مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

سورة الأعراف

مكية ، مائتان وست آيات ، ثلاثة آلاف وثلاثمائة وأربع وأربعون

كلمة ، أربعة عشر ألفا وأربعمائة وستة وثلاثون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(المص) (١) قيل : هي حروف مقطعة استأثر الله بعلمها وهي سره تعالى. في كتابه العزيز (كِتابٌ) أي هذا قرآن (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي إن الملك انتقل به من العلو إلى أسفل (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) أي فلا يكن فيك شك من هذا الكتاب في كونه كتابا منزلا إليك من عنده تعالى. أو المعنى لا يكن فيك ضيق صدر من تبليغ هذا الكتاب. مخافة أن تقصر في القيام بحقه أو مخافة أن يكذبوك (لِتُنْذِرَ بِهِ) أي بهذا الكتاب الكافرين (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (٢) فإن النفوس البشرية على قسمين نفوس جاهلة غريقة في طلب اللذات والشهوات ، ونفوس شريفة مشرفة بالأنوار الإلهية فبعثة الرسل في حق القسم الأول تخويف ، وفي حق القسم الثاني تنبيه (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أي من كتابه وسنة رسوله (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ) أي من غير ربكم (أَوْلِياءَ) من الشياطين والكهان فيحملوكم على البدع والأهواء.

وقيل : الضمير للموصول مع حذف المضاف في أولياء أي ولا تتبعوا من دون ما أنزل أباطيل أولياء.

وقرأ مالك بن دينار ولا تبتغوا (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (٣) أي تذكرا قليلا أو زمانا قليلا تذكرون وما مزيدة للتوكيد. قرأ ابن عامر يتذكرون بالياء والتاء. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالتاء وتخفيف الذال. والباقون بالتاء وتشديد الذال (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) أي كثير من أهل قرية أردنا إهلاكها (فَجاءَها) أي فجاء أهلها (بَأْسُنا) أي عذابنا (بَياتاً) أي نائمين في الليل كما في قوم لوط (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) (٤) أي نائمون في نصف النهار أو مستريحون فيه من غير نوم كما في قوم شعيب. والمعنى جاءهم العذاب على حين غفلة منهم من غير تقدم أمارة تدلهم على نزول ذلك العذاب فكأنه قيل للكفار : لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة والفراغ ، فإن عذاب الله إذا وقع وقع دفعة من غير سبق أمارة فلا تغتروا بأحوالكم (فَما كانَ دَعْواهُمْ) أي استغاثتهم بربهم

٣٦١

واعترافهم بالجناية (إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا) أي عذابنا في الدنيا (إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) (٥) فأقروا على أنفسهم بالشرك والإساءة حيث لم يتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم وذلك حين لم ينفعهم الاعتراف والندامة ، والمختار عند النحويين أن يكون محل أن قالوا رفعا بـ «كان» و «دعواهم» نصبا بدليل تذكير كان كقوله تعالى فما كان جواب قومه (إِلَّا أَنْ قالُوا) وقوله تعالى فكان عاقبتهما أنهما في النار وقوله تعالى وما كان حجتهم إلا أن قالوا (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) أي فلنسألن في موقف الحساب الأمم قاطبة قائلين ماذا أجبتم المرسلين (وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) (٦) قائلين ماذا أجبتم وذلك للرد على الكفار إذا أنكروا التبليغ بقولهم ما جاءنا من بشير ولا نذير. فإذا أثبت الرسل أنهم لم يصدر منهم تقصير ألبتة فيتضاعف إكرام الله تعالى في حق الرسل لظهور براءتهم عن جميع موجبات التقصير وتضاعف أسباب الخزي والإهانة في حق الكفار لما ثبت أن جميع التقصير كان منهم. (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ) أي المرسلين والأمم لما سكتوا عن الجواب (بِعِلْمٍ) أي فلنخبرنهم بما فعلوا إخبارا ناشئا عن علم منا (وَما كُنَّا غائِبِينَ) (٧) عنهم في حال من الأحوال فيخفى علينا شيء من أحوالهم (وَالْوَزْنُ) أي وزن الأعمال (يَوْمَئِذٍ) أي كائن يوم إذ يسأل الله الأمم والرسل (الْحَقُ) أي العدل. أو المعنى والوزن يوم إذ يكون السؤال والقص هو الحق فـ «الحق» إما صفة للوزن أو خبر له ، و «يومئذ» إما ظرف له أو خبر له (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) بسبب ثقل الحسنات في الميزان (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٨) أي الفائزون بالنجاة والثواب (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) بسبب خفة الحسنات في الميزان أو بسبب الأعمال التي لا اعتداد بها في الوزن (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) (٩) أي فأولئك الموصوفون بخفة الموازين الذين خسروا أنفسهم بسبب تكذيبهم بآياتنا والفائدة في وضع ذلك الميزان أن يظهر ذلك الرجحان لأهل القيامة ، فإن كان ظهور الرجحان في طرف الحسنات ازداد سروره بسبب ظهور فضله وكمال درجته لأهل القيامة ، وإن كان بالضد فيزداد حزنه وخوفه في موقف القيامة ، ثم اختلفوا في كيفية ذلك الرجحان فبعضهم قال : يظهر هناك نور في رجحان الحسنات ، وظلمة في رجحان السيئات. وآخرون قالوا : بل يظهر رجحان في الكفة.

قال العلماء : الناس في الآخرة ثلاث طبقات : متقون لا كبائر لهم ، وكفار ومخلطون وهم الذين يأتون الكبائر. فأما المتقون : فإن حسناتهم توضع في الكفة النيّرة ، وصغائرهم لا يجعل الله لها وزنا بل تكفر صغائرهم باجتنابهم الكبائر وتثقل الكفة النيرة ويؤمر بهم إلى الجنة ويثاب كل واحد منهم بقدر حسناته ، وأما الكافر : فإنه يوضع كفره في الكفة المظلمة ولا توجد له حسنة توضع في الكفة الأخرى فتبقى فارغة ، فبأمر الله تعالى بهم إلى النار ويعذب كل واحد منهم بقدر أوزاره ، وأما الذين خلطوا فحسناتهم توضع في الكفة النيرة وسيئاتهم في الكفة المظلمة فيكون لكبائرهم ثقل فإن كانت الحسنات أثقل ولو بصؤابة دخل الجنة وإن كانت السيئات أثقل ولو

٣٦٢

بصؤابة دخل النار إلا أن يعفو الله ، وإن تساويا كان من أصحاب الأعراف هذا إن كانت الكبائر فيما بينه وبين الله وأما إن كان عليه تبعات وكانت له حسنات كثيرة جدا فإنه يؤخذ من حسناته فيرد على المظلوم ، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فيحمل على الظالم من أوزار من ظلمه ثم يعذب على الجميع (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي جعلنا لكم يا بني آدم فيها مكانا وأقدرناكم على التصرف فيها (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) أي وجوه المنافع وهي على قسمين ما يحصل بخلق الله تعالى ابتداء مثل خلق الثمار وغيرها ، وما يحصل بالاكتساب وكلاهما بفضل الله وتمكينه فيكون الكل إنعاما من الله تعالى وكثرة الأنعام توجب الطاعة (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (١٠) تلك النعمة ونعم الله على الإنسان كثيرة فلا إنسان إلا ويشكر الله تعالى في بعض الأوقات على نعمه ، وإنما التفاوت في أن بعضهم يكون كثير الشكر وبعضهم يكون قليل الشكر(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) أي خلقنا أباكم آدم طينا غير مصوّر ثم صورناه أحسن تصوير وتحسن هذه الكناية لأن آدم أصل البشر (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) سجود تعظيم (فَسَجَدُوا) أي الملائكة بعد الأمر (إِلَّا إِبْلِيسَ) فإنه أبو الجن كان مفردا مستورا بألوف من الملائكة متصفا بصفاتهم فغلبوا عليه في قوله تعالى للملائكة إلخ (لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (١١) لآدم (قالَ) تعالى لإبليس (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) أي ما صرفك إلى أن لا تسجد كما قال القاضي : ذكر الله المنع وأراد الداعي فكأنه تعالى قال : ما رعاك إلى أن لا تسجد لآدم لأن مخالفة أمر الله تعالى حالة عظيمة يتعجب منها ويسأل على الداعي إليها (إِذْ أَمَرْتُكَ) والمشهور أن كلمة لا لتأكيد معنى النفي في منعك والاستفهام للتوبيخ ولإظهار كفر إبليس و «إذ» منصوب بـ «تسجد» أي ما منعك من السجود في وقت أمري إياك به؟ (قالَ) إبليس : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) أي إنما لم أسجد لآدم لأني خير منه (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ) فهي أغلب أجزائي (وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (١٢) أي وهو أغلب أجزائه فالنار أفضل من الطين لأن النار مشرقة علوية لطيفة يابسة مجاورة لجواهر السموات والطين مظلم سفلى كثيف بعيد عن مجاورة السموات والمخلوق من الأفضل أفضل وقد أخطأ إبليس طريق الصواب لأن النار فيها الخفة والارتفاع والاضطراب ، وأما الطين فشأنه الرزانة والحلم والتثبت ، وأيضا فالطين سبب للحياة من إنبات النبات والنار سبب لهلاك الأشياء والطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفريقها. (قالَ) تعالى : (فَاهْبِطْ مِنْها) أي من الجنة وكانوا في جنة عدن وفيها خلق آدم أو اخرج من زمرة الملائكة المعززين (فَما يَكُونُ لَكَ) أي فما ينبغي لك (أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) أي في الجنة أو في زمرة الملائكة (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) (١٣) أي من الأذلاء (قالَ أَنْظِرْنِي) أي لا تمتني (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١٤) أي آدم وذريته وهو وقت النفخة الثانية وأراد إبليس أن يأخذ ثأره منهم بإغوائهم وأن ينجو من الموت لاستحالته بعد البعث ولأنه قد تمّ عند النفخة الأولى. (قالَ) تعالى : (إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) (١٥) أي من المؤجلين إلى النفخة الأولى فيموت كغيره. (قالَ) إبليس : (فَبِما أَغْوَيْتَنِي

