مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

والخبيث حرام» (١). (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) أي يخفف عنهم ثقلهم ، والشدائد التي كانت في عباداتهم : كقطع أثر البول من الجلد والثوب ، وإحراق الغنائم وتحريم السبي ، وقتل النفس في التوبة ، وتعيين القصاص في العمد والخطأ ، وقطع الأعضاء الخاطئة. وعن عطاء : كانت بنو إسرائيل إذا قاموا إلى الصلاة لبسوا المسوح ، وغلوا أيديهم إلى أعناقهم تواضعا لله تعالى. فعلى هذا القول الأغلال غير مستعارة ، أي وكانت هذه الأثقال في شريعة موسى عليه‌السلام فلما جاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نسخ ذلك كله ، ويدل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت بالحنيفية السهلة السمحة» (٢). وقرأ ابن عامر وحده آصارهم على الجمع (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ) أي بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اليهود كعبد الله بن سلام وأصحابه (وَعَزَّرُوهُ) أي أعانوه بمنع أعدائه منه (وَنَصَرُوهُ) أي على أعدائه في الدين بالسيف (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) أي واتبعوا القرآن الذي أنزل مع نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن نبوته ظهرت مع ظهور القرآن وعبر عنه بالنور الدال على كونه مظهرا للحقائق (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١٥٧) أي الفائزون بالمطلوب في الدنيا والآخرة والناجون من السخط والعذاب لا غيرهم من الأمم (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الذي (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ).

واعلم أن هذه الدعوى ـ وهي دعوى رسول الله ـ لا تظهر فائدتها إلا بتقرير أصول ثلاثة :

أولها : إثبات أن للعالم إلها حيا عالما قادرا ، والذي يدل عليه ما في قوله تعالى : (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [البروج : ٩] لأنه بتقدير عدم حصول مؤثر للعالم في وجوده ، أو بتقدير كون المؤثر موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار لم يصح القول ببعثة الأنبياء عليهم‌السلام.

وثانيها : إثبات أن إله العالم واحد منزه عن الشريك والضد والند وإليه الإشارة بقوله تعالى (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ، لأنه إذا لم يثبت كون الإله تعالى واحدا لم يكن إرسال الرسل ، وإنزال الكتب جائزا لأنه بتقدير كون إلهين للعالم يجوز أن يكون الإنسان الذي يدعوه رسول أحدهما مخلوقا للإله الثاني ، فإيجاب الطاعة للإله الذي لم يخلقه ظلم وباطل.

وثالثها : إثبات أنه تعالى قادرا على الحشر والنشر والبعث والقيامة وإليه الإشارة بقوله تعالى : (يُحيِي وَيُمِيتُ) لأنه تعالى لما أحيا أولا ثبت كونه تعالى قادرا على الإحياء ثانيا ، ويكون

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب المساقاة ، باب : ٤١ ، وأبو داود في كتاب البيوع ، باب : في كسب الحجام ، والترمذي في كتاب البيوع ، باب : ٤٦ ، والدارمي في كتاب البيوع ، باب : في النهي عن كسب الحجام ، وأحمد في (م ١ / ص ٢٧٨).

(٢) رواه أحمد في (م ٥ / ص ٢٦٦).

٤٠١

قادرا على إيصال الجزاء لأنه بتقدير عدم ثبوت الإعادة كان الاشتغال بالطاعة والاحتراز عن المعصية عبثا ولغوا ، ولما ثبت القول بصحة هذه الأصول الثلاثة ثبت أنه يصح من الله تعالى إرسال الرسل ومطالبة الخلق بالتكاليف ، لأن الخلق كلهم عبيده تعالى ولذلك قال تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ).

واعلم أن هذا إشارة إلى المعجزات الدالة على كون محمد نبيا حقا ، ومعجزات رسول الله كانت على نوعين

الأول : المعجزات التي ظهرت في ذاته المباركة وأجلها أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان رجلا أمّيا لم يتعلم من أستاذ ، ولم يطالع كتابا ، ولم يتفق له مجالسة أحد من العلماء ومع ذلك فتح الله عليه باب العلم وأظهر عليه القرآن المشتمل على علوم الأولين والآخرين ، فظهور هذه العلوم العظيمة على من كان صفته أميا أعظم المعجزات.

والثاني : المعجزات التي ظهرت من خارج ذاته مثل انشقاق القمر ونبوع الماء من بين أصابعه وهي تسمى بكلمات الله تعالى ، لأنها لما كانت أمورا غريبة خارقة للعادة تسمى بكلمات الله ، كما أن عيسى عليه‌السلام لما كان حدوثه أمرا غريبا مخالفا للمعتاد سماه الله تعالى كلمة.

وقال ابن عباس : ومعنى كلماته بالجمع كتابه ـ وهو القرآن ـ وإن قرئ «وكلمته» بالإفراد كان معناه عيسى ، وهذا تنبيه على أن من لم يؤمن به لم يعتدّ بإيمانه وتعريض باليهود ، ولما ثبت بالدلائل نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر الله الطريق الذي به يمكن معرفة شرعه بالتفصيل وهو الرجوع إلى أقواله وأفعاله فقال : (وَاتَّبِعُوهُ) أي في كل ما يأتي وما يذر من أمور الدين (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٥٨) أي رجاء لاهتدائكم إلى المطلوب (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ) أي جماعة (يَهْدُونَ بِالْحَقِ) أي يدعون الناس إلى الهداية بالحق (وَبِهِ) أي بالحق (يَعْدِلُونَ) (١٥٩) في الأحكام الجارية فيما بينهم ، فقيل : هم اليهود الذين كانوا في زمان الرسول وأسلموا مثل عبد الله بن سلام وابن صوريا. وقيل : إنهم قوم مشوا على الدين الحق الذي جاء به موسى ودعوا الناس إليه وصانوه عن التحريف في زمن تفريق بني إسرائيل وإحداثهم البدع.

وقال السدي وجماعة من المفسرين : إن بني إسرائيل لما كفروا وقتلوا الأنبياء بقي سبط من جملة الاثني عشر ، فما صنعوا وسألوا الله تعالى أن ينقذهم منهم ففتح الله لهم نفقا في الأرض فساروا فيه سنة ونصفا حتى خرجوا من وراء الصين عند مطلع الشمس على نهر رمل يسمى أردن وهم اليوم هناك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً) أي فرقنا بني إسرائيل اثنتي عشرة فرقة ، لأنهم كانوا من اثني عشر رجلا من أولاد يعقوب ، وميزنا بعضهم من

٤٠٢

بعض أسباطا قائم مقام قبيلة وهو تمييز أو بدل من اثنتي عشرة وأمما بدل من أسباطا أي وصيّرناهم أمما ، لأن كل سبط كان أمة عظيمة (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ) حين استولى عليهم العطش في التيه الذي وقعوا فيه بسوء صنيعهم واستسقاء موسى لهم (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) الذي معك (فَانْبَجَسَتْ) أي فضرب فانفجرت (مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) بعدد الأسباط (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ) أي كل سبط (مَشْرَبَهُمْ) أي عينهم الخاصة بهم (وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ) في التيه من حر الشمس تسير الغمام بسيرهم وتسكن بإقامتهم ، وتضيء لهم في الليل مثل السراج (وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَ) وهو شيء حلو كان ينزل عليهم مثل الثلج من الفجر إلى طلوع الشمس ويأخذ كل إنسان صاعا (وَالسَّلْوى) أي الطير السماني بتخفيف الميم وبالقصر ، وتسوقه الريح الجنوب عليهم فيذبح كل واحد منهم ما يكفيه وهو يموت إذا سمع صوت الرعد فيلهمه الله تعالى أن يسكن جزائر البحر التي لا يكون فيها مطر ولا رعد إلى انقضاء أوانهما ، فيخرج من الجزائر وينتشر في الأرض ، وخاصيته أن أكل لحمه يلين القلوب القاسية (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أي وقلنا لهم : كلوا من مستلذاته من المن والسلوى ، والمعنى قصر أنفسهم على ذلك المطعوم وعلى ترك غيره ، فامتنعوا من ذلك وسئموا وسألوا غير ذلك (وَما ظَلَمُونا) بمقابلة تلك النعم بالكفران (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١٦٠) بمخالفتهم ما أمروا به (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ) أي اذكر يا أكرم الرسل لبني إسرائيل وقت قوله تعالى لأسلافهم : (اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) أي قرية الجبارين قوم من بقية عاد رئيسهم عوج بن عنق أي قال الله تعالى على لسان موسى لهم : إذا خرجتم من التيه اسكنوا بيت المقدس أو قال لهم على لسان يوشع بعد خروجهم من التيه اسكنوا أريحاء (وَكُلُوا مِنْها) أي القرية (حَيْثُ شِئْتُمْ) ومتى شئتم (وَقُولُوا حِطَّةٌ) أي أمرك حطّة لذنوبنا (وَادْخُلُوا الْبابَ) أي باب القرية. وقيل : باب القبة التي كانوا يصلون إليها (سُجَّداً) شكرا على إخراجهم من التيه (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ).

