مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

ومعنى فهينم أي أخف الدعاء والغمام هنا المطر فلما غنتا به أزعجهم ذلك وقالوا : إن قومكم يتغوثون من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم. فقال لهم مرثد بن سعد : والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى الله تعالى سقاكم وأظهر إسلامه فقالوا لمعاوية : احبس عنا مرثدا لا يقدمن معنا مكة فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا. ثم دخلوا مكة فقال قيل : اللهم أسق عادا ما كنت تسقيهم فأنشأ الله تعالى سحابات ثلاثا بيضاء وحمراء وسوداء ، ثم ناداه مناد من السماء : يا قيل اختر لنفسك ولقومك ، فقال : اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء ، فخرجت على عاد من واد لهم يسمى وادي المغيث ، فاستبشروا بها وقالوا : هذا عارض ممطرنا فجاءتهم منها ريح عقيم وهي باردة ذات صوت شديد لا مطر فيها ، وكان ابتداء مجيئها في صبيحة الأربعاء في الحادي والعشرين من شوال في آخر الشتاء وسخرت عليهم سبع ليال وثمانية أيام فأهلكتهم ونجا هود والمؤمنون معه فأتوا مكة فعبدوا الله فيها إلى أن ماتوا.

وروي عن علي رضي‌الله‌عنه أن قبر هود بحضرموت في كثيب أحمر.(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ) أي وأرسلنا إلى ثمود أخاهم في النسب لا في الدين (صالِحاً) وثمود قبيلة أخرى من العرب سموا باسم أبيهم الأكبر وهو ثمود بن غابر بن ارم بن سام بن نوح. وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى واد القرى (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وحده (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ) أي شاهدة بنبوتي وهي الناقة (مِنْ رَبِّكُمْ) خلقها بلا واسطة (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) أي علامة على رسالة الله وإضافة الناقة إلى الله لتعظيمها وتخصيصها كما يقال : بيت الله أو لأنها لا مالك لها غير الله ، أو لأنها حجة الله على القوم. ووجه كونها آية لخروجها من الجبل لا من ذكر وأنثى ولكمال خلقتها من غير تدريج «وناقة الله» عطف بيان لهذه أو مبتدأ ثان و «لكم» خبر عامل في آية في نصبها على الحال. ويجوز أن يكون عامل الحال معنى التنبيه ، أو معنى الإشارة. وجملة قوله : (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ) آية في محل رفع بدل من قوله بينة لأنها مفسرة له وجاز إبدال جملة من مفرد لأنها في معناه (فَذَرُوها) أي فاتركوها (تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) في الحجر أي الناقة ناقة الله والأرض أرض الله فاتركوها تأكل من إنباتكم (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) أي ولا تضربوها ولا تقربوا منها شيئا من أنواع الأذى إكراما لآية الله تعالى (فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٧٣) أي بسبب أذاها (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ) أي فلما أهلك الله عادا عمر ثمود بلادها وخلفوهم في الأرض وكثروا وعمروا أعمارا أطوالا (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي أنزلكم في أرض الحجر بين الحجاز والشام (تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً) أي تبنون من سهولة الأرض قصورا بما تعملون منها من الرهص واللبن والآجر للصيف وسميت

٣٨١

القصور بذلك لقصور الفقراء عن تحصيلها وحبسهم عن نيلها (وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً) أي وتنقبون في الجبال بيوتا للشتاء وذلك لطول أعمارهم فإن السقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم فكان عمر واحد منهم ثلاثمائة سنة إلى سنة كقوم هود (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) أي نعمة الله عليكم بعقولكم فإنكم متنعمون مترفهون (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (٧٤) أي ولا تعملوا في الأرض شيئا من أنواع الفساد (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) أي قال الجماعة الذين تكبروا عن الإيمان بصالح للمساكين الذين آمنوا به. فقوله تعالى : (لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) بدل من الموصول بإعادة العامل بدل الكل وضمير «منهم» راجع «لقومه». أي قالوا للمؤمنين الذين استرذلوهم بطريق الاستهزاء بهم. (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ) إليكم (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) (٧٥) أي نحن مصدقون بما جاء به صالح (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) عن امتثال أمر ربهم وهو الذي أوصله الله إليهم على لسان صالح بقوله فذروها تأكل في أرض الله (إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) (٧٦) (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) أي قتلها قدار بن سالف بأمرهم في يوم الأربعاء فقال لهم صالح : إن آية العذاب أن تصبحوا غدا صفرا ، ثم أن تصبحوا في يوم الجمعة حمرا ، ثم أن تصبحوا يوم السبت سودا ، ثم يصبحكم العذاب يوم الأحد (وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أي ارتفعوا فأبوا عن قبول أمر ربهم الذي أمرهم صالح (وَقالُوا) استهزاء (يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا) أي من العذاب (إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٧٧) فإنهم كذبوا صالحا في قوله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أي الزلزلة الشديدة من الأرض والصيحة من السماء (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) (٧٨) أي فصاروا في بلدهم خامدين موتى لا يتحركون. والمراد كونهم كذلك عند ابتداء نزول العذاب من غير اضطراب ولا حركة.

روي أنه تعالى لما أهلك عادا قام ثمود مقامهم وطال عمرهم ، وكثر تنعمهم ، ثم عصوا الله وعبدوا الأصنام ، فبعث الله إليهم صالحا ـ وكان منهم ـ فطالبوه بالمعجزة فقال : ما تريدون؟ فقالوا : تخرج معنا في عيدنا ، ونخرج أصناما فتسأل إلهك ونسأل أصنامنا فإذا ظهر أثر دعائك اتبعناك ، وإن ظهر أثر دعائنا اتبعتنا فخرج معهم ودعوا أوثانهم فلم تجبهم ، ثم قال سيدهم جندع بن عمرو لصالح عليه‌السلام وأشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجبل يقال لتلك الصخرة كائبة : أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة كبيرة جوفاء وبراء فإن فعلت ذلك صدقناك ، فأخذ صالح عليهم المواثيق أنه إن فعل ذلك آمنوا فقبلوا ، فصلى ركعتين ودعا الله تعالى ، فتمخضت تلك الصخرة كما تتمخض الحامل ، ثم انفرجت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء ، وكانت في غاية الكبر ، ثم نتجت ولدا مثلها في العظم فآمن به جندع ورهط من قومه وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا به فنهاهم ذؤاب بن عمرو والخباب صاحبا أوثانهم ورباب بن صمعر كاهنهم فمكثت الناقة مع

٣٨٢

ولدها ترعى الشجر وتشرب الماء ، وكانت ترده غبا فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر فما ترفعه حتى تشرب كل ما فيها ، ثم تفرج بين رجليها فيحلبون ما شاءوا حتى تمتلئ أوانيهم فيشربون ويدخرون ، وكانت إذا وقع الحر تصيفت بظهر الوادي فيهرب منها أنعامهم ، وإذا وقع البرد تشتت ببطن الوادي فتهرب مواشيهم ، فشق ذلك عليهم وزينت عقرها لهم امرأتان : عنيزة وصدقة ، لما أضرت به من مواشيهم ، فعقروها واقتسموا لحمها وطبخوه فرقى ولدها جبلا مسمى بقارة فرغا ثلاثا ، وقال صالح عليه‌السلام لهم : أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب ، فلم يقدروا عليه وانفتحت الصخرة بعد رغائه ، فدخلها ، فقال لهم صالح : تصبحون غدا وجوهكم مصفرة ، وبعد غد وجوهكم محمرة ، واليوم الثالث وجوهكم مسودة ، ثم يصبحكم العذاب فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه ، فأنجاه الله تعالى إلى أرض فلسطين ، ولما كان اليوم الرابع واشتد الضحى تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع ، فأتتهم صيحة من السماء ورجفة من الأرض فتقطعت قلوبهم وهلكوا (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) أي خرج صالح من بينهم قبل موتهم (وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ) أي بالترغيب والترهيب وبذلت فيكم وسعي ولكن لم تقبلوا مني ذلك كما قال (وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) (٧٩) أي لم تطيعوا الناصحين بل تستمروا على عداوتهم.