٣٦٣

لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (١٦) أي فبسبب إغوائك إياي لأجلهم أقسم بعزتك لأقعدن لآدم وذريته دينك الموصل إلى الجنة وهو دين الإسلام (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) أي فأشككهم في صحة البعث والقيامة والحساب وألقي إليهم أن الدنيا قديمة لا تفنى (وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) أي أفترهم عن الحسنات وأقوي دواعيهم في السيئات. ونقل عن شقيق أنه قال : ما من صباح إلا ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع فيقول من قدامي : لا تخف فإن الله غفور رحيم. فأقرأ : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) [طه : ٨٢] ، ومن خلفي يخوفني من وقوع أولادي في الفقر. فأقرأ : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) [هود : ٦] ويأتيني بالثناء من قبل يميني. فأقرأ : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف : ١٢٨] ويأتيني بالترغيب في الشهوات من قبل شمالي. فأقرأ : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) [سبأ : ٥٤]. والحاصل أن الشيطان لا يترك جهة من جهات الوسوسة إلا ويلقيها في القلب.

ويروى أن الشيطان لما قال هذا الكلام رقت قلوب الملائكة على البشر فقالوا : يا إلهنا كيف يتخلص الإنسان من الشيطان مع كونه مستوليا عليه من هذه الجهات الأربع ، فأوحى الله تعالى إليهم : إنه بقي للإنسان جهتان الفوق والتحت ، فإذا رفع يديه إلى فوق في الدعاء على سبيل الخضوع أو وضع جبهته على الأرض على سبيل الخشوع ، غفرت له ذنب سبعين سنة (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) (١٧) أي مطيعين. وإنما قال هذا لأنه رأى منهم أن مبدأ الشر متعدد ومبدأ الخير واحد ، وذلك أنه حصل للنفس قوة واحدة تدعو النفس إلى عبادة الله تعالى وطلب السعادات الروحانية وهي العقل ، وتسع عشرة قوة تدعوها إلى اللذات الجسمانية والطيبات الشهوانية فخمسة منها هي الحواس الظاهرة ، وخمسة أخرى هي الحواس الباطنة ، واثنان الشهوة والغضب ، وسبعة هي القوى الكامنة وهي : الجاذبة ، والماسكة ، والهاضمة ، والدافعة ، والغاذية ، والنامية ، والمولدة. ولا شك أن استيلاء تسع عشرة قوة أكمل من استيلاء القوة الواحدة ، فيلزم القطع بأن أكثر الخلق يكونون طالبين لهذه اللذات البدنية معرضين عن معرفة الحق ومحبته (قالَ اخْرُجْ مِنْها) أي من الجنة ومن صورة الملائكة (مَذْؤُماً) أي محقورا (مَدْحُوراً) أي مبعدا من كل خير (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) أي ولد آدم (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ) أي منك ومنهم (أَجْمَعِينَ) (١٨) ففي اللام ومن في قوله تعالى : (لَمَنْ تَبِعَكَ) وجهان فالأظهر أن «اللام» لام التوطئة لقسم محذوف و «من» شرطية في محل رفع مبتدأ و «لأملأنّ» جواب القسم المدلول عليه بلام التوطئة ، وجواب الشرط محذوف لسد جواب القسم مسده. والوجه الثاني أن اللام لام الابتداء ومن موصولة وتبعك صلتها وهي في محل رفع مبتدأ و «لأملأن» جواب قسم محذوف وذلك القسم وجوابه في محل رفع خبر المبتدأ ، والتقدير للذي تبعك منهم والله لأملأن جهنم منكم والعائد من الجملة القسمية الواقعة خبرا عن المبتدأ متضمن في قوله منكم لأنه لما اجتمع ضمير غيبة وخطاب غلب الخطاب.

٣٦٤

وروى عصمة عن عاصم «لمن تبعك» بكسر اللام على أنه حبر لأملأن. والمعنى لمن تبعك هذا الوعيد. وهذه الآية تدل على أن جميع أصحاب البدع والضلالات يدخلون جهنم لأن كلهم متابعون لإبليس والله أعلم. (وَيا آدَمُ اسْكُنْ) هذه القصة معطوفة على قوله تعالى : للملائكة : (اسْجُدُوا) أي وقلنا لآدم : (يا آدَمُ اسْكُنْ) أو معطوفة على «أخرج» أي وقال : (يا آدَمُ اسْكُنْ) بعد أن أهبط إبليس وأخرجه من الجنة (أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ).

قال ابن إسحاق : خلقت حواء قبل دخول آدم الجنة. والمعنى أي ادخل فيها ، وقال ابن عباس وغيره : خلقت في الجنة بعد دخول آدم فيها لأنه لما أسكن الجنة مشى فيها مستوحشا فلما نام خلقت من ضلعه القصرى من شقه الأيسر ليأنس بها والمعنى انزل في الجنة (فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما) أي فكلا من ثمار الجنة في أي مكان شئتما الأكل فيه وفي أي وقت شئتما (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) (١٩) أي فتصيرا من الضارين لأنفسكما (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ) أي ففعل إبليس الوسوسة لأجلهما (لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) أي ليظهر لهما ما ستر عنهما بلباس النور أو بثياب الجنة من عورتهما. فـ «اللام» إما للعاقبة لأن إبليس لم يقصد بالوسوسة ظهور عورتهما وإنما كان قصده أن يحملهما على المعصية فقط أو للعلة ، فظهور العورة كناية عن زوال الجاه فإن غرضه من إلقاء تلك الوسوسة إلى آدم ذهاب منصبه.

وروي أن إبليس بعد ما صار ملعونا مطرودا من الجنة رأى آدم وحواء في طيب عيش ونعمة ، ورأى نفسه في مذلة ونقمة فحسدهما ـ فهو أول حاسد ـ ثم أراد أن يدخل الجنة ليوسوس لهما فمنعه الخزنة فجلس على باب الجنة ثلاثمائة سنة من سني الدنيا وهي بقدر ثلاث ساعات من ساعات الآخرة فلقي آدم مرارا كثيرة ورغّبه في أكل الشجرة بطرق كثيرة فلأجل المداومة على هذا التمويه أثر كلامه في آدم عليه‌السلام (وَقالَ) أي إبليس لآدم وحواء (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ) أي عن الأكل منها (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) أي إلا كراهة أن تكونا كملكين في عدم الشهوة وفي القدرة على الطيران والتشكل وفي قراءة شاذة «ملكين» بكسر اللام (أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) (٢٠) أي الذين لا يموتون ولا يخرجون من الجنة أصلا (وَقاسَمَهُما) أي حلف لهما (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (٢١) في حلفي لكما (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) أي فخدعهما بزخرف من القول الباطل حتى أكلا قليلا قصدا إلى معرفة طعم ذلك الثمر لغلبة الشهوة لا لكونهما صدقا قول إبليس (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) أي فلما تناولا من ثمر تلك الشجرة يسيرا لمعرفة طعمه ظهر لكل منهما قبل نفسه وقبل صاحبه ودبره وزال عنهما ثوبهما وزال النور عنهما (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) أي وجعلا يلزقان على عورتهما من ورق التين للاستحياء (وَناداهُما رَبُّهُما) يا آدم ويا حواء (أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) أي عن الأكل من ثمر هذه الشجرة (وَ) ألم (أَقُلْ لَكُما إِنَ

٣٦٥

الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٢٢) أي ظاهر العداوة حيث أبى السجود ، كما حكى الله تعالى هذا القول في سورة طه بقوله : (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) [طه : ١١٧].