وقرأ نافع وابن عامر «تغفر» بالتاء المضمومة. وقرأ نافع «خطيئاتكم» بجمع السلامة ، وابن عامر «خطيئتكم» على التوحيد ، والباقون «نغفر» بنون مفتوحة ، وأبو عمرو خطاياكم بجمع التكسير. والباقون خطيئاتكم بجمع السلام وفي قراءة «يغفر» بالياء فعلى هذا لا يقرأ خطابا بالإفراد وعلى التاء لا يقرأ خطابا (سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) (١٦١) بالطاعة في إحسانهم (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) وهم أصحاب الخطيئة (قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) أي غير الذي أمروا به من التوبة وقالوا مكان حطة حنطة.

وروي أنهم دخلوا زاحفين على أدبارهم استخفافا بأمر الله تعالى واستهزاء بموسى (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ) عقب ما فعلوا من غير تأخير (رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) أي عذابا كائنا منها وهو الطاعون (بِما كانُوا يَظْلِمُونَ) (١٦٢) أنفسهم لأنهم خرجوا عن طاعة الله تعالى.

٤٠٣

روي أنه مات منهم في ساعة واحدة أربعة وعشرون ألفا (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) أي واسأل يا أشرف الخلق ، اليهود المعاصرين لك ، سؤال تقريع عن خبر أهل المدينة التي كانت قريبة من بحر القلزم ، وهي أيلة قرية بين مدين والطور. وقيل : هي قرية يقال لها : مقنا بين مدين وعينونا ، وسبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا : لم يصدر من بني إسرائيل كفر ولا مخالفة للرب فأمره الله تعالى أن يسألهم عن حال أهل هذه القرية في زمن داود عليه‌السلام تقريعا ، فإنهم يعتقدون أنه لا يعلمه أحد غيرهم ، فذكر الله لهم قصة أهل تلك المدينة فبهتوا وظهر كذبهم (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) أي يجاوزون حد الله تعالى بأخذ الحيتان يوم السبت وقد نهوا عنه (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ) أي يوم تعظيمهم لأمر السبت بالتجرد للعبادة (شُرَّعاً) أي ظاهرة على وجه الماء قريبة من الساحل (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ).

وقرئ شاذا بضم الباء. وقرأ علي رضي‌الله‌عنه بضم الياء من الرباعي ، وعن الحسن بالبناء للمفعول أي لا يدخلون في السبت (لا تَأْتِيهِمْ).

قال ابن عباس ومجاهد : إن اليهود أمروا باليوم الذي أمرتم به وهو يوم الجمعة فتركوه واختاروا السبت فابتلاهم الله به وحرم عليهم الصيد فيه ، وأمروا بتعظيمه فإذا كان يوم السبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر ، فإذا انقضى السبت ذهبت وما تعود إلا في السبت المقبل (كَذلِكَ) أي مثل ذلك البلاء (نَبْلُوهُمْ) أي نعاملهم معاملة من يختبرهم (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (١٦٣) أي بسبب فسقهم (وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ) أي جماعة من أهل القرية ومن صلحائهم الذين ركبوا الصعب في موعظة أولئك الصيادين حتى أيسوا من قبولهم لأقوام آخرين لا يقلعون عن وعظهم رجاء للنفع وطمعا في فائدة الإنذار (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ) أي مخزيهم في الدينا (أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) في الآخرة لعدم إقلاعهم عمّا كانوا عليه من الفسق (قالُوا) أي الواعظون : (مَعْذِرَةً).

قرأه حفص عن عاصم بالنصب أي وعظناهم لأجل المعذرة. والباقون بالرفع أي موعظتنا معذرة (إِلى رَبِّكُمْ) لئلا ننسب إلى نوع تفريط في النهي عن المنكر (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (١٦٤) أي ورجاء لأن يتقوا بعض التقاة (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) أي فلمّا تركوا ما وعظوا به بحيث لم يخطر ببالهم شيء من تلك المواعظ أصلا (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) أي عن أخذ الحيتان يوم السبت وهم الفريقان المذكوران (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا) بأخذ الحيتان ذلك اليوم (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) أي شديد. وقرأ أبو بكر «بيئس» على وزن ضيغم وابن عامر «بئس» بوزن حذر (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (١٦٥) أي أخذناهم بالعذاب بسبب الفسق الذي هو الخروج عن الطاعة وهو الظلم فالباءان متعلقان بأخذنا (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ) أي فلما أبوا عن ترك ما نهوا عنه (قُلْنا لَهُمْ كُونُوا

٤٠٤

قِرَدَةً خاسِئِينَ) (١٦٦) أذلاء بعداء عن الناس (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ) أي يذيقهم (سُوءَ الْعَذابِ) أي واذكر يا أكرم الرسل إذ أعلم الله أسلاف اليهود على ألسنة أنبيائهم إن لم يؤمنوا بأنبيائهم أن يسلط عليهم من يقاتلهم إلى أن يسلموا أو يعطوا الجزية وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ) إذا جاء وقته لمن عصاه فيعاقبهم في الدنيا أما قبل مجيء وقت العذاب فهو شديد الحلم (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٦٧) لمن تاب من الكفر واليهودية ودخل في دين الإسلام (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً) أي فرقنا اليهود الذين كانوا قبل زمن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأرض فرقا كثيرة حتى لا تكون لهم شوكة فلا يوجد بلد إلا وفيه طائفة منهم (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ) وهم الذين آمنوا بالمدينة ومن يسير بسيرتهم أو الذين وراء نهر الرمل (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) أي ومنهم من ثبت على اليهودية وخرج من الصلاح (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ) أي بالنعم والخصب والعافية (وَالسَّيِّئاتِ) أي بالجدوبة والشدائد (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (١٦٨) أي لكي يرجعوا عن معصيتهم إلى طاعة ربهم فإن كل واحد من الحسنات والسيئات يدعو إلى الطاعة بالترغيب والترهيب (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) أي جاء من بعد هؤلاء الذين وصفناهم بدل سوء (وَرِثُوا الْكِتابَ) أي أخذوا التوراة من أسلافهم (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) أي متاع الدنيا على تحريف الكلام في صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي الأحكام وهم يستحقرون ذلك الذنب (وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) أي ويقولون : لا يؤاخذنا الله تعالى وإن يأتهم متاع مثل ما أتاهم أمس يأخذوه لحرصهم على الدنيا ولا يستمتعون منه. أو المعنى أنهم يتمنون المغفرة من الله تعالى ، والحال أنهم مصرون على الذنب غير تائبين عنه (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) أي ألم يؤخذ عليهم ميثاق كائن في التوراة أن لا يقولوا على الله إلا الصدق ، وقد منعوا فيها عن تحريف الكتاب وتغيير الشرائع لأجل أخذ الرشوة وللتمني ففيه افتراء على الله تعالى ، ففيها من ارتكب ذنبا عظيما فإنه لا يغفر له إلا بالتوبة وأن لا يقولوا عطف بيان للميثاق (وَدَرَسُوا ما فِيهِ) أي ذكروا ما في الكتاب لأنهم قرءوه أو ذكروا ما أخذ عليهم لذلك وهذا عطف على ورثوا أو على ألم يؤخذ فإن المقصود من الاستفهام التقريري إثبات ما بعد النفي. والمعنى قد أخذ عليهم الميثاق ودرسوا ما في ذلك الميثاق (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ) أي الجنة (خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) عقاب الله من تلك الرشوة الخبيثة (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٦٩) أن الدنيا فانية والآخرة باقية.

وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالتاء على الخطاب التفاتا لهم ويكون المراد إعلاما بتناهي الغضب وتشديد التوبيخ ، أو يكون خطابا لهذه الأمة أي أفلا تعقلون حالهم. والباقون بالياء على الغيبة مراعاة لها في الضمائر السابقة (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ) قرأه أبو بكر عن عاصم بسكون الميم. والباقون بفتحها وتشديد السين (بِالْكِتابِ) أي والذين يعملون بما في الكتاب (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) وإنما أفردت بالذكر لأنها أعظم العبادات بعد الإيمان (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (١٧٠) وهذه

٤٠٥

الجملة خبر للموصول والربط حاصل بلفظ المصلحين لأنه قائم مقام الضمير لا سيما وهو فيه الألف واللام فإنها تكفي في الربط عند الكوفيين. وقيل : الخبر محذوف والتقدير مثابون وقوله تعالى : (إِنَّا لا نُضِيعُ) اعتراض وهذه الآية نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) أي واذكر يا أشرف الخلق إذا قلعنا الجبل الذي سمع موسى عليه كلام ربه وأعطي الألواح وجعلناه فوق رؤوسهم كأنه سقيفة (وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) إن لم يقبلوا أحكام التوراة (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) أي وقلنا لهم : اعملوا بما أعطيناكم بجد على احتمال تكاليفه (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) من الثواب والعقاب ويقال : احفظوا ما فيه من الأمر والنهي ويقال : اعملوا بما فيه من الحلال والحرام (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٧١) أي راجين أن تنتظموا في سلك المتقين (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) وقرأه نافع وأبو عمرو وابن عامر على الجمع. والباقون على التوحيد أي واذكر يا أكرم الخلق لليهود حين أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) قال : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا) وذكر هذه الآية يجري مجرى تقرير الحجة على جميع المكلفين. والمقصود من ذكرها هنا الاحتجاج على اليهود بتذكير الميثاق العام المنتظم للناس كافة ومنعهم عن التقليد وحملهم على الاستدلال.

وفي تفسير هذه الآية طريقان : طريق السلف ، وطريق الخلف. فطريق السلف : أن الله تعالى لما خلق آدم أخرج أولا ذرية آدم كالذر من ظهره أي من مسام شعر ظهره إذ تحت كل شعرة ثقبة دقيقة يقال لها : سم مثل سم الخياط في النفوذ فتخرج الذرة الضعيفة منها كما يخرج الصئبان من العرق السائل ، ثم أخرج من هذه الذر الذي أخرجه من آدم ذريته ذرا ، ثم أخرج من الذر الآخر ذريته ذرا ، ثم أخرج من الذر الآخر ذريته ذرا ، وهكذا إلى آخر النوع الإنساني وانحصر الجميع قدام آدم ونظر لهم بعينه ، وخلق الله تعالى فيهم العقل والفهم والنطق ، وجعل الذر المسلم أبيض والكافر أسود ، وخاطب الجميع بقوله تعالى : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) فقال الجميع : بلى أي أنت ربنا ، ثم أعاد الجميع إلى ظهر آدم. ويجب اعتقاد إخراج الذرية من ظهر آدم كما شاء الله ومعنى قوله تعالى : (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) إلخ أي استنطقهم بربوبيته تعالى فأقروا بذلك.

وقال الحكيم الترمذي : إن الله تعالى تجلى للكفار بالهيبة ، فقالوا : بلى مخافة منه تعالى ، فلم يك ينفعهم إيمانهم. وتجلى للمؤمنين بالرحمة ، فقالوا : بلى مطيعين مختارين ، فنفعهم إيمانهم ، وطريق الخلف أن الله تعالى أخرج الذرية وهم الأولاد من أصلاب آبائهم ، وذلك الإخراج أنهم كانوا نطفة فأخرجها الله تعالى في أرحام الأمهات وجعلها علقة ، ثم مضغة ، ثم جعلهم بشرا سويا وخلقا كاملا ، ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته وعجائب خلقه وغرائب صنعه ، فبالإشهاد صاروا كأنهم قالوا : بلى وإن لم يكن هناك قول

٤٠٦

باللسان فمحصل هذه الطريقة أنه لا إخراج ولا قول ، ولا شهادة بالفعل وإنما هذا كله على سبيل المجاز التمثيلي فشبه حال النوع الإنساني بعد وجوده بالفعل بصفات التكليف من حيث نصب الأدلة على ربوبية الله المقتضية ، لأن ينطق ويقر بمقتضاها بأخذ الميثاق عليه بالفعل بالإقرار بما ذكر وحينئذ فمعنى قوله تعالى : (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) أي ونصب الله لهم دلائل ربوبيته وركب في عقولهم ما يدعوهم إلى الإقرار بها حتى صاروا بمنزلة من قيل لهم : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) فنزل تمكينهم من العلم بها وتمكنهم منه منزلة الإشهاد والاعتراف على طريقة التمثيل والله أعلم بحقيقة الحال (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) (١٧٢) (أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ).

وقرأ أبو عمرو بالياء على الغيبة. والباقون بالتاء وفي قوله تعالى : (شَهِدْنا) قولان ، فقيل : إنه من كلام الملائكة وذلك لأنهم لما قالوا : بلى قال الله تعالى للملائكة : اشهدوا ، فقالوا : شهدنا عليهم لئلا يقولوا ما أقررنا ، أو لئلا تقولوا أيها الكفرة ، أو شهدنا عليهم كراهة أن يقولوا.

وقيل : إنه من بقية كلام الذرية أي وأشهدهم على أنفسهم بكذا وكذا لئلا يقولوا يوم القيامة عند ظهور الأمر إنا كنا عن وحدانية الربوبية لا نعرفه ، أو كراهية أن يقولوا ذلك وعلى هذا التقدير فلا يجوز الوقف عند قوله : (شَهِدْنا) ولا يحسن على بلى. وقوله : (أَوْ تَقُولُوا) معطوف على (أَنْ تَقُولُوا).

والمعنى أن المقصود من هذا الإشهاد لئلا يقول الكفار : إنما أشركنا لأن آباءنا أشركوا من قبل زماننا فقلدناهم في ذلك الشرك.

وقال الخلف : معنى هذه الآية أنا نصبنا هذه الدلائل وأظهرناها للعقول كراهة أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين فما نبهنا عليه منبه ، أو كراهة أن يقولوا : إنما أشركنا على سبيل التقليد لأسلافنا ، لأن نصب الأدلة على التوحيد قائم معهم فلا عذر لهم في الإعراض عنه والإقبال على الاقتداء بالآباء كما قالوا : (وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) لا نقدر على الاستدلال بالدليل (أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) (١٧٣) من آبائنا المضلين فالمؤاخذة إنما هي عليهم ، والمعنى لا يمكنهم الاحتجاج بذلك ، لأنه قامت الحجة عليهم يوم القيامة لإخبار الرسل إياهم بذلك الميثاق في الدنيا فمن أنكره كان معاندا ناقضا للعهد ولزمتهم الحجة ولا تسقط الحجة بنسيانهم بعد إخبار الرسل (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (١٧٤) أي مثل ما بيّنا خبر الميثاق في هذه الآية نبين سائر الآيات ليتدبروها فيرجعوا إلى الحق ويعرضوا عن الباطل (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) (١٧٥) أي واتل يا أكرم الخلق على اليهود خبر

٤٠٧

الذي آتيناه علوم الكتب القديمة والتصرف بالاسم الأعظم وهو أحد علماء بني إسرائيل فكان يدعو به حيث شاء فيجاب بعين ما طلب في الحال ، وكان بحيث إذا نظر رأى العرش ، وكان في مجلسه اثنا عشر ألف محبرة للمتعلمين الذين يكتبون عنه ، ثم صار بحيث كان أول من صنف كتابا أن ليس للعلم صانع وهذا معنى فانسلخ منها أي انسلخ من تلك الآيات انسلاخ الحية من جلدها بأن كفر بها فأدركه الشيطان فصار من زمرة الضالين.

قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد رحمهم‌الله تعالى : نزلت هذه الآية في بلعم بن باعوراء ، وذلك لأن موسى عليه‌السلام قصد بلده الذي هو فيه وغزا أهله وكانوا كفارا ، فطلبوا منه أن يدعو على موسى عليه‌السلام وقومه وكان مجاب الدعوة وعنده اسم الله الأعظم ، فامتنع منه فما زالوا يطلبونه منه حتى دعا عليه فاستجيب له ووقع موسى وبنو إسرائيل في التيه بدعائه فقال موسى : يا رب بأيّ ذنب وقعنا في التيه؟ فقال : بدعاء بلعم ، فقال : كما سمعت دعاءه عليّ فاسمع دعائي عليه ، ثم دعا موسى عليه أن ينزع منه اسم الله الأعظم والإيمان ، فسلخه الله مما كان عليه ونزع منه المعرفة فخرجت من صدره كحمامة بيضاء (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) أي ولو شئنا رفعه لرفعناه للعمل بتلك الآيات ، فكان يرفع منزلته بواسطة تلك الأعمال الصالحة (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) أي مال إلى الدنيا فآثر الدنيا الدنية على المنازل السنية (وَاتَّبَعَ هَواهُ) في إيثار الدنيا معرضا عن تلك الآيات الجليلة (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) أي صفة بلعم كصفتي الكلب في حالتي التعب والراحة ، فهذا الكلب إن شد عليه لهث وإن ترك أيضا لهث لأجل أن ذلك الفعل القبيح طبيعة أصلية له فكذلك هذا الحريص الضال إن وعظته فهو ضال ، وإن لم تعظه فهو ضال لأجل أن ذلك الضلال طبيعة ذاتية له واللهث إدلاع اللسان بالتنفس الشديد أي فالكلب دائم اللهث سواء أزعجته بالطرد العنيف ، أو تركته على حاله بخلاف سائر الحيوانات فإنها لا تحتاج إلى التنفس الشديد إلا عند التعب (ذلِكَ) أي المثل السيئ (مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) وهم اليهود حيث أوتوا في التوراة ما أوتوا من نعوت النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبشروا الناس باقتراب مبعثه فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به وانسلخوا من حكم التوراة (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) أي فاقصص يا أكرم الرسل على قومك قصص الذين كذبوا أنبياءهم (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (١٧٦) أي يتعظون (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي ساء مثلا مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا بعد قيام الحجة عليها وعلمهم بها (وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) (١٧٧) معطوف على كذبوا داخل معه في حكم الصلة ، أي الذين جمعوا بين التكذيب في آيات الله وظلم أنفسهم خاصة.

وقرأ الجحدري ساء مثل القوم (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) أي من يخلق الله فيه الاهتداء فهو المهتدي لدينه بإثبات الياء وصلا ووقفا عند جميع القراء لثبوتها في الرسم بخلاف ما في

٤٠٨

الكهف والإسراء (وَمَنْ يُضْلِلْ) أي بأن لم يخلق فيه الاهتداء بل خلق فيه الضلالة لصرف اختياره جهتها (فَأُولئِكَ) الموصوفون بالضلالة (هُمُ الْخاسِرُونَ) (١٧٨) أي الكاملون في الخسران في الدنيا والآخرة ، فالهداية والضلالة من جهة الله تعالى وإنما العظة والتذكير من قبيل الوسائط العادية في حصول الاهتداء من غير تأثير لها فيه سوى كونها دواعي إلى صرف العبد اختياره جهة تحصيله كسائر أفعال العباد (وَلَقَدْ ذَرَأْنا) أي خلقنا (لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) بسبب امتناعهم عن صرفها إلى تحصيل الفهم فلهم وصف أو حال من كثيرا وقلوب فاعل به (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) شيئا من المبصرات إبصار اعتبار (وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) أي شيئا من المسموعات سماع تأمل فلا يفهمون بقلوبهم ولا يبصرون بأعينهم ولا يسمعون بآذانهم ما يرجع إلى مصالح الدين (أُولئِكَ) أي الموصوفون بالأوصاف المذكورة (كَالْأَنْعامِ) في انتفاء الشعور (بَلْ هُمْ أَضَلُ) من الأنعام لأنها تعرف صاحبها وتطيعه ، وهؤلاء الكفار لا يعرفون ربهم ولا يطيعونه ، وفي الخبر : «كل شيء أطوع لله من ابن آدم» (أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (١٧٩) عمّا أعد الله لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) أي الأسماء التي هي أحسن الأسماء وأجلها لدلالتها على أحسن المعاني وأشرفها (فَادْعُوهُ بِها) أي فسموه بتلك الأسماء (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) أي واجتنبوا الذين يميلون في شأن أسماء الله تعالى عن الحق إلى الباطل إما بأن يسموه تعالى بما لا إذن فيه من كتاب وسنة ، أو بما يوهم معنى فاسدا فلا يجوز أن يقال لله تعالى : يا سخي ولا يا عاقل ، ولا يا طبيب ، ولا يا فقيه ، ولا يجوز أن يقال لله تعالى : يا نجي ، يا أبا المكارم ، يا أبيض الوجه ، لأن أسماء الله تعالى توقيفية أي تعليمية من الشرع لا اصطلاحية ، وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) يدل على أن الإنسان لا يدعو ربه إلا بتلك الأسماء الحسنى وهذه الدعوة لا تتأتى إلا إذا عرف معاني تلك الأسماء ، وعرف بالدليل أن له إلها وربا خالقا موصوفا بتلك الصفات الشريفة فإذا عرف بالدليل ذلك فحينئذ يحسن أن يدعو ربه بتلك الأسماء والصفات ، ثم إنّ لتلك الدعوة شرائط كثيرة منها أن يستحضر الأمرين عزة الربوبية ، وذلة العبودية فهناك يحسن ذلك الدعاء ويعظم موقع ذلك الذكر. وقرأ حمزة يلحدون بفتح الياء والحاء ووافقه عاصم والكسائي في النحل (سَيُجْزَوْنَ) في الآخرة (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٨٠) وهذا تهديد لمن ألحد في أسماء الله تعالى (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ) أي طائفة كثيرة (يَهْدُونَ بِالْحَقِ) أي يهدون الناس ملتبسين بالحق ويدلونهم على الاستقامة (وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١٨١) أي وبالحق يحكمون في الحكومات الجارية فيما بينهم ولا يجورون فيها (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) (١٨٢) أي والذين كذبوا بآياتنا التي هي معيار الحق وهو القرآن ، سنقربهم إلى ما يهلكهم ونضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد به وذلك لأنهم كما أوتوا بجرم فتح الله عليهم بابا من أبواب النعمة والخير في الدنيا فيزدادون بطرا وانهماكا

٤٠٩

في الفساد ويتدرجون في المعاصي بسبب ترادف تلك النعم ، ثم يأخذهم الله تعالى دفعة واحدة على غرتهم أغفل ما يكونون (وَأُمْلِي لَهُمْ) أي أمهلهم وأطيل مدة أعمارهم (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (١٨٣) أي إن استدراجي قوي لا يدافع بقوة ولا بحيلة. وسمى العذاب كيدا لأن ظاهره إحسان ولطف وباطنه خذلان وقهر (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) أي أكذبوا بآياتنا ولم يتفكروا ليس بنبيهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حالة قليلة من الجنون والتعبير عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصاحبهم للإعلام بأن طول مصاحبتهم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما يطلعهم على نزاهته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شائبة جنون ، فـ «ما» نافية اسمها «جنة» وخبرها «بصاحبهم» والجملة في محل نصب معمولة لـ «يتفكروا» (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (١٨٤) أي ما هو إلا رسول مخوف مظهر لهم في التخويف بلغة يعلمونها (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) أي أكذبوا بها ولم ينظروا نظر تأمل فيما يدل عليه السموات والأرض من عظم الملك وكمال القدرة ، وفيما خلق فيهما من جليل ودقيق ليدلهم ذلك على العلم بوحدانية الله تعالى وبسائر شؤونه التي تنطق بها تلك الآيات فيؤمنوا بها فإن كل فرد من أفراد الأكوان دليل لائح على الصانع المجيد وسبيل واضح إلى التوحيد (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) أي وفي أن الشأن عسى أن يكون أجلهم قد اقترب أي لعلهم يموتون عن قريب فما لهم لا يسارعون إلى التدبر في الآيات التكوينية الشاهدة بما كذبوه من الآيات القرآنية فيهلكوا على الكفر ويصيروا إلى النار (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (١٨٥) أي فبأي كتاب بعد القرآن يؤمنون إذا لم يؤمنوا به ، أي لأنهم إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن مع ما فيه من هذه التنبيهات الظاهرة فكيف يرجى منهم الإيمان بغيره (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) فإن إعراضهم عن الإيمان لإضلال الله إياهم (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ) أي ضلالهم (يَعْمَهُونَ) (١٨٦) أي يتحيرون.

وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر و «نذرهم» بالنون والرفع على طريقة الالتفات. وأبو عمرو بالياء والرفع. وحمزة والكسائي بالياء والجزم. وقد روي الجزم بالنون عن نافع وأبي عمرو في الشواذ. (يَسْئَلُونَكَ) يا أشرف الخلق سؤال استهزاء (عَنِ السَّاعَةِ) أي عن وقت القيامة منهم ممل بن أبي قشير ، وشمويل بن زيد. والساعة : من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا ، وسميت القيامة بالساعة لوقوعها بغتة على حين غفلة من الخلق ، أو لأن حساب الخلق يقضى فيها في ساعة واحدة ، أو لأنها مع طولها في نفسها كساعة واحدة عند الخلق (أَيَّانَ مُرْساها) أي متى حصولها (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) أي إنه تعالى قد انفرد به بحيث لم يخبر به أحدا من ملك مقرب أو نبي مرسل (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها) أي لا يظهر أمرها الذي تسألونني عنه في وقتها المعين (إِلَّا هُوَ) أي لا يقدر على إظهار وقتها المعين بالإعلام إلا هو (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ثقل تحصيل العلم بوقتها المعين على أهل السموات والأرض فلم يعلم أحد من الملائكة المقرّبين والأنبياء المرسلين متى وقوعها (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) أي فجأة على غفلة.قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الساعة تفجأ

٤١٠

الناس فالرجل يصلح موضعه ، والرجل يسقي ماشيته. والرجل يقوم بسلعته في سوقه ، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه».(يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) أي يسألونك عن كنه ثقل الساعة مشبها حالك عندهم بحال من هو بالغ في العلم بها ، وحقيقة الكلام كأنك مبالغ في السؤال عنها فإن ذلك في حكم المبالغة في العلم بها (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (١٨٧) أي لا يعلمون السبب الذي لأجله أخفيت معرفة وقته المعين عن الخلق (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أي أنا لا أدعي علم الغيب إن أنا إلا نذير وبشير. ونظيره قوله تعالى في سورة يونس : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) [يونس : ٤٧ ، ٤٨]. وقيل : إن أهل مكة قالوا : يا محمد ألا أخبرك ربك بالرخص والغلاء حتى نشتري فنربح ، وبالأرض التي تجدب لنرتحل إلى الأرض الخصبة؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقيل : لما رجع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوة بني المصطلق جاءت ريح في الطريق ففرت الدواب منها فأخبر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بموت رفاعة بالمدينة وكان فيه غيظ للمنافقين ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «انظروا أين ناقتي؟» فقال عبد الله بن أبي مع قومه : ألا تعجبون من هذا الرجل يخبر عن موت الرجل بالمدينة ولا يعرف أين ناقته فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن ناسا من المنافقين قالوا : كيت وكيت ، وكيت وناقتي في هذا الشعب قد تعلق زمامها بشجرة». فوجدوها على ما قال ، فأنزل الله تعالى : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ) أي أن يفعل بي من النفع والضر (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ) أي جلب منافع الدنيا ودفع مضراتها (لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) أي لحصلت كثيرا من الخير بترتيب الأسباب (وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) لاحترازي عنه باجتناب الأسباب (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ) من النار (وَبَشِيرٌ) بالجنة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١٨٨) بالجنة والنار (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) هو آدم عليه‌السلام (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) حواء خلقها الله من ضلع آدم من غير أذى (لِيَسْكُنَ إِلَيْها) أي ليستأنس بها (فَلَمَّا تَغَشَّاها) أي جامعها (حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) في مبادئ الأمر (فَمَرَّتْ بِهِ) أي فاستمرت بالحمل على سبيل الخفة وكانت تقوم وتقعد وتمشي من غير ثقل (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) أي صارت ذات ثقل لكبر الولد في بطنها (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما) أي آدم وحواء (لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً) أي ولدا سويا مثلنا (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (١٨٩) لنعمائك (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً) أي ولدا آدميا مستوى الأعضاء خاليا من العوج والعرج (جَعَلا لَهُ) تعالى (شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) أي في تسمية ما آتاهما من الولد.

وقيل : لما آتاهما ذلك الولد السوي الصالح عزما على أن يجعلاه وقفا على خدمة الله وطاعته وعبوديته على الإطلاق ، ثم بدا لهما في ذلك فتارة كانوا ينتفعون به في مصالح الدنيا ومنافعها ، وتارة كانوا يأمرونه بخدمة الله وطاعته وهذا العمل وإن كان منا قربة وطاعة إلا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين. وقيل : لما ثقل الولد في بطنها أتاها إبليس في صورة رجل ، وقال : ما هذا يا حواء إني أخاف أن يكون كلبا أو بهيمة وما يدريك من أين يخرج أمن دبرك

٤١١

فيقتلك ، أو ينشق بطنك. فخافت حواء وذكرت ذلك لآدم عليه‌السلام فلم يزالا في همّ من ذلك ، ثم أتاها وقال : إن سألت الله أن يجعله صالحا سويا مثلك ويسهل خروجه من بطنك تسميه عبد الحارث ، وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث ، فآدم وحواء سميا ذلك الولد بعبد الحارث ، تنبيها على أنه إنما سلم من الآفات ببركة دعاء هذا الشخص المسمى بالحارث فلما حصل الاشتراك في لفظ العبد لا جرم صار آدم عليه‌السلام معاتبا في هذا العمل بسبب الاشتراك الحاصل في مجرد لفظ العبد وهذا لا يقدح في كون الولد عبد الله من جهة كونه مملوكه ومخلوقه إلا أنا قد ذكرنا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١٩٠). قيل : إن المشركين كانوا يقولون : إن آدم عليه‌السلام كان يعبد الأصنام ويرجع في طلب الخير ودفع الشر إليها فذكر تعالى قصة آدم وحواء ، وذكر أنه تعالى لو آتاهما ولدا سويا صالحا لاستقلوا بشكر تلك النعمة ، ثم قال تعالى : (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) فقوله تعالى : (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) ورد بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتبعيد والتقدير فلما آتاهما صالحا أجعلا له شركاء فيما آتاهما. ثم قال تعالى : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذين يقولون بالشرك وينسبونه إلى آدم (أَيُشْرِكُونَ) بالله تعالى في العبادة (ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً) ومن حق المعبود أن يكون خالقا لعابده ، والعبد غير خالق لأفعاله لأن من كان خالقا كان إلها ، ولما كان ذلك باطلا علمنا أن العبد غير خالق لأفعال نفسه (وَهُمْ) أي الأصنام (يُخْلَقُونَ) (١٩١) فهي منحوتة ، أو المعنى والكافرون مخلوقون فلو تفكروا في ذلك لآمنوا ولا يشركون بالخالق شيئا (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) أي الأصنام (لَهُمْ) أي لعبدتهم (نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) (١٩٢) أي إن الأصنام لا تنصر من أطاعها ولا تدفع عن أنفسها مكروها فإن من أراد كسرها لم تقدر على دفعه عنها ، والمعبود يجب أن يكون قادرا على إيصال النفع ودفع الضرر وهذه الأصنام ليست كذلك فكيف يليق بالعاقل عبادتها (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ) أي وإن تدعوا يا معشر الكفار الأصنام إلى أن يهدوكم إلى الحق لا يجيبوكم كما يجيبكم الله (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) (١٩٣) أي مستو عليكم في عدم الإفادة دعاؤكم لهم وسكوتكم فلا يتغير حالكم في الحالين كما لا يتغير حالهم عن حكم الجمادية (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) أي إن الذين تعبدونهم من دونه تعالى من الأصنام وتسمونهم آلهة مماثلة لكم من حيث إنها مملوكة لله تعالى مسخرة لأمره عاجزة عن النفع والضر (فَادْعُوهُمْ) في جلب نفع أو كشف ضر (فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٩٤) في ادعاء أنها آلهة ومستحقة للعبادة (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها) أي بل ألهم أيد يأخذون بها ما يرون أخذه (أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها)؟ وقد قرئ إن الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم على إعمال إن النافية عمل ما الحجازية أي ما الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم بل

٤١٢

أدنى منكم فيكون قوله تعالى : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ) إلخ تقرير النفي المماثلة بإثبات النقصان (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ).