وروي أن صالحا خرج في مائة وعشرة من المسلمين وهو يبكي فالتفت فرأى الدخان ساطعا ، فعلم أنهم قد هلكوا ، وكانوا ألفا وخمسمائة دار (وَلُوطاً) أي وأرسلنا لوطا ابن هاران إلى قومه. أي فأرسله الله تعالى إلى أهل سدوم وهي بلد بحمص (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) أي وقت قوله لهم فإرساله إليهم لم يكن في أول وصوله إليهم (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) أي أتفعلون اللواطة (ما سَبَقَكُمْ بِها) أي بهذه الفاحشة (مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) (٨٠)

قال محمد بن إسحاق : كانت لهم ثمار وقرى لم يكن في الأرض مثلها فقصدهم الناس فآذوهم ، فعرض لهم إبليس في صورة شيخ : إن فعلتم بهم كذا وكذا نجوتم منهم ، فأبوا ، فألح عليهم فقصدوهم فأصابوا غلمانا حسانا فاستحكم فيهم ذلك (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ) أي إنكم لتأتون أدبار الرجال لمجرد الشهوة لا للولد ولا للألفة متجاوزين فروج النساء اللاتي هن محال الاشتهاء.

وقرأ نافع وحفص عن عاصم «إنكم» بهمزة واحدة مكسورة على الخبر المستأنف ، وهو بيان لتلك الفاحشة.

وقرأ ابن كثير بهمزتين بدون ألف بينهما. وبتسهيل الثانية ، وأبو عمرو كذلك لكنه أدخل الألف بينهما. وهشام بتحقيق الهمزتين بينهما مد. والباقون بتحقيقهما من غير مدّ بينهما على

٣٨٣

الأصل ، وهذا الاستفهام معناه الإنكار (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (٨١) أي مجاوزين الحلال إلى الحرام ، وأنتم قوم عادتكم الزيادة في كل عمل (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا) أي ما كان جوابا من جهة قومه شيء من الأشياء في المرة الأخيرة من مرات المحاورة بينه وبينهم إلا قولهم لبعضهم الآخرين المباشرين لتلك الأمور معرضين عن مخاطبة لوط عليه‌السلام (أَخْرِجُوهُمْ) أي لوطا وابنتيه زعورا وريثا (مِنْ قَرْيَتِكُمْ) سذوم (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (٨٢) أي يتنزهون عن أدبار الرجال قالوا ذلك على سبيل السخرية بلوط وأهله ، وعلى سبيل الافتخار بما هم فيه (فَأَنْجَيْناهُ) أي لوطا (وَأَهْلَهُ) وهم بنتاه (إِلَّا امْرَأَتَهُ) الكافرة واسمها واهلة (كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) (٨٣) أي الباقين في ديارهم فهلكت في العذاب مع الهالكين فيها لأنها تسر الكفر موالية لأهل سذوم ، وأما لوط فخرج مع بنتيه من أرضهم ، وطوى الله له الأرض في وقته حتى نجا ووصل إلى إبراهيم وهو في فلسطين (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) أي وأرسلنا عليهم إرسال المطر آجرا محروقا معجونا بالكبريت والنار.

قال مجاهد : نزل جبريل عليه‌السلام وأدخل جناحه تحت مدائن قوم لوط ، فاقتلعها ورفعها إلى السماء ثم قلبها فجعل أعلاها أسفلها ، ثم أتبعوا بالحجارة. وقيل : المعنى وأنزلنا على الخارجين من المداين الخمسة حجارة من السماء معلّمة عليها اسم من يرمى بها.

وروي أن تاجرا منهم كان في الحرم فوقف الحجر له أربعين يوما حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فوقع عليه (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (٨٤) أي فانظر يا من يتأتى منه النظر كيف أمطر الله حجارة من طين مطبوخ بالنار متتابع في النزول على من يعمل ذلك العمل المخصوص ، وكيف أسقط مدائنها مقلوبة إلى الأرض (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ) أي وأرسلنا إلى أولاد مدين بن إبراهيم عليه‌السلام أخاهم في النسب لا في الدين (شُعَيْباً) بن ميكيل. وقيل : شعيب بن ثويب بن مدين بن إبراهيم (قالَ) لقومه وهم أهل كفر وبخس للمكيال والميزان : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وحده (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ) أي معجزة (مِنْ رَبِّكُمْ) دالة على رسالة الله وعلى صدق ما جئت به ومن معجزات شعيب أنه دفع عصاه إلى موسى ، وتلك العصا حاربت التنين وأنه قال لموسى : إن هذه الأغنام تلد أولادا فيها سواد في أوائلها وبياض في أواخرها ، وقد وهبتها منك ، فكان الأمر كما أخبر عنه ، وأنه وقع على يده عصا آدم عليه‌السلام فإن جميع ذلك كان قبل استنباء موسى عليه‌السلام.

وقيل : إن المراد بالبينة نفس شعيب عليه‌السلام (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) أي أتموا كيل المكيال ووزن الميزان (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) أي ولا تنقصوا حقوق الناس بجميع الوجوه كالغصب والسرقة وأخذ الرشوة وقطع الطريق ، وانتزاع الأموال بطريق الحيل. وقيل :

٣٨٤

كانوا مكّاسين لا يدعون شيئا إلا مكسوة كما يفعل أمراء الجور (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بالمعاصي (بَعْدَ إِصْلاحِها) بعد أن أصلحها الله بتكثير النعم فيها. قال ابن عباس : كانت الأرض قبل أن يبعث الله شعيبا رسولا ، تعمل فيها المعاصي وتستحل فيها المحارم وتسفك فيها الدماء فذلك فسادها ، فلما بعث الله شعيبا ودعاهم إلى الله صلحت الأرض. وكان كل نبي يبعث إلى قومه فهو صلاحهم ، وحاصل هذه التكاليف الخمسة يرجع إلى أصلين :

أحدهما : التعظيم لأمر الله ويدخل فيه الإقرار بالتوحيد والنبوة.

وثانيهما : الشفقة على خلق الله ويدخل فيه ترك البخس وترك الإفساد (ذلِكُمْ) أي هذه الأمور الخمسة (خَيْرٌ لَكُمْ) مما أنتم فيه في طلب المال ، لأن الناس إذا علموا منكم الوفاء والصدق والأمانة رغبوا في المعاملات معكم فكثرت أموالكم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٨٥) أي مصدّقين لي في قولي هذا (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) أي ولا تجلسوا على كل طريق فيه ممر الناس تهددون من مرّ بكم من الغرباء ، فكانوا قطّاع طريق وكانوا مكّاسين (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ) أي وتصرفون عن دين الله من آمن بالله (وَتَبْغُونَها عِوَجاً) أي وتطلبون سبيل الله معوجة بإلقاء الشكوك والشبهات فكانوا يجلسون على الطرق ويقولون لمن يريد شعيبا : إنه كذاب ارجع لا يفتنك عن دينك فإن آمنت به قتلناك.

وجملة الأفعال الثلاثة التي هي توعدون ، وتصدون ، وتبغون أحوال ، أي لا تقعدوا موعدين وصادين وباغين (وَاذْكُرُوا) نعمة الله عليكم (إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً) بالعدد. (فَكَثَّرَكُمْ) بالعدد قيل : إن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت ، فرمى الله تعالى في نسلهما بالبركة فكثروا (وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (٨٦) أي كيف صار آخر أمر المشركين قبلكم بالهلاك بتكذيبهم رسلهم (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ) من الشرائع والأحكام (وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا) أي فانتظروا أيها المؤمنون والكافرون (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا) جميعا من مؤمن وكافر بإعلاء درجات المؤمنين وبإظهار هوان الكافرين (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) (٨٧) أي إنه تعالى حاكم عادل منزّه عن الجور (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) أي قال الجماعة الذين أنفوا من قبول قوله وبالغوا في العتو : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا) والظرف متعلق بالإخراج لا بالإيمان. أي والله لنخرجنك وأتباعك من مدين (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) أي أو لتصيرن إلى ملتنا (قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) (٨٨) أي قال شعيب : أتصيروننا في ملتكم وإن كنا كارهين للدخول فيها (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً) عظيما حيث نزعم أن لله تعالى ندا (إِنْ عُدْنا) أي إن دخلنا (فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) أي من ملتكم (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) أي وما يجوز لنا أن ندخل في ملتكم إلا أن يأمر الله بالدخول فيها

٣٨٥

وهيهات ذلك (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي ربما كان في علمه تعالى حصول بقائنا في هذه القرية من غير أن نعود إلى ملتكم بل الله يجعلكم مقهورين تحت أمرنا ذليلين خاضعين تحت حكمنا (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) أي في أن يثبتنا على ما نحن عليه من الإيمان (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) أي يا ربنا احكم بيننا بالعدل (وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) (٨٩) أي الحاكمين. أو المعنى أظهر أمرنا حتى ينفتح ما بيننا وبينهم بأن تنزل عليهم عذابا يتميز به المحق من المبطل (وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) أي وقال الرؤساء من قوم شعيب للسفلة (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً) في دينه (إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) (٩٠) في الدين وفي الدنيا لأنه يمنعكم من أخذ الزيادة من أموال الناس وعند هذا المقال كمل حالهم في الضلال والإضلال فاستحقوا الإهلاك (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أي الزلزلة الشديدة المهلكة (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) (٩١) أي فصاروا في مساكنهم خامدين ساكنين بلا حياة (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) أي الذين كذبوا شعيبا استؤصلوا بالمرة وصاروا كأنهم لم يقيموا في قريتهم أصلا ، أي عوقبوا بقولهم : لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا وصاروا هم المخرجين من القرية إخراجا لا دخول بعده أبدا (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) (٩٢) دينا ودنيا دون الذين اتبعوه فإنهم الرابحون في الدارين (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) أي خرج شعيب من بينهم قبل الهلاك.