روي أنه تعالى قال لآدم : ألم يكن فيما منحتك من شجر الجنة مندوحة عن هذه الشجرة فقال : بلى وعزتك ، ولكن ما ظننت أن أحدا من خلقك يحلف بك كاذبا. قال : فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا كدا. فاهبط وعلّم صنعة الحديد وأمر بالحرث فحرث ، وسقى وحصد ، ودرس وذرى ، وعجن وخبز. (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) أي ضررناها بمخالفة أمرك وطاعة عدونا وعدوك من أكل الشجرة التي نهيتنا عن الأكل منها وإنما اعترف آدم بكونه ظالما لأنه ترك الأولى فإن هذا الذنب صدر عنه قبل النبوة بطريق النسيان ، ولأن القصد بذلك القول هضم النفس ونهج الطاعة على الوجه الأكمل (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٢٣) أي من المغبونين بالعقوبة. (قالَ) تعالى : (اهْبِطُوا) يا آدم وحواء وإبليس إلى الأرض فهبط آدم بسرنديب جبل في الهند وحواء بجدة وإبليس بالأبلة بضم الهمزة والموحدة وبتشديد اللام (جبل بقرب البصرة) (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) فالعداوة ثابتة بين آدم وإبليس وذرية كل منهما (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) أي مكان عيش وقبر (وَمَتاعٌ) أي انتفاع (إِلى حِينٍ) (٢٤) أي إلى انقضاء آجالكم (قالَ) تعالى : (فِيها) أي الأرض (تَحْيَوْنَ) أي تعيشون مدة حياتكم (وَفِيها تَمُوتُونَ) وتدفنون (وَمِنْها تُخْرَجُونَ) (٢٥) إلى البعث للجزاء.

قرأ حمزة والكسائي تخرجون بفتح التاء وضم الراء وكذلك في الروم والزخرف والجاثية. وقرأ ابن عامر هنا وفي الزخرف كذلك وفي الروم والجاثية بضم التاء وفتح الراء. والباقون بضم التاء في الجميع (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً) أي قد خلقنا لكم بأسباب نازلة من السماء لباسين من قطن وغيره لباسا يغطي عوراتكم من العري ولباسا يزينكم فإن الزينة غرض صحيح.

وروي أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ، الرجال في النهار والنساء في الليل ويقولون : لا نطوف بثياب عصينا الله تعالى فيها. فنزلت هذه الآية تذكيرا ببعض النعم لأجل امتثال أمر الله تعالى بالحذر من قبول وسوسة الشيطان في قوله تعالى : (لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) [الأعراف : ٢٧].

والمقصود من ذكر قصص الأنبياء حصول العبرة لمن يسمعها (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ).

وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بنصب «لباس» عطفا على «لباسا» أي وأنزلنا عليكم لباس التقوى وهو الإيمان كما قاله قتادة والسدي وابن جريج ، أو العمل الصالح كما قاله ابن عباس أو السمت الحسن كما قاله عثمان بن عفان أو خشية الله كما قاله ابن الزبير ، أو الحياء كما قاله معبد

٣٦٦

والحسن ذلك أي اللباس الثالث خير لصاحبه من اللباسين الأولين لأنه يستر من فضائح الآخرة.

وقرأ الباقون و «لباس التقوى» بالرفع على الابتداء وخبره «ذلك خير». والمعنى واللباس الناشئ عن التقوى وهو اللباس الأول ، أو هو الملبوسات المعدة لأجل إقامة نحو الصلاة ذلك خير لأنه لبس المتواضع (ذلِكَ) أي إنزال اللباس (مِنْ آياتِ اللهِ) الدالة على قدرته وعظيم فضله وعميم رحمته على عباده (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (٢٦) أي فيعرفون عظيم النعمة في ذلك اللباس (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) أي لا يخرجنكم الشيطان عن طاعتي بفتنته فتمنعوا من دخول الجنة إخراجا مثل إخراجه أبويكم من الجنة بفتنته بأمره لهما بمخالفة أمري فمنعا من سكنى الجنة (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما) بغروره وكان اللباس من ثياب الجنة أو من نور (لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) أي ليرى آدم سوأة حواء وترى هي سوءة آدم (إِنَّهُ) أي الشيطان (يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ) أي أصحابه أو من كان من نسله (مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) إذا كانوا على صورهم الأصلية لكن قد يكونون مرئيين في بعض الأحيان لبعض الناس دون بعض.

وقال مجاهد : قال إبليس : جعل لنا أربع : نرى ولا نرى ، نخرج من تحت الثرى ، ويعود شيخنا فتى. (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (٢٧) أي إنا صيرنا الشياطين قرناء للذين لا يؤمنون بمحمد والقرآن مسلطين عليهم (وَإِذا فَعَلُوا) أي العرب (فاحِشَةً) كعبادة الأصنام وكشف العورة في الطواف (قالُوا) جوابا للناهي عنها معللين فعل الفاحشة بأمرين (وَجَدْنا عَلَيْها) أي على هذه الأشياء (آباءَنا) فاعتقدنا أنها طاعات واقتدينا بهم فيها (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) فإن أجدادنا إنما كانوا يفعلونها بأمر الله تعالى بها (قُلْ) لهم يا أكرم الرسل (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) فإن عادته تعالى جارية على الأمر بمحاسن الأعمال والحث على نفائس الخصال (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٢٨) أي إنكم ما سمعتم كلام الله مشافهة ولا أخذتموه عن الأنبياء لأنكم تنكرون نبوة الأنبياء فكيف تقولون على الله ما لا تعلمون (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) أي بالتوحيد بلا إله إلا الله (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) أي واستقبلوا بوجوهكم القبلة عند كل صلاة (وَادْعُوهُ) أي اعبدوا الله بإتيان أعمال الصلاة (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي الطاعة (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٢٩) أي كما أوجدكم الله بعد العدم يعيدكم بعده أحياء يوم القيامة فيجازيكم على أعمالكم (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) أي ثبت الضلالة عليهم في الأزل والجملتان الفعليتان في محل نصب على الحال من فاعل «بدأكم» ، و «فريقا» الثاني منصوب بفعل مقدر موافق في المعنى للمذكور المفسر أي «بدأكم» حال كونه تعالى هاديا فريقا للإيمان ومضلا فريقا. ويجوز أن تكون الجملتان الفعليتان في محل نصب على النعت «لفريقا وفريقا» ، وهذان على الحال من فاعل «تعودون» ، والعائد على المنعوت محذوف أي فريقا هداهم الله ، وفريقا حق

٣٦٧

عليهم الضلالة ويؤيد هذا الإعراب قراءة أبي بن كعب «تعودون» فريقين فريقا هدى ، وفريقا حق عليهم الضلالة (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ) فقبلوا ما دعوهم إليه ولم يتأملوا في التمييز بين الحق والباطل (وَيَحْسَبُونَ) أي يظن أهل الضلالة (أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (٣٠) بدين الله ودلت هذه الآية على أن كل من شرع في باطل فهو مستحق للذم سواء حسب كونه هدى أو لم يحسب ذلك (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ) أي البسوا ثيابكم التي تستر عوراتكم (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) أي عند كل وقت طواف وصلاة (وَكُلُوا) من اللحم والدسم (وَاشْرَبُوا) من اللبن (وَلا تُسْرِفُوا) بالتعدي إلى الحرام أو بتحريم الحلال أو بالإفراط في الطعام (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (٣١) أي إنه تعالى لا يرتضي فعلهم.