قال الحسن : إن مشركي أهل مكة كانوا يخوفون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بآلهتهم فقال الله تعالى : قل يا أكرم الرسل لهم ادعوا آلهتكم واستعينوا بهم في عداوتي (ثُمَّ كِيدُونِ) أي اعملوا أنتم وآلهتكم في هلاكي وبالغوا في تهيئة ما تقدرون عليه من مكر (فَلا تُنْظِرُونِ) (١٩٥) أي اعجلوا أنتم وآلهتكم في كيدي ولا تؤجلون فإني لا أبالي بكم وبآلهتكم لاعتمادي على حفظ الله تعالى (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ) أي إن ناصري هو الله الذي أنزل الكتاب المشتمل على هذه العلوم العظيمة النافعة (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) (١٩٦) أي ينصرهم فلا تضرهم عداوة من عاداهم.

وروي أن عمر بن عبد العزيز ما كان يدخر لأولاده شيئا فقيل له في ذلك ، فقال : ولدي إما أن يكون من الصالحين أو من المجرمين ، فإن كان من الصالحين فوليه الله ومن كان الله له وليا فلا حاجة له إلى مالي ، وإن كان من المجرمين فقد قال تعالى : (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) [القصص : ١٧] ومن رده الله لم أشتغل بإصلاح مهماته (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) أي والذين تعبدونهم من دون الله تعالى من الأصنام (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ) في أمر من الأمور (وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) (١٩٧) أي يمنعون مما يراد بهم فكيف أبالي بهم (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا) أي وإن تدعوا أيها المشركون تلك الأوثان إلى أن يهدوكم إلى ما تحصلون به مقاصدكم لا يجيبوا دعاءكم فضلا عن المساعدة ، لأنهم أموات غير أحياء (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) أي وترى يا أشرف الخلق الأصنام يشبهون الناظرين إليك لأنهم مصوّرون بالعين والأنف والأذن (وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (١٩٨) أي والحال أنهم غير قادرين على الإبصار لأنهم أموات غير أحياء (خُذِ الْعَفْوَ) أي اقبل الميسور من أخلاق الناس من غير تجسس لئلا تتولد العداوة ، أو المعنى خذ ما تيسر من المال فما أتوك به فخذه ولا تسأل عما وراء ذلك (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) أي بإظهار الدين الحق (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (١٩٩) من غير مماراة ولا مكافاة.

قال عكرمة : لما نزلت هذه الآية قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا جبريل ما هذا؟». قال : «يا محمد إن ربك يقول هو أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك». قال أهل العلم : تفسير جبريل مطابق للفظ الآية لأنك لو وصلت من قطعك فقد عفوت عنه ، وإذا آتيت من حرمك فقد أتيت بالمعروف ، وإذا عفوت عمن ظلمك فقد أعرضت عن الجاهلين (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) أي إن يصيبنك وسوسة من الشيطان فالتجئ إليه تعالى في دفعه عنك (إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢٠٠) أي إنه تعالى سميع باستعاذتك بلسانك عليم في ضميرك من استحضاره معاني الاستعاذة ، فالقول اللساني بدون المعارف القلبية عديم الفائدة والأثر.

٤١٣

وروي أنه لما نزلت تلك الآية الكريمة قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كيف يا رب والغضب متحقق» (١) فنزل قوله تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي اتصفوا بوقاية أنفسهم عمّا يضرها (إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ) أي إذا أصابهم وسوسة من الشيطان وغضب (تَذَكَّرُوا) ما أمرهم الله به من ترك إمضاء الغضب ومن أن الإنسان إذا أمضى الغضب كان شريكا للسباع المؤذية والحيات القاتلة ، وإن تركه واختار العفو كان شريكا لأكابر الأنبياء والأولياء ومن أنه ربما انقلب ذلك الضعيف قويا قادرا على الغضب فحينئذ ينتقم منه على أسوأ الوجوه أما إذا عفا كان ذلك إحسانا منه إلى ذلك الضعيف (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) (٢٠١) أي إذا حضرت هذه التذكرات في عقولهم ففي الحال يحصل الخلاص من وسوسة الشيطان ويحصل الانكشاف فينتهون عن المعصية (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ) أي وإخوان الشياطين من الكفار يقوون الشياطين في الضلال ، وذلك لأن شياطين الإنس إخوان لشياطين الجن. فشياطين الإنس يضلون الناس فيكون ذلك تقوية منهم لشياطين الجن على الإضلال (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) (٢٠٢) أي لا ينكف الغاوون عن الضلال والمغوون عن الإضلال (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ) أي أهل مكة (بِآيَةٍ) كما طلبوا (قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) أي هلا جمعتها من تلقاء نفسك تقولا فإنهم يزعمون أن سائر الآيات كذلك أو هلا اقترحتها على إلهك إن كنت صادقا في أن الله يقبل دعاءك ويجيب التماسك وعند هذا أمر الله رسوله أن يذكر الجواب الشافي بقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) أي ليس لي أن أقترح على ربي في أمر من الأمور وإنما أنتظر الوحي فكل شيء أكرمني به قلته وإلا فالواجب السكوت وترك الاقتراح فعدم الإتيان بالمعجزات التي اقترحوها لا يقدح في الغرض ، لأن ظهور القرآن على وفق دعواه صلى‌الله‌عليه‌وسلم معجزة باهرة فإذا ظهرت هذه المعجزة الواحدة كانت كافية في تصحيح النبوة فكان طلب الزيادة من باب التعنت فذكر الله تعالى في وصف القرآن ثلاثة بقوله تعالى : (هذا) أي القرآن (بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) أي بمنزلة البصائر للقلوب فيه تبصر الحق وتدرك الصواب (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٢٠٣) بالقرآن في حق أصحاب عين اليقين وهم من بلغوا الغاية في معارف التوحيد بصائر وفي حق أصحاب علم اليقين وهم الذين وصلوا إلى درجات المستدلين هدى وفي حق عامة المؤمنين رحمة (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) وهذا خطاب مع الكفار عند قراءة الرسول عليهم القرآن في مسلك الاحتجاج بكونه معجزا على صدق نبوته فإنهم قالوا : لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ، فأمروا بالاستماع حتى يمكنهم الوقوف على ما في القرآن ولذا قال تعالى : (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٢٠٤) أي لعلكم تطلعون على ما في القرآن من دلائل الإعجاز فتؤمنوا بالرسول فتصيروا مرحومين (وَاذْكُرْ

__________________

(١) رواه السيوطي في الدر المنثور (٣ : ١٥٤).

٤١٤

رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) أي اذكر ربك عارفا بمعاني الأذكار التي تقولها بلسانك مستحضرا لصفات الكمال والعز والعلو ، والجلال والعظمة وذلك لأن الذكر باللسان إذا كان عاريا عن الذكر بالقلب كان عديم الفائدة (تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) أي متضرعا وخائفا إما في تقصير الأعمال أو في الخاتمة ، أو في أنه كيف يقابل نعمة الله التي لا حصر لها بالطاعة الناقصة والأذكار القاصرة (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) أي متوسطا بين الجهر والمخافتة بأن يذكر الشخص ربه على وجه يسمع نفسه (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) (٢٠٥). والمعنى أن قوله تعالى : (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) دل على أنه يجب أن يكون الذكر حاصلا في كل الأوقات. وقوله تعالى : (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) يدل على أن الذكر القلبي يجب أن يكون دائما وأن لا يغفل الإنسان لحظة واحدة عن استحضار جلال الله بقدر الطاقة البشرية ، وتحقيق القول أن بين الروح والبدن علاقة عجيبة ، لأن كل أثر حصل في جوهر الروح نزل منه إلى البدن وكل حالة حصلت في البدن صعدت منه نتائج إلى الروح.