وقال الكلبي : ولم يعذب قوم نبي حتى أخرج من بينهم (وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) بالأمر والنهي (وَنَصَحْتُ لَكُمْ) أي حذرتكم من عذاب الله ودعوتكم إلى الإيمان والتوبة ، وإنما اشتد حزنه على قومه لأنهم كانوا كثيرين ، وكان يتوقع منهم الاستجابة للإيمان فلما أن نزل بهم ذلك الهلاك العظيم بوجود علاماته كحبس الريح عنهم سبعة أيام حصل في قلبه الحزن من جهة القرابة والمجاورة وطول الألفة ، ثم عزى نفسه وقال : (فَكَيْفَ آسى) أي أحزن حزنا شديدا (عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) (٩٣) لأنهم هم الذين أهلكوا أنفسهم بسبب إصرارهم على الكفر. وقيل : قال شعيب ذلك اعتذارا من عدم شدة حزنه عليهم. والمعنى لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ والنصيحة مما حل بكم فلم تسمعوا قولي ولم تقبلوا نصيحتي فكيف آسى عليكم ، والمراد أنهم ليسوا مستحقين بأن يأسى الإنسان عليهم ، وقرأ يحيى بن وثاب فكيف آسى ، بإمالتين (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍ) فكذبه أهلها (إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها) أي عاقبناهم (بِالْبَأْساءِ) أي الشدة في أحوالهم كالخوف وضيق العيش (وَالضَّرَّاءِ) أي الأمراض والأوجاع (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) (٩٤) أي كي يتذللوا وينقادوا لله تعالى (ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) أي ثم أعطيناهم السعة والصحة بدل ما كانوا فيه من البلاء والمرض لأن ورود النعمة في المال والبدن يدعو إلى الاشتغال بالشكر (حَتَّى عَفَوْا) أي كثروا في أنفسهم وأموالهم (وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) كما أصابنا وهذه عادة الزمان في أهله فمرة يحصل فيهم الشدة والنكد ، ومرة يحصل لهم الرخاء والراحة

٣٨٦

فصبروا على دينهم ، فنحن مثلهم نقتدي بهم وليست عقوبة من الله بسبب ما نحن عليه من الدين والعمل فلما لم ينقادوا بالشدة وبالرخاء لم ينتفعوا بذلك الإمهال أخذهم الله بغتة أينما كانوا قال تعالى : (فَأَخَذْناهُمْ) بعد ذلك (بَغْتَةً) أي فجأة بالعذاب (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٩٥) أي وقت نزول العذاب ولا يخطرون ببالهم شيئا من المكاره (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى) الذين أهلكناهم (آمَنُوا) بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر (وَاتَّقَوْا) ما نهى الله عنه (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ) بالمطر (وَالْأَرْضِ) بالنبات والثمار والمواشي وحصول الأمن والسلامة. وقرأ ابن عامر «لفتحنا» بتشديد التاء للتكثير (وَلكِنْ كَذَّبُوا) ذلك ولم يتقوا ما حرمه الله (فَأَخَذْناهُمْ) بالجدوبة والعذاب (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٩٦) من الكفر والمعاصي (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) أي أبعد ذلك أمن أهل القرى (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا) أي عذابنا (بَياتاً) أي ليلا (وَهُمْ نائِمُونَ) (٩٧) أي غافلون عن ذلك (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى) أي نهارا (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (٩٨) أي يشتغلون بما ينفعهم ، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر بسكون الواو (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) أي عذاب الله (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) (٩٩) وهم الذين لا يعرفون ربهم لغفلتهم فلا يخافونه. وسمي العذاب مكرا لنزوله بهم من حيث لا يشعرون (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ).

قرأ الجمهور «يهد» بالياء من تحت ، أي أولم يتبين للذين يرثون أرض مكة من المتقدمين بسكونها من بعد هلاك أهلها تعذيبنا إياهم بسبب ذنوبهم لو شئنا ذلك كما عذبنا من قبلهم ، وفاعل «يهد» مصدر مؤول من «أن» وما في حيزها أن نزل «يهد» منزلة اللازم وإلا فمفعوله له محذوف والتقدير أولم يوضح للوارثين أرض مكة من بعد هلاك أهلها عاقبة أمرهم أن الشأن لو نشاء الإصابة أصبناهم بجزاء ذنوبهم كما أصبنا من قبلهم وأهلكنا الوارثين كما أهلكنا المورثين (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي إن لم نهلكهم بالعقاب نطبع على قلوبهم (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) (١٠٠) أي لا يقبلون موعظة من أخبار الأمم المهلكة. والمراد إما الإهلاك وإما الطبع على القلب ، لأن الإهلاك لا يجتمع مع الطبع على القلب فإذا أهلك شخص يستحيل أن يطبع على قلبه وإنما يحصل الطبع حال استمراره على الكفر فهو يكفر أولا ثم يصير مطبوعا عليه في الكفر ، ولم يكن هذا التقرير منافيا لصحة عطف قوله : و «نطبع» على «أصبناهم» (تِلْكَ الْقُرى) وهي قرى قوم نوح ، وعاد وثمود ، وقوم لوط ، وقوم شعيب (نَقُصُّ عَلَيْكَ) يا أكرم الرسل (مِنْ أَنْبائِها) كيف أهلكت وإنما خصّ الله أنباء هذه القرى لأنهم اغتروا بطول الإمهال مع كثرة النعم فتوهموا أنهم على الحق فذكرها الله تعالى تنبيها لقوم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليحترزوا عن مثل تلك الأعمال (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي وبالله لقد جاء كل أمة من تلك الأمم المهلكة أنبياؤهم الذين أرسلوا إليهم بالمعجزات الواضحة الدالة على صحة رسالتهم الموجبة للإيمان (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما

٣٨٧

كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) أي فبعد رؤية المعجزات ما كان أولئك الكفار ليؤمنوا بالشرائع التي كذبوها قبل رؤية تلك المعجزات. والمعنى كانت كل أمة من أولئك الأمم في زمن الجاهلية يتسامعون بكلمة التوحيد من بقايا من قبلهم فيكذبونها ، ثم كانت حالهم بعد مجيء نبيهم الذي أرسل إليهم كحالتهم قبل ذلك كأن لم يبعث إليهم أحد (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) (١٠١) أي مثل ذلك الذي طبع الله على قلوب كفار الأمم الخالية يطبع على قلوب الكافرين الذين كتب الله عليهم أن لا يؤمنوا أبدا (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) أي وما وجدنا أكثر الناس على إيمان كما قاله ابن مسعود أو على عهد أول وهو الذي عاهدهم الله وهم في صلب آدم حيث قال : ألست بربكم؟ قالوا : بلى ، فلما أقروا بربوبية الله تعالى في عالم الذر ثم خالفوا ذلك في هذا العالم صار كأنه ما كان لهم عهد (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) (١٠٢) أي وإن الشأن. والحديث : «وجدنا أكثر الأمم في عالم الشهادة خارجين عن الطاعة صارفين عن الدين» (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد انقضاء الرسل المذكورين أو من بعد هلاك الأمم المحكية (مُوسى بِآياتِنا) التسع الدالة على صدقه (إِلى فِرْعَوْنَ) واسمه قابوس.

وقيل : اسمه الوليد بن مصعب بن ريان ، وكان ملكه أربعمائة سنة ، وعاش ستمائة وعشرين سنة ولم ير في تلك المدة مكروها قط من وجع ، أو حمى ، أو جوع ، ولو حصل له ذلك لما ادعى الربوبية (وَمَلَائِهِ) أي عظماء قومه (فَظَلَمُوا بِها) أي بتلك الآيات أي وضعوا الإنكار في موضع الإقرار ووضعوا الكفر في موضع الإيمان وذلك ظلم منهم على تلك الآيات الظاهرة (فَانْظُرْ) أيها المخاطب بعين عقلك (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (١٠٣) وكيف فعلنا بهم (وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ) إليك وإلى قومك (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٠٤) (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ).