قال ابن عباس : إن أهل الجاهلية من العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال ، بالنهار والنساء بالليل ، وكانوا إذا وصلوا إلى مسجد منى طرحوا ثيابهم وأتوا المسجد عراة. وقالوا : لا نطوف في ثياب أصبنا فيها الذنوب ، ومنهم من يقول نفعل ذلك تفاؤلا حتى نتعرى عن الذنوب كما تعرينا عن الثياب ، وكانت المرأة منهم تتخذ سترا تعلقه على حقويها لتستتر به عن قريش فإنهم كانوا لا يفعلون ذلك ، وكانت بنو عامر لا يأكلون في أيام حجهم من الطعام إلا قوتا ، ولا يأكلون لحما ولا دسما يعظمون بذلك حجهم. فقال المسلمون : يا رسول الله فنحن أحق أن نفعل ذلك. فأنزل الله تعالى هذه الآية : (قُلْ) يا أشرف الخلق لهؤلاء الجهلة من العرب الذين يطوفون بالبيت عراة والذين يحرمون على أنفسهم في أيام الحج اللحم والدسم : (مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) من الثياب (الَّتِي أَخْرَجَ) الزينة (لِعِبادِهِ) من النبات كالقطن والكتان ، ومن الحيوان كالحرير والصوف ومن المعادن كالدروع (وَ) من حرم (الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) أي المستلذات من المآكل والمشارب (قُلْ هِيَ) أي الزينة والطيبات ثابتة (لِلَّذِينَ آمَنُوا) بطريق الأصالة (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) غير خالصة لهم لأنه يشركهم فيها المشركون (خالِصَةً) لهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي لا يشاركهم فيها غيرهم.

قرأ نافع خالصة بالرفع على أنه خبر بعد خبر ، أو خبر لمبتدأ محذوف أي وهي خالصة. والباقون بالنصب حال من الضمير المستكن في الخبر (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي مثل هذا التبيين نبين سائر الأحكام (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٣٢) أن الله واحد لا شريك له فأحلوا حلاله وحرموا حرامه (قُلْ) للمشركين الذين يتجردون من ثيابهم في الطواف والذين يحرمون أكل الطيبات (إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ) أي الزنا (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) أي جهرها وسرها (وَالْإِثْمَ) أي شرب الخمر (وَالْبَغْيَ) أي الظلم على الناس (بِغَيْرِ الْحَقِ) فالقتل والقهر بالحق ليس بغيا (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) أي وأن تسووا بالله في العبادة معبودا ليس على ثبوته حجة (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٣٣) بالإلحاد في صفاته والافتراء عليه من التحريم والتحليل ، فالجنايات محصورة في خمسة أنواع :

٣٦٨

أحدها : الجنايات على الأنساب وهي المرادة بالفواحش.

وثانيها : الجنايات على العقول وهي المشار إليها بالإثم.

وثالثها : الجنايات على النفوس ، والأموال والأعراض وإليها الإشارة بالبغي.

ورابعها : الجنايات على الأديان وهي من وجهين : إما الطعن في توحيد الله تعالى وإليه الإشارة بقوله تعالى : (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ) وإما القول في دين الله من غير معرفة وإليه الإشارة بقوله تعالى : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) وهذه الأشياء الخمسة أصول الجنايات وأما غيرها فهي كالفروع (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) كذبت رسولها (أَجَلٌ) أي وقت معين لهلاكها (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٣٤) أي فإذا جاء وقت هلاكهم لا يتركون بعد الأجل طرفة عين ، ولا يهلكون قبل الأجل طرفة عين فالجزاء مجموع الأمرين لا كل واحد على حدته. والمعنى إن الوقت المحدود لا يتغير (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٣٥) أي يا بني آدم إن يأتكم رسول من جنسكم ـ بني آدم ـ يبين لكم أحكامي وشرائعي فمن اتقى كل منهي واتقى تكذيبه وأصلح عمله بأن يأتي كل أمره فلا يخاف في الآخرة من العذاب ولا يحزن على ما فاته في الدنيا أما حزنه على عقاب الآخرة فيرتفع بما حصل له من زوال الخوف (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) التي يجيء بها رسولنا (وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) أي امتنعوا من قبولها (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٣٦) لا يموتون ولا يخرجون أما الفاسق من أهل الصلاة فلا يبقى مخلدا في النار لأنه ليس موصوفا بذلك التكذيب والاستكبار (فَمَنْ أَظْلَمُ) أي أعظم ظلما (مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي كإثبات الشريك والولد إليه تعالى وإضافة الأحكام الباطلة إليه تعالى (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) كإنكار كون القرآن كتابا نازلا من عند الله تعالى وإنكار نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أُولئِكَ يَنالُهُمْ) في الدنيا (نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) أي مما كتب لهم من الأرزاق والأعمار (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا) أي ملك الموت وأعوانه (يَتَوَفَّوْنَهُمْ) أي حال كونهم قابضين أرواحهم (قالُوا) لهم : (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي أين الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدنيا ادعوها لتدفع عنكم ما نزل بكم (قالُوا ضَلُّوا) أي غابوا (عَنَّا) أي لا ندري مكانهم (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) (٣٧) أي وأقروا عند الموت بأنهم كانوا في الدنيا عابدين لما لا يستحق العبادة أصلا ولا تعارض بين هذا وبين قوله تعالى : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٨]. لأنه من طوائف مختلفة أو في أوقات مختلفة. (قالَ) تعالى يوم القيامة : (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ) أي ادخلوا في النار فيما بين الأمم الكافرين الذين تقدم زمانهم زمانكم من هذين النوعين (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ) أي أهل دين في النار (لَعَنَتْ أُخْتَها) في الدين وهي التي تلبست بذلك الدين قبلها فيلعن المشركون المشركين واليهود اليهود ،

٣٦٩

والنصارى النصارى ، والصابئون الصابئين ، والمجوس المجوس (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا) أي اجتمعوا (فِيها) أي النار (جَمِيعاً) وأدرك بعضهم بعضا واستقر معه (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) أي قال آخر كل أمة لأولها (رَبَّنا هؤُلاءِ) أي الأولون (أَضَلُّونا) عن دينك بإخفاء الدلائل (فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) أي عذبهم مثل عذابنا مرتين (قالَ) تعالى لهم (لِكُلٍ) منهم ومنكم (ضِعْفٌ) فكل ألم يحصل له يعقبه ألم آخر ، إلى غير نهاية فالآلام متزايدة من غير نهاية أما القادة فلكفرهم وإضلالهم وأما الأتباع فلكفرهم وتقليدهم (وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) (٣٨).

قرأه أبو بكر عن عاصم بالغيبة أي ولكن لا يعلم كل فريق مقدار عذاب الفريق الآخر. والباقون بالتاء على الخطاب ولكن لا تعلمون أيها السائلون ما لكل فريق منكم من العذاب. أو المعنى ولكن لا تعلمون يا أهل الدنيا مقدار ذلك (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ) مخاطبة لها حين سمعوا جواب الله تعالى لهم (فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) في الدنيا أي إنا وإياكم متساوون في الضلال واستحقاق العذاب لأنكم كفرتم اختيارا لا أنا حملناكم على الكفر إجبارا فلا يكون عذابنا ضعفا (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (٣٩) أي تقولون وتعملون في الدنيا وهذا يحتمل أن يكون من كلام القادة للأتباع وأن يكون من قول الله تعالى للجميع (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي بالدلائل الدالة على أصول الدين (وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) أي ترفعوا عن الإيمان بها (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) أي لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم ولا لشيء مما يريدون به طاعة الله ولا لأرواحهم (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) أي كما يستحيل دخول الذكر من الإبل في خرق الإبرة يستحيل دخول الكفار الجنة ويقال : حتى يدخل القلس الغليظ وهو الجبل الذي تشد به السفينة في خرق الإبرة وكل ثقب ضيق فهو سم (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) (٤٠) أي ونجزي المشركين جزاء مثل جزاء المكذبين المستكبرين من عدم فتح أبواب السماء وعدم دخولهم الجنة وإنما يدخلون النار بهذه الصفات (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) أي للذين كذبوا واستكبروا من جهنم فراش من تحتهم ومن فوقهم أغطية وهذه الآية إخبار عن إحاطة النار بهم من كل جانب فلهم منها غطاء ووطاء وفراش ولحاف.

