فهذا المال لك ولعبد الله ، ولعبيد الله ، والفضل ، وقثم». وما يدريك يا ابن أخي؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أخبرني به ربي» (١). قال العباس : أنا أشهد أنك صادق وأشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله ، والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ولقد دفعته إليها في سواد الليل ، ولقد كنت مرتابا في

__________________

(١) رواه الطبري في التفسير (٩ : ١٢٤) ، وابن كثير في التفسير (٣ : ٥٥٧) ، والبيهقي في دلائل النبوة (٣ : ٣٤) ، وابن كثير في البداية والنهاية (٣ : ٢٦٢).

٤٣٣

أمرك ، فأما إذ أخبرتني بذلك فلا ريب وأمر ابني أخيه عقيلا ونوفل بن الحارث فأسلما ، قال العباس : فأبدلني الله خيرا مما أخذ مني ، ولي الآن عشرون عبدا كلهم تاجر يضرب بمال كثير أدناهم يضرب بعشرين ألفا وأعطاني زمزم وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربي.

وروي أنه قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مال البحرين ثمانون ألفا ، فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه ، وأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ منه ما قدر على حمله ، وكان يقول : هذا خير مما أخذ مني وأنا أرجو المغفرة (وَإِنْ يُرِيدُوا) أي الأسرى (خِيانَتَكَ) أي بنقض العهد ، فاعلم أنه سيمكّنك منهم فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلما أطلقهم من الأسر عهد معهم أن لا يعودوا إلى محاربته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإلى معاهدة المشركين بالعون عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ) أي من (قَبْلُ) هذا بما أقدموا عليه من محاربة الرسول يوم بدر (فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) أي أقدر المؤمنين عليهم قتلا وأسرا في بدر (وَاللهُ عَلِيمٌ) أي ببواطنهم (حَكِيمٌ) (٧١) يفعل كل ما يفعله حسبما تقتضيه حكمته البالغة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بمحمد والقرآن (وَهاجَرُوا) من مكة إلى المدينة حبا لله تعالى ولرسوله (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ) بأن صرفوها إلى السلاح وأنفقوها على المحاويج (وَأَنْفُسِهِمْ) بمباشرة القتال ، وبالخوض في المهالك (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في طاعة الله (وَالَّذِينَ آوَوْا) أي أنزلوا المهاجرين منازلهم (وَنَصَرُوا) لهم على أعدائهم يوم بدر (أُولئِكَ) أي الموصوفون بما ذكر (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي يكونون يدا واحدة على الأعداء ويكون حب كل واحد للآخر جاريا مجرى حبه لنفسه (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بمحمد والقرآن (وَلَمْ يُهاجِرُوا) من مكة إلى المدينة (ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ) أي من تعظيمهم (مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) فلو هاجروا لحصل الإكرام والإجلال.

وقرأ حمزة «من ولايتهم» بكسر الواو. والباقون بالفتح (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) أي إن قطع التعظيم بين تلك الطائفة ليس كما في حق الكفار بل هؤلاء لو استعانوكم في الدين على المشركين فواجب عليكم أن تعاونوهم عليهم إلا على قوم منهم بينكم معاهدة فإنه لا يجوز لكم نقض عهدهم بنصرهم عليهم إذ الميثاق مانع من ذلك (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٧٢) فلا تخالفوا أمره كي لا يحل بكم عقابه (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي في النصرة فإن كفار قريش كانوا في غاية العداوة لليهود فلما ظهرت دعوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعاونوا على إيذائه ومحاربته والمشركون واليهود والنصارى لما اشتركوا في عداوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم صارت هذه الجهة سببا لانضمام بعضهم إلى بعض وقرب بعضهم من بعض. وتلك العداوة لمحض الحسد لا لأجل الدين ، لأن كل واحد منهم كان في نهاية الإنكار لدين صاحبه (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) (٧٣) أي إن لم تفعلوا ما أمرتكم به من التواصل