ألا ترى أن الإنسان إذا تخيّل الشيء الحامض ضرس سنة ، وإذا تخيل حالة مكروهة وغضب سخن بدنه فهذه آثار تنزل من الروح إلى البدن.

واعلم أن قوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) وإن كان ظاهره خطابا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أنه عام في حق كل المكلفين ولكل أحد درجة مخصوصة بحسب استعداد جوهر نفسه الناطقة (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) أي إن الملائكة مع غاية طهارتهم وبراءتهم عن بواعث الشهوة والغضب وحوادث الحقد والحسد (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) بل يؤدونها حسب ما أمروا به (وَيُسَبِّحُونَهُ) أي ينزهونه تعالى عن كل سوء (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (٢٠٦) أي لا يسجدون لغير الله تعالى. فالتسبيح يرجع إلى المعارف والعلوم والسجود يرجع إلى أعمال الجوارح ، وهذا الترتيب يدل على أن الأصل في العبودية أعمال القلوب ويتفرع عليها أعمال الجوارح والله أعلم.

٤١٥

سورة الأنفال

مدنية ، غير قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فإنها نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال ، خمس وسبعون آية ، ألف ومائتان وثلاث وأربعون كلمة ، خمسة آلاف وثلاثمائة وثمانية وثمانون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) أي يسألك يا أشرف الخلق أصحابك منهم : سعد بن أبي وقاص أو قرابتك عن الغنائم يوم بدر وسميت الغنائم أنفالا ، لأن المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم الذين لم تحل لهم الغنائم ، ولأنها عطية من الله تعالى زائدة على الثواب الأخروي للجهاد. (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) أي قل يا أشرف الخلق حكم الأنفال يوم بدر مختص به تعالى يقسمها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف أمر به من غير أن يدخل فيه رأي أحد (فَاتَّقُوا اللهَ) في أخذ الغنائم واتركوا المنازعة فيها (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) أي أصلحوا الحال فيما بينكم بترك النزاع وتسليم أمر الغنائم إلى الله ورسوله (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في أمر الصلح وارضوا بما حكم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١) فالإيمان لا يتم حصوله إلا بالتزام هذه الطاعة فاحذروا الخروج عنها (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) أي إنما الكاملون في الإيمان الذين فزعت قلوبهم لمجرد ذكر الله من غير أن يذكر هناك ما يوجب الفزع من صفاته وأفعاله استعظاما له تعالى.

وقال أصحاب الحقائق : الخوف على قسمين : خوف العقاب ، وخوف العظمة والجلال. أما خوف العقاب : فهو للعصاة. وأما خوف الجلال والعظمة : فهو لا يزول عن قلب أحد من المحققين سواء كان ملكا مقربا أو نبيا مرسلا وكل من كان أعرف بجلال الله كان هذا الخوف في قلبه أكمل ، (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ) أي الله التي هي القرآن (زادَتْهُمْ إِيماناً) أي يقينا بقول الله (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٢) أي ويعتمدون بالكلية على فضل الله وينقطعون بالكلية عما سوى الله (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي يتمون الصلوات الخمس بحقوقها (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٣) أي ويؤدون زكاة أموالهم (أُولئِكَ) أي الموصوفون بالصفات الخمس (هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) أي

٤١٦

إيمانا حقا ، لأنهم حققوا إيمانهم بضم الأعمال القلبية والقالبية إليه (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) فمراتب السعادات الحاصلة في الجنة كثيرة ومختلفة (وَمَغْفِرَةٌ) بأن يتجاوز الله عن سيئاتهم.

وقال العارفون : هي إزالة الظلمات الحاصلة بسبب الاشتغال بغير الله (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٤) ـ قال هشام بن عروة هو ما أعد الله لهم في الجنة من لذيذ المآكل والمشارب وهناء العيش (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) (٥) أي إنهم رضوا بهذا الحكم في الأنفال وإن كانوا كارهين له كما أخرجك ربك من المدينة بسبب حق يظهر وهو علو كلمة الإسلام والنصر على أعداء الله ، والحال أن فريقا من المؤمنين لكارهون الخروج للقتال لقلة العدد ، أو المعنى الأنفال ثابتة لله ثبوتا بالحق كإخراجك من بيتك بالمدينة بالحق أي بالوحي ، وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام وفيها تجارة عظيمة ومعها أربعون راكبا منهم : أبو سفيان ، وعمرو بن العاص ، وعمرو بن هشام. فأخبر جبريل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخبر المسلمين فأعجبهم تلقي العير لكثرة الخير وقلة القوم ، فلما خرجوا وبلغوا وادي دقران وهو قريب من الصفراء نزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل فقال : يا محمد إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إما العير وإما قريشا فاستشار النبي أصحابه فقال : «ما تقولون إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول فالعير أحب إليكم أم النفير؟» ـ وهو اسم عسكر مجتمع ـ فقالوا : بل العير أحب إلينا من لقاء العدو. فتغير وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم ردد عليهم فقال : «إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل» ـ أي بجميع أهل مكة ـ «ومضى إلى بدر» فقالوا : يا رسول الله عليك بالعير ، ودع العدو. فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقام عند ذلك أبو بكر وعمر فأحسنا في القول ، ثم قام سعد بن عبادة فقال : انظر أمرك فامض ، فو الله لو سرت إلى عدن ما تخلف عنك رجل من الأنصار ، ثم قال مقداد بن عمرو : يا رسول الله امض كما أمرك الله فإنا معك حيثما أحببت لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ما دامت عين منا تطرف ، فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : «أشيروا عليّ أيها الناس». فقال سعد بن معاذ : امض يا رسول الله لما أردت ، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقي بنا عدونا وإنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء ، ولعل الله يريك منا ما تقربه عينك فسر بنا على بركة الله ففرح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبسطه قول سعد ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم» (١). (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِ) تلقي النفير

__________________

(١) رواه الطبري في التفسير (٩ : ١٢٤) ، وابن كثير في التفسير (٣ : ٥٥٧) ، والبيهقي في دلائل النبوة (٣ : ٣٤) ، وابن كثير في البداية والنهاية (٣ : ٢٦٢).

٤١٧

(بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) أي بعد إعلامك أنهم ينصرون أينما توجهوا وجدالهم هو قولهم ما كان خروجنا إلا للعير وهلا ذكرت لنا القتال لنتأهب له وكان ذلك لكراهتهم القتال (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) (٦) أي مشبهين بالذين يساقون بالعنف إلى القتل والحال أنهم ينظرون إلى أسباب الموت (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) أي واذكروا وقت أن يعدكم الله بأن إحدى الطائفتين العير أو العسكر مختصة بكم تسلطون عليها تسلط الملاك وتنصرفون فيهم كيف شئتم (وَتَوَدُّونَ) أي وتحبون (أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ) أي القوة (تَكُونُ لَكُمْ) وهو العير إذ لم يكن فيها إلا أربعون فارسا ، ورئيسهم أبو سفيان وذات الشوكة : وهي العسكر وهم ألف مقاتل ورئيسهم أبو جهل (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَ) أي يثبت النصر على الأعداء (بِكَلِماتِهِ) أي بأسباب النصر من أوامره تعالى للملائكة بالإمداد (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) (٧) والمعنى أنتم تريدون سفساف الأمور وهو العير للفوز بالمال والله تعالى يريد معاليها بأن تتوجهوا إلى النفير لما فيه من إعلاء الدين الحق واستئصال الكافرين (لِيُحِقَّ الْحَقَ) أي ليظهر الشريعة ويقوى الدين (وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) أي وليظهر بطلان الباطل بتقوية رؤساء الحق وقهر رؤساء الباطل (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (٨) أي المشركون ذلك الإظهار (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) أي تطلبون منه الغوث كأن يقولوا : ربنا انصرنا على عدوك يا غياث المستغيثين أغثنا أي فرّج عنا.