تنبيه : تنوين غواش عوض من الياء المحذوفة على الصحيح فإن الإعلال بالحذف مقدم على منع الصرف فأصله غواشي بتنوين الصرف فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت فاجتمع ساكنان الياء والتنوين ، فحذفت الياء ، ثم لوحظ كونه على صيغة مفاعل في الأصل فحذف تنوين الصرف فخيف من رجوع الياء فيحصل الثقل فأتي بالتنوين عوضا عنها ، فغواش المنون ممنوع من الصرف لأن تنوينه تنوين عوض كما علمت ، وتنوين الصرف قد حذف وإنما كان الراجح تقديم الإعلال لأن سببه ظاهر وهو الثقل وسبب منع الصرف خفي وهو مشابهة الفعل (وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (٤١) أي كالجزاء المذكور للمكذبين المستكبرين نجزي الكافرين (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٤٢) أي

٣٧٠

والذين صدقوا الله ورسوله وأقروا بما جاءهم به من شرائع دينه وعملوا بما أمرهم به وأطاعوه في ذلك وتجنبوا ما نهاهم عنه لا نكلف نفسا إلا ما يسهل عليها من الأعمال وما يدخل في قدرتها ولا ضيق فيه عليها وقوله تعالى : (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [الأنعام : ١٥٢]. اعتراض وقع بين المبتدأ والخبر والتقدير والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون. وإنما حسن وقوع هذا الكلام بين المبتدأ والخبر ، لأنه من جنس ما قبله فإنه بيان أن ذلك العمل غير خارج عن قدرتهم وتنبيه على أن الجنة مع عظم قدرها يتوصل إليها بالعمل السهل من غير تحمل الصعب (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) أي صفينا طباعهم من الأحقاد التي كانت لبعضهم على بعض في دار الدنيا ودرجات أهل الجنة متفاوتة بحسب الكمال والنقصان ، فالله تعالى أزال الحسد عن قلوبهم حتى إن صاحب الدرجة النازلة لا يحسد صاحب الدرجة الكاملة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) أي تجري في الآخرة من تحت سررهم أنهار الخمر والماء والعسل واللبن زيادة في لذتهم وسرورهم. (وَقالُوا) إذا بلغوا إلى منازلهم أو إلى عين الحيوان : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) أي للعمل الذي ثوابه هذا المنزل وهذه العين التي تجري من تحتنا (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) أي لو لا هداية الله لنا موجودة ما اهتدينا إلى الإيمان والعمل الصالح.

قرأ ابن عامر «ما كنا» بغير واو كما في مصاحف أهل الشام وذلك ، لأنه جار مجرى التفسير لقوله : (هَدانا لِهذا) فلما كان أحدهما عين الآخر وجب حذف الحرف العاطف (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) هذا إقسام من أهل الجنة ، قالوا ذلك حين رأوا ما وعدهم الرسل عيانا تبجحا بما نالوه. أي والله لقد جاءت رسل ربنا في الدنيا بالحق أي ما أخبرونا به في الدنيا من الثواب صدق فقد حصل لنا عيانا (وَنُودُوا) أي نادتهم الملائكة عند رؤيتهم الجنة من مكان بعيد (أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) أي تلك الجنة التي وعدتكم الرسل بها في الدنيا فـ «أن» مفسرة لما في النداء وكذا في سائر المواضع الخمسة (أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٣) أي أعطيتموها بسبب أعمالكم الصالحة في الدنيا فالجنة ومنازلها لا تنال إلا برحمة الله تعالى فإذا دخلوها بأعمالهم فقد ورثوها برحمته ودخلوها برحمته إذ أعمالهم رحمة منه لهم وتفضل منه عليهم (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) ـ تبجحا بحالهم وتنديما لأصحاب النار وذلك بعد استقرارهم في محالهم ـ : (أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا) على ألسنة رسله من الثواب على الإيمان به وبرسله وعلى طاعته (حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ) يا أهل النار (ما وَعَدَ رَبُّكُمْ) من العذاب على الكفر (حَقًّا قالُوا) أي أهل النار مجيبين لأهل الجنة (نَعَمْ).

قرأ الكسائي «نعم» بكسر العين في كل القرآن (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) قيل : هو إسرافيل. وقيل : جبريل (بَيْنَهُمْ) أي نادى مناد أسمع الفريقين (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (٤٤) (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي يمنعون الناس من قبول الدين الحق تارة بالزجر والقهر وأخرى بسائر الحيل.

٣٧١

قرأ نافع وأبو عمرو وعاصم «أن لعنة» بتخفيف «أن» ورفع «لعنة». والباقون بالتشديد وبالنصب (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي يطلبون السبيل معوجة بإلقاء الشكوك في دلائل الدين الحق (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ) أي بالبعث بعد الموت (كافِرُونَ) (٤٥) أي جاحدون (وَبَيْنَهُما) أي بين الجنة والنار أو بين أهلهما (حِجابٌ) أي سور (وَعَلَى الْأَعْرافِ) أي أعالي ذلك السور المضروب بين الجنة والنار (رِجالٌ). قيل : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم. وقيل : هم قوم قتلوا في سبيل الله وهم عصاة لآبائهم. وقيل : هم قوم كان فيهم عجب ، وقيل : هم قوم كان عليهم دين فهذه الأقوال تدل على أن أصحاب الأعراف أقوام يكونون في الدرجة النازلة من أهل الثواب. وقيل : إنهم الأشراف من أهل الثواب. وقيل : إنهم الأنبياء وإنما أجلسهم الله على ذلك المكان العالي تمييزا لهم على سائر أهل القيامة. وقيل : إنهم الشهداء وهم شهداء الله على أهل الإيمان والطاعة وعلى أهل الكفر والمعصية فهم يعرفون أن أهل الثواب وصلوا إلى الدرجات وأهل العقاب وصلوا إلى الدركات كما قال تعالى : (يَعْرِفُونَ كُلًّا) من أهل الجنة وأهل النار زيادة على معرفتهم بكونهم في الجنة وكونهم في النار (بِسِيماهُمْ) أي بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها كبياض الوجه وسواده.

وقيل : إن أصحاب الأعراف كانوا يعرفون المؤمنين في الدنيا بظهور علامات الإيمان والطاعات عليهم ، ويعرفون الكافرين في الدنيا أيضا بظهور علامات الكفر والفسق عليهم ، فإذا شاهدوا أولئك الأقوام في محفل القيامة ميّزوا البعض عن البعض بتلك العلامات التي شاهدوها عليهم في الدنيا (وَنادَوْا) أي رجال الأعراف (أَصْحابَ الْجَنَّةِ) أي حين رأوهم (أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) يا أهل الجنة وهذا بطريق التحية والدعاء أو بطريق الإخبار بنجاتهم من المكاره (لَمْ يَدْخُلُوها) حال من فاعل نادوا (وَهُمْ يَطْمَعُونَ) (٤٦) حال من فاعل يدخلوها أي لم يدخل رجال الأعراف الجنة وهم في وقت عدم الدخول طامعون. وقيل : قوله : (لَمْ يَدْخُلُوها) مستأنف لأنه جواب سؤال سائل عن رجال الأعراف فقال : ما صنع بهم؟ فقيل : لم يدخلوها ولكنهم يطمعون في دخولها.

وقال مجاهد : أصحاب الأعراف قوم صالحون ، فقهاء علماء ، فعلى هذا القول : إنما يكون لبثهم على الأعراف على سبيل النزهة وليرى غيرهم شرفهم وفضلهم. والمراد من هذا الطمع طمع يقين أي وهم يعلمون أنهم سيدخلون الجنة (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ) أي رجال الأعراف بغير قصد (تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ) أي إلى جهتهم (قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٤٧) أي كلما وقعت أبصار أصحاب الأعراف على أهل النار تضرعوا إلى الله تعالى في أن لا يجعلهم من زمرتهم. والمقصود من جميع هذه الآيات التخويف عن التقليد الرديء (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً) كانوا عظماء في الدنيا من أهل النار (يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا) أي أصحاب الأعراف لهم وهم

٣٧٢

في النار يا وليد بن المغيرة ، ويا أبا جهل بن هشام ، ويا أمية بن خلف ، ويا ابن خلف الجمحي ، ويا أسود بن عبد المطلب ، ويا سائر الرؤساء (ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ) أي أيّ شيء دفع عنكم جمعكم في الدنيا من المال والخدم والأتباع (وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) (٤٨) عن قبول الحق وعلى الناس المحقين.