وقرأ نافع «على» بتشديد الياء ، فـ «حقيق» فحقيق مبتدأ وخبره ما دخلت عليه «أن» ، أي واجب على ترك القول على الله إلا بالحق. والباقون بمد اللام ، والمعنى أنا ثابت بأن لا أقول على الله إلا الصدق. وقرأ أبي «بأن لا أقول بالباء». وقرأ عبد الله والأعمش «أن لا أقول» بدون حرف جر (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ) أي معجزة شاهدة على رسالتي (مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) (١٠٥) أي فخلهم حتى يذهبوا معي إلى الأرض المقدسة التي هي وطن آبائهم مع أموالهم فكان فرعون عاملهم معاملة العبيد في الاستخدام. (قالَ) أي فرعون (إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها) أي إن كنت جئت بآية من عند من أرسلك فأحضرها عندي ليثبت صدقك (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (١٠٦) في دعواك أنك رسول (فَأَلْقى) موسى (عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ) أي حية ضخمة صفراء ذكر (مُبِينٌ) (١٠٧) أي ظاهر لا يشك في كونه ثعبانا.

٣٨٨

روي أنه لما ألقاها صارت ثعبانا أشعر ، فاغرا فاه بين لحييه ثمانون ذراعا ، وضع لحيه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر ، ثم توجه نحو فرعون ليبتلعه فوثب فرعون عن سريره هاربا ، وأحدث ، وانهزم الناس مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفا ، فصاح فرعون : يا موسى ، أنشدك بالذي أرسلك خذه وأنا أومن بك وأرسل معك بني إسرائيل ، فأخذه فعاد عصا (وَنَزَعَ يَدَهُ) أي أخرجها من طوق قميصه (فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ) بياضا نورانيا غلب شعاعه شعاع الشمس (لِلنَّاظِرِينَ) (١٠٨) (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ) أي الرؤساء منهم وهم أصحاب مشورته (إِنَّ هذا) أي موسى (لَساحِرٌ عَلِيمٌ) (١٠٩) أي حاذق بالسحر ، فإنهم قالوا ذلك مع فرعون على سبيل التشاور (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) أي من أرض مصر (فَما ذا تَأْمُرُونَ) (١١٠) قاله لفرعون خدمه والأكابر فإن الأتباع يفوضون الأمر والنهي إلى المخدوم والمتبوع أولا ، ثم يذكرون ما حضر في خواطرهم من المصلحة بقولهم : أرجه وأخاه. قال تعالى : (قالُوا أَرْجِهْ) فيه ست قراءات. ثلاثة بإثبات الهمزة التي بعد الجيم وهي كسر الهاء من غير إشباع لابن ذكوان عن ابن عامر ، وضمها كذلك لأبي عمرو وبإشباع حتى يتولد من الضمة واو على الأصل لابن كثير ، وهشام عن ابن عامر. وثلاثة بحذف الهمزة وهي سكون الهاء وصلا ووقفا لعاصم وحمزة ، وكسر الهاء من غير إشباع لقالون وبه حتى يتولد منها ياء لنافع والكسائي. وورش أي أخر أمر موسى ولا تعجل في أمره بحكم. والمراد أنهم حاولوا معارضة معجزته بسحرهم ليكون ذلك أقوى في إبطال قول موسى (وَأَخاهُ) هارون (وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) (١١١) أي وأرسل في مدائن صعيد مصر شرطا يحشرون إليك ما فيها من السحرة وكان رؤساء السحرة ومهرتهم في أقصى مدائن الصعيد (يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) (١١٢) أي ماهر في السحر.

وقرأ حمزة والكسائي «سحار» كما اتفقوا عليه في سورة الشعراء (وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ) بعد ما أرسل الشرط في طلبهم (قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً) على الغلبة. قرأ نافع وابن كثير وحفص عن عاصم «أن» بهمزة واحدة. والباقون بهمزتين وأدخل أبو عمرو الألف بينهما (إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) (١١٣) لموسى (قالَ نَعَمْ). وقرأ الكسائي بكسر العين (وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (١١٤) أي نعم لكم الأجر ولكم المنزلة الرفيعة عندي زيادة على الأجر ، أي فإني لا أقتصر بكم على الثواب بل أزيدكم عليه ، وتلك الزيادة إني أجعلكم من المقربين إليّ بالمنزلة. (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) عصاك أولا (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) (١١٥) ما معناه من الحبال والعصي أولا ، فلما راعوا حسن الأدب حيث قدموا ذكر موسى عليه‌السلام رزقهم الإيمان ببركة رعاية هذا الأدب (قالَ) موسى مريدا الإبطال ما أتوا به من السحر وإزراء شأنهم : (أَلْقُوا) ما تلقون (فَلَمَّا أَلْقَوْا) عصيا وحبالا (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) أي صرفوها عن إدراك حقيقتها فتخيلوا أحوالا

٣٨٩

عجيبة مع أن الأمر في الحقيقة ما كان وفق ما تخيلوه. قيل : إنهم أتوا بالحبال والعصي ولطخوا تلك الحبال بالزئبق ، وجعلوا الزئبق في دواخل تلك العصي فلما أثر تسخين الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض وكانت كثيرة جدا ، فالناس تخيلوا أنها تتحرك وتلتوي باختيارها وقدرتها (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) أي بالغوا في تخويف عظيم للعوام من حركات تلك الحبال والعصي وخاف موسى أن يتفرقوا قبل ظهور معجزته فكان خوفه لأجل فزع الناس واضطرابهم مما رأوه من أمر تلك الحيات ، وليس خوفه لأجل سحرهم لأنه كان على ثقة من الله تعالى أنهم لم يغلبوه وهو غالبهم (وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) (١١٦) في باب السحر وعند السحرة وإن كان حقيرا في نفسه قيل : كانت الحبال والعصي حمل ثلاثمائة بعير وذلك أنهم ألقوا حبالا غلاظا وأخشابا طوالا فإذا هي حيات كأمثال الحبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا وكانت سعة الأرض ميلا في ميل فصارت كلها حيات (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ) ولما ألقى موسى العصا صارت حية عظيمة حتى سدت الأفق ثم فتحت فكها فكان ما بين فكيها ثمانين ذراعا ، وابتلعت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم فلما أخذها موسى صارت عصا كما كانت من غير تفاوت في الحجم أصلا كما قال تعالى (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ) أي تلقم (ما يَأْفِكُونَ) (١١٧) أي الذي يقبلونه عن الحق إلى الباطل (فَوَقَعَ الْحَقُ) أي فظهر الحق مع موسى (وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١١٨) أي واضمحل ما عملوه من السحر وسبب هذا الظهور أن السحرة قالوا : لو كان ما صنع موسى سحرا لبقيت حبالنا وعصينا فلما فقدت ثبت أن ذلك حصل بخلق الله تعالى لا لأجل السحر (فَغُلِبُوا) أي فرعون وقومه (هُنالِكَ) أي في المكان الذي وقع فيه سحرهم (وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ) (١١٩) أي صاروا ذليلين مبهوتين (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) (١٢٠) أي خروا سجدا لله تعالى أي فمن سرعة سجودهم كأنهم ألقوا.

قال ابن زيد : كان اجتماعهم بالإسكندرية وبلغ ذنب الحية وراء البحر ، ثم فتحت فاها ثمانين ذراعا فكان تبتلع حبالهم وعصيهم واحدا واحدا حتى ابتلعت الكل ، وقصدت القوم الذين حضروا ذلك المجمع ففزعوا ووقع الزحام ، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا ، ثم أخذها موسى فصارت في يده عصا كما كانت ، فلما رأى السحرة ذلك عرفوا أنه ليس بسحر فعند ذلك خروا ساجدين (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (١٢١) قال فرعون : إياي تعنون؟ قالوا : لا بل (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) (١٢٢) ولما ظفروا بالمعرفة سجدوا لله تعالى في الحال وجعلوا ذلك السجود شكرا لله تعالى على الفوز بالإيمان والمعرفة ، وعلامة على انقلابهم من الكفر إلى الإيمان ، وإظهارا للخضوع والتذلل لله تعالى فكأنهم جعلوا ذلك السجود الواحد علامة على هذه الأمور الثلاثة على سبيل الجمع وأولئك القوم كانوا عالمين بحقيقة السحر ، فلما وجدوا معجزة موسى خارجة عن حدّ السحر علموا أنها أمر إلهي فاستدلوا بها على أن موسى نبي صادق من عند الله تعالى فلأجل كمالهم في علم السحر انتقلوا من الكفر إلى الإيمان ، فإذا كان حال علم السحر كذلك فما ظنك

٣٩٠

بكمال حال الإنسان في علم التوحيد (قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ) أي برب موسى وهارون واختلف القراء في هذا الحرف هنا ، وفي طه وفي الشعراء فإن القراء في ذلك على أربع مراتب.