٤٣٤

بين المسلمين ومن قطع المحبة بينهم وبين الكفار تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة فإن المسلمين لو اختلطوا بالكفار في زمان ضعف المسلمين وقلة عددهم وزمان قوة الكفار وكثرة عددهم ، فربما صارت تلك المخالطة سببا لالتحاق المسلم بالكفار ، وأن المسلمين لو كانوا متفرقين لم يظهر منهم جمع عظيم فيصير ذلك سببا لجراءة الكفار عليهم (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) فالله تعالى ذكرهم أولا لتبيين حكمهم وهو إكرام بعضهم بعضا ، ثم ذكرهم ها هنا لبيان تعظيم شأنهم وعلو درجتهم ، وأثنى عليهم من ثلاثة أوجه وهي : وصفهم بكونهم محقين محققين في طريق الدين لأن من لم يكن محقا في دينه لم يفارق الأهل والوطن ولم يبذل النفس والمال ، ولم يكن في هذه الأحوال من المتسارعين (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) تامة عن جميع الذنوب والتبعات (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٧٤) ثواب حسن في الجنة (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ) أي بعد الهجرة الأولى وهؤلاء هم التابعون بإحسان (وَهاجَرُوا) من مكة إلى المدينة بعد المهاجرين الأولين (وَجاهَدُوا مَعَكُمْ) في بعض مغازيكم (فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) أي من جملتكم أيها المهاجرون والأنصار في السر والعلانية (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) أي ذوو القرابات (بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) آخر منهم في التوارث من الأجانب (فِي كِتابِ اللهِ) أي في حكم الله الذي بينه في كتابه بالسهام المذكورة في سورة النساء (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٧٥) فالعالم بجميع المعلومات لا يحكم إلا بالصواب.

٤٣٥

سورة التوبة

مدنية ، وقد قيل : إلا الآيتين آخرها فإنهما مكيتان ، مائة وتسع وعشرون آية ، ألفان

وخمسمائة وست كلمات ، أحد عشر ألفا ومائة وخمسة عشر حرفا. والصحيح أن

التسمية لم تكتب لأن جبريل عليه‌السلام ما نزل بها في هذه السورة. قاله القشيري

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١) أي هذه براءة من جهة الله تعالى ورسوله واصلة إلى الذين عاهدتم من المشركين ، فإن الله قد أذن في معاهدة المشركين فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعاهدهم. ثم إن المشركين نقضوا العهد فأوجب الله النبذ إليهم ، فخوطب المسلمون بما يحذرهم من ذلك. وقيل : اعلموا أن الله ورسوله قد برئا مما عاهدتم من المشركين (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) أي سيروا أيها المشركون كيف شئتم آمنين من القتل والقتال في هذه المدة من يوم النحر.

روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد أن يحج سنة تسع فقيل له : المشركون يحضرون ويطوفون بالبيت عراة فقال : «لا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك» فبعث أبا بكر تلك السنة أميرا على الموسم ليقيم للناس الحج ، وبعث معه أربعين آية من صدر براءة ، ليقرأها على أهل الموسم ، ثم بعث بعده عليا على ناقته العضباء ليقرأ على الناس صدر براءة وأمره أن يؤذن بمكة ومنى وعرفة أن قد برئت ذمة الله وذمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كل شرك ، ولا يطوف بالبيت عريان. فسار أبو بكر أميرا على الحاج ، وعلي ابن أبي طالب يؤذن ببراءة ، فلما كان قبل يوم التروية بيوم قام أبو بكر رضي‌الله‌عنه فخطب الناس وحدّثهم عن مناسكهم ، وأقام للناس الحج والعرب في تلك السنة على معاهدهم التي كانوا عليها في الجاهلية من أمر الحج ، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه فأذّن في الناس بالذي أمر به ، وقرأ عليهم أول سورة براءة وقال علي : بعثت بأربع : لا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد فهو إلى مدته ، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، ولا يجتمع المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا في الحج. فقال المشركون لعلي عند ذلك : أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء

٤٣٦

ظهورنا وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف. ثم حج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سنة عشر حجة الوداع (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) أي واعلموا يا معشر الكفار أن هذا الإمهال ليس لعجز بل للطف ليتوب من تاب ، أي اعلموا أني أمهلتكم وأطلقت لكم فافعلوا كل ما أمكنكم فعله من إعداد الآلات وتحصيل الأسباب فإنكم لا تعجزون الله بل الله يعجزكم (وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) (٢) أي مذلهم في الدنيا بالقتل والأسر وفي الآخرة بالعذاب (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ) أي وهذا إعلام صادر من الله ورسوله ، واصل إلى الناس (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) وهو يوم العيد ، لأن فيه تمام معظم أفعال الحج ، ولأن الإعلام كان فيه ، (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الناقضين للعهد (وَرَسُولِهِ) بالرفع باتفاق السبعة فهو معطوف على الضمير المستتر في برىء (فَإِنْ تُبْتُمْ) من الشرك (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي فالتوب خير لكم في الدارين لا شر (وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي أعرضتم عن المتاب من الشرك (فَاعْلَمُوا) يا معشر المشركين (أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) أي غير فائتين من عذاب الله فإن الله قادر على إنزال أشد العذاب بهم (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣) أي أخبرهم بالقتل بعد أربعة أشهر ، فالبشارة على سبيل الاستهزاء كما يقال : إكرامهم الشتم وتحيتهم الضرب (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) من شروط الميثاق ولم يضروكم قط.

وقرئ بالضاد المعجمة أي لم ينقضوا عهدكم شيئا من النقض (وَلَمْ يُظاهِرُوا) أي لم يعاونوا (عَلَيْكُمْ أَحَداً) من أعدائكم (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) إلى وقت أجلهم تسعة. أشهر والمعنى لا تمهلوا الناكثين للعهد فوق أربعة أشهر لكن الذين عاهدتموهم ثم لم ينكثوا عهدهم فلا تجروهم مجرى الناكثين في المسارعة إلى قتالهم بل أتموا إليهم عهدهم ، ولا تجعلوا الوافين كالغادرين ، وهم بنو ضمرة ، حي من كنانة أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإتمام عهدهم إلى مدتهم ، وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشهر فإنهم ما غدروا من هذين الوجهين (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (٤) عن نقض العهد فإن مراعاة حقوق العهد من باب التقوى ، وأن التسوية بين الوافي والغادر منافية لذلك وإن كان المعاهد مشركا (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) أي فإذا خرج الأشهر التي حرم الله القتل والقتال فيها وهي من يوم النحر إلى العاشر من ربيع الآخر (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) الناكثين خاصة (حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) أي في حل أو حرم أو في شهر حرام أو غيره (وَخُذُوهُمْ) أي وأسروهم (وَاحْصُرُوهُمْ) أي امنعوهم من إتيان المسجد الحرام ، ومن التقلب في البلاد (وَاقْعُدُوا لَهُمْ) أي لأجلهم خاصة (كُلَّ مَرْصَدٍ) أي في كل ممر يسلكونه لئلا ينبسطوا في البلاد (فَإِنْ تابُوا) من الشرك آمنوا بالله (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي أقروا بالصلوات الخمس (وَآتَوُا الزَّكاةَ) أي أقروا بأداء الزكاة (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) أي فاتركوهم ولا تتعرضوا بشيء مما ذكر (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥) لمن تاب من الكفر والغدر (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) أي وإن

٤٣٧

سألك أحد من المشركين الذين أمرت بقتالهم أن تؤمنه بعد انقضاء مدة السياحة فأمنه حتى يسمع قراءتك لكلام الله ويطلع على حقيقة ما تدعو إليه.

ونقل عن ابن عباس أنه قال : إن رجلا من المشركين قال لعلي بن أبي طالب : إن أردنا أن نأتي الرسول بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله أو لحاجة أخرى فهل نقتل؟ فقال علي : لا ، فإن الله تعالى قال : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) أي ثم أوصله إلى ديار قومه التي يأمنون فيها على أنفسهم وأموالهم ، ثم بعد ذلك يجوز قتالهم وقتلهم (ذلِكَ) أي إعطاء الأمان (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) (٦) أي بسبب أنهم قوم لا يفقهون ما الإيمان وما حقيقة ما تدعوهم إليه ، فلا بد من إعطاء الأمان حتى يفهموا الحق ولا يبقى معهم معذرة أصلا (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) أي لا ينبغي أن يبقى للمشركين عهد عند الله وعند رسوله وهم ينقضون العهد. (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي لكن الذين عاهدتم من المشركين عند قرب أرض الحرم يوم الحديبية وهم المستثنون من قبل هذا الاستثناء فقد استثنوا في قوله تعالى سابقا : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) إلخ ـ وهم بنو كنانة وبنو ضمرة ـ فتربصوا أمرهم ولا تقتلوهم (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) أي فأيّ زمان استقاموا لكم على العهد فاستقيموا لهم على مثله. أو المعنى فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (٧) عن نقض العهد وقد استقام صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عهدهم حتى نقضوه بإعانتهم بني بكر وهم كنانة حلفاؤهم على خزاعة حلفائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