وقرئ «تستكثرون» أي من الأموال والجند ، ثم زادوا على هذا التبكيت بقولهم : (أَهؤُلاءِ) الضعفاء الذين عذبتموهم في الدنيا كصهيب وبلال وسلمان وخباب وعمار وأشباههم (الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ) أي حلفتم في الدنيا يا معشر الكفار (لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) أي لا يدخلهم الله الجنة وقد دخلوا الجنة على رغم أنوفكم. وقد قيل للذين أقسمتم على عدم دخولهم الجنة (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) بفضل الله فهذا من بقية كلام أصحاب الأعراف فهو خبر ثان عن اسم الإشارة أي أهؤلاء قد قيل لهم : ادخلوا الجنة ، فظهر كذبكم في إقسامكم ويدل على ذلك قراءتان شاذتان «ادخلوا» بالبناء للمفعول و «دخلوا». وعلى هاتين القراءتين تقع هذه الجملة خبرا ، والتقدير دخلوا الجنة مقولا في حقهم (لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ) من العذاب (وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) (٤٩). وقيل : إن أصحاب الأعراف لما قالوا لأهل النار ما قالوا قال لهم أهل النار : إن دخل هؤلاء فأنتم لم تدخلوا الجنة ، فلما عيّروهم بذلك قيل لأهل الأعراف : ادخلوا الجنة ، وقيل : يقال لأصحاب الأعراف ادخلوا الجنة إلخ ، بعد أن حبسوا وشاهدوا أحوال الفريقين وقالوا لهم ما قالوا ، وعلى هذا فالمراد بأصحاب الأعراف المقصرون في العمل (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا) أي ألقوا (عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) من ثمار الجنة وهذا الكلام يدل على حصول العطش الشديد والجوع الشديد لهم ، وعن أبي الدرداء أن الله تعالى يرسل على أهل النار الجوع حتى يزداد عذابهم فيستغيثون فيغاثون بضريع لا يسمن ولا يغني من جوع ، ثم يستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة ثم يذكرون الشراب ويستغيثون فيدفع إليهم الحميم والصديد فيقطع ما في بطونهم ، ويستغيثون إلى أهل الجنة كما في هذه الآية ويقولون لمالك : ليقض علينا ربك فيجيبهم بعد ألف عام ويقولون : ربنا أخرجنا منها فيجيبهم بقوله تعالى اخسئوا فيها ولا تكلمون فعند ذلك ييأسون من كل خير ويأخذون في الزفير والشهيق (قالُوا) أي أهل الجنة (إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) (٥٠) أي منعهم من طعام الجنة وشرابها.

قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار بالفرج بعد اليأس فقالوا : يا رب إن لنا قرابات من أهل الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم فيأذن لهم فينظرون إلى قراباتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فيعرفونهم ، وينظر أهل الجنة إلى قراباتهم من أهل النار فلم يعرفوهم لسواد وجوههم فينادي أصحاب النار أصحاب الجنة

٣٧٣

بأسمائهم فينادي الرجل أباه وأخاه فيقول : يا أبي ويا أخي قد احترقت بشدة حر جهنم أفض عليّ من الماء فيقال لهم : أجيبوهم فيقولون : إن الله حرمهما على الكافرين (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً) أي باطلا (وَلَعِباً) أي فرحا فاللهو صرف الهم إلى ما لا يحسن أن يصرف إليه واللعب طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب به (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي شغلتهم بالطمع في طول العمر وحسن العيش وكثرة المال وقوة الجاه ونيل الشهوات (فَالْيَوْمَ) أي يوم القيامة (نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) أي نتركهم في عذابهم تركا مثل تركهم العمل للقاء يومهم هذا. أو المعنى نعاملهم معاملة من نسي فنتركهم في النار لأنهم أعرضوا بآياتنا. والمراد من هذا النسيان أنه تعالى لا يجيب دعاءهم ولا يرحمهم (وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) (٥١) أي ولكونهم منكرين بآياتنا أنها من عندنا وذلك يدل على أن حب الدنيا مبدأ كل آفة ، وقد يؤدي إلى الضلال والكفر (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ) أي هؤلاء الكفار (بِكِتابٍ) أي بقرآن أنزلناه عليك يا أكرم الرسل (فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ) أي ميزناه مشتملا على علم كثير وفصل كثير مختلف. وقد نظم بعضهم الأنواع التسعة في قوله :

حلال حرام محكم متشابه

 

بشير نذير قصة عظة مثل

وقرأ الجحدري وابن محيصن بالضاد المعجمة أي «فضلناه» على غيره من الكتب السماوية عالمين بفضله (هُدىً وَرَحْمَةً) أي هاديا من الضلالة إلى الرشد وذا رحمة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٥٢) به (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) أي ما ينتظر أهل مكة إذ لا يؤمنون إلا عاقبة ما وعدوا به في القرآن من حلول العذاب بهم يوم القيامة (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) أي يوم يأتي عاقبة ما وعد لهم في القرآن وهو يوم القيامة (يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ) أي أعرضوا عنه (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل إتيان ما يؤول إليه أمره وهو صدقه بما أخبر به. والمعنى أن هؤلاء الذين تركوا الإيمان بالقرآن في الدنيا يقولون يوم القيامة (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) وكذبناهم أي إنهم أقروا يوم القيامة بأن ما جاءت به الرسل من ثبوت البعث والنشر والحشر والقيامة ، والثواب والعقاب كل ذلك كان حقا (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا) من العذاب اليوم (أَوْ نُرَدُّ) إلى الدنيا (فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) أي لما رأوا أنفسهم في العذاب قالوا : لا طريق لنا إلى الخلاص مما نحن فيه من العذاب الشديد إلا أحد هذين الأمرين وهو أن يشفع لنا شفيع ، فلأجل تلك الشفاعة يزول هذا العذاب أو أن يردنا الله تعالى إلى الدنيا حتى نوحد الله تعالى بدلا عن الكفر ونطيعه بدلا عن المعصية.

وقرئ شاذا بنصب «نرد» إما عطفا على «يشفعوا» فالمسؤول أن يكون لهم شفعاء لأحد الأمرين إما لدفع العذاب ، أو للرد إلى الدنيا ، وإما الدنيا ، وإما بناء على أن أو بمعنى إلى أي فالمطلوب أن يكون لهم شفعا للرد إلى الدنيا فقط. وقرئ شاذة برفع «فنعمل» أي فنحن نعمل في الدنيا غير ما كنا نعمل فيها (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بذهاب الجنة ولزوم النار (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما

٣٧٤

كانُوا يَفْتَرُونَ) (٥٣) أي وذهب عنهم دعوى نفع الشريك فإنهم كانوا يدعون أن الأصنام التي كانوا يعبدونها شركاء الله تعالى وشفعاؤهم عنده يوم القيامة (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ). والمقصود من هذا الكلام أنه تعالى وإن كان قادرا على إيجاد جميع الأشياء دفعة واحدة لكنه جعل لكل شيء حدا محدودا ووقتا مقدرا فلا يدخله في الوجود إلا على ذلك الوجه ، فهو تعالى وإن كان قادرا على إيصال الثواب إلى المطيعين في الحال وعلى إيصال العقاب إلى المذنبين في الحال إلا أنه يؤخرهما إلى أجل معلوم مقدر. فهذا التأخير ليس لأجل أنه تعالى أهمل العباد ، بل لأنه تعالى خصّ كل شيء بوقت معين لسابق مشيئته وهذا معنى قول المفسرين من أنه تعالى إنما خلق العالم في ستة أيام ليعلم عباده الرفق في الأمور والصبر فيها ولأجل أن لا يحمل المكلف تأخر الثواب والعقاب على ترك العمل (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي حصل له تعالى تدبير المخلوقات على ما أراد أي بعد أن خلق السموات والأرض استوى على عرش الملك والجلال وصحّ أن يقال : إنه تعالى إنما استوى على ملكه بعد خلق السموات والأرض. بمعنى أنه إنما ظهر تصرفه في هذه الأشياء وتدبيره له بعد خلق السموات والأرض وذلك لأن العرش في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملوك ، ثم جعل العرش كناية عن نفس الملك يقال : ثل عرش السلطان أي انتقض ملكه وفسد وإذا استقام له ملكه واطرد أمره وحكمه قالوا : استوى على عرشه واستقر على سرير ملكه هذا ما قاله القفال ، ونظير هذا قولهم للرجل الطويل : فلان طويل النجاد. وللرجل الذي يكثر الضيافة : فلان كثير الرماد. وللرجل الشيخ : فلان اشتعل رأسه شيبا ، وليس المراد في شيء من هذه الألفاظ إجراؤها على ظواهرها وإنما المراد منها تعريف المقصود على سبيل الكناية فكذا هنا فالمراد بذكر الاستواء على العرش هو نفاذ القدرة وجريان المشيئة.

والواجب علينا أن نقطع بكونه تعالى منزها عن المكان والجهة ، ولا نخوض في تأويل هذه الآية على التفصيل بل نفوض علمها إلى الله تعالى (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) أي يأتي بالليل على النهار فيغطيه. واللفظ يحتمل العكس أيضا.