الأولى : قراءة الأخوين وأبي بكر عن عاصم ، وهي تحقيق الهمزتين في السور الثلاث من غير إدخال ألف بينهما ، وهو استفهام إنكار ، وأما الألف الثالثة فالكل يقرءونها كذلك وهي فاء الكلمة يجب قلبها ألفا لكونها بعد همزة مفتوحة ، وأما الأولى فمحققة ليس إلا.

والثانية : قراءة حفص وهي «آمنتم» بهمزة واحدة بعدها ألف.

والثالثة : قراءة نافع وأبي عمرو وابن عامر والبزي عن ابن كثير ، وهي تحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين بين.

والرابعة : قراءة قنبل عن ابن كثير ، فقرأ في هذه السورة حال الابتداء «أ آمنتم» بهمزتين أولاهما محققة والثانية مسهلة بين بين وألف بعدها ، كقراءة البزي وحال الوصل يقرأ «قال فرعون» و «آمنتم» بإبدال الأولى واوا وتسهيل الثانية بين بين وألف بعدها. وقرأ في سورة طه كقراءة حفص وفي سورة الشعراء كقراءة البزي (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) أي بغير أن آذن لكم (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها) أي إن إيمان هؤلاء حيلة احتلتموها مع مواطأة موسى في مصر قبل أن تخرجوا إلى الميعاد ، وأن غرضهم بذلك إخراج القوم من مصر وإبطال ملكهم ، وهاتان شبهتان ألقاهما فرعون إلى أسماع عوام القبط ليمنعهم بها عن الإيمان بنبوة موسى عليه‌السلام (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (١٢٣) ما أفعل بكم (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) أي من كل شق طرفا (ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ) أي أعلقكم ممدودة أيديكم لتصير على هيئة الصليب أو حتى يتقاطر صليبكم وهو الدهن الذي فيكم (أَجْمَعِينَ) (١٢٤) (قالُوا) أي السحرة : (إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) (١٢٥) أي راجعون بالموت بلا شك سواء كان بقتلك أو لا فيحكم بيننا وبينك وإنا إلى رحمة ربنا راغبون (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا) أي ما تعب علينا إلا إيماننا آيات ربنا ، أو ما لنا عندك ذنب تعذبنا عليه إلا لإيماننا بآيات ربنا حين جاءتنا (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) أي صبّ علينا صبرا كاملا تاما عند القطع والصلب لكيلا نرجع كفارا (وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) (١٢٦) أي مخلصين على دين موسى. قيل : فعل فرعون ما توعدهم به ، وقيل : لم يقع من فرعون ذلك بل استجاب الله تعالى الدعاء في قولهم وتوفنا مسلمين لأنهم سألوه تعالى أن يكون توفيهم من جهته تعالى لا بقتل فرعون (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ) له لما خلى سبيل موسى (أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ) من بني إسرائيل (لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) أي ليفسدوا على الناس في أرض مصر بتغيير دينهم. واعلم أن فرعون بعد وقوع هذه الواقعة كان كلما رأى موسى خافه أشد الخوف فلهذا السبب لم يتعرض له ، إلا أن قومه لم يعرفوا ذلك فحملوه على أخذه وحبسه (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) أي معبوداتك بكسر اللام جمع إله.

٣٩١

وقرأ ابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأنس وعلي بن أبي طالب «وآلاهتك» بفتح اللام ومدة أي وعبادتك. وقرأ العامة بنصب «يذرك» عطف على «يفسدوا» أو جواب الاستفهام بالواو. وقرأ الحسن ونعيم بن ميسرة بالرفع عطفا على «أنذر» أو استئنافا أو حالا. وقرئ بالسكون (قالَ) فرعون لما لم يقدر على موسى أن يفعل معه مكروها لخوفه منه (سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ) أي أبناء بني إسرائيل ومن آمن موسى صغارا كما قتلناهم أول مرة ، وقرأ نافع وابن كثير «سنقتل» بفتح النون وسكون القاف. والباقون بضم النون وفتح القاف وتشديد التاء (وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) أي ونتركهن أحياء للخدمة (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) (١٢٧) كما كنا وهم مقهورون تحت أيدينا وإنما نترك موسى وقومه من غير حبس لعدم التفاتنا إليهم لا لعجز ولا لخوف ، واختلف المفسرون ، فمنهم من قال : كان فرعون يفعل ذلك ، ومنهم من قال : لم يفعل ذلك لعدم قدرته لقوله تعالى : (أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) [القصص : ٣٥] (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) بني إسرائيل حين تضجروا من قول فرعون على سبيل التسلية لهم (اسْتَعِينُوا بِاللهِ) على فرعون وقومه (وَاصْبِرُوا) على ما سمعتم من أقاويله الباطلة (إِنَّ الْأَرْضَ) أي أرض مصر (لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ).

وقرأ الحسن «يورثها» بفتح الواو وتشديد الراء المكسورة للتكثير. وقرئ «يورثها» بفتح الراء مبنيا للمفعول (وَالْعاقِبَةُ) أي الجنة أو فتح البلاد والنصر على الأعداء (لِلْمُتَّقِينَ) (١٢٨) أي الذين أنتم منهم فمن اتقى الله تعالى فالله يعينه في الدنيا والآخرة. وقرأ ابن مسعود بنصب العاقبة عطفا على الأرض ، فالاسم معطوف على الاسم والخبر على الخبر فهو من عطف المفردات.(قالُوا) أي بنو إسرائيل لموسى لما سمعوا تهديد فرعون بالقتل للأبناء مرة ثانية : (أُوذِينا) من جهة فرعون (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا) بالرسالة (وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) رسولا. قالوا ذلك استكشافا لكيفية وعد موسى إياهم بزوال تلك المضار هل هو في الحال أو لا؟ لا كراهة لمجيء موسى بالرسالة. (قالَ) أي موسى مسليا لهم حين رأى شدة جزعهم مما شاهدوه من فعل فرعون : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ) الذي توعدكم بإعادة فعله (وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي يجعلكم خلفاء في الأرض مصر بعد هلاك أهلها (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (١٢٩) أي فيرى سبحانه وتعالى كيف تعملون في طاعته وهذا حث لهم على التمسك بطاعة الله تعالى ، فالله تعالى يرى وقوع ذلك منكم لأن الله تعالى لا يجازي عباده على ما يعلمه منهم في الأزل وإنما يجازيهم على ما يقع منهم (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ) أي باحتباس المطر وبالجوع (وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ) أي ذهاب الثمرات بإصابة العاهات (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (١٣٠) أي كي يقفوا على أن ذلك لأجل معاصيهم وينزجوا عمّا هم عليه من العتو والعناد (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ) أي الخصب والسعة في الرزق والسلامة (قالُوا لَنا هذِهِ) أي نحن مستحقون من كثرة نعمنا على العادة التي جرت (وَإِنْ

٣٩٢

تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أي جدوبة وشدة وبلاء (يَطَّيَّرُوا) أي يتشاءموا (بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) من المؤمنين ، أي يقولوا : إنما أصابنا هذا الشر بشؤم موسى وقومه (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ) أي حظهم (عِنْدَ اللهِ) أي كل ما يصيبهم من خير أو شر فهو بقضاء الله تعالى وبتقديره.

وقيل : المعنى إنما جاءهم الشر بقضاء الله تعالى وحكمه. وكان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتفاءل ولا يتطير. وأصل الفأل : الكلمة الحسنة. كانت العرب مذهبها في الفأل والطيرة واحد فأثبت النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الفأل وأبطل الطيرة (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١٣١) أن ما يصيبهم من الله تعالى (وَقالُوا) أي آل فرعون وهم القبط لموسى عليه‌السلام (مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) (١٣٢) أي أيّ شيء تظهره لدينا من علامة من عند ربك لتصرفنا عمّا نحن عليه من الدين بذلك الشيء فما نحن لك بمصدقين بالرسالة وكان موسى رجلا حديدا فعند ذلك دعا عليهم فاستجاب الله له فقال تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ) أي الماء من السماء فدخل بيوت القبط وقاموا في الماء إلى تراقيهم ودام ذلك عليهم سبعة أيام من سبت إلى سبت ، ولم يدخل ذلك الماء بيوت بني إسرائيل مع أنها كانت في خلال بيوت القبط فاستغاثوا بفرعون ، فأرسل إلى موسى فقال : اكشف عنا العذاب فقد صارت مصر بحرا واحدا ، فإن كشفت هذا العذاب آمنا بك. فأزال الله عنهم المطر وأرسل الرياح فجففت الأرض وخرج من النبات ما لم يروا مثله قط. فقالوا : هذا الذي جزعنا منه خير لنا لكنا لم نشعر فلا والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل فنكثوا العهد (وَ) أقاموا شهر في عافية فأرسل الله تعالى عليهم (الْجَرادَ) فأكل زروعهم وثمارهم وأبوابهم وسقوفهم وثيابهم ففزعوا إلى موسى ، فدعا موسى عليه‌السلام فأرسل الله تعالى ريحا ، فألقته في البحر بعد ما أقام عليهم سبعة أيام من سبت إلى سبت ، فنظر أهل مصر إلى ما بقي من زرعهم فقالوا : هذا الذي بقي يكفينا ولا نؤمن بك (وَ) أقاموا شهرا في عافية فأرسل الله عليهم (الْقُمَّلَ) أي الجراد الصغير بلا أجنحة من سبت ، فلم يبق في أرضهم عود أخضر إلا أكله ، فصاحوا ودعا موسى فأرسل الله عليه ريحا حارة فأحرقته وألقته في البحر.