روي أنه عدت بنو بكر على بني خزاعة في حال غيبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعاونتهم قريش بالسلاح حتى وفد عمرو بن سالم الخزاعي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنشده :

لا همّ إني ناشد محمدا

 

حلف أبينا وأبيك ألا تلدا

إن قريشا أخلفوك الموعدا

 

و نقضوا ذمامك المؤكدا

هم بيتونا بالحطيم هجدا

 

و قتلونا ركعا وسجدا

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا نصرت إن لم أنصركم» (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) أي وحالهم أنهم إن يقدروا عليكم (لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ) أي لا يحفظوا فيكم (إِلًّا) أي قرابة (وَلا ذِمَّةً) أي عهدا. والمعنى كيف لا تقتلوهم وهم إن يغلبوكم لا يحفظوا في شأنكم قرابة ولا ضمانا بل يؤذوكم ما استطاعوا (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ) أي تنكر قلوبهم ما يفيد كلامهم ، أي فإنهم يقولون بألسنتهم كلاما حلوا طيبا والذي في قلوبهم بخلاف ذلك فإنهم لا يضمرون إلا الشر والإيذاء إن قدروا عليه (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) (٨) أي ناقضون للعهد مذمومون عند جميع الناس وفي جميع

٤٣٨

الأديان (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أي تركوا آيات الله الآمرة بالاستقامة في كل أمر وأخذوا بدلها شيئا يسيرا من الدنيا لأجل تحصيل الشهوات ، وذلك أن أبا سفيان بن حرب أطعم حلفاءه وترك حلفاء النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحملتهم تلك الأكلة على نقض العهد فنقضوا العهد الذي كان بينهم بسبب تلك الأكلة (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) أي عن دينه أو عن سبيل البيت الحرام حيث كانوا يصدون الحجاج والعمار عنه (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩) أي ساءهم الذي كانوا يعملونه ما مضى من صدهم عن سبيل الله وما معه (لا يَرْقُبُونَ) أي لا يحفظون (فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا) أي قرابة (وَلا ذِمَّةً) كرر ذلك مع إبدال الضمير بـ «مؤمن» ، لأن الأول وقع جوابا لقوله تعالى : (وَإِنْ يَظْهَرُوا) ، والثاني وقع خبرا عن تقبيح حالهم ، أو هذا خاص بالذين اشتروا والذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم وأشباههم من اليهود وغيرهم. (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) (١٠) أي المجاوزون في الظلم والشرارة (فَإِنْ تابُوا) من مساوي أعمالهم (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) أي أقروا بحكمهما وعزموا على إقامتهما (فَإِخْوانُكُمْ) أي فهم إخوانكم (فِي الدِّينِ) أي لهم ما لكم وعليهم ما عليكم ، فعاملوهم معاملة الإخوان (وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (١١) أي نبين الآيات لقوم يعلمون ما فيها من الأحكام (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) أي عهودهم التي بينكم وبينهم (مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ) أي لا يقاتلوكم ولا يظاهروا عليكم أحدا من أعدائكم (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) أي عابوا دينكم بالتكذيب وتقبيح الأحكام (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) أي قاتلوا الكفار بأسرهم فإنهم صاروا بذلك ذوي تقدم في الكفر ، أحقاء بالقتل والقتال (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) أي إنهم لا عهود لهم على الحقيقة لأنهم لا يعدون نقضها محذورا وهم لما لم يفوا بها صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان وإن أجروها على ألسنتهم.