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر وابن عامر ، وعاصم في رواية حفص «يغشى» بتخفيف الشين وهكذا في الرعد. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم برواية أبي بكر بالتشديد وكذا في الرعد. وقرأ حميد بن قيس «يغشى الليل النهار» بفتح ياء «يغشى» ونصب «الليل» ورفع «النهار» أي يدرك النهار الليل. (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) أي يطلب كل من الليل والنهار الآخر طلبا سريعا فأخبر الله تعالى بما في تعاقب الليل والنهار من المنافع العظيمة والفوائد الجليلة فإن بتعاقبهما يتم أمر الحياة وتكمل المنفعة والمصلحة (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) أي مذللات لطلوع وغروب ومسير

٣٧٥

ورجوع بإذنه. وقرأ ابن عامر برفع الأربعة على الابتداء والخبر. والباقون بنصب الثلاثة عطفا على «السموات» ، ونصب «مسخرات» على الحال من هذه الثلاثة (أَلا لَهُ الْخَلْقُ) أي المخلوقات (وَالْأَمْرُ) أي التصرف في الكائنات وفي هذه الآية رد على من يقول من أهل الضلال إن للشمس والقمر والكواكب تأثيرات في هذا العالم (تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٥٤) أي كثر خير الله مالك العالمين وتعالى بالوحدانية في الألوهية (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) أي متذللين ومسرين والتضرع إظهار ذل النفس. قال الشيخ محمد بن عيسى الحكيم الترمذي : إن كان خائفا على نفسه من الرياء فالأولى إخفاء العمل صونا لعمله عن البطلان ، وإن كان قد بلغ في الصفاء وقوة اليقين إلى حيث صار آمنا عن شائبة الرياء كان الأولى في حقه الإظهار لتحصل فائدة الاقتداء به (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (٥٥) أي المجاوزين بترك هذين الأمرين التضرع والإخفاء أي إنه تعالى لا يثيبه ألبتة ولا يحسن إليه وعن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول : اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل»(١). ثم قرأ (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) أي كإفساد النفوس بالقتل وقطع الأعضاء وإفساد الأموال بنحو الغصب ، وإفساد الأديان بالكفر والبدعة ، وإفساد الأنساب بسبب الإقدام على نحو الزنا وبسبب القذف ، وإفساد العقول بنحو تناول المسكرات (بَعْدَ إِصْلاحِها) بسبب إرسال الأنبياء وإنزال الكتب. وقيل بعد إصلاح الله تعالى إياها بالمطر والخصب فإن الله تعالى يمسك المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) أي ذوى خوف نظرا إلى قصور أعمالكم وعدم استحقاقكم مطلوبكم ، وذوى طمع نظرا إلى سعة رحمته ووفور فضله وإحسانه ، وهذه الآية بيان فائدة الدعاء ومنفعته ففائدة الدعاء أحد هذين الأمرين أما الآية الأولى فهي بيان شرط صحة الدعاء وهي لا بد أن يكون الدعاء مقرونا بالتضرع وبالإخفاء والداعي لا يكون داعيا إلا إذا كان خائفا من وقوع التقصير في بعض الشرائط المعتبرة في قبول ذلك الدعاء وطامعا في حصول تلك الشرائط بأسرها ، ومعنى قوله تعالى : (خَوْفاً وَطَمَعاً) أي حال كونكم جامعين في نفوسكم بين الخوف والرجاء في كل أعمالكم فلا تقطعوا أنكم أديتم حق ربكم وإن اجتهدتم (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٥٦) بالقول والفعل ومن الإحسان أن يكون الدعاء مقرونا بالخوف والطمع وكل من حصل له الإقرار والمعرفة كان من المحسنين كالصبي إذا بلغ وقت الضحوة وآمن بالله ورسوله واليوم الآخر ومات قبل الوصول إلى الظهر وكصاحب الكبيرة من أهل الصلاة (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي قدام المطر.

__________________

(١) رواه ابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (٦٤) ، والقرطبي في التفسير (٧ : ٢٢٦) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٣٢٩٥).

٣٧٦

قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «الريح» على لفظ الواحد. والباقون «الرياح» على الجمع.قرأ عاصم «بشرا» بضم الباء الموحدة وسكون الشين جمع بشير أي مبشرات. وقرئ بفتح الباء بمعنى باشرات. وقرأ حمزة والكسائي «نشرا» بالنون المفتوحة وسكون الشين بمعنى ناشرة للسحاب. أو بمعنى منشورة فكأن الرياح كانت مطوية فأرسلها الله منشورة بعد انطوائها ـ وهي كناية عن اتساعها ـ وقرأ ابن عامر بضم النون وإسكان الشين. وقرأ الباقون بضم النون والشين جمع نشور مثل رسل ورسول أي مفرقة من كل جانب أو طيبة لينة تنشر السحاب ، والريح هواء متحرك يمنة ويسرة وهي أربعة :

الصبا : وهي الشرقية فتحرك السحاب. والدبور : وهي الغربية تفرقه. والشمال : التي تهب من تحت القطب الشمالي تجمعه. والجنوب : وهي التي تكثر إرسال المطر. وعن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور والجنوب من ريح الجنة»(١). (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً) أي حتى إذا رفعت هذه الرياح سحابا ثقيلا بالماء (سُقْناهُ) أي السحاب (لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) أي إلى مكان لا نبات فيه لعدم الماء (فَأَنْزَلْنا بِهِ) أي في ذلك البلد (الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ) أي بذلك الماء أو في ذلك البلد (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) فالله تعالى إنما يخلق الثمرات بواسطة الماء. وقال أكثر المتكلمين : إن الثمار غير متولدة من الماء بل الله تعالى أجرى عادته بخلق النبات ابتداء عقب اختلاط الماء بالتراب (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى) أي كما يخلق الله تعالى النبات بواسطة الأمطار فكذلك يحيي الله الموتى بواسطة مطر ينزله على تلك الأجسام الرميمة.

وروي أنه تعالى يمطر على أجساد الموتى فيما بين النفختين مطرا كالمني أربعين يوما ، وأنهم يصيرون عند ذلك أحياء. وقيل : المعنى إنه تعالى كما أحيا هذا البلد بعد خرابه فأنبت فيه الشجر وجعل فيه الثمر فكذلك يحيي الموتى ويخرجهم من الأجداث بعد أن كانوا أمواتا. والمقصود من هذا الكلام إقامة الدلالة على أن البعث والقيامة حق (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٥٧) أي لكي تعتبروا أيها المنكرون للبعث وتتذكروا أن القادر على إحياء هذه الأرض بالأشجار المزينة بالأزهار والثمار بعد موتها قادر على أن يحيي الأجساد بعد موتها (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ) أي المكان الذي ليس بسبخة (يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) أي بإرادة ربه وتيسيره كذلك المؤمن يؤدي ما أمر الله طوعا بطيبة النفس (وَالَّذِي خَبُثَ) أي المكان السبخة (لا يَخْرُجُ) أي نباته (إِلَّا نَكِداً) أي بتعب. وكذلك المنافق لا يؤدي ما أمر الله إلا كرها بغير طيبة النفس. وقيل : المراد أن الأرض

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الاستسقاء ، باب : قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نصرت بالصبا» ، ومسلم في كتاب الاستسقاء ، باب : ١٧ ، وأحمد في (م ١ / ص ٢٢٣).

٣٧٧

السبخة يقل نفعها ومع ذلك أن صاحبها لا يتركها بل يتعب نفسه في إصلاحها طمعا منه في تحصيل ما يليق بها من المنفعة فالطلب للنفع العظيم في الدار الآخرة بالمشقة في أداء الطاعات أولى من طلب هذا النفع اليسير بالمشقة العظيمة (كَذلِكَ) أي مثل ذلك التصريف (نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي نكررها (لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) (٥٨) نعمة الله تعالى فيتفكرون فيها (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) واسم نوح عبد الغفار وهو ابن لمكا بن متوشلخ بن أخنوخ وسمي نوحا إما لدعوته على قومه بالهلاك أو لمراجعته ربه في شأن ولده كنعان ، أو لأنه مر بكلب مجذوم فقال له : اخسأ يا قبيح ، فأوحى الله إليه أعبتني أم عبت الكلب؟ فكثر نوحه على نفسه لذلك. (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) أي اعبدوه وحده (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ) أي من مستحق للعبادة (غَيْرُهُ).

قرأ الكسائي بالجر على أنه نعت لـ «إله» باعتبار لفظه. والباقون بالرفع صفة له باعتبار محله الذي هو الرفع على الابتداء أو الفاعلية. وقرئ بالنصب على الاستثناء بمعنى ما لكم من إله إلا إياه (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (٥٩) أي إني أعلم أن العذاب ينزل بكم إما في الدنيا أو في الآخرة إن لم يقبلوا ذلك الدين (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ) أي قال الكبراء الذين جعلوا أنفسهم أضداد الأنبياء : (إِنَّا لَنَراكَ) يا نوح (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٦٠) في المسائل الأربع وهي : التكليف ، والتوحيد ، والنبوة ، والمعاد.(قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) أي ليس بي نوع من أنواع الضلالة ألبتة (وَلكِنِّي رَسُولٌ) إليكم (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٦١) (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي).