وقرأ الحسن «والقمل» بفتح القاف وسكون الميم ـ وهو المعروف ـ وعن سعد بن جبير كان إلى جنبهم كثيب أعفر فضربه موسى بعصاه فصار قملا ، فأخذت في أبشارهم وأشعارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم ، فصرخوا وفزعوا إلى موسى ، فدعا ، فرفع الله عنهم القمل وقالوا : قد تيقّنا اليوم أنك ساحر حيث جعلت الرمل دواب ، وعزة فرعون لا نؤمن بك أبدا (وَ) أقاموا شهرا في عافية ، فأرسل الله تعالى عليهم (الضَّفادِعَ) فخرج من البحر مثل الليل الدامس ، ووقع في الثياب والأطعمة فكان الرجل منهم يستيقظ وعلى رأسه ذراع من الضفادع ، فصرخوا إلى موسى وحلفوا لئن رفعت عنا هذا العذاب لنؤمن بك ، فدعا الله تعالى ، فأمات الضفادع ، وأرسل

٣٩٣

عليها المطر فاحتملها إلى البحر بعد ما أقامت عليهم سبعة أيام من سبت إلى سبت ، ثم أظهروا الكفر (وَ) أقاموا شهرا في عافية ، فأرسل الله عليهم (الدَّمَ) فصارت مياه قلبهم وأنهارهم دما ، فلم يقدروا على الماء العذب حتى بلغ منهم الجهد ، وبنو إسرائيل يجدون الماء العذب الطيب ، وكان فرعون وأشراف قومه يركبون إلى أنهار بني إسرائيل ، فجعل يدخل الرجل منهم النهر فإذا اغترف الماء صار في يده دما ، ومكثوا سبعة أيام في ذلك لا يشربون إلا الدم. فقال فرعون لموسى عليه‌السلام : لئن رفعت عنا العذاب لنصدقن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل مع أموالهم (آياتٍ مُفَصَّلاتٍ) أي مبينات لا يخفى على كل عاقل أن هذه الخمسة من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره ، ومفرقات بعضها من بعض بزمان لامتحان أحوالهم : أيقبلون الحجة أو يستمرون على التقليد. وكان كل عذاب يبقى عليهم أسبوعا من سبت إلى سبت وبين كل عذابين شهر (فَاسْتَكْبَرُوا) عن الإيمان بها وعن عبادة الله (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) (١٣٣) مصرين على الذنب (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ) أي كلما نزل عليهم العذاب من الأنواع الخمسة (قالُوا) في كل مرة : (يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) أي بما أعلمك به وهو كشف العذاب عنا إن آمنا. أو المعنى أقسمنا بعهد الله عندك وهو النبوة (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ) أي لئن رفعت عنا العذاب الذي نزل علينا (لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ) (١٣٤) أي مع أموالهم (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ) أي حدّ معين (هُمْ بالِغُوهُ) لا بدّ وهو وقت إهلاكهم بالغرق في اليم (إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) (١٣٥) أي فلما رفعنا عنهم العذاب فاجأوا نكث العهد من غير تأمل وتوقف ، ثم عند حلول ذلك الأجل لا نزيل عنهم العذاب بل نهلكهم به (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) أي فلما بلغوا الأجل الموقت أهلكناهم (فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِ) أي البحر الملح. والفاء تفسيرية (بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا) التسع الدالة على صدق رسولنا (وَكانُوا عَنْها) أي تلك الآيات (غافِلِينَ) (١٣٦) أي معرضين غير ملتفتين إليها (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) بقتل أبنائهم وأخذ الجزية منهم واستعمالهم في الأعمال الشاقة وهم بنو إسرائيل (مَشارِقَ الْأَرْضِ) أي أرض الشام ومصر (وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها) بالخصب وسعة الأرزاق ، وبالنيل (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أي ومضى وعده تعالى عليهم (بِما صَبَرُوا) أي بسبب صبرهم على الشدائد. فمن قابل البلاء بالصبر وانتظار النصر ضمن الله له الفرج ، ومن قابله بالجزع وكله الله إليه. (وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ) فـ «فرعون» اسم «كان» و «يصنع» خبر لـ «كان» مقدم. أي وخربنا الذي كان فرعون يصنعه من المدائن والقصور (وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) (١٣٧) أي يرفعون من الشجر والكروم أو ما كانوا يرفعونه من البنيان كصرح هامان.

وقرأ ابن عامر وشعبة بضم الراء. والباقون بكسرها (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) مع السلامة بأن فلق الله البحر عند ضرب موسى البحر بالعصا. روي أن موسى عبر بهم يوم عاشوراء

٣٩٤

بعد ما أهلك الله تعالى فرعون وصامه شكرا لله تعالى (فَأَتَوْا) أي فمروا (عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) أي يواظبون على عبادة أصنام لهم وكانت تماثيل على صور البقر ، وهم من الكنعانيين الذين أمر موسى بقتالهم.

وقرأ حمزة والكسائي بكسر الكاف. والباقون بالضم (قالُوا) عند ما شاهدوا أحوالهم (يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً) أي عين لنا تماثيل نتقرب بعبادتها إلى الله تعالى (كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) يعبدونها. (قالَ) موسى : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (١٣٨) فلا جهل أعظم مما ظهر منهم فإنهم قالوا ذلك بعد ما شاهدوا المعجزة العظمى (إِنَّ هؤُلاءِ) أي القوم الذين يعبدون تلك التماثيل (مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ) أي مهلك ما هم فيه من الدين. أي إن الله يهدم دينهم عن قريب ويحطم أصنامهم (وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٣٩) من عبادتها أي فلا يعود عليهم من ذلك العمل نفع ولا دفع ضرر. (قالَ) موسى : (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) (١٤٠) أي أأطلب لكم غير الله معبودا والحال أنه تعالى وحده فضّلكم على عالمي زمانكم بالإسلام. أو فضلكم على العالمين بتخصيصكم بنعم لم يعطها غيركم ، كالتخصيص بتلك الآيات القاهرات فإنه لم يحصل مثلها لأحد من العالمين ، وإن كان غيرهم فضلهم بسائر الخصال مثاله رجل تعلّم علما واحدا وآخر تعلّم علوما كثيرة سوى ذلك العلم ، فصاحب العلم الواحد مفضل على صاحب العلوم الكثيرة بذلك الواحد. وفي الحقيقة إن صاحب العلوم الكثيرة مفضل على صاحب العلم الواحد والمعنى أآمركم أن تعبدوا ربا يتخذ ويطلب بل الإله هو الذي يكون قادرا على الإيجاد وإعطاء الحياة وجميع النعم (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) أي واذكروا وقت إنجائنا إياكم من فرعون وقومه بإهلاكهم بالكلية.

وقرأ ابن عامر «أنجاكم» بحذف الياء والنون (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) أي يعطونكم أشد العذاب (يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ) صغارا (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) أي يستخدمون نساءكم كبارا (وَفِي ذلِكُمْ) أي الإنجاء (بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (١٤١) أي نعمة عظيمة من ربكم ويقال : وفي ذلكم العذاب بلية عظيمة من ربكم (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً).