وقرأ ابن عامر «لا إيمان لهم» بكسر الهمزة أي لا تعطوهم أمانا بعد ذلك أبدا ، فيكون «الإيمان» مصدرا بمعنى إعطاء الأمان ، فهو ضد الإخافة (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) (١٢) أي ليكن غرضكم في مقاتلتهم سببا في انتهائهم عمّا هم عليه من الكفر والطعن في دينكم والمعاونة عليكم (أَلا) أي هلا (تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) بعد عهد الحديبية بإعانة بني بكر على خزاعة (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) أي بإخراجه من مكة لكن لم يخرجوه بل خرج باختياره بإذن الله في الهجرة ، أو من المدينة لقصد قتله (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) بالقتال يوم بدر لأنهم حين سلم العير قالوا : لا ننصرف حتى نستأصل محمدا ومن معه ، أو بدءوا بقتال خزاعة حلفاء النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن إعانة بني بكر عليهم بالسلاح قتال معهم ، فالإعانة على القتال تسمى قتالا. (أَتَخْشَوْنَهُمْ) أي أتخافون أيها المؤمنون أن ينالكم منهم مكروه حتى تتركوا قتالهم؟ (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ) في ترك أمره (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٣). ودلت هذه الآية على أن المؤمن ينبغي أن يخشى ربه وأن لا يخشى أحدا سواه (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) بالقتل تارة ، والأسر ،

٤٣٩

أخرى واغتنام الأموال ثالثا (وَيُخْزِهِمْ) حيث شاهدوا أنفسهم مقهورين في أيدي المؤمنين ذليلين (وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) أي يجعلكم جميعا غالبين عليهم أجمعين فإنكم تنتفعون بهذا النصر (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) (١٤) ممن لم يشهد القتال وهم خزاعة : بطون من اليمن ، وسبأ قدموا مكة فأسلموا فلقوا من أهلها أذى كثيرا فبعثوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشكون إليه ، فقال : «أبشروا فإن الفرج قريب» وكان شفاء صدورهم من زحمة الانتظار فإنه الموت الأحمر (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) من بني بكر فإن من طال تأذيه من خصمه ، ثمّ مكّنه الله منه على أحسن الوجوه كان سروره أعظم (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) من بعض أهل مكة كأبي سفيان بن حرب ، وعكرمة بن أبي جهل ، وسهيل بن عمرو فهم أسلموا يوم فتح مكة وحسن إسلامهم (وَاللهُ عَلِيمٌ) بكل ما يفعل في ملكه (حَكِيمٌ) (١٥) أي مصيب في أفعاله وأحكامه (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) أي بل أحسبتم أن يترككم الله بدون تكليفكم بالقتال الذي سئمتموه. والحال أنه لم يصدر الجهاد عنكم خاليا عن النفاق والرياء والتودد إلى الكفار وإبطال ما يخالف طريقة الدين. والمقصود من هذه الآية بيان أن المكلف في هذه الواقعة لا يتخلص عن العتاب إلا عند حصول أمرين :

الأول : أن يصدر الجهاد عنهم.

الثاني : أن يأتي بالجهاد مع الإخلاص. فإن المجاهد قد يجاهد وباطنه خلاف ظاهره ، وهو الذي يتخذ الوليجة من دون الله ورسوله والمؤمنين المخلصين ، أي وهو الذي يطلع الكافر على الأسرار الخفية. والمقصود بيان أنه ليس الغرض من إيجاب القتال نفس القتال فقط بل الغرض أن يؤتى به انقياد الأمر الله تعالى وحكمه ليظهر به بذل النفس والمال في طلب رضوان الله تعالى فحينئذ يحصل به الانتفاع (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٦) من موالاة المشركين وغيرها فيجازيكم عليه فيجب على الإنسان أن يبالغ في أمر النية ورعاية القلب (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) أي ما صحّ للمشركين أن يعمروا المسجد الحرام بدخوله والقعود فيه وخدمته.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «مسجد الله» على الواحد. والباقون «مساجد» على الجمع وإنما جمع المسجد الحرام لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها ، ثم شهادتهم على أنفسهم بالكفر أنهم أقروا بعبادة الأوثان وتكذيب القرآن وإنكار نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن أبوا أن يقولوا نحن كفار (أُولئِكَ) الذين يدعون عمارة المسجد الحرام وما يضاهيها من أعمال البر مع ما بهم من الكفر (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) التي يفتخرون بها بما قارنها من الكفر فصارت هباء منثورا (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) (١٧) لكفرهم.

٤٤٠