قرأ أبو عمرو بسكون الباء (وَأَنْصَحُ لَكُمْ) فتبليغ الرسالة هو أن يعرفهم أنواع تكاليف الله وأقسام أوامره ونواهيه والنصيحة هي أن يرغبهم في الطاعات ويحذرهم عن المعاصي بأبلغ الوجوه (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٦٢) أي إنكم إن عصيتم أمره عاقبكم في الدنيا بالطوفان ، وفي الآخرة بعقاب شديد خارج عما تتصوره عقولهم (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ) أي استبعدتم وعجبتم من أن جاءكم وحي من مالك أموركم على لسان رجل من جنسكم أي فإنهم كانوا يتعجبون من نبوة نوح عليه‌السلام ويقولون : ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة (لِيُنْذِرَكُمْ) أي لأجل أن يخوفكم عاقبة الكفر والمعاصي (وَلِتَتَّقُوا) عبادة غير الله (وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٦٣) أي ولكي ترحموا فلا تعذبوا وهذا الترتيب في غاية الحسن فإن المقصود من البعثة الإنذار. والمقصود من الإنذار التقوى عن كل ما لا ينبغي ، والمقصود من التقوى الفوز بالرحمة في دار الآخرة (فَكَذَّبُوهُ) أي نوحا في ادعاء النبوة وتبليغ التكاليف من الله وأصروا على ذلك التكذيب تلك المدة المتطاولة (فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) من الغرق والعذاب وكان من صحبوه في الفلك أربعين رجلا وأربعين امرأة.

روي أن نوحا عليه‌السلام صنع السفينة بنفسه في عامين وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها

٣٧٨

خمسين وسمكها ثلاثين. وجعل لها ثلاث بطون فحمل في أسفلها الدواب والوحوش ، وفي وسطها الإنس ، وفي أعلاها الطير ، وركبها في عاشر رجب ونزل منها في عاشر المحرم (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي برسولنا نوح بالطوفان (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) (٦٤) عن معرفة التوحيد والنبوة والمعاد (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ) أي وأرسلنا إلى عاد الأولى واحدا منهم في النسب لا في الدين (هُوداً) أما عاد الثانية وهم ثمود فقوم صالح وبينهما مائة سنة (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وحده (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) (٦٥) أي أتغفلون فلا تتقون عذاب الله تعالى فإنكم تعرفون أن قوم نوح لما لم يتقوا الله ولم يطيعوه نزل بهم ذلك العذاب الذي اشتهر خبره في الدنيا (قالَ الْمَلَأُ) أي الرؤساء (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) وإنما قال هنا الذين كفروا من قومه لأن الملأ من قوم هود كان فيهم من آمن ومن كفر ، فممن آمن منهم مرثد بن أسعد أسلم وكان يكتم إيمانه بخلاف الملأ من قوم نوح فكلهم أجمعوا على ذلك الجواب فلم يكن أحد منهم مؤمنا في أول دعائهم إلى الإيمان (إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) أي إنا نتيقنك يا هود متمكنا في خفة عقل حيث فارقت دين آبائك فإن هودا نهاهم عن عبادة الأصنام ونسب من عبدها إلى السفه وهو قلة العقل (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) (٦٦) في ادعاء الرسالة (قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ) أي ليس بي شيء مما تنسبونني إليه (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٦٧) أي فإنه غاية من الرشد والصدق (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) بالأمر والنهي (وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ) أي أحذركم من عذاب الله وأدعوكم إلى الإيمان والتوبة (أَمِينٌ) (٦٨) أي موثوق على رسالة ربي وهذا رد لقولهم وإنا لنظنك من الكاذبين. فكأن هودا قال لهم : كنت قبل هذه الدعوى أمينا فيكم ما وجدتم مني عذرا ، ولا مكرا ، ولا كذبا. واعترفتم لي بكوني أمينا فكيف نسبتموني الآن إلى الكذب؟! (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ) أي أكذبتم وعجبتم من أن جاءكم نبوة (مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ) أي على لسان آدمي مثلكم (لِيُنْذِرَكُمْ) أي ليحذركم عاقبة ما أنتم عليه من الكفر والمعاصي (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) بأن أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وما يتصل بها من المنافع والمصالح أو جعلكم ملوكا في الأرض فإن شداد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض من رمل عالج إلى شجر عمان (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ) أي في الناس (بَصْطَةً) وهي مقدار ما تبلغه يد الإنسان ففضلوا على أهل زمانهم بهذا القدر. أو المراد أنهم متشاركون في القوة والشدة ، ولأن بعضهم يكون ناصرا للبعض الآخر وأزال العداوة والخصومة من بينهم فلما خصّهم الله تعالى بهذه الأنواع فصح أن يقال : إنهم زادوا في الخلق بسطة.

قرأ نافع والبزي وشعبة والكسائي بالصاد. وأبو عمرو ، وهشام ، وقنبل ، وحفص وخلف بالسين. وابن ذكوان وخلاد بهما (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) أي نعماء الله عليكم واعملوا عملا يليق بتلك الإنعامات (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٦٩) أي لكي تنجوا من الكروب وتفوزوا بالمطلوب. (قالُوا)

٣٧٩

مجيبين عن تلك النصائح العظيمة (أَجِئْتَنا) يا هود (لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ) أي لنخصه بالعبادة (وَنَذَرَ) أي نترك (ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) من الأصنام (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) أي بما تهددنا من العذاب بقولك أفلا تتقون (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٧٠) في إخبارك بنزول العذاب وغرضهم بذلك القول إذا لم يأتهم هود بذلك العذاب ظهر للقوم كونه كاذبا (قالَ) أي هود : (قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ) أي رين على قلوبهم عقوبة منه لكم بالخذلان لألفكم الكفر (وَغَضَبٌ) أي عذاب (أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ) عارية عن المسمى (سَمَّيْتُمُوها) أي سميتم بها (أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) أصناما فإنهم سموا الأصنام بالآلهة مع إن معنى الألوهية فيها معدوم (ما نَزَّلَ اللهُ بِها) أي بعبادتها (مِنْ سُلْطانٍ) أي برهان لأن المستحق للعبادة بالذات هو الموجد للكل وأن الأصنام لو استحقت العبادة كان استحقاقها بجعله تعالى إما بإنزال آية أو نصب دليل وقوله تعالى : (ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) عبارة عن خلو مذاهبهم عن الحجة والبينة (فَانْتَظِرُوا) ما يحصل لكم من عبادة هذه الأصنام وهو ما تطلبونه بقولكم فأتنا بما تعدنا (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (٧١) لما يحل بكم (فَأَنْجَيْناهُ) أي هودا (وَالَّذِينَ مَعَهُ) في الدين (بِرَحْمَةٍ) عظيمة (مِنَّا) أي من جهتنا (وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي استأصلنا الذين كذبوا برسولنا هود (وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) (٧٢) أي ما أبقينا أحدا من الذين لا يؤمنون فلو علم الله أنهم سيؤمنون لأبقاهم. وقصتهم أن عادا قوم كانوا باليمن بالأحقاف ، وكانوا قد تبسطوا في البلاد ما بين عمان إلى حضرموت ، وكانت لهم أصنام ثلاثة يعبدونها سموا أحدها صمودا ، والآخر صداء. والآخر هباء ، فبعث الله تعالى إليهم هودا وكان من أفضلهم حسبا فكذبوه فأمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين حتى جهدوا وكان الناس إذ نزل بهم بلاء طلبوا من الله الفرج عند البيت الحرام ، وأهل مكة إذ ذاك العماليق أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح عليه‌السلام ، وسيدهم معاوية بن بكر ، فلما توجهوا إلى البيت الحرام وهم سبعون رجلا من أماثلهم منهم : قيل بن عنز ، ومرثد بن سعد نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجا عن الحرم فأنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره ، فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم قينتا معاوية اسم إحداهما وردة والأخرى جرادة ، فلما رأى معاوية ذهولهم باللهو عمّا قدموا له أحزنه ذلك وقال : قد هلك أخوالي وأصهاري ، واستحى أن يكلمهم خشية أن يظنوا به ثقل مقامهم عليه فذكر ذلك للقينتين فقالتا : قل شعرا نغنيهم به لا يدرون من قاله وهو قول هؤلاء الثلاثة :

ألا يا قيل ويحك قم فهينم

 

لعل الله يسقينا غماما

فيسقي أرض عاد إن عادا

 

قد أمسوا لا يبينون الكلاما

من العطش الشديد فليس نرجو

 

به الشيخ الكبير ولا الغلاما

٣٨٠