روي أن موسى وهو بمصر وعد بني إسرائيل إذا أهلك الله تعالى عدوهم فرعون أن يأتيهم بكتاب من عند الله تعالى فيه بيان ما يأتون وما يذرون ، فلما أهلك الله تعالى فرعون سأل موسى ربه أن ينزل عليه الكتاب الذي وعد به بني إسرائيل فأمره أن يصوم ثلاثين يوما فصامها وهي شهر ذي القعدة ، فلما أتم الثلاثين أنكر خلوف فمه فتسوك بعود خرنوب. فقالت الملائكة : كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فأمره الله أن يصوم عشر ذي الحجة وقال له : أما علمت أن

٣٩٥

خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك فكانت فتنة بني إسرائيل في تلك العشر التي زادها الله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام. (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ) عند ذهابه إلى الجبل للمناداة : (اخْلُفْنِي) أي كن خليفتي (فِي قَوْمِي) وراقبهم فيما يأتون وما يذرون (وَأَصْلِحْ) أمور بني إسرائيل وأمرهم بعبادة الله تعالى وهي صلاحهم (وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (١٤٢) أي ومن دعاك منهم إلى طريق المفسدين بالمعاصي فلا توافقه (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) أي لميعادنا في مدن في يوم الخميس يوم عرفة فكلمه الله تعالى فيه من غير واسطة وأعطاه التوراة صبيحة يوم الجمعة يوم النحر (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) أي أزال الحجاب بين موسى وبين كلامه فسمعه من كل جهة. (قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) أي أرني ذاتك بأن تمكنني من رؤيتك فأراك. (قالَ) تعالى له : (لَنْ تَرانِي) أي لن تقدر أن تراني في الدنيا يا موسى (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ) في مدين (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) أي فإن استقر الجبل مكانه لرؤيتي فلعلك تراني. والرؤية متأخرة عن النظر ، لأنه تقليب الحدقة السليمة جهة المرئي التماسا لرؤيته ، والرؤية الإدراك بالباصرة بعد النظر (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) أي فلما ظهرت عظمته تعالى لجبل زبير جعله مكسورا. قيل : إن جبل زبير أعظم جبل في مدين فإنه صار ستة أجبل ، فوقع ثلاثة منها بالمدينة وهي : أحد ، وورقان ، ورضوى. وقع ثلاثة بمكة وهي : ثور وثبير وحراء ، أي أمر الله تعالى ملائكة السماء السابعة بحمل عرشه ، فلما بدا نور العرش انصدع الجبل من عظمة الله تعالى.

وقرأ حمزة الكسائي «دكاء» بالمد أي مستويا بالأرض. وقرأ ابن وثاب «دكا» بضم الدال وبالقصر جمع دكاء أي قطعا (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) أي مغشيا عليه من هول ما رآه من النور (فَلَمَّا أَفاقَ) من غشيته (قالَ سُبْحانَكَ) أي تنزيها لك عن أن ترى في الدنيا (تُبْتُ إِلَيْكَ) من الجراءة على السؤال بغير إذن منك (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (١٤٣) أي المقرين بأنك لا ترى في الدنيا لكل الأنبياء ، وقد ثبتت الرؤية لنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الإسراء على الصحيح أو يقال : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) بأنه لا يجوز السؤال منك إلا بإذنك (قالَ) تعالى له : (قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ) أي فضلتك (عَلَى النَّاسِ) أي بني إسرائيل (بِرِسالاتِي) أي بكتب التوراة. وقرأ نافع وابن كثير «برسالتي» بالإفراد أي تبليغ رسالتي (وَبِكَلامِي) أي وبتكلمي معك بغير واسطة (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ) أي فاعمل ما أعطيتك من الرسالة أي الوحي (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (١٤٤) أي واشتغل بشكر الفوز بهذه النعمة وهو القيام بلوازمها علما وعملا ، ولا يضق قلبك بسبب منعك الرؤية (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ) أي وكتبنا لموسى في ألواح التوراة (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) يحتاج إليه موسى وقومه في دينهم من الحلال والحرام والمحاسن والقبائح (مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) بدل من قوله تعالى «من كل شيء» باعتبار محله وهو النصب. أي كتبنا له كل شيء من المواعظ التي توجب الرغبة في الطاعة والنفرة عن المعصية ، ومن شرح أقسام الأحكام (فَخُذْها) أي فقلنا

٣٩٦

اعمل بهذه الأشياء (بِقُوَّةٍ) أي بجد ونية صادقة (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) أي التوراة. أي يعملوا بمحكمها ويؤمنوا بمتشابهها وقال بعضهم : الحسن يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح ، وأحسن هذه الثلاثة الواجبات والمندوبات (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) (١٤٥) أي سأدخلكم الشام بطريق الإيراث ، وأريكم منازل الكافرين الذين كانوا متوطنين فيها من الجبابرة والعمالقة لتعتبروا بها فلا تفسقوا مثل فسقهم. وقرئ «سأورثكم» بالثاء المثلثة (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي سأزيل الذين يتكبرون في الأرض بالدين الباطل عن إبطال آياتي بإهلاكهم على يد موسى ، وإن اجتهدوا كما اجتهد فرعون في إبطال ما رآه من الآيات فلا يقدرون على منع موسى من تبليغها ولا على منع المؤمنين من الإيمان بها ، أي وإنما يرى بنو إسرائيل دار الفاسقين بعد هلاكهم (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) أي وأن يشاهدوا كل معجزة كفروا بكل واحدة منها (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ) أي الدين الحق والخير (لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) أي لا يسلكوا سبيله.

وقرأ حمزة والكسائي «الرشد» بفتح الراء والشين. والباقون بضم الراء وسكون الشين.

وروي عن ابن عامر بضمتين ، وقال أبو عمرو بن العلاء : «الرشد» بضم وسكون : الصلاح في النظر. وبفتحتين : الاستقامة في الدين (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِ) أي الضلال (يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) أي يختارونه مسلكا لأنفسهم (ذلِكَ) أي تكبرهم وعدم إيمانهم بشتى من الآيات وإعراضهم عن سبيل الرشد وإقبالهم التام إلى سبيل الغي (بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي حاصل بسبب أنهم كذبوا بكتابنا الدال على بطلان اتصافهم بالقبائح (وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) (١٤٦) أي وكانوا جاحدين بها (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي بكتابنا (وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) أي وبلقائهم الآخرة التي هي موعد الجزاء (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي حسناتهم التي لا تتوقف على نية ، كصلة الأرحام وإغاثة الملهوفين وإن نفعتهم في تخفيف العذاب ، لكن التخفيف لا يقال له : ثواب. (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٤٧) أي ما يجزون في الآخرة إلا على ما كانوا يعملون في الدنيا من الكفر والمعاصي (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً) أي صاغ موسى السامري المنافق وهو من بني إسرائيل من بعد انطلاق سيدنا موسى عليه‌السلام إلى الجبل عجلا من ذهب (جَسَداً) أتى بهذا البدل لدفع توهم أنه صورة عجل منقوشة على حائط مثلا (لَهُ خُوارٌ) أي صوت.

وقرأ علي رضي‌الله‌عنه «جؤار» بالجيم والهمزة أي صياح. قيل : إن بني إسرائيل كان لهم ، عيد يتزينون فيه ويستعيرون من القبط الحلي ، فلما أغرق الله القبط بقيت تلك الحلي في أيدي بني إسرائيل وصارت ملكا لهم ، فجمع السامري تلك الحلي. وكان رجلا مطاطا فيهم صائغا ، فصاغ السامري عجلا وأخذ كفا من تراب حافر فرس جبريل عليه‌السلام فألقاه في جوف ذلك العجل ،

٣٩٧

فانقلب لحما ودما ، وظهر منه الخوار مرة واحدة. فقال السامري : هذا إلهكم وإله موسى (أَلَمْ يَرَوْا) أي ألم يعلم قوم موسى (أَنَّهُ) أي العجل (لا يُكَلِّمُهُمْ) بشيء (وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) بوجه من الوجوه (اتَّخَذُوهُ) أي عبدوه (وَكانُوا ظالِمِينَ) (١٤٨) لأنفسهم حيث أعرضوا عن عبادة الله تعالى واشتغلوا بعبادة العجل (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) أي لما اشتد ندمهم على عبادة العجل. و «سقط» مبني للمجهول ، وأصل الكلام : سقطت أفواههم على أيديهم فـ «في» بمعنى على وذلك من شدة الندم ، فإن العادة أن الإنسان إذا ندم بقلبه على شيء عضّ بفمه على أصابعه ، فسقوط الأفواه على الأيدي لازم للندم فأطلق اسم اللازم وأريد الملزوم على سبيل الكناية (وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا) أي تبينوا ضلالهم تبيينا كأنهم أبصروه بعيونهم بحيث تيقنوا ضلالهم بعبادة العجل. (قالُوا) أي قال بعضهم لبعض : (لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا) فيعذبنا (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (١٤٩) بالعقوبة.