قال ابن عباس : حدثني عمر بن الخطاب قال : لما كان يوم بدر ونظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المشركين وهم ألف ، وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف استقبل القبلة ومديده وهو يقول : «اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» (١) ولم يزل كذلك حتى سقط رداؤه ورده أبو بكر ، ثم التزمه ثم قال : كفاك يا نبي الله مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك ، فنزلت هذه الآية (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ) بدل من «إذ يعدكم» معمول لعامله ، ويجوز أن يكون العامل في «إذ» هو قوله تعالى : «ويبطل الباطل» (فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ) أي معينكم (بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) (٩).

وقرأ عيسى بن عمر ، ويروى أيضا عن عمرو «إني» بكسر الهمزة على إضمار القول ، أو على إجراء «استجاب» مجرى قال. والعامة على فتح الهمزة بتقدير حرف الجر. وقرأ نافع أبو بكر بن عاصم ، ويروى عن قنبل أيضا «مردفين» بفتح الدال ، أي إن الله أردف المسلمين بهم وأيدهم بهم بمعنى إن الملائكة كانوا مقدمة الجيش أو ساقتهم. والباقون بكسرها أي متتابعين يأتي بعضهم إثر بعض.

__________________

(١) رواه أحمد في (م ١ / ص ٣٢).

٤١٨

وروي أنه نزل جبريل بخمسمائة ، وقاتل بها في يمين العسكر وفيه أبو بكر ، ونزل ميكائيل بخمسمائة قاتل بها في يسار الجيش وفيه على (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى) أي وما جعل إمدادكم بإنزال الملائكة عيانا إلا للبشرى لكم بأنكم تنصرون (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ) أي بالأمداد (قُلُوبُكُمْ) كما كانت السكينة لبني إسرائيل كذلك (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) لا من عند غيره أي إن الله ينصركم أيها المؤمنون فثقوا بنصره ، ولا تتكلوا على قوتكم (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) أي قاهر لا يقهر ، (حَكِيمٌ) (١٠) فيما ينزل من النصرة فيضعها في موضعها (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ) أي يجعل الله النعاس مغطيا لكم آمنا من خوف العدو من الله تعالى وإذ بدل ثان من إذ يعدكم.

قال الزجاج : محلها نصب على الظرفية ، والمعنى وما جعله الله إلا بشرى في ذلك الوقت.

قرأ العامة «يغشيكم» بضم الياء والفتح الغين وتشديد الشين ، وقرأ نافع بضم الياء وسكون الغين والفاعل في الوجهين هو الله تعالى ، وقرأ أبو عمر وابن كثير «يغشاكم» بفتح الياء والشين وسكون الغين و «النعاس» فاعل ، أي إذ يلقى عليكم النوم الخفيف أمانا من الله لكم من عدوكم أن يغلبكم ، وحصول النوم لهم في وقت الخوف الشديد يدل على زوال الخوف (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً). قرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون (لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) من الأحداث ، وفي الخبر : «أن المشركين سبقوا إلى موضع الماء وطمعوا لهذا السبب أن تكون لهم الغلبة ، وعطش المؤمنون وخافوا من أن يأتيهم العدو في تلك الحالة ، وأكثرهم احتملوا وموضعهم كان رملا تغوص فيه الأرجل ، ويرتفع فيه الغبار الكثير. وكان الخوف في قلوبهم شديدا بسبب كثرة العدو وكثرة آلتهم ، فلما أنزل الله ذلك المطر صار ذلك دليلا على حصول النصرة وعظمت النعمة به» (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) أي وسوسته. روي أنهم لما ناموا واحتلم أكثرهم تمثل لهم إبليس وقال : أنتم تزعمون أنكم على الحق وأنتم تصلون على الجنابة وقد عطشتم ولو كنتم على الحق لما غلبوكم على الماء ، فأنزل الله تعالى المطر حتى جرى الوادي ، واتخذ المسلمون حيضانا واغتسلوا وتلبد الرمل حتى ثبتت عليه الأقدام (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) أي ليحفظ قلوبكم بالصبر (وَيُثَبِّتَ بِهِ) أي الماء (الْأَقْدامَ) (١١) على الرمل فقدروا على المشي عليه كيف أرادوا (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ) فإنه تعالى أوحى إلى الملائكة أني مع المؤمنين (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) أي فانصروهم وبشروهم بالنصرة.

وقد روي أنه كان الملك يتشبه بالرجل الذي يعرفونه بوجهه فيأتي ويقول : إني سمعت المشركين يقولون : والله لئن حملوا علينا لننكشفن ويمشي بين الصفين فيقول : أبشروا فإن الله تعالى ناصركم (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) أي المخافة من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) (١٢) أي فاضربوا رؤوسهم واضربوا أطراف

٤١٩

الأصابع ، أي اضربوهم في جميع الأعضاء من أعاليها إلى أسافلها كيف شئتم لأن الله تعالى ذكر الأشرف والأخس فهو إشارة إلى كل الأعضاء. (ذلِكَ) أي لقاؤهم الخزي من الوجوه الكثيرة (بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي خالفوهما في الأوامر والنواهي (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (١٣) أي ومن يخالفهما فإن الله يعاقبه في القيامة وهو شديد العقاب فالذي نزل بهم في ذلك اليوم قليل بالنسبة لما أعده الله لهم من العقاب في القيامة (ذلِكُمْ) أي الأمر ذلكم فالخطاب للكفرة (فَذُوقُوهُ) في الدنيا (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) (١٤) والمعنى حكم الله ذلكم من أن ثبوت هذا العقاب لكم عاجلا وثبوت عذاب النار لكم آجلا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) أي مثل الزاحفين على أدبارهم في بطء السير لاجتماعهم (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) (١٥) أي لا تجعلوا ظهوركم مما يليهم قل قابلوهم وقاتلوهم مع قلتكم (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ) أي يوم اللقاء (دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) بأن يخيل عدوه أنه منهزم ، ثم ينعطف عليه (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) أي متنحيا إلى جماعة أخرى من المؤمنين لينضم إليهم ، ثم يقاتل معهم العدو (فَقَدْ باءَ) أي رجع (بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٦) والفرار من الزحف من أكبر الكبائر إذا لم يزد العدد على الضعف (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) أنتم بقوتكم (وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) لتسليطكم عليهم وإلقاء الرعب في قلوبهم ، أي فلم تؤثر قوتكم في قتلهم ولكن التأثير لله (وَما رَمَيْتَ) يا أكرم الرسل (إِذْ رَمَيْتَ) أي وما رميت في الحقيقة وقت رميت التراب إلى وجوه المشركين (وَلكِنَّ اللهَ رَمى) أي أوصل رميك إليهم.

روي أنه لما طلعت قريش من العقنقل قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك اللهم إني أسألك ما وعدتني». فنزل إليه جبريل وقال له : خذ قبضة من تراب فارمهم بها ، فلما التقى الجمعان قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي رضي‌الله‌عنه : «أعطني قبضة من التراب من حصباء الوادي ، فرمى بها في وجوههم وقال : شاهدت الوجوه فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه» فانهزموا وردفهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم.

وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «ولكن الله قتلهم» ، «ولكن الله رمى» بكسر النون مخففة ورفع اسم الجلالة (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) أي ولينعم الله عليهم من رمي التراب نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة والثواب ، وهذا معطوف على قوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ رَمى). (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لاستغاثتهم (عَلِيمٌ) (١٧) بأحوال قلوبهم الداعية إلى الإجابة (ذلِكُمْ) أي الأمر ذلكم أي البلاء الحسن (وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) (١٨) معطوف على ذلكم. وقرأ حفص عن عاصم موهن كيد بالإضافة وسكون الواو. وقرأ ابن عامر والكوفيون بعدم الإضافة ، ونافع وابن كثير وأبو عمرو كذلك لكن مع فتح الواو وتشديد الهاء أي والأمر أن الله مضعف صنيع الكافرين

٤٢٠