وقرأ حمزة والكسائي بتاء الخطاب في الفعلين حكاية لدعائهم وبنصب «ربنا» على النداء (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ) من مناجاته (غَضْبانَ) على قومه لأجل عبادتهم العجل (أَسِفاً) أي حزينا لأن الله تعالى فتنهم (قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي) أي بئسما قمتم مقامي وكنتم خلفائي من بعد انطلاقي إلى الجبل. وهذا الخطاب إما لعبدة العجل من السامري وأشياعه ، أي بئسما خلفتموني حيث عبدتم العجل مكان عبادة الله تعالى ، وإما لهارون والمؤمنين معه أي بئسما خلفتموني حيث لم تمنعوهم من عبادة غير الله تعالى والمخصوص بالذم محذوف تقديره بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم هذه (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) أي أعجلتم وعد ربكم من الأربعين فلم تصبروا له وذلك أنهم قدروا أن موسى لما لم يأت على رأس الثلاثين ليلة فقد مات فإنهم عدوا عشرين يوما بلياليها أربعين (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) أي وضع ألواح التوراة في موضع ليتفرغ لما قصده من مكالمة قومه فلما فرغ عاد إليها فأخذها بعينها (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ) أي بشعر رأس هارون (يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) أي إلى نفسه لا على سبيل الإهانة بل ليستكشف منه كيفية تلك الواقعة (قالَ) هارون (ابْنَ أُمَ).

قراه ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بكسر الميم هنا وفي طه. والباقون بفتحها في السورتين (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي) أي وجدوني ضعيفا (وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) لأني نهيتهم عن عبادة العجل (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ) أي فلا تسر الأعداء أصحاب العجل بما تفعل بي من المكروه (وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (١٥٠) أي ولا تظن أني واحد من الذين عبدوا العجل مع براءتي منهم وإنما قال هارون تلك المقالة لأنه يخاف أن يتوهم جهال بني إسرائيل أن موسى عليه‌السلام غضبان عليه كما أنه غضبان على عبدة العجل. (قالَ) موسى : (رَبِّ اغْفِرْ لِي) فيما

٣٩٨

أقدمت على أخي هارون من هذا الغضب (وَلِأَخِي) في تركه التشديد على عبدة العجل (وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ) أي جنتك بمزيد الأنعام بعد غفران ما سلف منا (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (١٥١) فأنت أرحم بنا منا على أنفسنا (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) أي عبدوه واستمروا على عبادته كالسامري وأشياعه (سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ) عظيم كائن (مِنْ رَبِّهِمْ) في الآخرة (وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وهي الاغتراب والمسكنة المنتظرة لهم ولأولادهم جميعا والذلة التي اختص بها السامري هو الانفراد عن الناس والابتلاء بلا مساس ، ويروى أن بقاياهم اليوم يقولون ذلك وإذا مس أحدهم أحدا غيرهم حما جميعا في الوقت (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) (١٥٢) أي الكاذبين على الله.

والمعنى أن كل مفتر في دين الله فجزاؤه غضب الله والذلة في الدنيا.

قال مالك بن أنس : ما من مبتدع إلا ويجد فوق رأسه ذلة لأن المبتدع مفتر في دين الله (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) أي التي من جملتها عبادة العجل (ثُمَّ تابُوا) عن تلك السيئات (مِنْ بَعْدِها) أي من بعد عملها (وَآمَنُوا) إيمانا صحيحا بالله تعالى بأن صدقوا بأنه تعالى لا إله غيره ولم يصروا على ما فعلوا كالطائفة الأولى (إِنَّ رَبَّكَ) أي يا أفضل الخلق (مِنْ بَعْدِها) أي من بعد تلك التوبة المقرونة بالإيمان (لَغَفُورٌ) للذنوب وإن عظمت وكثرت (رَحِيمٌ) (١٥٣) أي مبالغ في إفاضة فنون الرحمة الدنيوية والأخروية أي من أتى بجميع السيئات ثم تاب فإن الله يغفرها له وهذا من أعظم ما يفيد البشارة للمذنبين (وَلَمَّا سَكَتَ) أي زال (عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) باعتذار أخيه وتوبة القوم. وقرئ «سكن» بالنون ، و «أسكت» بالتاء مع الهمزة على أن الفاعل هو الله تعالى أو أخوه (أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها) أي وفي المكتوب فيها من اللوح المحفوظ (هُدىً) أي بيان للحق (وَرَحْمَةٌ) للخلق بإرشادهم إلى ما فيه الخير والصلاح (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) (١٥٤) اللام الأولى متعلق بمحذوف وهو صفة لرحمة والثانية لتقوية عمل الفعل المؤخر (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا).

روي أن موسى اختار من اثني عشر سبطا ستة ، فصاروا اثنين وسبعين ، فقال : ليتخلف منكم رجلان. فتشاجروا ، فقال : إن لمن قعد منكم مثل أجر من خرج فقعد كالب ويوشع وذهب مع الباقين وأمرهم أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم ، فخرج بهم إلى طور سيناء فلما دنوا من الجبل غشية غمام فدخل موسى بهم الغمام ، وخروا سجدا فسمعوه تعالى يكلم موسى بأمره وينهاه ، ثم انكشف الغمام فأقبلوا إلى موسى وقالوا : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. أي لن نصدقك في أن الآمر بما سمعنا من الأمر بقتل أنفسهم هو الله تعالى حتى نراه فأخذتهم رجفة الجبل يوما وليلة.

تنبيه : «اختار» يتعدى إلى اثنين ثانيهما مجرور بـ «من» ثم يحذف حرف الجر ويوصل الفعل إلى المجرور وسبعين مفعول أول (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أي الزلزلة الشديدة. (قالَ)

٣٩٩

موسى : (رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل خروجهم إلى الميقات (وَإِيَّايَ) معهم. قاله تسليما لقضاء الله تعالى. أي إنا كنا مستحقين للإهلاك ولم يكن من موانعه إلا عدم مشيئتك إياه (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) أي ظن موسى إنما أهلكهم الله بعبادة قومهم العجل وقال هذا على طريق السؤال ، وقال المبرد : «هو استفهام استعطاف ، أي لا تهلكنا بسبب فعل عباد العجل (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) أي ما الفتنة التي وقع فيها السفهاء إلا محنتك بأن أوجدت في العجل خوارا فزاغوا به وأسمعتهم كلامك فافتتنوا بذلك حتى طمعوا فيما فوق ذلك (تُضِلُّ بِها) أي بتلك الفتنة (مَنْ تَشاءُ) إضلالة فلا يهتدي إلى التثبت (وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) هدايته إلى الحق فلا يتزلزل في أمثالها فيقوى بها إيمانه (أَنْتَ وَلِيُّنا) أي أنت القائم بأمورنا الدنيوية والأخروية (فَاغْفِرْ لَنا) ما قارفناه من المعاصي (وَارْحَمْنا) بإفاضة آثار الرحمة الدنيوية والأخروية علينا (وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) (١٥٥) لأنك تغفر ذنوب عبادك لا لغرض بل لمحض الفضل والكرم أما غيرك فإنما يتجاوز عن الذنب إما طلبا للثواب الجزيل أو للثناء الجميل أو دفعا للربقة الخسيسة عن القلب (وَاكْتُبْ لَنا) أي أثبت لنا (فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً) أي نعمة وطاعة (وَفِي الْآخِرَةِ) أي واكتب لنا في الآخرة حسنة وهي الجنة (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) أي رجعنا عمّا صنعنا من المعصية التي جئناك للاعتذار عنها (قالَ) تعالى : (عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) وليس لأحد على اعتراض لأن الكل ملكي.

وقرأ الحسن «من أساء» فعل ماض من الإساءة. واختار الشافعي هذه القراءة (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) أي إن رحمته في الدنيا عمّت الكل ، وأما في الآخرة فرحمته مختصة بالمؤمنين كما أشار تعالى إليه بقوله تعالى : (فَسَأَكْتُبُها) أي فسأثبتها في الآخرة (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) أي الكفر والمعاصي (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي يعطون زكاة أموالهم (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا) أي دلائل وحدانيتنا وقدرتنا (يُؤْمِنُونَ) (١٥٦) (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَ) أي الذي لم يمارس القراءة والكتابة ومع ذلك قد جمع علوم الأولين والآخرين (الَّذِي يَجِدُونَهُ) يلقون اسمه ونعته (مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) اللذين تعبّد بهما بنو إسرائيل (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) أي بالتوحيد وبمكارم الأخلاق وبر الوالدين ، وصلة الأرحام. (وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي عبادة الأوثان والقول في صفات الله بغير علم ، والكفر بما أنزل الله على النبيين وقطع الرحم وعقوق الوالدين (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ) أي الأشياء المستطابة بحسب الطبع ، فكل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع فهو حلال إلا لدليل منفصل (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) أي كل ما يستخبثه الطبع وتستقذره النفس. فكل ما يستخبثه الطبع حرام إلا لدليل منفصل وعلى هذا فرع الشافعي تحريم بيع الكلب لأنه روي عن ابن عباس عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الكلب خبيث وخبيث ثمنه وإذا ثبت أن ثمنه ، خبيث ثبت أن يكون حراما ، والخمر محرّمة لأنها رجس والرجس خبيث بإطباق أهل اللغة عليه

٤٠٠